الحوثيون في صنعاء:
تحولات السياسة اليمنية وآثارها على الواقع السعودي
السعودية هي الدولة الوحيدة حتى الآن التي أجلت دبلوماسييها
وطاقم سفارتها من صنعاء، ولم يبق سوى القائم بالأعمال
والمستشار السياسي، والمبرر كان تردّي الأوضاع وازدياد
نشاط الحوثيين في العاصمة
سعدالدين منصوري
لماذا تخشى السعودية أكثر من غيرها الخطر على دبلوماسييها
في صنعاء، وهي الدولة التي يفترض ان تكون الأكثر نفوذاً
في اليمن بين دول العالم قاطبة؟ لماذا كان تقييم الرياض
للخطر أكبر من غيرها، والعادة ان الدول الغربية تبدأ بسحب
سفرائها لحساسيتها المفرطة من جهة على مواطنيها ـ بعكس
الرياض؛ وبسبب ان تلك الدول عادة ما تكون في بيئة معادية.
هذا المقال يوضح خلفيات أزمة السعودية مع اليمن.
بدأت المعركة في دمّاج، وهي قرية وهّابية في محيط زيدي،
بل في قلعة الزيدية (محافظة صعدة). اختارها الوهابيون
لتكون مركز نشر الوهابية في تلك الأصقاع؛ بل أنها اختيرت
ـ يا للغرابة ـ لتضم كليات تخرّج مشايخ وهابيين وحركيين
الى كل الدنيا، حتى بلغ عددهم بالآلاف، معظمهم غير يمنيين!
وكلهم كانوا يتعلمون المذهب الوهابي كما يتعلمون استخدام
السلاح والقتال. لقد مضى على تحوّل دمّاج الى قلعة وهابية
في اليمن نحو ثلاثة عقود، تكفّر أهل اليمن الزيدية، وتمنعهم
من حرية العبادة في بلدهم، بل وفي معقلهم، وتطلق النار
عليهم وتقتل منهم ان أخلّوا بالضوابط الوهابية. كانت دمّاج
محميّة من النظام السياسي في صنعاء، المحمي أصلاً بالنظام
السعودي.
لكن الدنيا دُوَلٌ! تغيّر الوضع بعد الثورة والإطاحة
بعلي صالح، الذي قاد ست حروب ضد الحوثيين الزيديين، وفي
الحرب الأخيرة شاركت السعودية بجيشها مباشرة، وفشلت.
ما بعد الثورة، تمدّد الحوثيون في محيطهم الطبيعي،
وكانت دمّاج العقبة الأولى، والعدو التاريخي غير المتجانس
في صعدة، ونقطة التحدّي والخطر التي تذكّرهم بالإهانة
السعودية الوهابية لهم ولتراثهم. فقامت الحرب، وتدخّلت
السلطات اليمنية، وتم استقدام مقاتلين وهابيين الى دمّاج،
ولكن في النهاية سقطت القلعة الوهابية عسكرياً، وخرج المقاتلون
الأجانب منها، وانتهى مصنع الإرهاب والتكفير الوهابي،
أو أحد أهم مصانعه.
كان هذا التحوّل الأول.
التحوّل الآخر جاء في بلدة قريبة من الحدود السعودية
وهي كتاف في محافظة صعدة أيضاً، وهي مقرّ آخر للسلفية،
حيث دار مركز الحديث السلفي، وحيث مشاركة ربيع المدخلي
الشيخ الوهابي المقيم في السعودية والذي له جنود عديدون
يقاتلون هناك. وبعد معارك عديدة تمت السيطرة عليها من
قبل الحوثيين (أنصار الله) بعد معارك استمرت أكثر من شهر.
تلا ذلك السيطرة على عمران قبل نحو شهرين، في معارك
ضارية مع حزب الإصلاح وقوات حكومية موالية لهم اضافة الى
آل الأحمر، شيوخ مشايخ حاشد، حيث مقر الأخيرين الأساس
ومعقلهم الرئيس.
وآل الأحمر هم أقوى فرع في قبيلة حاشد، حكم القبائل
بدعم سعودي منذ الستينيات، وقد خضعت أفرع حاشد مكرهة لقيادة
آل الأحمر، التي استبدّ بها الغرور فعمدت الى إذلال شركائها
من الأفرع الأخرى، حيث وجدت نفسها تحت قبضة آل الأحمر
مادام المال السعودي يأتي عبرهم. اختلف آل الأحمر مع آل
سعود فترة الثورة الأخيرة؛ وأصابهم الطمع وبحثوا عن مموّل
بديل فكانت قطر الطامحة لوراثة النفوذ السعودي في اليمن.
وآل الأحمر، هم من قاتل الحوثيين في صعدة في ست حروب.
واللواء عبدالمحسن الأحمر هو قائد تلك الحرب الفعلية بتمويل
وأوامر سعودية.
جاءت معركة عمران فضرب الحوثيون قوة حزب الإصلاح وآل
الأحمر، فتفكك حلف القبائل الذي كان موالياً للسعودية،
وضعفت قوة آل الأحمر في الدولة حيث استخدموا الجيش في
معاركهم مع خصومهم، والتحق حزب الإصلاح بما تبقى من قوته
ليدعم الرئيس هادي أو ليتخفّى وراءه!
أين مشكلة السعودية؟
تاريخياً، لم تكن الرياض على ودّ مع صنعاء. فهي أولاً
معقل الإمامة الزيدية لمدة تزيد على الألف سنة (حتى عام
1962)؛ وثانياً هي خصم عقدي من وجهة نظر الوهابية التي
ترى كل من يخالفها المذهب خصماً محتملاً او خصماً حقيقياً.
وثالثاً، فإن الرياض وجدت في اليمن معوّقاً لسيطرتها على
المناطق الجنوبية (جيزان ونجران وعسير) وهي مناطق كانت
محط نفوذ الإمامة الزيدية لقرون. ورابعاً لم تكن الرياض
على قناعة بأنها تستطيع أن تبتلع اليمن، فهو أكبر مما
تتحمّله معدتها.
جاءت الثورة على الإمامة عام 1962، فتوترت السعودية،
وخشيت من انتقال العدوى اليها، فدعمت جيش الإمامة، واستقبلت
العائلة المتوكلية المالكة، وخاضت الحرب بالنيابة لسبع
سنوات، قبل ان تفوز بالكعكة كاملة: يمناً جمهورياً، يعيّن
رؤساءه الملوك السعوديون! وفي حال أراد أحدهم التمرّد،
يتم التخلّص منه كما حصل للرئيس ابراهيم الحمدي، والرئيس
الغشمي، اذ تم قتلهما غيلة، لتعيّن الرياض رجلها علي عبدالله
صالح، وتأمر الشيخ الأحمر بأن يتولّى أمر القبائل المساندة.
وهكذا كان الأمر مستتباً للرياض حتى بروز القوة الزيدية
الحوثية. حتى الوحدة اليمنية التي رفضتها الرياض، ومولت
حرب 1993 الأهلية للإنفصال، لم تؤثر على حجم النفوذ السعودي،
أو تضرب إسفيناً في ركائزه.
قوة الرياض في اليمن لها عدّة محاور:
|
هل يستطيع الملك ان ينقذ موقف بلاده في اليمن؟
|
ـ أولها المال، الذي تشتري به المسؤولين ورجال القبائل
وتموّل به عملياتها، وتدعم به مؤسسات الدولة ان احتاجت.
ـ ثانيها الوهابية كمذهب، والذي أٌقحم على معادلة السياسة
المحلية اليمنية؛ بحيث يعضد النفوذ السياسي السعودي، بمعتقدين
مؤمنين بالولاء لآل سعود على أسس دينية اضافة الى المال!
الشافعية والزيدية هما مذهبا اليمنيين، ثم جاءت الوهابية
لتأخذ من هذا وذاك ولتؤسس لها وضعاً خاصاً يحوّل اليمن
الى بؤرة وهابية موالية لآل سعود الى الأبد.
ـ ثالثها القبائل، حيث أصبح آل الأحمر مرتكز السعودية
في السيطرة على القبائل وشراء ولاءاتها وتنفيذ رغبات السعودية
السياسية وحتى العسكرية.
كان المال ميزة لآل سعود، فمن يريد أن يستثمر في السياسة
اليمنية المحليّة من القوى الإقليمية؟ لا أحد! نعم (لا
أحد) هذه استمرت لعقود، حتى بدأت قطر تطلّ برأسها باحثة
عن زعامة في زمن تراجع فيه النفوذ السعودي في كل الأصقاع.
وحتى ظهرت ايران أيضاً كمنافس في اللعبة السياسية المحلية.
والبلدان منفردين لديهما الطموح ولديهما المال، الذي ولّد
خيارات سياسية يمنية محلية، فلم تعد القوى السياسية هناك
أسيرة الريال السعودي وإن كان هو المهيمن فعلاً. لكن المال
لوحده لا يصنع نفوذا صامداً.
فماذا عن المذهب الوهابي؟
استثمرت الرياض مذهبياً في اليمن، ونجحت الى حدّ كبير،
قبل أن تظهر بوادر النهوض الزيدي الشيعي من جديد. لقد
كان اصرار الرياض على تحويل اليمن مذهبياً الى الوهابية،
عملاً عدائياً بكل معنى الكلمة للزيدية الذين كانوا يقتلون
لمجرد القيام باحتفالاتهم الدينية. دعكَ من السخرية والإستهزاء،
والتكفير واتهامات التفسيق وغيرها. إن نهضة الحوثيين في
جزء منها يعود في الأساس الى الإحتقار المذهبي الذي عاملت
به السعودية الوهابية أبناء اليمن، ومحاولة وهبنتهم، زيادة
على ما تقوم به من اختطاف للقرار السياسي والتحكم بمصيرهم.
مالذي تغيّر؟
أصرّت الرياض أن لا يكون للحوثيين (كانوا يومها يستخدمون
أسماء أخرى) دور في السياسة المحلية حتى ولو بالإنتخابات،
كبضع أعضاء في البرلمان. أشعلت الحرب ـ حرب علي الأحمر
ـ المرة تلو الأخرى حتى بلغت ستاً، وقتلت أكبر قيادي مؤسس
وهو السيد حسين الحوثي. وحين جاءت الثورة تنفّس الحوثيون
الصعداء، وصار بإمكانهم المشاركة فيها (بدون يافطات).
الرياض كانت مشغولة بقتل الثورة عبر إعادة انتاج النظام
اليمني القديم، من خلال ما سُمي بالمبادرة الخليجية (وهي
سعودية مائة بالمائة). وقد نجحت في ذلك، ولكن حين جاء
وقت الحوار الوطني، أصرّت الرياض على تهميش الحوثيين،
وأن لا يكون لهم دور في المستقبل، بل وزادت بأن فصلت نظام
محافظات جديد على مقاسها، يزيد في تهميش القوة الحوثية.
ساهمت الرياض في تقليص خياراتها، فهي لم تدرك أن هناك
قوى ناهضة يصعب ابعادها عن الملعب السياسي؛ وكان صعباً
عليها استيعابها، وربما لم ترد ذلك اصلاً، وهذا لم يترك
باباً مفتوحاً للتفاهم مع الحوثيين؛ خاصة وان كل الحروب
وكل المآسي تم ادارتها من قبل الرياض نفسها. وهذا ما اضعفها
في النهاية، خاصة وأنها وضعت الحوثيين ضمن قائمتها للإرهاب!
فكيف ستتفاوض معها، او تصل معها الى تفاهم؟
ومن غباء السياسة السعودية انها وضعت حليفها السابق
(حزب الإصلاح) في قائمة الإرهاب دون ان تسميه، باعتباره
فرعاً للإخوان المسلمين (الارهابيين بنظر الرياض)؛ وهذا
ادى الى عدم قدرة الرياض على صد الزحف الحوثي على معاقل
حزب الإصلاح في عمران. ولأنها مستاءة من حليفها آل الأحمر
الذي راح يبحث عن ممول قطري، تركته يتهاوى، وحين تم ذلك،
تفتت شمل القبائل، وبعضها انضم الى الحوثيين.
بدخول الحوثيين الى صنعاء، وتسيير مظاهرات بمئات الألوف
من البشر، أعلنوا أنهم القوى الأولى في اليمن، لا يفصلهم
عن السلطة سوى بضعة أمتار!
استغاث عبدربه هادي، الرئيس اليمني، بحلفائه السعوديين؛
إذ لا يمكن ان تقوم حربٌ سابعة ضد الحوثيين في هذا الظرف،
فالجيش اليمني يواجه القاعدة، وهو مفكك، وستكون الحرب
مبررا اضافياً لتفتته، وربما انهياره، فضلاً عن ان خوضه
للمعركة غير ممكن في ظل انقسام سياسي حاد، وتوتر في المنطقة
في اكثر من بؤرة. فمن يريد ان يقتحم عش الزنابير اليمني؟
حزب الإصلاح التزم الصمت بعد هزيمته وتخفّى وراء الرئيس!
وآل الأحمر لا تسمع لهم صوتاً، بعد ان كانوا يملؤون
سمع اليمن وبصره!
والقوى الدولية ليس لديها الا تهديدات فارغة من مجلس
الأمن.
أما الرياض فهناك ألف شغل يشغلها، وهي قطعاً لن تكرر
تجربة حربها السادسة على الحوثيين، وإلا منيت بهزيمة شائنة.
فما هي النصيحة التي قدّمتها الرياض، وكيف عساها ان
تتدارك الأمر؟
حاولت ان تلملم ـ بالمال طبعاً ـ بعض القبائل في حلف
بديل عن حلف ابن الأحمر، ليقوم بمظاهرات تضاهي مظاهرات
الحوثيين في صنعاء، وأنّى يكون ذلك؟
أذن لم يبق أمام الرياض سوى شتم (الشرذمة الحوثية)!
فهي مصرّة على نفس الأخطاء، وعلى نفس التوصيفات القديمة!
مع انها ترى مئات الألوف يملأون صنعاء، ويطوقونها، ويسيطرون
على مدن المحافظات التي تتساقط كأوراق الخريف!
هنا جاء جمال بن عمر مندوب الأمم المتحدة ليرتب مخرجاً
مشرفاً للرئيس والقوى الموالية له. وحتى الآن لم ينجح.
لا نظن ان الحوثيين يريدون استلام السلطة بالقوة.
ولا نظن أنهم من الغباء بمكان يريدون إعادة حكم الإمامة.
لكنهم ـ وبكل تأكيد ـ يريدون إعادة رسم الخارطة السياسية
في اليمن، وصناعة يمن جديد، يقررون هم وجهته، وليس إدارته.
يمن ليس تابعاً لأحد، لا للسعودية ولا لغيرها. يمنٌ يتنفس
هواءً سياسياً نظيفاً، وتديره أيدٍ أكثر نظافة من المسؤولين
الحاليين، في أضعف الأيمان.
السؤال المهم هنا: وماذا ستفعل الرياض؟ هل يمكنها بسهولة
ان تتنازل عن نفوذها، وتخرج مكسورة الجناح ذليلة من حديقتها
الخلفية منذ خمسين عاماً؟ هل فات الوقت لتقوم بقراءة جديدة
لموقفها ودراسة خياراتها وإصلاح العطب في علاقاتها مع
الحوثيين؟
للرياض حقّ أن تقلق، وأن تتساءل: إذا ما أصبح الحوثيون
القوّة المسيّرة الأساس للنظام السياسي اليمني القادم،
فكيف سيكون شكل العلاقات اليمنية السعودية، وما هو مصير
الإتفاقيات بين البلدين بشأن مناطق سعودية احتلتها واستتبعتها
من اليمن؟ وماذا عن ترسيم الحدود وما تمّ التنازل لها
عنه من اراض من قبل الرؤساء السابقين؟
|