“الذهاب للحج والناس راجعة ”
بيان مؤازرة بطعم طائفي
محمد قستي
في مثل مواقف مشايخ الوهابية حيال العدوان الاسرائيلي
أن لا تأتي أبداً خير من أن تأتي متأخراً، لأن ما يصدر
عنهم لا خير فيه بل شرٌ كله.
ستة وثمانون شيخاً وداعية وقاضياً واستاذ شريعة من
أتباع المذهب الوهابي، بعضهم عرف بانتمائه للتيار الصحوي
الذي برز في تسعينيات القرن الماضي وأسس لفكر السلفية
الجهادية، وبعضهم مصاب بلوثة الطائفية فلا يرى الا بعين
طائفية ولا يسمع الا بأذن طائفية ولا يتنفس الا من رئة
مليئة بالكراهية الطائفية..
أسماء في قائمة الموقّعين تبدو ثانوية وهامشية، وليس
لها من الشأن العام الا البيانات العابرة، وأسماء أخرى
تبدو تبعاً “مع الخيل ياشقراء”، وهناك من لديه حسن نيّة
بالدفاع عن قضية مشروعة ولكن لم يجد من ينتظم معهم في
إطار مشترك سوى هذه المجموعة.
من الاسماء التي تكررت في البيانات السابقة الشيخ محمد
بن ناصر السحيباني، والشيخ عبدالرحمن بن صالح المحمود،
والأبرز في المجموعة هو الشيخ ناصر العمر، الذي يميل رأس
الحربة في المجموعة ولولب التحرّك في مثل هذه المناسبات،
وهو الذي يستقبل رئيس المكتب السياسي في حركة حماس خالد
مشعل حين يزور الرياض بقائمة وصايا وتحذيرات وعلى رأسها
فك الارتباط بايران وحزب الله لأنه قد اكتشف خطرهم قبل
أن يخلق الله آدم، لفرط ما ردّد عبارة انه كشف مكرهم منذ
عشرين سنة وأكثر! ومع ذلك بقي مشعل على علاقة وثيقة بايران
وحزب الله وحتى بعد التباين في الموضوع السوري فإن العلاقة
بين حماس وايران وحزب الله بقيت فاعلة وازدادت قوة خلال
أيام العدوان الاخير كما بدا من التناغم في المواقف والرسائل
المتبادلة والعلنية بين القائد العام لكتائب القسام محمد
ضيف وقائد فيلق القدس الايراني اللواء قاسم سليماني.
أسماء اخرى بعضها قليل الظهور وبعض آخر اكتفى من دنياه
بالتدريس والدعوة في حدود الجامعة وكليات الشريعة أو العمل
في سلك القضاء الشرعي. ومن بين الاسماء المعروفة الشيخ
عبد الله الجلالي، الشيخ محمد بن سعيد القحطاني، والشيخ
عبد العزيز بن عبد المحسن التركي، و الشيخ خالد بن عبدالرحمن
العجيمي، والشيخ فهد القاضي، والشيخ حسن بن صالح الحميد،
والشيخ عبد العزيز العبد اللطيف، والشيخ عبد الله السلوم،
والشيخ عبد الله بن ناصر الصبيح، والشيخ محمد بن عبد العزيز
اللاحم، والشيخ عبد العزيز الوهيبي، والشيخ فوزان بن عبد
الله الفوزان،
صمت مشايخ الوهابية طيلة فترة العدوان الصهيوني على
قطاع غزّة، امتثالاً لولاة أمرهم الذين أحجموا عن مجرد
البوح بكلمة دعم، سوى ما أطلقه الملك بتقديم معونة الى
الهلال الاحمر الفلسطيني، الذي يكتم حزنه وأسفه لأن هناك
من يريد أن يربح صيتاً من دماء الغزاويين بوعد لم يتحقق
حتى آخر يوم من العدوان..
على أية حال، فإن مشايخ الفتنة الوهابية صمتوا خوفاً
وجبناً ونطقوا فتنة، لأن صمتهم كان بإرادة وسابق تصميم،
وحين نطقوا لم يصدر عنهم سوى ما يكشف عن أحقاد موغلة في
قلوب سوداء، وكراهية معتقّة بكل صنوف المقت.
لاشك أن البيان يكتبه شخص أو شخصان ويلحق حسنه وقبحه
بمن يضع توقيعه بوعي أو غير وعي، بعد قراءة النص أم بدون
ذلك وهم كثر، لمجرد الثقة في من يتولى كتابة النص. تبدو
أنفاس ناصر العمر فائحة في ثنايا البيان فقد أطنب كثيراً
في هذا الميدان حتى بات فارسه المميّز، ويشاركه في ذلك
سليمان بن حمد العودة (وهو ليس الداعية المعروف سلمان
العودة) الذي غمس قلمه في الوحل الطائفي كثيراً الى جانب
بيان صدر في 7 شوال لسنة 1435هجرية الموافق للرابع
من أغسطس سنة 2014، أي بعد شهر من العدوان ودخول تهدئة
الـ 72 ساعة حيز التنفيذ وكانت مقدّمة لوقف اطلاق النار..يعني
أن الموقّعين تضامنوا مع غزة بعد أن ذبحت، ودمّرت، وبحّ
صوت نسائها وهن يطلقن نداء واسلاماه، وقطعت أجساد أطفالها
أشلاء..البيان صدر بعد أن انتصرت المقاومة الفلسطينية
ليس بأموال ال سعود ولا تبرعات مشايخ الوهابية ولا بمقاتلين
جزيرة العرب الذين تحّولوا الى مقاتلين “غب الطلب” تجدهم
في كل سوح القتال في العالم الا في فلسطين فلا قدم صدق
لهم فيها. ولكن مشايخ الفتنة ينتصرون لغزة بعد انتصار
مقاومتها التي لم يقف معها سوى من يضمر الموقّعون على
البيان لهم حقداً وكراهية، أمثال ايران وحزب الله اللبناني..
أراد أهل دعوة الوهابية وأتباع مشايخ الفتنة أن يصوّر
البيان على غير حقيقته تماما كما صوّر أنصار آل سعود كلمة
الملك عبد الله على غير حقيقتها حين عدّها بأنها السبب
وراء وقف العدوان الاسرائيلي على غزة، لأن العدو يعرف
غضبة السعودية على المستوى العالمي.. ولأن الكذب يمرّ
بلا جمارك كما يقال، فإن مصادر الكذب تعدّدت، وبات لكل
نصيبه منه.
قالوا عن بيان الـ 86 بأنه “كشف المتصهينين العرب من
الساسة والمثقفين والإعلاميين”، وهذا غاية الغلو الذي
لا يضاهيه سوى غلو الصهاينة في زعم تحقيق اهداف العدوان.
كانت غزّة تنتظر هذا الكشف في أوج المعمعة وليس بعد أن
رفعت الأٌقلام وجفّ الحبر، وقيل ما قيل إن صدقاً وإن كذبا..فأين
كان أصحاب البيان طيلة شهر من العدوان، والصواريخ تمزّق
أجساد الأطفال وتهدم البيوت على رؤوس ساكنيها، وتدفن عوائل
بكاملها تحت الانقاض، وتدمّر المساجد والمدارس والاسواق..لماذا
لم يصدر البيان حينها، وحينها كان السؤال عن مصدر صواريخ
المقاومة ومن يدعم ومن يزوّد ومن يتخاذل ومن ينصر ومن
يحرّض العدو على القتل..في ذلك الوقت كان المطلوب كشف
المتصهينين العرب وليس بعد أن وضعت الحرب أوزارها، فليكفوا
عن بيع مواقف وكسب صيت بما يصدق عليهم قول الله جلّ شأنه
(لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما
لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب).
حظ البيان كحظ أي بيان يأتي بعد الحرب، لا قيمة عملية
له، ومثله مثل تقديم واجب العزاء، فأصحابه ليسوا شركاء
لا في نصر ولا مؤازرة ولا دعم، فهم كالغريب الطارىء الذي
عبّر عن تعاطفه بعد الحرب، وليس مثل الطبيب البلجيكي الذي
خاطر بحياته من أجل تقديم العلاج لجرحى العدوان الصهيوني
على غزّة.
ما يبعث على الغرابة دعوة الموقّعين على البيان “علماء
الأمة إلى نصرة المظلومين، والسعي لكف الظالمين وردعهم
أياً كانوا، وبيان الحق الواجب في هذه النازلة دون تردد
أو تباطؤ”، وللقارىء أن يتوقف عند كلمتي “تردد وتباطؤ”
لأنها تضمر السر كله في بيان الـ 86 الذي فاقوا من غفلتهم
بعد العدوان ثم حين جاء بيع المواقف أرادوا بيعها بثمن
كبير بعد أن أغلقت الأسواق أبوابها، فطالبوا علماء الأمة
بالنصرة بصورة عاجلة ويصدق عليهم قول الله عز وّجل (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا
تَفْعَلُونَ () كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا
مَا لَا تَفْعَلُونَ).
يبدأ البيان بمقدّمة ذات صلاحية منتهية باستعمال فعل
مضارع على حدث ماضي وكأنه يريد الايحاء للقارىء بأن البيان
جاء مواكباً مع الحدث وليس بعده كالقول “يتابع العالم
أجمع هذه الأيام ما تقوم به دولة يهود بتواطؤٍ وتمالؤٍ
من دول الكفر وعملائهم في المنطقة، من حرب شرسة على إخواننا
المظلومين المستضعفين في قطاع غزة..”، فهذا الكلام يصلح
في الاسبوع الأول من العدوان وليس بعد توقفه.
وكذلك القول “وإن مصاباً جللاً كهذا المصاب لا يجوز
للمسلمين السكوت عنه، ولا الانشغال عنه بغيره من أحداث
منطقتنا الجسام..”، فإن هذا يوجّه لأصحاب البيان أنفسهم
الذي سكتوا وانشغلوا عنه بأحداث أخرى، بل جاء البيان ليؤكد
انشغالهم بأحداث أخرى حين أقحموا نوازعهم وأمراضهم الطائفية
في البيان وطالبوا حركة حماس بالحذر من ايران وحزب الله،
مع أنهما من وقفا عملياً مع المقاومة الفلسطينية يتزويدها
بالصواريخ وهو ما صرّحت به قيادات حماس وباقي فصائل المقاومة
الفلسطينية..
رسائل البيان جاءت متأخرة، وإن عبارات المؤازرة والتضامن
تشبه الى حد كبير الطيور المحنطة، حيث تفقد الطيور وظيفتها
وتحتفظ بالصفة الجمالية فحسب.
وصايا الموقّعين على البيان هي الأخرى جاءت متأخرة،
ولسان الحال “اللي ضرب ضرب واللي هرب هرب”، وأما أهل غزّة
فجوابهم (لا توصي حريص). أوصى الموقّعون الأمة بأن تكون
“ردءاً ونصيراً ﻷبطال المقاومة”، وأن يقفوا معهم “صفاً
واحداً تحوطونهم من ورائهم، وتخلفونهم في أهلهم، وتحفظونهم
في غيابهم، وتقطعون الطريق على المفسدين الذين يريدون
أن يفرقوا صفكم ويفسدوا عليكم اجتماعكم..”، ونسأل أين
كان الموقّعون على البيان حين كان مباضع الفتنة تفعل فعلها
في جسد المقاومة تشويهاً وتمزيقاً وتحريضاً من كتّاب وصحافيين
ووسائل اعلام سعودية رسمية!
رسالة الموقعين الى المجاهدين وبطولاتهم وهي شهادة
ليسوا بحاجة لها بعد أن انتهاء المعارك، فهذه الشهادة
كانت مطلوبة في ساعات المحنة حين تخلى عن المقاومة الشقيق
والصديق وبات اللاتيني والاوروبي هو من يتظاهر داعماً
ومسانداً. ومع ذلك سوف يوضع البيان في خانة “قضاء عمّا
فات”، وأما التحذير بأن لا يتلفت المجاهدون “للدعوات النشاز
التي يضج بها فضاؤنا الإعلامي وساحاتنا السياسية، فالمسلمون
منها بريؤون”. فهو تحذير بعد فوات الأوان، وأما المقصود
بالمسلمين فهل على طريقة ابن غنام (وسار المسلمون..وغزا
المسلمون) ويقصد بذلك أتباع محمد بن عبد الوهاب!
جمل يكررها البيان ويعلمها القاصي والداني وباتت من
ثوابت المقاومة الفلسطينية بأن ما لم يستطيع العدو الحصول
عليه في ساحة المعركة لن يحصل عليه في المفاوضات السياسية،
ولكن مصيبة الموقّعين على البيان، أو بعضهم على الأٌقل،
أن نزعة الوصاية والتفوّق وتضخم الذات تحول دون تواضعهم
حتى يكفوّا عن الشعور الكاذب بامتلاك معرفة أسرار الكون..
ومن الأسرار التي هي دون شك من “الاكتشافات المبكرة”
لنابغة زمانه ناصر العمر ما يصفه بـ “مكر العدو الصفوي
الإيراني وصنائعه كحزب اللات”. فالرجل يسوؤه أن بني قومه
ال سعود وعلماء المؤسسة الدينية الرسمية لم يقدروا على
النهوض بالقضية الفلسطينية طيلة تاريخهم، ولم يقدّموا
لشعب فلسطين سوى الأوهام ومبادرات الذل والعار منذ مبادر
فهد الشهيرة في قمة فاس بالمغرب سنة 1981 وصولاً الى مبادرة
عبد الله التي عرضت في قمة بيروت في مارس 2002. وما لا
يريد العمر وأهل دعوته من الموقعين الإعتراف به أن هذا
الصفوي الايراني وصنيعته حزب اللات كما يصفه كانا هما
الداعمين لفصائل المقاومة ليس في هذا العدوان كما يوهم
البيان القارىء بقوله “يستغل تخاذل حكومات العرب عن نصرة
إخوانهم ليكسب ببعض المواقف تعاطف المغفلين من بعض أبناء
أمتنا..”، وليرجع الى بيان رئيس الحكومة الفلسطينية في
غزة اسماعيل هنيّة وهو يقدّم الشكر لهذا الصفوي الذي وقف
الى جانب المقاومة..بل ليس على اصحاب البيان سوى “جوجلة”
سريعة لاكتشاف الحقائق الصادمة وغير السارّة لهم، حتى
يعرفوا من وقف ودعم ومن صمت وخذل وتآمر، حتى يعرف من يمكر
بمن ومن يدفع ثمن مكره!
في الرسالة الثالثة دعوة لعموم المسلمين بتذكر حقوق
الأخوة الاسلامية وليتهم بدأوا بتوجيه الدعوة بأنفسهم
لأنهم أولى بها حتى لا يشقوا الصف ويشيعوا الفتنة على
أساس طائفي، في وقت أحوج ما تكون فيه الأمة الى من يرمم
بينانها المتصدّع، ويرتفق فتقها المتّسع.
في الرسالة الخامسة الموجّهة الى “المتصهينين العرب”
وهو مصطلح لم يكن من ابتكارات موقعي البيان، وانما من
وحي الغضب الشعبي الذي جرى التعبير عنه في مواقع التواصل
الاجتماعي، الفضاء الأرحب للتعبير عن الآراء الحرة بعد
أن ضيّق أهل الدين وأهل الدنيا الخناق على المواطنين بحجة
الوصاية وولاية الأمر. على أية حال، فقد استعار الموقعون
على البيان المصطلح، واستعاروا أيضاً المشاعر، والمواقف،
والكرامة من الشارع الذي كان أكثر تطوّراً منهم، حين وصم
الأقلام المدجّنة والخانعة والمتخاذلة والخائنة وهي في
الغالب أقلام سعودية بدرجة أساسية وخليجية بدرجة ثانية
ومصرية بدرجة ثالثة.. هي الأقلام التي يرفض موقعو البيان
تحديد هوياتها وهم “الذين يشمتون بالمقاومة ويشوهون صورتها..”.
وهم أنفسهم الى جانب الساسة من أهل الحكم في مملكة العار
وبقية أنظمة الخليج الذي كشفت غزّة عن وجوههم القبيحة
وأن مواقف هؤلاء ليست مجرد مواقف مخزية وليست مجرد مناكفة
سياسية “بل هي خيانة للأمة، وسقوط في مستنقع التبعية والولاء
للأعداء المحاربين..”. وهؤلاء ليسوا كما يحاول موقعو البيان
التعمية عليهم وتفادي الإشارة اليهم بالاسم ولن يكونوا
سوى من تحدث الاسرائيلي نفسه عنهم ومن بينهم مملكة آل
سعود. فالأخيرة هي من بين حكومات المنطقة، التي يريد الموقعون
على البيان، أن تخشى الله “من التواطؤ مع العدو الصهيوني،
وخذلان المسلمين المظلومين المستضعفين..”، وهي أيضاً من
بين حكومات المنطقة التي كنتم تسمعوا منها في مضى الشجب
والاستنكار أما الآن “نرى بعضكم يتخلى حتى عن هذا القدر
البارد، بل ويظهر خذلانه وتعاونه الصريح مع العدو..”.
رسائل باردة بعث بها الموقعون على البيان من مشايخ
الوهابية، وكانت خاتمة الشجب والاستنكار مجرد (الدعاء)
بأن يرفع الله الشدّة والبلاء عن “أهلنا في غزّة” لكم
الله يا أهل غزة من المنتسبين لكم بعد انتصاركم وصمودكم.
الموقّعون انتسبوا الى بعض شعوب بعينها لأنها تضم مقاتلين
من أهل دعوتهم مثل (الشام والعراق وليبيا واليمن)، وتناسوا
شعوباً من المغرب حتى البحرين تتطلع لرفع البأس والشدّة
والبلاء من أجل الحرية والكرامة..
|