السلالة النقيّة للجيل المؤسس
« داعش ».. نوستالجيا العودة الى البدايات الوهابية
عبد الوهاب فقي
(1 من 3)
توقف مراقبون وذوو الاهتمام بالشأن العام مليّاً عند
ردود فعل التيار الشعبي الوهابي في المملكة إزاء الاعلان
عن سيطرة داعش على محافظة الموصل العراقية في 10 يونيو
الماضي..اكتشف هؤلاء بأن داعش ليس تنظيماً خارجياً، ولا
أفكاره صنعت في غير أرض. في حقيقة الأمر، الاكتشاف بوقع
الصاعقة تمثّل في أن داعش بدت بمثابة السلالة النقيّة
للجيل الوهابي المؤسس، وهنا تكمن خطورة ما يدبّر لمستقبل
المملكة السعودية على وجه الخصوص والمنطقة عموماً. في
التداعيات، وخصوصاً بعد إعلان داعش عن الخلافة الاسلامية
في 29 يونيو الماضي، فإن المشروعية الدينية للدولة السعودية
باتت في موضع خطر جدّي، لأنها لم تعد الوكيل الحصري لعقيدة
التوحيد، بل إن إعلان الدولة الاسلامية يشي بنزع المشروعية
وجدارة الاستمرار، وإنها، أي دولة داعش، هي الوارث الشرعي
للوهابية ما يعني أن السعودية، دون بقية الدول، هي المستهدف
الأول لمشروع دولة الخلافة بقيادة أبي بكر البغدادي، الذي
حقّق بحسب ما تزعم قيادة داعش العنصر المفقود في الأسرة
المالكة في الجزيرة العربية، أي العنصر القرشي، وهو الذي
ينظر اليه باعتباره شرطاً جوهريا، من وجهة نظر تيولوجيين
إسلاميين (ابي الفراء الحنبلي وابن خلدون وابن القيم وغيرهم)
في الخليفة.
في لحظة ما، وفي محصّلة أوليّة، أخرج «داعش» المستور
والكامن والمحبوس داخل كثيرين ينتمون للتيار الديني الوهابي
في المملكة السعودية، الذين اكتشفوا بأنهم أعضاء غير رسميين
في التنظيم. عبّر كل منهم عن انتمائه لهذا التنظيم على
طريقته، وبإسلوبه الخاص، فمنهم من وصف سيطرة داعش على
الموصل بأنها «حركة تحرير» كما جاء في تغريدة للشيخ الصحوي
سلمان العودة، بالرغم من الخصومه المعلنة بينه وبين تنظيمات
السلفية الجهادية (القاعدة وداعش حصرياً)، ومنهم من وصف
مقاتلي داعش بأنهم ثوّار كما فعلت صحيفة (الجزيرة) التي
تصدر من العاصمة الرياض، بالرغم مما قيل عن تمايز بين
داعش ومجموعات ثورية انتفضت على الحكم العراقي الحالي،
فيما راح ناشطون من التيار الديني الوهابي يملئون عالم
تويتر بتغريدات تمجيدية صريحة تارة ومواربة أخرى لارتكابات
داعش في العراق وإدراجها في سياق الثورة الشعبية، إلى
جانب الطابع المذهبي المرافق لها وتصويرها على أنها منازلة
سنيّة شيعية.. وفي يوم الاعلان عن «الدولة الاسلامية»
أو «الخلافة» وتتويج أبي بكر البغدادي، إبراهيم بن عواد
البدري خليفة على المسلمين، بادر كثيرون من أتباع المذهب
الوهابي في المملكة السعودية الى مبايعته.
في النتائج، تحوّل داعش الى ما يشبه الملاذ الآمن وصانع
الأحلام الوهابية في المنطقة، وفي لحظة ما بالغة الحساسية
تحوّل الى الرهان الرئيسي الذي يعوّل عليه أتباع المذهب
الوهابي في المملكة، وازداد الرهان رسوخاً بعد صدور الأمر
الملكي في 3 فبراير الماضي بتجريم المقاتلين السعوديين
في الخارج، حيث بات داعش مركز الاستقطاب والحاضنة والوعاء
الذي يستوعب المنبوذين من التنظيمات المسلّحة المدعومة
من السعودية بعد أن تخلت الأخيرة عنها، ثم تحوّل داعش
الى خيط الأمل الذي يعقده التيار الوهابي العام عليه.
سوف يظهر من خلال التأمل في الرؤى الدينية وترجماتها
الميدانية لدى داعش، أنه يمثّل الوراث التاريخي والشرعي
لجيل الجهاديين الذي تربى على تعاليم محمد بن عبد الوهاب،
والمتناسلين منه مثل جيش الإخوان، الذي دخل في مواجهة
في معركة (السبله) سنة 1929 مع قيادته السياسية المتمثلة
في عبد العزيز بن سعود بعد قبوله بترسيم الحدود و»تعطيل
فريضة الجهاد» بينما الاستراتيجية الوهابية الأصلية تقوم
على أساس التمدّد الجغرافي إلى حيث تصل رايات التوحيد
والجهاد، وجرت محاولات تصحيحية أخرى في 1979 من قبل جماعة
جهيمان العتيبي وهي النسخة الأخرى من «الاخوان»، وكانت
تحظى بتأييد الشيخ بن باز والشيخ ناصر الدين الالباني
ومقبل الوادعي، والشيخ بديع الدين الراشدي السندي.
إن النتائج التي خلصت اليها تجربة داعش، بوصفها البديل
الحصري والمؤهل لتنظيم القاعدة، وما يمكن أن تمثله التجربة
الداعشية كامتداد لتجارب التصحيح في الدولة السعودية وما
انتهت اليه، تدعو لإعادة قراءة التجارب السابقة التي شهدتها
الدولة السعودية الثالثة لناحية العودة بها الى المبادىء
الوهابية الأولى بأضلاعها الثلاثة: التكفير، الهجرة، الجهاد.
الجماعة السلفية المحتسبة: تأسيس
التمرّد المسلّح
نقل سليمان العصيمي مقاطع من خطبة الجمعة التي ألقاها
الشيخ حمود صالح العقيل امام جامع الامير متعب بن عبدالعزيز
بالرياض،والداعية بدار الافتاء والارشاد، حيث خصص العقيل
خطبته للحديث عن جماعة جهيمان العتيبي وخلفيات نشأة الجماعة
السلفية المحتسبة. وقال بأنه بعد ان افتتحت الجامعة الاسلامية
بالمدينة المنورة عام 1380هـ/1960 أصبحت المدينة تجمع
مزيجاً من الوافدين للتعلم في الجامعة، وكان اكثر الطلاب
مختلفين في العقائد والفروع وفي هذا الجو نشأت مجموعة
تدعو الى نبذ المذاهب الفقهية والاخذ بالكتاب والسنة وترك
البحث في كتب الفقة..». ولكن الحكومة تنبّهت على ما يبدو
الى الابعاد الخطيرة لهذه الاجواء فقامت بإرجاع الطلبة
غير السعوديين الى اوطانهم، ولكن بعد وفاة الملك فيصل
أخذت الظاهرة تنمو مجدداً حتى أخذت أبعاداً أخرى واسعة
في سنة 1396هـ/1976؛ وزادت بشكل ملحوظ في العامين التاليين
حيث اندمجت عناصر أخرى من الخارج. سليمان العصيمي، جريدة
(الرياض) عدد رقم 4393 يوم السبت 12 محرم 1400هـ/2 ديسمبر
1979.
في الرواية المشهورة، والمنقولة عن ناصر الحزيمي، أحد
رفقاء جهيمان العتيبي، أن «الجماعة السلفية المحتسبة»
تأسست بعد حادثة تكسير الصور والتماثيل في إحدى المحال
التجارية في المدينة المنورة، أي بعد سنة 1965 تقريباً،
حيث تجمّع ستة وقرروا أن يؤسسوا جماعة تقوم بأمور الدعوة
والتذكير في المساجد والأماكن العامة. ويزعم الحزيمي بأن
خمسة من أصل ستة أعضاء مؤسسين تخرّجوا من عباءة جماعة
التبليغ أما السادس فيبدو انه من الاخوان المسلمين. ولكن
ما يلبث أن يخرج المجموعة بأكملها من جماعة التبليغ، لأسباب
تبدو مفهومة اذا وضعت في سياق آخر، غير انضواء المجموعة
تحت عباءة التبليغ في الأصل. يقول الحزيمي بأن أعضاء المجموعة
خرجوا من جماعة التبليغ كونها لا تهتم بالتوحيد في دعوتها،
وتتساهل في قضايا الولاء والبراء وقضايا إنكار المنكر،
ولا تدعو على هدي من الكتاب والسنة. إذا كان الحال كذلك،
فإن استخدام عبارة «تخرجوا من عباءة جماعة التبليغ» خاطىء
وفي غير محلّه. لأن ملاحظات المجموعة تندك في صميم العقيدة
الوهابية. ومن بين الستة المؤسسين هم: جهيمان بن محمد
بن سيف العتيبي، وسليمان بن شتيوي، وناصر بن حسين العمري
الحربي، وسعد التميمي.
(انظر: ناصر الحزيمي، أيام مع جهيمان.. كنت مع «الجماعة
السلفية المحتسبة»، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت
الطبعة الثانية 2011 ص ص 42 ـ43).
قرّر الستة أن يخبروا الشيخ عبد العزيز بن باز بقرارهم
تكوين جماعة سلفية «تنبذ التمذهب وتدعو الى التوحيد والتمسك
بالكتاب والسنة الصحيحة، وأنهم لا يهدفون من وراء عملهم
هذا أي هدف دنيوي، وأنهم يعرضون عليه منصب المرشد لهم
والموجّه؛ فوافق وقال لهم بما أنكم تحتسبون الأجر من الله؛
فليكن اسمها «الجماعة السلفية المحتسبة». (ناصر الحزيمي،
أيام مع جهيمان..المصدر السابق، ص 43).
يلفت الحزيمي الى نقطة جديرة بالاهتمام حول بدايات
الجماعة السلفية المحتسبة، ويربطها بمرحلة الطفرة النفطية
بعد حرب اكتوبر 1973، حيث طفر معها الخطاب اليميني بشكل
عام، وبرز التمويل الداعم لكل ما هو ضد الكتلة الشيوعية
أو القومية العربية، وساد الصمت الرسمي حيال ممارسات الجماعات
الدينية المسيّسة، ووجدت في أجواء الحرب الباردة خير معين
على إعادة أجواء خطاب الاسلام السياسي.(الحزيمي، أيام
مع جهيمان، مصدر سابق ص 14).
ويروي الحزيمي قصة انضمامه الى الجماعة السلفية المحتسبة
وعلاقته بقائدها ومنظرها جهيمان العتيبي، حيث كتب فصلاً
بعنوان (ذكرياتي مع جهيمان العتيبي قائد المحتلين للمسجد
الحرام) من كتاب (قصة وفكر المحتلين للمسجد الحرام) والصادر
عن مركز المسبار للدراسات والبحوث في دبي، وطبع في شباط
(فبراير) سنة 2011. يكتب الحزيمي عن بدايات تشكّل جماعة
(بيت الاخوان السلفيين) في مكة سنة 1977 وهو أول بيت للإخوان
في مكة (ص 47). وكان يشرف على البيت الشيخ عبد الله الحربي
والشيخ عايض بن دريميح، والتحق الحزيمي بالمجموعة واندمج
في حياة الاخوان من الجماعة السلفية، ولازم عبد الله الحربي
ـ الرجل الأول في الحركة (فهو الذي يجمع الاخوان ويذهب
بهم للدعوة في ضواحي مكة، وهو الذي يقودهم لطلب العلم
على المشايخ).
أخبر الحربي الحزيمي عن قدوم الاخوان في المدينة المنورة
الى الحج، ويصف الحزيمي شعوره حينذاك (كنت بغاية الشوق
للقاء أناس سبقتهم سمعتهم بشكل عجيب مثل جهيمان، وآخرين
تعرفت عليهم جميعاً في المخيم بمنى مثل: ناصر بن حسين،
وسليمان بن شتيوي، وسعد التميمي، واليمني أحمد حسن المعلم،
وفيصل محمد فيصل اليامي، وعالم الحديث اليمني مقبل بن
هادي الوادعي.. ومجموعة من السودانيين من جماعة أنصار
السنة قدموا من الطائف، ومجموعات قدمت من جميع مناطق المملكة؛
وقد خصص في المخيم مكان للشيخ الألباني..) (ص 49 ـ50).
تعرف الحزيمي وقتها على جهيمان الذي كان من بين من
الاخوان الذين جاءوا الى مكة وحضروا دروس الالباني «وبدأت
أتعرف على المسائل التي يخالف بها الإخوان أصحاب المذاهب
الفقهية من المقلدين..». يعلق الحزيمي (هذا اللقاء الذي
تم في الحج يكاد أن يكون العلامة على أنني أصبحت أنتمي
لجماعة سلفية حقيقية، فمسلكهم وسيماهم ودماثة خلقهم وما
يشغلون به وقتهم، كله كان محسوباً، كما أنهم يتميزون عن
الجماعة السلفية في الكويت أنهم أكثر جدية وخشونة وعزوفاً
عن الشكليات الدنيوية)(ص 51).
وينقل الحزيمي عن محتويات مكتبة جهيمان فيقول: (تحتوي
على أغلب كتب الألباني، والكتب الستة بشروحها وتفسير ابن
سعدي، وتفسير ابن كثير والبغوي، وكتاب «إتحاف الجماعة»
للشيخ حمود التويجري، ونيل الأوطار وسبل السلام، ومجموعة
التوحيد وكتب ابن تيمية، وابن قيم الجوزية، وشرح العقيدة
الطحاوية)، ثم يقول (أما كتب المذاهب الفقهية فتكاد تكون
معدومة)، ويضيف (وقس عليها أغلب مكتبات الإخوان)(ص 51
ـ 52).
كانت جماعة الاخوان بمثابة مجتمع مضاد، أو جماعة مغلقة
على ذاتها تعيش عزلة اجتماعية لها قوانينها ونظامها الخاص
وسلوكها الفريد في العيش وتحمل المصاعب، وكان لها فكرها
الخاص بها، ورؤيتها للعالم من حولها، وقد جرّب بعض أفرادها
العزلة الجسدّية بأن انتقلوا هم وعوائلهم للعيش خارج المدينة،
والتدرّب على الحياة في ظروف صعبة.. ولكن ما يجدر الالتفات
اليه أن هذه المجموعة كانت تتهيأ لعملية تصحيح كبرى في
المجتمع والدولة، الى أن بلغ بها الحال لأن تصبح الجماعة
الانقاذية التي يتم على يدها ملء الأرض قسطاً وعدلاً بعد
أن ملئت ظلماً وجوراً.
|
جهيمان العتيبي |
يتحدث الحزيمي عن النشاط الدعوي للجماعة: (كنا في يوم
الجمعة وهو يوم إجازة نذهب للدعوة في القرى الموجودة في
ضواحي مكة. كان الخطاب الدعوي وقتها يركز على البدع المنتشرة
بين أهل هذه القرى، وكان غالباً يتولى هذه المهمة عبد
الله الحربي). من الواضح أن المجموعة تعمل على أساس تشخيصها
للواقع الديني في المجتمع، الأمر الذي عزّز لديها النزعة
الرسولية التي حملها الشيخ محمد بن عبد الوهاب يوم صدع
بمهمة التبشير بدعوته.
يتحدث الشيخ مقبل الوادعي ـ وكان قد عاصر تلك المرحلة
واندمج في نشاطات الجماعة السلفية وأثّر فيها، عن الجماعة
السلفية المحتسبة أو أهل الحديث او جماعة الحرم بقوله:
(إنهم طلبة علم أخيار أفاضل، وقد انتشرت بسببهم سنن كانت
قد أميتت، وما خسرتهم أرض الحرمين فحسب، بل خسرهم المجتمع
المسلم..) ويضيف: (استيقظ كثير من الشباب من أبناء جدة
ومن أبناء الرياض كما هو معروف، انتفع بهم كثير من البدو
وأصحاب طلبة العلم جزاهم الله عن الاسلام خيراً)(مقبل
بن هادي الوادعي، المخرج من الفتنة، مكتبة صنعاء الأثرية،
الطبعة الاولى سنة 2002، ص 142).
رفض الوادعي ان ينسب المجموعة للفساد، بل قال بأن هؤلاء
(لم يحاربوا الله ورسوله، ولم يسعوا في الارض فساداً،
ولكنهم كانوا يظنون أنهم على حق فأخطأوا، وكنا نعتقد أنهم
على خطأ وهم في الحرم، ومع هذا فكنا نسأل الله أن ينصرهم،
لأن خطأهم هذا ليس بشيء بجانب فساد حكام المسلمين..)(الوادعي،
المخرج من الفتنة، المصدر السابق، ص 144).
في قصة جهيمان العتيبي تبدو صورة الوهابي في نسخته
الأصلية، الذي يحاول ايصال ما انقطع في تجربة الاخوان
الاصلاحية. فقد ولد جهيمان في هجرة ساجر، ووالده كان من
الاخوان في جيش الملك عبد العزيز، وكان صديقاً لسلطان
بن بجاد. النهاية المأساوية للإخوان في نهاية العقد الثالث
من القرن العشرين ولدّت شعوراً بالغبن عند الاخوان عموماً،
وعند أهل ساجر خصوصاً، ونشأ جيل ورث بعضهم الضغينة للحكم
القائم والتمرد عليه، كما يقول الحزيمي. (انظر الحزيمي،
ذكرياتي مع جهيمان العتيبي قائد المحتلين للمسجد الحرام؛
من كتاب: قصة وفكر المحتلين للمسجد الحرام، مصدر سابق
ص63).
في منتصف الستينيات اعتنق جهيمان سلفية أهل الحديث
متاثراً بناصر الدين الألباني ومؤلفاته وتعاليمه، وتتلمذ
على ابن باز وحضر دروساً في دار الحديث التابعة للجامعة
الاسلامية، وشارك في تأسيس الجماعة السلفية المحتسبة سنة
1965.
نجحت الجماعة في بناء بيوت للإخوان في الحرة الشرقية
بالمدينة المنورة، وكانت بنيت بطريقة غير قانونية وعشوائية
الى ان سيطر الاخوان على أحياء بكاملها (بحيث لا تجد من
يبيع الدخان أو يشربه في هذه الأحياء، وقد بنيت البيوت
بطريقة يسهل الهرب منها فهناك بابان واحد إمامي والاخر
خلفي، وقد هرب جهيمان من هذه الابواب عندما لوحق في الاعتقال
الأول الذي تم سنة 1978).
في حديثه عن التأثيرات الفكرية والسياسية والحزبية
الخارجية على الجماعة السلفية المحتسبة، بدا واضحاً أن
الحزيمي يحاول تعزيز الرواية السعودية الرسمية من خلال
توجيه الاتهام الى جماعات خارجية مصرية بدرجة أساسية مثل
الاخوان المسلمين أو جماعة التكفير والهجرة أو جماعة المسلمين
التي يرأسها مصطفى شكري ودورها في تعميم الأفكار التكفيرية.
والحال أن هذا الرأي يصلح فيما لو خليت المراجع الوهابية
من عقيدة تكفيرية راسخة، فتلك تشتمل على مثل هذه الافكار
قبل قرنين من نشأة جماعة شكري.
على العكس من رأي الحزيمي، فإن الامير نايف وزير الداخلية
صرّح بأن التحقيقات أكّدت عدم وجود أشخاص يحملون فكر جماعة
التكفير من الكويتيين والمصريين المتورطين مع الجماعة.
(منصور النقيدان، قصة وفكر المحتلين للمسجد الحرام، مصدر
سابق ص 114 عن: وتموت الفتنة، اصدار جريدة الندوة 1980،
ص 88).
انتماء جهيمان الى مجتمع الإخوان قد يكون عزّز فكرة
إعادة إحياء تجربة الاخوان وارتباطها بالهجرة، وما تعنيه
من هجرة من بلد الكفر الى بلد الاسلام.
ورغم أن الحرس الوطني ضم بقايا الاخوان وتربوا على
الولاء لأسرة آل سعود، الا أن ثمة نوستالجيا كامنة برزت
وسط مجموعة من الشبان في منتصف الستينيات تنزع نحو إعادة
أمجاد الاخوان، وإن لم تكن تأخذ في المرحلة الأولى طابعاً
سياسياً بقدر ما هي عودة الى حياة الالتزام بالتعاليم
السلفية الأصلية.. وربما هذا ما أثار حفيظة علماء السلطة
الذين شعروا بأن هذه المجموعة تشكّل خطراً على نفوذهم
ومكانتهم لدى آل سعود. الشيخ عبد العزيز آل الشيخ إمام
الجامع الكبير في الرياض، ومفتي المملكة الحالي، وصف في
خطبة له جماعة جهيمان بالخوارج وقال (إنهم يدّعون السلفية
والسلفية منهم براء)(النقيدان، مصدر سابق، ص 114).
كان مآل الحلف الذي انفرط عقده بين الملك عبد العزيز
وبين الاخوان إحدى القضايا الهامة التي شغلت تفكير جهيمان
وظهرت بشكل واضح في رسائله. ومنها الفتن وأشراط الساعة
والإمارة والبيعة والطاعة. وقد وصف جهيمان حال الحرس الوطني،
الذي يمثل الحاضنة الكبرى لبقايا الإخوان، عام 1977 في
رسائله (فأنت لن تجد في فوج كامل من الاخوان الا ثلاثة
أو أربعة). وما ذكره يعبر عن تحوّل كبير مقارنة بالحال
قبل عشرين عاماً حيث كان الاخوان هم الغالبية الساحقة.
وفي مقابلة مع ولي العهد فهد بن عبد العزيز، الملك
لاحقاً، مع جريدة (السفير) في 10 يناير 1980 أن جماعة
جهيمان بدأوا بانتقاد علماء الحكومة الرسميين وطرحوا أسئلة
عن شرعية الحكم السعودي والتشكيك في تطبيق ال سعود للشريعة.
يقول فهد (يأتي أفرادها الى المساجد وإلى الناس البسطاء
يحاولون إفهامهم بأن العقيدة الاسلامية بدأت تضعف في المملكة
وأنه لا بد للقاعدة الاسلامية أن تنتبه). وتحدث عن خلاف
نشب بين الجماعات السلفية حينذاك (حتى وصلوا الى الشقاق
والخلاف الى درجة أن بعضهم صار يصلي جماعة أخرى، بعد صلاة
الجماعة السلفية،..)، (النقيدان، مصدر سابق ص71).
يقول الحزيمي بأن الاخوان كسروا حاجز الهيبة بين المفتي
والمستفتي، وكانوا عاملاً في كسر احتكار العلم الشرعي
لفئة من الفقهاء وأساتذة الجامعات، ويمكن القول إن الاخوان
«جمهروا» العلم، وجعلوه شعبياً، وبثوا روح المحاججة بين
العوام..الحزيمي، (ص73).
كان الاخوان قد أقاموا لهم بيوتاً في الرياض وجدة ومكة
والطائف وحائل والاحساء وكلها دانت بالولاء لجهيمان، وكان
ابو بكر الجزائري مندوب ابن باز في الجماعة، ولكنه قرر
الخروج من قيادة هذه الجماعة بعد أن فقد القدرة على السيطرة
عليها، وكان العمل التنظيمي الفعلي والأفكار بيد جهيمان
الذي تكثفت رحلاته وتكثف خطابه ضد الدولة، وأصبح من العيب
أن تكون من الاخوان وأن تعمل في الدولة.
وبعد الاعتقال الاول الذي تعرضت له جماعة الاخوان السلفيين
وخروج اعضائها من السجن زاد من انتشارها، فكان الانجذاب
اليهم لافتاً وقوياً. في الفصل المعنون (الجماعة السلفية
المحتسبة.. دراسة في فكر المحتلين للمسجد الحرام) يحدد
منصور النقيدان الفترة ما بين 1987 ـ 1995 بأنها فترة
ازدهار وانبعاث ثان لأهل الحديث، وهي الاسم الآخر للجماعة
السلفية المحتسبة، وأن هذه المجموعة أعيد تشكيلها مرة
اخرى في الفترة ما بين 1995 حتى 2003، حيث (دخلت طوراً
آخر عرف فيما بعد عند المراقبين والباحثين بـ «السلفية
الجهادية» التي تجعل من جهيمان العتيبي رمزاً وشخصية ملهمة)؛
وكان منظر الجهادية السلفية الأردني عصام البرقاوي (ابو
محمد المقدسي) جسراً ووصلة تحوّل رئيسة في كل هذا. (النقيدان،
ص 103).
رسائل جهيمان.. يوتيبيا الإمارة
الوهابية
توصل الرسائل التي كتبها جهيمان العتيبي بالاستعانة
برفاق دربه الى نتيجة واحدة، هي أن المملكة السعودية لم
تعد هي الدولة الضامنة والحارسة للتعاليم الوهابية، وأن
الواقع القائم لابد من تغييره بكل السبل وان تطلب الأمر
رفع السلاح. ولابد من الاشارة الى أن رسائل جهيمان باتت
مكوّناً أساسياً في أدبيات السلفية الجهادية ممثلة في
(القاعدة، داعش).
|
جماعة جهيمان: دواعش السبعينيات! |
في (رسالة الأمارة والبيعة والطاعة وحكم تلبيس الحكام
على طلبة العلم والعامة)، يؤكد جهيمان على أن واجب الخليفة
هو تحكيم الشريعة، وإلا «فقد ضل عن سبيل الله..». ويرى
بأن واقع حال المملكة السعودية هو «تعطيل الحكم بكتاب
الله» وفي النتائج: «فحينما لم يحكم هؤلاء الحكام بكتاب
الله ولم يتحروا فيما انزل الله؛ وقع البأس فيما بين المسلمين،
فكثرت الفرقة والاختلاف..».
ويقسّم جهيمان الحكومات في بلاد المسلمين في ضوء حديث
نبوي عن أطوار الحكم في تاريخ المسلمين حيث تبدأ بخلافة
نبوة، ثم ملك عاض، وملك جبري وما تستوجبه من مواقف من
حيث المبايعة والطاعة والخروج. في واقع الأمر، يحاول جهيمان
طرق مسألة الموقف من حكام المسلمين عامة وحكّام المملكة
السعودية خاصة؟ وما هو المخرج من الفتن السياسية التي
يعيشها المسلم اليوم.
وقسّم جهيمان الامارة والخلافة والولاية، بحسب دور
القيادة، الى قسمين:
■ قسم يقود بالكتاب والسنة، ويلتزم بما ورود فيهما
حرفياً، وبناء عليه يكون الموقف «فهذا لا خلاف في وجوب
طاعته».
■ القسم الآخر: «لا يقود الناس بكتاب الله ولا يبايعهم
على نصرة دين الله، وإنما يقول ولا يفعل ولا يهتدي بهدي
النبي صلى الله عليه وسلم ولا يستن بسنته، وكثيراً ما
يكون في الملك الجبري، فهذا لا بيعة له ولا طاعة، حتى
لو حكم له بالإسلام».
من جهة ثانية، يرفض طائفتين من الناس: الاولى من يريد
السلطان والعلو في الأرض ولا يقيم الدين مثل فرعون ومن
تشبّه به، والثانية: تريد الدين بلا سلطان «فيكون دين
مسكنة ومذلة تحت الذين يريدون العلو والفساد، فهؤلاء لا
يسعون لإقامة الجهاد، ولا يحبون ذكره؛ لما في قلوبهم من
الذلة، وهذه شعبة من شعب النصرانية، وصفة من صفات النصارى
أهل الرهبانية والصوامع». ويعتقد جهيمان بأن كثيرا من
الدعاة اليوم سلكوا مسلك أهل الذلة والمسكنة يريدون الدعوة
الى الحق بلا أذى.
وهناك طائفة ثالثة هي المنصورة كما يرى جهيمان وهي
النموذج «الذي رضيه الله لنا وأمرنا به؛ فهو نصر دينه
حتى يكون ظاهراً على الدين كله». والطائفة المنصورة، بحسب
جهيمان، سلمت من هاتين الطائفتين - أهل العلو والفساد،
وأهل الذلة والمسكنة. وهنا يستمد جهيمان رؤيته من ابن
تيمية كما وردت في مجموعة الفتاوى، وسوف نعثر في أدبيات
السلفية الجهادية (القاعدة وداعش) على تنظيرات حول الطائفة
المنصورة تستلهم مما كتبه جهيمان وغيره من منظري الوهابية
في الموضوع.
خصّص جهيمان مساحة كبيرة لنقد الدعاة والعلماء الذين
ارتضوا الدعة والمسكنة والنأي عن مطلب (قيام السلطان مع
الدين، إلا أن يكون ذلك بالدعاء للظلمة بالصلاح، لأنهم
ليس لهم استعداد لأن يقيموا الدين من الجانبين - ألا وهو
جانب المجاهدة بالحجة من الكتاب والسنة وبيان سبيل المجرمين
والدعوة إلى الحق والصبر على الأذى، وجانب القسوة التي
تحملهم على أقامة الجهاد ونصرة دين الله وإقامة دولة الإسلام).
ويوجه جهيمان نقداً لاذعاً للمتدينين الذين ترهبنوا
فصاروا عباداً بالمساجد، ينفق عليهم وتبنى لهم الرباطات
حتى أن بعضهم يدخلها وهو شاب ويموت فيها وقد شاخ.
وقد تنبّه الاخوان القدامى والجدد الى ما يمكن أن يقع
فيه العلماء في مداهنتهم لأمراء آل سعود. ففي الخلاف الحاصل
بين الاخوان وابن سعود بعد احتلال الحجاز ومطالبة قادة
الاخوان بتولي ادارة شؤونه باعتبارهم هم من «فتحوا» الحجاز،
فكان من بين مؤاخذات الاخوان ضد العلماء هو المداهنة،
ما اضطر الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ، وكان
الشيخ النافذ وبمثابة المفتي العام لدولة ابن سعود، أن
يكتب رسالة الى الاخوان يؤكد فيها على طاعة الامام والتمسك
ببيعته وحذر من نقص العهد وقال: «وقد بلغني عن بعض من
غرّه الغرور، من الطعن في العلماء، ورميهم بالمداهنة..»
(الدرر السنيّة، الجزء التاسع ص 91).
وهي الملاحظة التي حملها جهيمان العتيبي، أحد أحفاد
الاخوان، حيث دوّنها في إحدى رسائله واتهم بعض العلماء
بمداهنة آل سعود.. وهي نفس الملاحظة لدى القاعدة ومن جاء
بعدها، الى درجة أن هناك من كفّر ابن باز وابن عثيمين
لتماهيهما مع ال سعود..
يقول جهيمان في (رسالة الإمارة والبيعة والطّاعة ص
29): (وأقرب مثل وأوضحه مؤسس دولتهم - يقصد الثالثة هذه
- الملك عبد العزيز والمشايخ الذين كانوا معه في سلطانه،
وهم ما بين موافق له ومعزز له بما يشاء وآخر ساكت عن باطله،
وآخر التبس عليه الأمر. فقد دعا «الإخوان» رحمهم الله
الذين هاجروا من القرى المختلفة هجرة لله عزّ وجلّ دعاهم
إلى بيعة على الكتاب والسنة، فكانوا يجاهدون ويفتحون البلاد،
ويرسلون له بما للإمام من الغنائم والخمس والفيء ونحو
ذلك على أنه إمام المسلمين. ثم لما استقر سلطانه، وحصل
مقصوده: والى النصارى، ومنع مواصلة الجهاد في سبيل الله
خارج الجزيرة، فلما خرجوا لقتال المشركين في العراق الذين
يدعون علياً وفاطمة والحسن والحسين مع الله، لقبهم هو
ومشايخ الجهل الذين معه لقبوهم باسم يكرهه أهل الإسلام
وهو «الخوارج» مع أن الإخوان لم يخرجوا عليه ولم يخلعوا
يداً من طاعة وإنما لم يطيعوه حينما نهاهم عن الجهاد.
وبعدما لقّبهم بالخوارج حمل إخوانهم الذين لم يخرجوا معهم
على قتالهم فخرج بهم وبدأهم بالقتال، فلما التقوا في ساحة
القتال حمل كل من الفريقين على الآخر وكل منهم ينتخي ويقول:
«صبي التوحيد وأنا أخو من طاع الله» فيا لها من مصيبة
دامية. وقبل ذلك أرسل للشريف حسين بكتاب يقول فيه: (حسين
يا خوي أنت في نحورهم وأنا في ظهورهم). فلما قتلهم وشتتهم
واستقر سلطانه الجبري، والى النصارى، وعطّل الجهاد في
سبيل الله، وانفتح من الشر أبواب مغلقة. ثم واصل السير
على نهجه أبناؤه من بعده، حتّى وصلت بلاد المسلمين إلى
ما وصلت إليه اليوم من الشر والفساد. فنقول الآن: أين
الحكم بالكتاب والسنة الذي ادعوا الحكم به أول ملكهم ويدعيه
كل من تجددت له بيعة منهم؟.. وإن طالت بك حياة لتجدن الولد
يشابه أباه، ويشعلون الحرب بين المسلمين، ويسيّرون بعضهم
على بعض».
بالعودة الى تصنيف جهيمان للمشايخ، يضع الصنف الثاني
في خانة من يبايع الظلمة ويسكت عن باطلهم، وربما أخذوا
شيئاً من دنياهم وبنوا بها رباطاً أو مسجداً حتى يقال
«بني على نفقة الشيخ فلان». يزج جهيمان هنا طائفة من المسائل
التي نجدها حاضرة في خطاب وأدبيات الصحوة في تسعينيات
القرن الماضي، في سياق سؤال استنكاري حول مصدر نفقة الشيخ
الفلاني على المسجد: (من أين اكتسبت هذا المال؟! هل هو
من الفتوحات وإخراج الكفار من جزيرة العرب أم بالعكس بإدخال
الكفار مع المسلمين، ورفع أعلامهم في جزيرة العرب، وقتال
من يريد أن يطهر جزيرة العرب من المشركين، ويريد منع الكفار
من الدخول؟).
ويلحق جهيمان بالصنفين سالفي الذكر «المطاوعة» و»المرشدين»،
بسبب تعاميهم عن مساوىء الحكّام وانحرافهم ويرى بأن «المطوع»
(يسير خافضاً رأسه عن مساوئهم، ويتظاهر أن خفضه رأسه من
الدين والورع! وهو في الحقيقة من الذل والمسكنة!). ويحظى
هؤلاء بإطراء العلماء المقرّبين من أهل الحكم. وكذلك المرشدون
الذي يعلمون الناس العبادات (وأما الأصل - وهي ملة إبراهيم
عليه السلام ومقاطعة أهل الباطل والتبري منهم وإنكار المنكر
- فإنهم لا يتطرقون إليه..).
جهيمان في رسالته حول الامارة يحدد مواصفات الحاكم
الشرعي أو الخليفة، ثم يدخل لمناقشة مبادىء البيعة والطاعة
والاسئلة الإشكالية المثارة حولها. فالخليفة الشرعي هو
من يحكم بالكتاب والسنة ولا يتبع هواه، فإن فعل ذلك وجبت
له البيعة والطاعة. وأما في حال عدم تحقق هذين الشرطين
فلا بيعة ولا طاعة.
|
غداً سيكون: كنتُ مع داعش! |
ويقسم جهيمان أنظمة الحكم في تاريخ المسلمين الى أربعة
أنظمة/ مراحل: خلافة على منهاج النبوة، ملك عضوض، ملك
جبري، ثم تعود خلافة على منهاج النبوة. ومواصفات الخلافة
على منهاج النبوة هي ما تبايع عليه النبي صلى الله عليه
وسلم وأصحابه، وهما أمران: قول الحق في الاحوال كلها،
ونصرة دين الله والجهاد عليه.
وبحسب هذا التقسيم، يرى جهيمان أن المسلمين يعيشون
اليوم في الملك الجبري (الذي ليس المسلمون فيه هم الذين
يختارون الخليفة وإنما هو الذي يفرض نفسه عليهم، ثم يبايعونه
بيعة مجبورين عليها، ولا يترتب على عدم رضاهم بهذا الخليفة
أنه ينعزل... حكام المسلمين اليوم لم يبايعوا الناس على
ما بايع عليه الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من
القول بالحق حيثما كانوا ونصرة الدين، بل على نظام وقوانين
ليس فيها من الشرع إلا ما وافق الهوى، وأما ما خالف فلا،
والمقصود أنه ليس خلافة على منهاج النبوة). ومع أن جهيمان
لا يكفّر الحكّام الا أن بيعتهم باطلة شرعاً بالأدلة من
الكتاب والسنة، حسب قوله. ويذهب جهيمان الى شرط القرشية
في الامام والخليفة، وهو من تجب بيعته وطاعته. ولعل تنسيب
ابو بكر البغدادي الى قريش وتعمّد ذكر نسبه القرشي يؤكد
التزام داعش بشرط القرشية.
دعا جهيمان الى اعتزال الملك الجبري وأن وجود الحكّام
الجبابرة (هلاك للدين وهدم للحق وإحياء للبدعة وإطفاء
للسنة..). واعتبر آل سعود بأنهم من الحكام المنافقين (فتراهم
- مع إظهارهم الإسلام - يوالون الكفار والمشركين..). ويضيف
الى ذلك في ردّه على من يرون الخير من قيام دولة الاسلام
ورفع راية التوحيد بأنهم تعاموا عن (تعطيل الجهاد وموالاة
النصارى للمصالح الدنيوية). ويرى بأن الدجال أهون من هؤلاء
العلماء الملتبس أمرهم على كثير من الناس: (من يعيش تحت
أيديهم من مشايخ المداهنة والمعاش والرواتب والمراتب..
ومن يدعو إلى الله على جهل وضلال، فيهدي بغير هدي النبي
صلى الله عليه وسلم ويستن بغير سنته). فكيف تجب طاعة هؤلاء
الأئمة المضلّين؟ ويخص المرشدين بحديثه يقول (فوالله لو
أن المرشدين كما زعموا في دار الإفتاء والحرس والجيش وغير
ذلك؛ بينوا تحريم هذه الأعمال عند أولئك الأمراء، لتبصّر
الكثير من محبي الخير ولعرفوا دينهم وأرضوا ربهم، ولكن
والله لو فعلوا؛ ما تركهم هؤلاء الأمراء - الذين لم يستقيموا
لا في العلم ولا في العمل - ما تركوهم ليلة واحدة وهم
تحت أيديهم في أحسن المساكن وأفخم المراكب..».
في رسالة (الميزان في حياة الانسان) يذكر جهيمان بأنه
كان يدرس في دار الحديث وينقل عن أحد طلابها قوله: (يا
فلان! والله لقد دخلت دار الحديث والجامعة وتخرجت منها
ولم أستفد شيئا، وإنما عرفت من طلبة الجامعة ومدرسيها
انهم «متعوشة»!، يقصد أنهم يدرسون من أجل المعاش والشهادة
التى يتعيشون بها.. ولولا خوفي عليه من الفتنة لذكرت اسمه،
إلا انه استثنى رجلين وهما الشيخ «عبد العزيز بن باز»،
والشيخ «الشنقيطى» صاحب «أضواء البيان”).
ويرد جهيمان على من يحتج عليه بما كان يفعله المفتي
السابق الشيخ عبد العزيز بن باز، وطريقته في إنكار المنكر
بالقول بأن حكّام آل سعود لم يبقوا له ـ اي لابن باز ـ
مكانته العلمية، (بل أصبح مجرد «موظف إداري» ويخدعونه
بـ «أبونا» و»والدنا» و»شيخنا» وغير ذلك من إطراءات المنافقين،
وإنما يأخذون منه ومن علمه ما وافق أهواءهم، فإذا خالفهم
بالحق لم يتحرجوا في مخالفته ورد الحق، وهو يعلم ذلك جيداً).
ويؤكد جهيمان بأن الحكّام انما اختاروا أمثال ابن باز
(ممن يثق الناس بدينهم وعلمهم، اختاروهم من غير المبصرين
لئلا يروا كثيراً من المنكرات، وإذا لاقوهم تدهنوا بالطيب
وقبلوا جباههم وداهنوا معهم ونافقوا حتى يزيلوا ما في
أنفسهم إن كان قد وصل إليهم شيء من أخبارهم السيئة). ومع
ذلك يرى بأن دور ابن باز الوعظي لم يعد مؤثراً فهو (مستمر
في الإنكار وهم مستمرون في المنكر).
ووجّه جهيمان نقداً للدولة السعودية في موضوع التلبيس
على الناس فقال: (وامتازت دولتنا بقسط وافر من هذا التلبيس
- منها ومن علمائها)؛ وأرجع ذلك الى الرعية وتخاذلها (ولم
تستطع هذه الدولة أن تفعل ما تفعله من التلبيس والتدليس
إلا لأن رعيتهم ومن هم في قبضة أيديهم كأرنب دفعت عليها
[الكلاب] لاصطيادها وقتلها، ومن كانت هذه صفته فهو يستحق
ما يناله، ولذلك تجد المغرورين من هذه الرعية؛ رؤساء في
الدنيا، أتباعاً في الدين لكل ناعق). وتحدّث عن علاقة
المشايخ مع ابن سعود وكيف انها تتكرر الآن، فهم (ما بين
موافق له ومعزز له بما يشاء، وآخر ساكت عن باطله، وآخر
التبس عليه الأمر).
يرسم جهيمان في رسالته (رفع الالتباس عن ملّة من جعله
الله إماما للناس) خارطة الانقسامات داخل المجتمع الاسلامي
(السلفي) ثم يستخرج منها طوائف ثلاث هي حسب اعتقاده (أقرب
الطوائف إلى التمسك بالكتاب والسنة..). ويرى بأن أمة ابراهيم
عليه السلام تقوم على أصلين: إخلاص العبادة لله وحده،
والتبرؤ من الشرك وأهله، وإظهار العداوة لهم؛ ويرى بأن
ثمة طوائف التبس عليها الأمر وسرد أعمالها وأقوالها أبرزها:
■ طائفة تقول إن قيام الدين أساسه محاربة القبوريين
وإظهار العداوة لهم والتحذير منهم محاربة الصوفية وأهل
البدع.
■ طائفة أخرى تقول بقول الطائفة الأولى وتزيد عليها
بالحمل على التعصب المذهبي الأعمى والدعوة إلى الذب عن
الحديث وتصفيته مما أدخل فيه، وذلك جل همهم .
■ وثالثة فتنت بالشيوعية والرد عليها وإثبات وجود الخالق
والسعي الجاد في السيطرة على المراكز الهامة في الحكومات
بقصد السيطرة على الحكم .
ويرد جهيمان على الطائفتين الاولى والثانية بأن رغم
أن ماقاموا به حق لا ينكر (ولكن لما كان هذا القيام منهم
في مواجهة من لا سلطة في يده، وأنهم سكتوا عن أصحاب السلطات
فيما يقومون به من هدم لدين الله ، كان طريقهم الذي سلكوه
هو الذي ضل به من كان قبلهم..). وهنا يوجّه جهيمان انتقاده
أن إنكار المنكر يقتصر على الضعفاء ومن لا سلطة لديهم
(أما إن أخطأ أصحاب السلطان الذين يعيشون تحت أيديهم ويخافونهم
ويرجونهم التمسوا لهم العذر، فإن لم يجدوا لهم عذرا التمسوا
لأنفسهم العذر بالضعف وعدم القدرة على التغيير).
ويقدّم جهيمان لذلك كيما يخوض في المسألة الشائكة وهو
ما كان يحمله الإخوان على علماء الوهابية في زمن عبد العزيز،
واتهامهم لهم بالمداهنة والسكوت عن الحق. وقد كتب جهيمان
فصلاً بعنوان «فصل في بيان أن قيام الدين لا يكون بالمداهنة
والسكوت بل بالصدع بالحق والصبر على الأذى». وقال بأن
العلماء أخذوا «بالجانب الذي يرضى الظلمة به ويوافقونهم
عليه..». ووجّه خطابه الى الإنسان العادي وطالبه بأن يعرض
نفسه على الكتاب والسنة وأن يحذر من تلبيس المبلسين ولا
ينخدع بثناء الناس على هؤلاء الدعاة.
في التحليل الاجمالي، يقدّم جهيمان قراءة نقدية لحال
تيار المشايخ والدعاة الوهابيين في المملكة وعلاقتهم بالسلطة،
وتأثيرات الأخيرة على وظائفهم، وتشكيلهم قوة حمائية للسلطة
بمنعها كل من يضطلع بالدور الدعوي الحقيقي القائم على
الدعوة الى التوحيد وذم الشرك بأنواعه والمجاهرة بالعداء
للكفار والتبرؤ منهم علناً، وهي الطائفة الناجية بحسب
جهيمان.
يوجّه جهيمان خطابه للدعاة المتماهين مع السلطة السعودية
بالقول (فلو أنكم صرحتم بالعداوة لهم ـ أي للمشركين ـ
ونهجتم مبدأ البراءة منهم علناً لنابذوكم ـ أي الحكّام
ـ وأذوكم أشدّ الإيذاء ولم يقلدوكم المناصب والمراكز بل
لأخرجوكم وقتلوا خياركم). ووجه سؤاله للعلماء والدعاة
العاملين في مؤسسات السلطة: هل رخّص لهم رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم في السكوت والمهادنة والإخلاد إلى
الأرض ومشاركة عدوهم في الأعمال أو حرضهم على نيل المراكز
لديهم للغدر بهم أو خطط لهم مثل تخطيطاتكم العقلية والتي
رأينا ولمسنا نتائجها؟
وحدّد ثلاثة مراحل لنصرة الدين:
1 ـ قول الحق في الدعوة لتوحيد الله عزو وجل، والتبرؤ
من الشرك وأهله والبدع وأهلها والمعاداة في ذلك.
2 ـ عند ذلك يحصل الإيذاء والإخراج من الديار والأموال
وتكون الهجرة إلى مكان يجتمعون فيه .
3 ـ ثم بعد ذلك يكون القتال.
|
مهدوية جهيمان قُتلت فماتت الإمامة، فجاء الخليفة
البغدادي بخلافته! |
في الواقع هذه المراحل تمثل خارطة طريق لحركة سلفية
جهادية تنشق من داخل الحركة السلفية التقليدية، بعد أن
تخلى الدعاة والعلماء عن وظيفتهم الدعوية الجهادية منذ
تماهوا مع السلطة، ونبذوا تعاليم الوهابية الأصلية وراء
ظهورهم باعتبارها هجرة وجهاد الى يوم القيامة. خارطة تقوم
على تكفير المجتمع ثم الهجرة منه وثالثاً إعلان الجهاد
عليه.
في مقالته (البيان و التفصيل في وجوب معرفة الدليل)
يتحدث جهيمان عن غربة الاسلام، والتي يرى بأنها تشبه «غربة
الاسلام الأولى» «فاعرض حياة الكثير من مسلمى هذا الزمان
ومدعى الإيمان والتوحيد على حياة أولئك الرجال، يظهر لك
الفارق..».
في هذه الرسالة يصوغ جهيمان رؤيته في اللامذهبية، ويدعو
للتخلي عن المذاهب والعودة المباشرة الى الكتاب والسنة،
وهو ما فتح الباب أمام دخول مئات بل آلاف من طلبة العلم
الى عالم الافتاء، لأن كل ما في الكتاب واضح وجلي وصاروا
يفتون بناء على ما يعتقدونه من الكتاب والسنّة.
وجّه جهيمان العتيبي رسالة بعنوان (النصيحة) الى المسلمين،
يريد منها تعريفهم بالاسلام الحقيقي «الذى به يقبل الله
منه اسلامه» أي معرفة معنى لا اله الا الله وأن محمداً
رسول الله. ثم ما يقع في آخر الزمان من فتن تستوجب معرفة
الاسلام الحق. ووجوب انكار المنكر والانكار على الحكّام
فيما يفعلون من الباطل سواء باليد أو باللسان أو بالقلب.
في رسالة (الفتن وأخبار المهدي، ونزول عيسى عليه السلام
وأشراط الساعة) يؤسس جهيمان العتيبي لمشهد اسكاتولوجي
يكون مرشداً لحركته الاصلاحية المهدوية. وقد أمضى جهيمان
ثمان سنوات في تتبع أخبار المهدي والدجال والملاحم، وسعى
قدر طاقته لتتبع الطرق التي ذكرها المصنّفون في هذا الباب
صحيحها وضعيفها، وجمع ما صحّ منها. ونصح بقراءة بعض الكتب
من بينها كتاب (إتحاف الجماعة) للشيخ حمود التويجري، وأثنى
عليه وحّذر من بعض الروايات الضعيفة فيه.
جمع جهيمان أحاديث الفتن وأشراط الساعة وربط بين دلالتها
وتطبيقها على الواقع الذي وردت فيه، مستعيناً بأحاديث
عن الفتن وردت في صحيحي البخاري ومسلم. من بين الروايات
التي طبّقها جهيمان على الواقع ما جاء في حديث منسوب الى
رسول الله (ص) من تطاول الحفاة العراة العالة رعاة الشاة
في البنيان.. واستخرج جهيمان منه أربع صفات: من بينها
رعي الغنم وقال:
(فترى الآن البوادي على فقرهم ورعي غنمهم وعريهم، تعطيهم
الدولة قروضاً مالية وتمنحهم أراضى ليعمر فيها بهذا القرض
ويتطاول في البنيان مع ثبوت الصفات التي ذكرها النبي صلى
الله عليه وسلم فيهم وأنها لم تفارقهم؛ فعمارة هذا لم
تغنه بل زادته ديناً أرزأه ولم يغنه ذاك عن رعي الغنم،
لأن في الحديث أنهم يتطاولون في البنيان مع كونهم حفاة
عراة عالة - أي فقراء - يرعون الغنم، وليس بإعتبار ما
كانوا عليه، ولا شك أن تطاولهم في البنيان مع كونهم فقراء
معجزة ظاهرة لا تتسع لها عقول البشر قبل وقوعها، كيف ترى
بعينيك فقيراً راعي غنم حافياً يتطاول في البنيان؟ ولكن
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم).
قد يلفت تفسير جهيمان للحديث الى الأدلجة الجامحة حيث
يميل الى تظهير الواقع وفق المعطيات الواردة في الحديث،
ولذلك لا يجد تعارضاً في زمانه أن يتطاول راعي الغنم في
البنيان ويبقى فقيراً، بل يراها معجزة ظاهرة!
على المنوال نفسه، يفسّر جهيمان ما ورد في حديث منسوب
للنبي (ص) حول الفتنة وأنها «لا تدع بيتا من العرب إلا
دخلته..»: (وإذا تأملت واقعك اليوم رأيت انه لم يبق بيت
من بيوت العرب إلا دخلته الفتنة وهي الفتنة في الدين،
ومن ذلك فتنة الصور الموجودة في النقد وغيره، فما تكاد
تجد بيتا من العرب إلا دخلته.. بل إنك تجد بالتتبع أن
كل أشراط الساعة خصت بجزيرة العرب). وقد استحوذ موضوع
الصور والتصوير على اهتمامات جهيمان ومجموعته، ولا بد
أن نتذكر أن حادث تكسير الصور كان الإشارة الاولى لانطلاقة
الجماعة السلفية المحتسبة في منتصف الستينيات من القرن
الماضي.
فسّر جهيمان ما جاء في حديث نبوي (ثم يصطلح الناس على
رجل كورك على ضلع) فقال (فيظهر لي انه الملك عبد العزيز..)
على أساس أنه استطاع أن يوحد جزيرة العرب وكانت مليئة
بالحروب من قبل. ولكن الحال بعد ذلك تبّدل كما يقول جهيمان
(ونحن الان في فتنة الدهيماء التي لا تدع أحداً من هذه
الامة إلا لطمته لطمة كلما قيل انقضت تمادت، وواقعنا يشهد
بذلك فأهل الباطل يخرجون علينا كل يوم بفتنة جديدة فيبسطونها
في أول الامر ثم يتمادون فيها، كمثل الاذاعة اول ما أنشئت،
كانت لا تبث الا القران والاخبار، ولايسمع فيها صوت إمرأة،
ثم تطور الامر حتى اصبحت المرأة هي التي تذيع البرامج
مع الرجال، وتغني الأغاني الخليعة، ثم أخرجوها سافرة على
شاشة التلفاز، وهكذا الصور وغيرها، وهكذا في سائر مخططاتهم
لمن تدبر ذلك ممن رزقه الله البصيرة).
ويرى جهيمان «انقسام الناس الى فسطاطين»، وهم المؤمنين
والمنافقين (وهي القسمة التي تكررت على لسان بن لادن،
والبغدادي..)؛ ويشرح حال المجتمع: (إذا قدمت إلى قرية
من قرى المسلمين فسألتهم هل عندكم من الاخوان أحد؟ لعدّو
لك أفرادا قلائل، وقد أدركت من مدة عشرين عاماً لما كان
على الحرس ابن فرحان فإنه كان يطلق على جميع ألوية الحرس
الاخوان، ولا تجد من يأخذ من لحيته منهم، ولو أتيت إلى
ألوية الحرس اليوم فتسألهم؛ هل عندكم احد من الاخوان؟
لعدوا لك ثلاثة او اربعة أو لم يعدوا أحد).
أسهب جهيمان في شرح علامات وأشراط خروج المهدي، وكأنه
يلمح الى أمر يقدم عليه، كظهور المهدي في البيت الحرام،
وطلبه البيعة من الناس. ويلفت الى أن (النصر الاسلامي
ليس بكثرة عدد ولاعدة كما فتن بذلك أهل هذا العصر المادي).
و سوف نجد كيف أن كتاب (إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن
والملاحم وأشراط والساعة) للشيخ حمود بن عقلا التويجري،
المطبوعة سنة 1396/1976 بالرياض قد ترك تأثيره الواضح
في رؤية واستراتيجية عمل جماعة جهيمان التي أخذت منحى
مسلّحاً بعد أن نجح هو في استدراج بعض عناصر الجماعة السلفية
المحتسبة نحو خياره القتالي.
وقد اعتمدت جماعة جهيمان الكتاب وشكّلت منه الرؤية
الاسكاتولوجية وأخبار نهاية العالم، حيث رصد التويجري
كل القصص التي تتحدث عن علامات آخر الزمان وأشراط الساعة.
وراح التويجري يفسر الفتن التي تناولها المؤرخون السابقون
في كتبهم، ومنها على سبيل المثال فتنة السراء كما أوردها
ابن الاثير في كتابه، ووجد أنها تنطبق على ما وقع بين
أهل نجد وبين الأتراك والمصريين من الحروب العظيمة في
القرن الثالث عشر من الهجرة، وحسب قوله: (كانت هذه الفتنة
من أعظم الفتن التي وقعت في هذه الامة وقد وهى الاسلام
بسببها وانطمست أعلامه حتى رد الله الكرة لأهل نجد بعد
ذلك، فعاد الاسلام عزيزاً ولله الحمد والمنّة) (انظر:
التويجري، إتحاف الجماعة، مطبعة المدينة الرياض، 1396/1976،
ص 42).
حاول التويجري تفسير الحوادث التي جرت في المنطقة الممتدة
من المغرب وحتى اليمن والشام والعراق ووضعها في صيغة فتن،
لتشكّل فكرة المهدوية لدى جماعة جهيمان باعتبار أن الفتن
ممهدات لخروج المهدي وهذا ما يجعل الأدلجة المسرفة طاغية
على تفسيرات التويجري للحوادث ومن خسف وطوفان ورجف وزلازل.
اعتمد جهيمان ومحمد بن عبد الله القحطاني، مهدي الجماعة،
على رواية خسف الجيش القادم من تبوك حسب ما أورده التويجري
في (باب ما جاء في الخسف بالجيش الذي يغزو الكعبة، ج1ص
547 وما بعده)، ولذلك حدث ارباك شديد وسط المجموعة التي
كانت داخل الحرم حين قتل القحطاني، مهدي الجماعة.
وقد علّق التويجري على حديث (لتنقضن عرى الاسلام عروة
عروة..الخ) وقال ما نصّه: (وقد وقع مصداق هذا الحديث في
زماننا حيث نبذ كثير من المنتسبين الى الاسلام الحكم بالشريعة
المحمدية وراء ظهورهم واعتاضوا عنها بالقوانين الوضعية
التي هي من حكم الطاغوت والجاهلية. وكلما خرج عن حكم الكتاب
والسنة فهو من حكم الطاغوت والجاهلية. وقد نقض الأكثرون
أيضاً غير ذلك من عرى الاسلام كما لا يخفى على من له أدنى
علم ومعرفة فلا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم)(التويجري،
إتحاف الجماعة، ج1 مصدر سابق ص 397 ـ398).
وخصص الشيخ التويجري الجزء الثاني في ما جاء في المهدي
والاحاديث عليه والايمان به وخروجه والجدل حوله. ولكن
الأهم في ذلك هو ما جاء في (القحطاني) الذي طبقّته جماعة
جهيمان على محمد بن عبد الله القحطاني. وفي (باب ما جاء
في القحطاني) يذكر التويجري رواية الطبراني عن قيس بن
جابر الصدفي عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال «سيكون من بعدي خلفاء ومن بعد الخلفاء أمراء
ومن بعد الأمراء ملوك ومن بعد الملوك جبابرة ثم يخرج رجل
من أهل بيتي يملاً الأرض عدلاً كما ملئت جورا، ثم يؤمر
القحطاني فوالذي بعثني بالحق ما هو دونه». وفي حديث آخر
عن عبد الله بن عمرو بن العاص وفيه «ثم يكون أمراء العصب
ستة منهم من ولد كعب بن لوي ورجل من قحطان كلهم صالح لا
يرى مثله». وعن ابي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال «لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق
الناس بعصاه»؛ وفي رواية ابن عمر «ليسوقن رجل من قحطان
الناس بعصا»(المصدر، ص 43).
كما تناول التويجري في الجزء الثاني الآيات والظواهر
الطبيعية والوقائع البشرية التي تسبق ظهور المهدي أي القحطاني،
مثل كلام الدابة للناس، وتعيينها المؤمن من الكافر، وطلوع
الشمس من مغربها، والنار التي تحشر الناس، وتحدث عن ظواهر
بشرية مثل كثرة الروم في آخر الزمان، وتأخير هذه الأمة
خمسمائة عام، وفيه أول الامم هلاكاً وهلاك العرب وأنهم
أول الأمم هلاكاً، وبقاء الاشرار بعد الأخيار.
حاول جهيمان العتيبي قيادة حركة تصحيح جذرية في الدولة
السعودية تكون مقدمة لعملية تغيير شاملة في الأمة من خلال
حركة المهدوية. فاختار الحرم المكي مكاناً لإعلان دعوته
التصحيحية، واقتحم ومجموعته المسجد الحرام بعد نهاية موسم
الحج لعام 1400هـ/نوفمبر 1979، وتيقّنت المجموعة بأن ما
كان ذات مرة مجرد «مزحة» بات إيماناً راسخاً، فراح محمد
بن عبد الله القحطاني يتصرّف على أساس أنه المهدي الفعلي
وساعده على ذلك مؤشرات فهم منها جهيمان ومجموعته على أنها
دلالات على صحة الاعتقاد..
قتل القحطاني، وكاد يفرط عقد الجماعة على الفور، لولا
استعانة جهيمان بالأفكارالغيبوية، فراح يخبر رفاق سلاحه
وعقيدته بأن القحطاني لم يمت ولكنه حوصر، وسوف يظهر عمّا
قريب، وإن بشارة خسوف الجيش القادم من تبوك قد أمدّت المجموعة
برصيد معنوي ما لبث أن تراجع تدريجاً فيما أنهك الجوع
والتعب المجموعة وقرروا في نهاية المطاف الاستسلام إما
للموت أو الاعتقال.
انتهت قصة جهيمان العتيبي ورفاق دربه بالإعدام، ولكن
بقيت أفكاره حيّة، مؤثّرة، وساحرة، وبعد عقد من الزمن
عاد جهيمان في شكل آخر، يوجّه، يلهم، ويرشد الى ذات الأفكار،
الرؤى، الانتقادات.. والرهانات.
|