حرب سعودية على (داعش): نسخة رديئة ومكرّرة!
محمد قستي
منذ تأسيسها، فإن السعودية جزءٌ من الحلف الغربي، بدأت
بمشاركتها الرسمية في الحرب العالمية الثانية، ولم تنته
بدخول حروب الغرب وأمريكا بالذات، كما في فيتنام، حيث
تفاخر ذات مرّة تركي الفيصل، رئيس الإستخبارات السعودية
الأسبق. ولم تنطلق في السعودية في تأسيس الحلف الإسلامي
لمحاربة الشيوعية إلا وفق الاستراتيجية الأميركية؛ ثم
لم تحارب عبدالناصر بإسم الإسلام وبعدها الحرب على إيران
الشيعية؛ ثم على العراق وصدّام، إلا لأن الرياض جزء من
محور غربي، ومكون فاعل في الإستراتيجية الغربية.
اليوم لم تخيّب الرياض ظنّنا بها، فقد أعلنت الحرب
على داعش، وقبلها كانت قد أعلنت الحرب على الإرهاب القاعدي
في عهد بوش الإبن.
في كل الأحوال، فإن المطلوب من الرياض ان تكيّف نفسها
مع الاستراتيجية الأميركية، وعليها أن تكون (مُبدعة) في
تبرير مواقفها امام جمهورها، وامام من تزعم انها قائدتهم
في العالمين العربي والإسلامي.
لم يكن صعباً على آل سعود أن يحاربوا الشيوعية، ويتركوا
الصهيونية، رغم شعار الملك فيصل الذي يقول بأن (الشيوعية
هي وليدة الصهيونية)؛ رغم ان الرياض كانت تقيم علاقات
مع الشيوعيين منذ سقوط الحجاز، وكانت سفارة السوفيات في
جدة إحدى الموروث من مملكة الحجاز وبقيت مفتوحة حتى ١٩٣٧،
بل ان فيصل ذهب الى موسكو ليطلب (صدقة) منهم في صفقة (كيروسين)
ولم يتم دفع ثمنها حتى بعد اغلاق السفارة السوفياتية اختياراً.
ايضاً لم يكن صعباً على ال سعود أن يوجهوا سهامهم لعبدالناصر
في حرب القومية، فالقومية كفر وإلحاد كما قال المفتي ابن
باز! فقد جعلوا القومية نقيضاً للدين؛ ثم في الحرب على
ايران جعلوها الأساس في محاربة (الفرس المجوس)! ولازالوا!
لكن التحدّي الحقيقي لآل سعود جاء حين وقعت أحداث ٩/١١؛
وأعلنت امريكا الحرب على القاعدة وأيديولوجيتها، فكيف
تستطيع الرياض أن تحارب أيديولوجيتها الوهابية التي تسندها،
وهي ذات ايديولوجية القاعدة، ومن ثم داعش؟
كانت هناك حيرة؛ ولكن آل سعود أقنعوا حلفاءهم من المشايخ
في الداخل، والأميركيين في الخارج بقبول انصاف حلول: سنعلن
معكم الحرب على الأرهاب والتطرف؛ سنقوم بتعديل المناهج
الدينية؛ سنوقف التمويل الرسمي للتطرف القاعدي؛ سنؤهّل
أئمة المساجد الوهابيين؛ سنقيم مراكز مناصحة، وسنعطيكم
قواعد لطائرات درون، وسنفتح لكم الخزانة أيضاً.
تفهم الحلفاء الأمر، ودفع العراق الثمن، الذي لا ناقة
له ولا جمل بحرب القاعدة او بالحرب على الإرهاب. فبدل
ان تتوجه الحرب الأميركية الى الرياض، التي كان معظم مهاجمي
٩/١١ يحملون جنسيتها، أصبحت الحرب في وسط بغداد!
بعد أكثر من عشر سنوات، يكتشف الغرب أن ما قامت به
الرياض لم يغيّر من واقع الحال كثيراً: فالمناهج الدينية
لازالت على حالها وإن تم التغيير ففي الشكل؛ ومشايخ التطرف
يتحدثون علنا دعماً لداعش او لفكرها؛ والمناصحة أطلقت
سراح قادة قاعديين يقودون الحرب الآن في اليمن وسوريا
والعراق؛ والمال لازال يذهب للقاعدة وداعش وغيرهما؛ فيما
يحارب النظام القاعدة في الداخل ويدعمها في الخارج ضد
خصومه؛ وأما المؤسسة الدينية فلم تخسر من سلطاتها كثيراً
في نهاية الأمر، فما أُخذ باليد اليمنى، مُنح لها باليد
اليُسرى.
تجربة داعش أثبتت كل هذا! وفي مقدمته أن الرياض لم
تحارب ايديولوجيتها المتطرفة التي تشرعن الإرهاب وتصنع
الإرهابيين طيلة السنوات الماضية.
الآن تعود السعودية فتنخرط في الحرب على داعش، ووفق
ذات المنهج النفاقي: تدعم داعش وفروع القاعدة، ثم تصرخ:
لقد حذرناكم منها؛ نحن ضحاياها؛ غيرنا ـ سوريا وروسيا
وايران والعراق ـ هم من صنعوا داعش!.
اعلان البراءة كان كافياً هذه المرّة للحليف الأميركي،
وهو يكرر نفس الخطأ القديم. البعض يقول انها سياسة أمريكية
معلومة وليس خطأ تكتيكياً. كيف يتصدى للقاعدة من دعمها
ويدعمها؟ سواء كان امريكيا ام سعوديا ام تركيا ام قطريا؟
انها حالة نفاقية عامة.
هناك اصوات غربية أكبر تحذّر من الحرب الإعلانية الجديدة.
فالمشكلة تكمن في (المملكة العربية السعودية): اضبطوها
ينضبط الأمر لديكم! ولكن الاستراتيجية الغربية لن تضيّع
تحالفاً مع الرياض لمجرد ان الأخيرة خرقت قواعد اللعبة؛
فلا زالت الأرباح اكثر بكثير من الخسائر؛ والرياض تعرف
كيف توازن الأمرين، وتعوّض الغربيين عن بعض خسائرهم بطريقة
مريحة!
الرياض من جانبها كانت تريد ان يكون مركز محاربة الإرهاب
في الرياض! وتألمت لأن الحلفاء لم يقبلوا ذلك، ومع هذا
تبرعت بمائة مليون دولار. رفضت السعودية أن تكون سوريا
او ايران في حلف مكافحة داعش، وطار الأمير سلمان الى فرنسا
ليقنع هولاند برأي بلاده، وهو ما تم.
ولكي تُخرج السعودية وقوفها الظاهري ضد أيديولوجيتها
الوهابية امام جمهورها، قدمت له حزمة تتضمن عدم مشاركة
ايران (التي لا تريد المشاركة اصلاً) وكذلك سوريا، وأن
يكون هناك معسكرات تدريب للمعارضة السورية (المعتدلة!)
على أراضيها؛ وأن تسعى لدحرجة المعركة بحيث تتحول المعركة
ضد داعش الى النظام السوري نفسه؛ وهذا ما أفصحت عنه تركيا
المترددة في حرب داعش. وهناك تقارير غربية منشورة تفيد
بأن الطيران السعودي سيهاجم داعش في سوريا، أي أن المخطط
النهائي للغرب والسعودية (بعد التعديلات): تقليم أظافر
داعش في العراق/ وليس قطع جذورها؛ ودفع ما تبقى من عناصرها
الى سوريا ولكن بحالة ضعف ريثما يتقوّى الجيش الحر بعد
إعلان خروجه من الغيبوبة؛ وأيضاً بدء معركة ضد النظام
السوري من جديد؛ واستنزاف الخصم الإيراني.
هذا هو مخطط أوباما بعد التعديلات السعودية الغربية
عليه. وبذا تكون الرياض ليس فقط خرجت من أزمة الاتهام
بتمويل داعش والقاعدة، بل وحققت ربحاً اضافياً في توجيه
المعركة ضد خصومها في المنطقة.
بمعنى آخر، فإن الغرب يكرر ذات التجربة القديمة الفاشلة:
دعم التطرف القاعدي الداعشي الوهابي ـ كما في ليبيا وسوريا
ـ بحجة دعم الديمقراطية والثورة لتدمير البلدين، أو لإسقاط
نظام الحكم فيهما؛ ثم اعلان الحرب على ذات الجهات المدعومة
سابقاً بحجة مكافحة الإرهاب؛ وأما الحلفاء العرب ـ الخليجيون
عامة والسعوديون خاصة ـ فهم كالقطيع يتبعون الاستراتيجية
الأميركية ويلعبون دورهم في تمويل الحرب.
لم تتوجّه معركة الحرب على القاعدة، سواء داخل السعودية
او خارجها، الى محاربة الأيديولوجيا؛ بل الى منتج تلك
الأيديولوجيا فحسب. الأيديولوجيا الوهابية بخير، لم يمسسها
سوء، فكل الحديث يتوجه الى موضوع العسكرة وتحديداً الضربات
الجوية، والمثير ان حرب اوباما الجديدة تأتي بعد ثلاثة
أشهر من احتلال الموصل، وأن حلفه الجديد تقلص عدد المشاركين
فيه بالمقارنة مع الحلف القديم الى أقل من الربع!
لم تكن الرياض تقبل بمحاربة داعش بدون الاطاحة بالمالكي،
وهو ما حدث، فالرجل لم يكن مقبولاً في كل الأوساط السياسية
المحلية العراقية والخارجية؛ ولكن الرياض أيضاً ضد أصل
نظام الحكم في العراق، وهي التي اعلنت رفضها مواجهة داعش
في الأسابيع الأولى لاحتلال الموصل، ولكنها غيرت رأيها
بعد وصول طلائع قوات داعش الى الحدود الشمالية والقاء
صواريخ على (عرعر). وهناك سبب آخر للتلكؤ الأميركي، وهو
اعتقاد واشنطن بأن ايران ستنجرف الى حرب استنزاف ثانية
في العراق، ولكن هذا لم يحدث، بل تمكنت بالتنسيق مع حلفائها
من طرد داعش من حدود بغداد الى ما يقرب من حدود الموصل.
هنا خشي الأميركيون بأن تبتلع طهران كامل العراق، فأعلنت
حرباً ـ اعلامية حتى الآن ـ على داعش.
لهذا السبب لم تأخذ دول كثيرة أمر الحلف الدولي الأميركي
ضد داعش على محمل الجدّ. فما جرى حتى الآن هو اعلان فشل
أمريكي في سوريا والعراق؛ كما انه مجرد محاولة اعادة انتاج
تلك السياسة دون أن يتغيّر مضمونها الجوهري.
الحرب على داعش يفترض ان تعني في الأساس حرباً على
فكرها، وهذا الفكر منتج سعودي وهابي، وبدون إيجاد حل لهذا
المنتج، سيتدفق المال والرجال من السعودية الى الخارج.
بل سيتدفق العديد من العناصر الوهابية في الدول الأخرى
الى مراكز الحروب الطائفية التي دخلت فيها واشنطن مع السعودية
بديلاً عن حرب القاعدة.
يصعب تصديق أن حرباً ستقوم على داعش، في حين أن مصنّعو
داعش هم من يتصدر محاربتها!
لا يمكن أن تكون جادا في حرب داعش وأنت تريد في الوقت
نفسه الحرب ضد ضحايا داعش ومن يحاربها على الأرض، سواء
كانوا ايرانيين او روس (لهم تجربة في الشيشان) او سوريين؟
أطرف ما في الأمر، أن الإعلام السعودي بدأ باستعارة
توصيف (محور الشرّ) الذي أطلقه بوش على ايران وعراق صدام
وكوريا الشمالية، لتعيد الرياض انتاجه ـ بعد ان خبا وهجه
ـ فتطلقه على خصومها: ايران وسوريا وروسيا، باعتبارها
ـ ويا للسخرية ـ ضد الحلف الدولي على داعش! فهل هناك مزايدة
أكثر من هذه؟
يبقى القول بأن المشاعر بين التيار السلفي السعودي
متألمة من هذا الحلف الجديد ضد (داعش) من جهة مشاركة الرياض
فيه؛ فلم يعد الأمر حرباً على السنّة من وجهة نظرهم، بل
أصبح حرباً على (السلفية/ الوهابية) نفسها، وكأن آل سعود
يقومون بحرب على دينهم وعلى أيديولوجية الدولة نفسها.
هذا الشعور تخشاه الرياض، لأنه ينقل الولاء في الدفاع
عن (العقيدة الوهابية الصحيحة!) من ولاء لآل سعود، الى
ولاء للخليفة البغدادي؛ كما أنه يعطي مستمسكاً جديداً
لمعارضي النظام من سلفيي الداخل، بحيث يدفعهم لتوجيه سهامهم
او رصاصهم اليه باعتباره يقوم بفعل منكر يصل الحكم فيه
الى (الكفر) حسب معتقد الشيخ محمد بن عبدالوهاب نفسه.
وفي كل الأحوال، فإن الوهابية تذوي في الداخل.. فهذه
الأيديولوجية لم تعد مقنعة للمواطن الذي بات يستشعر الخوف
منها ومن تبعات تبنّيها. لم يحدث في تاريخ السعودية ان
تعرضت هذه الأيديولوجية الى نقد وشتم شعبي مثلما هو الحال
الآن. لكن خطر هذه الأيديولوجيا لازال قائماً، لأن النظام
يحتضنها من جهة وهو قادر على توجيهها ضد خصوم الداخل كما
الخارج؛ ثم انها خطرة في حال أصبحت تدافع عن نفسها، فتسعى
الى اثبات حضورها وقوتها بالمزيد من التشدد، بما يستحيل
معه مجرد التفكير في احتوائها؛ مع انها بوضعها الحالي
غير قادرة على ان تستوعب الآخر المتنوع، وغير قادرة على
اصلاح ذاتها، وغير قادرة على أي أمرٍ آخر، اللهم إلا في
تفريخ المزيد من العنف والتطرف والكراهية والقتل.
|