السلالة النقيّة للجيل المؤسس
داعش.. نوستالجيا العودة للبدايات الوهابية
عبد الوهاب فقي
(3 من 3)
لا يشترط قادة «داعش» أو «الدولة» بحسب اصطلاحهم، وجود
كيان جيوسياسي مستقر وثابت الحدود، اضافة الى وجود شعب
ونظام من أجل «تطبيق الشريعة»، بل يشترطون مجرد الوجود
في مكان ما، بصرف النظر عن مساحته وطبيعته، مع إمكانية
تحكيم الشريعة فيه. ولذلك من الخطأ وضع تورخة قريبة لإعلان
دولة الخلافة، أي في أول شهر رمضان لسنة 1435 هجرية الموافق
29 يونيو 2014، فالإعلان يعود الى الرابع والعشرين من
شهر شوال لسنة 1427هجرية الموافق 16 نوفمبر 2006، وأن
أول أمير المؤمنين ليس أبو بكر البغدادي بل سلفه أبو عمر
البغدادي.
وكان وزير الاعلام في دولة العراق الاسلامية الشيخ
أبو عبد الله محارب الجبوري (قتل في مايو 2007) قد أعلن
في كلمة مصوّرة (الإِعْلانُ عَنْ قِيَامِ دَوْلَةِ العِرَاقِ
الإِسْلامِيَّةِ)، وقال ما نصّه: (يزف إليكم إخوانكم في
حلف المطيبين بشرى إنشاء وإقامة دولة العراق الإسلامية
في بغداد والأنبار وديالى وكركوك وصلاح الدين ونينوى وأجزاء
من محافظة بابل وواسط).
|
الخليفة الأول للدولة الإسلامية: أبو عمر البغدادي
|
وقد واجه التنظيم إشكالية كبرى كون «الدولة» لم تكن
تملك أرضاً، وإن امتلكت جزءً من الأرض فلأمد قصير تبعاً
لمعادلة الكر والفر في الميدان، فكيف تعلن عن دولة افتراضية
أو غير ثابتة وجوداً وعدماً. وبعد مرور سنتين على الاعلان
عن قيام الدولة الاسلامية في العراق، أجاب عبد المنعم
عز الدين البدوي، وزير الحرب في «الدولة»، وهو مصري الجنسية
وكنيته أبو حمزة المهاجر (قتل في صلاح الدين بالعراق سنة
2010)، عن سبب الإعلان بالرغم من أن التنظيم لا يملك الأرض،
فأحال الى تجربة المسلمين الأوائل، وقال بأن «المدينة
المنورة رغم ظروفها الصعبة، الا أن الرسول (ص) أقام فيها
دولة.
وسأل المهاجر: كم هي مساحة الدولة النبوية في المدينة؟
وما مقدار بسط النفوذ على الأرض في ظل حكم إسلامي؟ وما
مقدار المنعة والسيادة بعدما فاوض النبي (ص) على دفع ثلث
ثمار المدينة للمشركين..»(الدولة النبويّة، تأليف وزير
الحرب في الدولة الاسلامية في العراق أبو حمزة المهاجر،
تقديم وتعليق ابو الغيداء الأردني، كتيبة الكواشف الاعلامية
الجهادية 2008، ص 35).
ثم عرّج على السؤال المركزي: هل الدولة الإسلامية في
العراق استوفت شروط الدولة من حيث المساحة والقوة وبسط
النفوذ، وبالمقارنة بما كانت عليه الدولة النبوية، آخذين
في الاعتبار ما مرّت عليه الدولتان من محن، والفرق الهائل
بينهما...؟». وعرض لبعض المناطق التي ينتشر فيها التنظيم،
وأحصى عدد العناصر المقاتلة في التنظيم.
ولكن بدا كما لو أن أبو حمزة المهاجر يتجاوز أوضاع
تلك المرحلة واختلافها التام عن الأوضاع الحالية من حيث
تطوّر الكيانات الاتحادية، وصولاً الى عصر الدول والمكوّنات
الثابتة فيها. المهاجر تجاوز عنصر الأرض/ الإقليم، وراح
يتحدّث عن السكّان. فهو يقول: «لن أتكلم عن الأنبار وعزّها..
ولن أتكلم عن عرين الإسلام في ديالى ومعاركهم.. ولن أتحدث
عن الموصل ورجالها.. ولن أتحدث عن بغداد ونواحيها.. ولن
أتحدث عن كركوك وصلاح الدين..» إذاً عمّاذا يتحدث المهاجر؟
«إنما أتحدث اليوم عن بقعة منسيّة واحدة من بقاع تلك الدولة
الفتية المترامية الأطراف وخاصة قبل أن يتآمر عليها الخائنون
المجرمون الكافرون من بني جلدتنا حسداً من عند أنفسهم
وكرهاً أن يكون منهج السلف هو الحاكم في أرض الله.. سأتحدث
عن عرب جبور وما حولها..». والسبب في ذلك أن من انضوى
تحت لواء الدولة الإسلامية في العراق كانوا كثر «فبلغ
عدد جنودنا في هذه المنطقة وحدها ثلاثة آلاف مجاهد فأقاموا
الحدود وردوا المظالم ونشروا الأمن وأعالوا الفقراء..»(المصدر
السابق، ص 36 ـ37).
ومع ذلك يعترف ابو حمزة المهاجر بأنه خسر كثيراً من
الأرض التي كان يسيطر عليها: (ونعترف وبمرارة أننا خسرنا
كثيراً من الأماكن بعد عمالة وردِّة الجماعات المشكِّلة
للمجلس السياسي للمقاومة وتحالفه مع المحتل الصليبي، فقد
كانوا نعم العيون والعون للمحتل وخاصة أنهم كانوا مختلطين
بنا، وكنا نراهم إخوة في الدين حتى طعنونا في ظهورنا)(المصدر
السابق ص 37).
وفي سؤال حول إمكانية إقامة الحكم الشرعي، يجيب أبو
حمزة المهاجر: «إذا كنا قادرين على إقامة حكم الله في
أرضه ساعة من نهار بلا مفسدة راجحة بل بمصالح راجحة، ألا
يكون ذلك واجباً علينا؟ فكيف إذا أمكن ذلك لأيام وشهور
وسنين كما هي الحال في الدولة الإسلامية في العراق؟»(أبي
حمزة المهاجر، وزير الحرب بدولة العراق الإسلامية، اللقاء
الصوتي الأول، مؤسسة الفرقان للإنتاج الإعلامي، بتاريخ
24/10/2008).
يحيل ابو حمزة المهاجر كثيراً الى رسائل ومصّنفات ابن
تيمية في ماليات الدولة وتنظيم شؤونها. وينفي ما قد يتوارد
للأذهان من انطباع حول مفهوم الدولة الاسلامية بأنها مشابهة
للكيانات الجيوسياسية التي نشأت بعد إتفاقية سايكس بيكو
(الدولة الحديثة/ الدولة القطرية/ nation-state). وهو
ما نفاه أيضاً المتحدّث باسم «داعش» أبو محمد العدناني
الشامي، حيث اعتبر الحدود المرسومة على أساس الاتفاقية
تلك هي غير ملزمة للدولة وأن «الإسلام أتى للدعوة والانتشار..»،
وقال بأن «تقسيم الولاية على أساس حدود سايكس بيكو يعتبر
تكريساً لتلك الحدود. فتقسيم الجماعة إلى جماعتين إحداها
عراقية وأخرى سورية حسب الحدود، وأمر كل منهما بإلتزام
الحدود الملعونة وعدم تخطيها.. مخالفة لمنهجنا وما نؤمن
به». ويضرب مثالاً على ذلك من التاريخ الاسلامي: ولقد
كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يحركون الجيش والقادة
بين العراق والشام ولا فرق بين الجيشين، وهذا ما نفعله
الآن من تحريك قطاعاتنا وقاداتنا وعدم التفريق بيننا”(كلمة
أبي محمد العدناني الشامي المتحدث الرسمي للدولة الإسلامية
في العراق والشام بعنوان «فذرهم وما يفترون»، مؤسسة الفرقان
للإنتاج الاعلامي، 20 حزيران 2013، موقع منتديات المنبر
الاعلامي الجهادي).
ويعطي أبو محمد العداني توصيفاً خاصاً للدولة بما نصّه:
«الدولة الإسلامية ما وُجِدت قديمًا وحديثًا إلا لتحقيق
هذه الغاية التي هي حمل الناس كافةً على التوحيد والاحتكام
بشرع الله ليكونوا أمةً واحدة..». ويزيد في تصعيد نبرة
خطاب الدولة: «وإنّ الدولة الإسلامية منذ نشأتها الأولى
ظلّت في صراعٍ مع الباطل تقاتل أئمة الكفر وتقطف رؤوس
الشر، ولا زال المسلمون يواجهون أعداءً يتربصون بهم..».
ويخلص للقول: «فليعلم القاصي والداني والشرق والغرب أننا
أقسمنا وعزمنا أنَّه بغير دولة الإسلام لا أمان ولا سلام
لا في العراق ولا في الشام ولا مصر ولا الجزيرة ولا خراسان
ولا في الشرق ولا في الغرب، لن نساوم ولن نسالم، لن نفاوض
ولن نقايض، فشرع الله لا يُحكّم إلا بالسيف ولا يقوم إلا
على الشوكة والقوة”(الشيخ أبي محمد العدناني، العراق العراق
يا أهل السنة، نخبة الاعلام الجهادي، قسم التفريغ والنشر،
مؤسسة الفرقان للانتاج الاعلامي، فبراير 2012).
إنها، بكلمات أخرى: دولة حرب، دولة تستمد وجودها ومشروعيتها
من أيديولوجية الفتح، أي النزاعات مع الدول الأخرى، بل
وعلى القطيعة والخصومة معها، فهي تريد أن تحكم بالسيف
لتطبيق الشرع! وكرر العدناني مواقفه في كلمات أخرى مثل
(السلميّة دين من؟)، و(لن يضروّكم إلاّ أذىً).
تشير الفقرات السابقة من خطاب العدناني حول الدولة،
الى تجربة اخوان عبد العزيز قبل عام 1930، حيث كانوا يخوضون
المعارك باسم الجهاد لنفس الغرض «تحكيم شرع الله».
لا شك ان من يقرأ هذه المعطيات يخلص الى ضحالة تفكير
قادة التنظيم، وتشوّه مفهوم الدولة وتقديم مبدأ تطبيق
الحدود والأحكام على عوامل نشأة الدول ومصادر استقرارها
وسبل استتباب الأمن فيها وشروط بقائها ووظائفها. بكلمات
أخرى، أن الدولة من منظور «داعش» هو المكان الذي يمكن
تطبيق فيه عقيدة التوحيد وإقامة الحدود وتحكيم الشريعة
فحسب. ومن الواضح، أن من يصوغ مثل هذه الآراء لا يدرك
معنى الدولة ولم يقرأ عنها ولا علاقة له بكل تفاصيلها
من حيث درء الأخطار وحفظ المصالح والأرواح، والارتقاء
بقيم المجتمع وإدارة شؤونه بما يحقق أهدافه وتطلعاته..
وهنا مكمن الخطورة على الدولة السعودية التي تمثّل
الوهابية الأيديولوجية المشرعنة لها، حيث يعتنق «داعش»
مشروعاً أممياً ناضلت الوهابية خلال مراحل ثلاث ـ وحتى
نهاية ثلاثينيات القرن الماضي ـ من أجل تحقيقه؛ ولكن تمّ
القضاء عليه نتيجة إذعان ابن سعود لقوانين النظام الدولي
حينذاك.
قيام «الدولة الاسلامية» وفق رؤية عقدية وهابية، يشكّل
خطراً حقيقياً وجديّاً على السعودية التي تسعى لتقويض
أي مشروع أممي قد يصل الى داخل حدودها.. ولذلك، نلحظ كيف
تدرّج مشروع «الدولة» من كونه خاص للعراق، ولأهل السنة
فيه على وجه الخصوص حين أعلن عن «الدولة الاسلامية في
العراق» (تشرين الأول/أكتوبر 2006)، ثم تحوّل الى مشروع
يضم العراق والشام (داعش)، أي «الدولة الاسلامية في العراق
والشام» (9 نيسان/ إبريل 2013)، وثم أصبح مشروع خلافة
إسلامية وأصبح إسمها «الدولة الاسلامية» (29 حزيران/ يونيو
2014)،وهذه مفتوحة على الأرض..
وبحسب عقيدة «الدولة» فإن التنظيم يواجه مشروعين:
ـ مشروع الدولة الديمقراطية المدنية.
ـ مشروع الدولة الدينية القطرية على غرار السعودية.
ولأنصار مشروع الدولة الديمقراطية المدنية، يخاطب المتحدث
باسم «الدولة» أبو محمد العدناني أهل العراق والشام: «ولتعلموا
أن بينكم وبين دولة لا تحكم بشرع الله في الشام: بحار
من الدماء وجبال من الجماجم والأشلاء، ولن تحلموا بأمن
ولا أمان، وإنّا لكم إن شاء الله بالمرصاد حتى يحكم الله
بيننا؛ فإما أن ينعم المسلمون في العراق والشام بعدل الشريعة
ورحمة الإسلام، وإما أن نُباد عن بكرتنا، وهيهات هيهات!».
أما أنصار مشروع الدولة الدينية الوطنية التي يقول
العدناني عنها بأنها مدعومة بـ «أموال وفتاوى علماء آل
سلول ـ أي آل سعود ـ وحكومات الخليج، وتهندسُ مشروعَها
المخابراتُ، ولا ضير أن تكون حكومتها طويلة اللحى قصيرة
الثوب، حكومة تسالم اليهود وتحمي الحدود، فتباركها هيئة
الأمم، وتحظى بمقعد في مجلس الأمن..»، فيخاطبهم العدناني
قائلاً: «اتقوا الله، واقطعوا علاقاتكم مع مخابرات وحكومات
الغرب والشرق.. ولئن تظنوا أنكم أدهى من شياطين أمريكا
وأذكى من مخابرات الشرق والغرب: فاعتبروا بأشياعكم في
العراق، وقد كانوا أدهى منكم وأشد بأساً.. لقد جربوا مشروعكم
الفاشل، وسلكوا طريقكم المسدود، ولقد دعمهم آل سلول وغيرهم
من حكومات الخليج أكثر مما يدعمونكم، وبكل ما أوتوا من
مال وإعلام وفتاوى، فأين آل مصيرهم؟ وكيف أضحت جماعاتهم
وفصائلهم؟ لقد تشتتت وتبددت..».
|
الخليفة الثاني: أبو بكر البغدادي |
والحل، كما يتصوّره العدناني، يتلخّص في الالتحاق بمشروع
الدولة الاسلامية، وحسب قوله: «فإن المشروع مشروعكم، وإن
مجيئكم أتقى لربكم وأقوى لجهادكم وأغيظ لعدوكم. هلموا
فإنا لا نشك أبداً أنه مَن كان منكم فيه خير: فسيأتي الله
به ولو بعد حين، وتفكّروا بمن يلتحق بصفوف الدولة كل يوم
جماعات وفرادى: أليسوا هم من خيار الفصائل وخِيار إخوانكم؟»(ابو
محمد العدناني: لن يضروكم إلا أذىً، مؤسسة الفرقان للإنتاج
الاعلامي، 31 تموز 2013، منتديات المنبر الاعلامي الجهادي).
وفي كلام العدناني هذا بيان صريح عن العقل الذي يدير
التنظيم ومشروعه، حيث تستحوذ عليه نزعة نرجسية فارطة تجعل
من التنظيم «الطائفة المنصورة» و»الفرقة الناجية»، فيرى
بأنه المالك الوحيد والمطلق للحقيقة الدينية، ونفي الآخر
تماماً، بل وتدنيسه حد جواز استئصاله، كما توحي عبارات
الوعيد. فالعدناني يضع الناس أمام خيارين إما القبول بتحكيم
الشريعة أو الموت، فيما يتحوّل قادة «الدولة» الى جماعة
انتحارية أو يقيمون دولة الشريعة.
حين يسرد الأمير السابق للدولة الاسلامية في العراق
ابو عمر البغدادي مكاسب «مجاهدي» الدولة بعد أربع سنوات
من ولادتها، يقول: «ففي فترة زمنية قياسية درب جيل كبير
من الشباب على عقيدة الولاء والبراء المنسية..»، ولا تتحقق
هذه العقيدة إلا بوجود جماعة، وتعليل ذلك: «أن الجماعة
هي تجسيد عملي لحقيقة الولاء والبراء في الإسلام، فارتباط
المؤمنين في جماعة واحدة بعد ارتباطهم بالتوحيد هو الذي
يجسد هذا الإيمان في واقع الحياة». فهي إذاً دولة دعوية
على المنهج الوهابي، ولا صلة لها بالدول المتعارف عليها.
وليتخيّل المرء كيف يمكن لدولة كهنوتية تحكم باسم السماء
أن تخضع للمحاسبة أو تدير شؤون الناس ومصالحهم، فهي معنيّة
بالدرجة الأساسية بتربية الرعيّة على عقيدة الولاء للدولة
باعتبارها النطاق الذي يجري فيه الاحتكام للشريعة، والبراءة
من خصومها كونهم يحكمون بغير ما أنزل الله، بحسب عقيدة
«الدولة الاسلامية».
في خطابه للأمة، يقول «أمير المؤمنين» السابق أبو عمر
البغدادي: «إننا حينما أعلنا دولة الإسلام وأنها دولة
هجرة وجهاد لم نكن نكذب على الله ثم على الناس، ولم نكن
نتحدّث عن أضغاث أحلام؛ لكنّا بفضل الله تعالى الأقدر
على فهم سنة الله في هذا الجهاد – هذا الفهم منشؤه دماء
المجاهدين من مهاجرين وأنصار بعد معاينة أخلاقهم ومنهجهم»(أمير
المؤمنين أبو عمر البغدادي، حصاد السنين بدولة الموحدين،
مؤسسة الفرقان للإنتاج الاعلامي، دولة العراق الاسلامية،
وزارة الاعلام، 16 نيسان 2007، مركز الفجر للإعلام).
أما الخليفة الحالي لـ «الدولة» أبو بكر البغدادي فقال
في خطبته الشهيرة في المسجد الكبير في الموصل في 4 يوليو
2014 بعد اعلان دولة الخلافة ما نصّه: «إني لا اعدكم كما
يعد الملوك والحكام أتباعهم ورعيتهم من رفاهية وأمن ورخاء..»
وإنما يعد رعيته بمكافأة مؤجلة في الآخرة، شريطة أن يتحوّلوا
الى مقاتلين في خدمة مشروع الدولة: «وإن أردتم موعود الله،
فجاهدوا في سبيل الله وحرضوا المؤمنين واصبروا على تلك
المشقة..».
في ضوء الأدلجة الفارطة للدولة، نجد أنفسنا أمام الرؤية
الوهابية النقيّة التي صاغها الشيخ محمد بن عبد الوهاب
حين أقام إمارة دينية تكون منصّة لإطلاق مشروع الخلافة/
الإمامة الاسلامية القائمة على: التوحيد، والولاء والبراء،
والهجرة والجهاد. لم يقدّر للمشروع النجاح بعد أن انحرفت
الدولة السعودية الأولى عن تعاليم المؤسس في آخر أيامها،
وتحوّلت الى ملك سياسي دون صبغة دينية، وإن المحاولات
اللاحقة واجهت تحديّات ذاتية أي من الشريك الآخر، ابن
سعود، الذي وجد نفسه أمام معادلات جيوسياسية إقليمية ودولية
يصعب تجاوزها، لأن الدولة التي أرادها الشيخ محمد بن عبد
الوهاب تؤسس لحروب مفتوحة ودائمة مع القريب والبعيد، لكونها
تقوم على رؤية عقدية للعالم: التكفير، الهجرة، الجهاد،
أي انها تؤسس لدولة توسّعية، وهذا ما تبشّر به أدبيات
داعش.
دعوة أبي بكر البغدادي، خليفة «الدولة الاسلامية» المسلمين
عموماً بالانضواء في الدولة والهجرة اليها، واعتبار أن
الوقوف ضد الدولة هو ضد شرع الله وإرادته التي اختارت
البغدادي خليفة وإماماً لدولتهم! ليست سوى الصدى لصوت
انطلق في منتصف القرن الثامن عشر، حين كانت النزعة الرسولية
لدى الشيخ محمد بن عبد الوهاب تستحثه لمراسلة رؤوساء البلدان
وعلمائها للدخول في الاسلام الذي جاء به، بعد أن عاد المسلمون
الى عبادة الأصنام في الجاهلية الثانية.
يتقمّص ابو بكر البغدادي شخصية الخليفة الراشد، مستيقناً
بأن له سلطاناً على الامة فصار «ظل الله في الأرض»، وأطلق
مشروع دولة ـ الأمة، في خطبته بالمسجد الكبير بالموصل
الى «مجاهدي الدولة» قائلاً: (إن أمة الإسلام؛ ترقب جهادكم
ونزالكم بأعين الأمل، وإن لكم في شتى بقاع الأرض إخوانا
يُسامون سوء العذاب؛ أعراضا تُنتَهَك، ودماء تُراق، وأسارى
تئن وتستصرخ، ويتامى وأراملَ تشكو، وثكالى تنوح، ومساجد
تُدنَّس، وحرمات تُستَباح، وحقوقا مسلوبة مغتصَبَة؛ في
الصين والهند وفلسطين والصومال، في جزيرة العرب والقوقاز
والشام ومصر والعراق، في إندونيسيا وأفغانستان والفلبين،
في الأحواز وإيران، في باكستان وتونس وليبيا والجزائر
والمغرب، في الشرق والغرب؛ فالهمة الهمة يا جنود الدولة
الإسلامية! فإن إخوانكم في كل بقاع الأرض ينتظرون نجدتكم،
ويرقبون طلائعكم.. فَوَالله لَنثأرنّ! والله لَنثأرنّ
ولو بعد حين لَنثأرنّ! ولَنردّنّ الصاع صاعات، والمكيال
مكاييل).
وخاطب ابو بكر البغدادي المسلمين في كل مكان وبشّرهم
بأن لهم «دولة وخلافة، تعيد كرامتكم وعزّتكم، وتسترجع
حقوقكم وسيادتكم..». خلافة تضم من كل الجنسيات «القوقازي
والهندي والصيني، والشامي والعراقي واليمني والمصري والمغربي،
والأمريكي والفرنسي والألماني والأسترالي..»، وهم مقاتلو
داعش الذين تحوّلوا الى مواطنين في دولة الخلافة التي
يتولاها.
وطالب البغدادي المسلمين الالتحاق بها: «فهلموا إلى
دولتكم أيها المسلمون، نعم دولتكم؛ هلموا؛ فليست سوريا
للسوريين، وليس العراق للعراقيين». ووجّه نداء واضحاً
ودعوة مفتوحة للمسلمين عامة: «فيا أيها المسلمون في كل
مكان؛ مَن استطاع الهجرة إلى الدولة الإسلامية فليهاجر؛
فإن الهجرة إلى دار الإسلام واجبة.. ففرّوا أيها المسلمون
بدينكم إلى الله مهاجرين..».
إن عبارة «الهجرة الى دار الإسلام واجبة..» كفيلة بالكشف
عن حقيقة عقدية لدى البغدادي وأهل دعوته، فمجرد الدعوة
الى الهجرة يعني أن ثمة دار شرك يراد الهجرة منها الى
مكان آخر، كالهجرة من مكّة الى المدينة، وأن تكون الهجرة
واجبة تعني أن المشروعية الدينية باتت محصورة في النطاق
الجغرافي للدولة الاسلامية التي يتولى أمرها ابو بكر البغدادي.
هنا نستحضر تجربة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وانتقاله من
العيينة الى الدرعيّة وسط نجد، حين دعا أنصاره بالهجرة
الى الدرعية باعتبارها دار إسلام وأن الهجرة اليها واجبة،
وماعداها يصبح تلقائياً دار كفر.
أحدثت تجربة «الدولة» ردود فعل واسعة، ولكن ثمة ميزة
خاصة لردود رفاق الدرب لقادة ومقاتلي «الدولة» في العراق
على وجه الخصوص، لامتلاك هؤلاء الكثير من المعطيات الخاصة
والأسرار حول شخصيات «الدولة» والتجارب القتالية التي
خاضوها سويّاً، والانشقاقات التي وقعت لاحقاً وأسبابها.
وكان من أهم الردود التي صدرت على اعلان «الدولة الاسلامية»،
من الشيخ ابو عبد الله محمد المنصور وكنيته (العيساوي)،
الشرعي وأمير «جيش المجاهدين» السلفي بالعراق، وهو أستاذ
ابو بكر البغدادي قبل أن يدخل السجن في العام 2005، حيث
ألف كتاباً بعنوان (الدولة الاسلامية بين الحقيقة والوهم)،
صدر في يناير 2014 ردّ فيه على كتاب (إعلام الأنام بميلاد
دولة الاسلام) لـ (عثمان بن عبدالرحمن التميمي)! الذي
أصدره تنظيم دولة العراق الاسلامية، وتعرض المنصور في
نهاية الكتاب للرد على كتاب آخر لتنظيم داعش بعنوان (مدّ
الأيادي لبيعة البغدادي).
عقدياً، لم يختلف «جيش المجاهدين» مع «داعش» ولا «القاعدة»
من ناحية الانتماء السلفي الوهابي، وهو يؤكد على «وجوب
تحكيم شرع الله”، ولكنه يرى بأن الخلاف مع «داعش» يتركز
في أصول خمسة: (التكفير بغير حق، والقتل بغير حق، والكذب،
والجهل، وعدم مراعاة السياسة الشرعية في العمل الجهادي).
المنصور يلفت الى حقيقة جديدة تنطبق عليه وعلى كل تنظيمات
الجهادية السلفية، بأن الكلام اليوم ليس عن تكفيري وغير
تكفيري، بل عن تكفيري، وآخر أقل أو أكثر غلواً وإيغالاً
في التكفير. لنتوقف عند هذه الفقرة المثيرة للشيخ المنصور
العيساوي:
(وينبغي أن يُعلم أنَّ من ينتسب إلى هذا التنظيم ليسوا
على درجة واحدة في الغلو، فكثير من قيادة جماعة «التوحيد
والجهاد» التي كان يتزعمها أبو مصعب الزرقاوي رحمه الله
أقل غلوًا بكثير جدًّا ممن أتى بعده، وغالبُ خلافاتنا
معهم آنذاك في السياسة الشرعية).
وليتخيّل المرء كيف يكون الغلو في التكفير بعد الزرقاوي
الذي يترحم عليه المنصور، بالرغم مما عرف عن الزرقاوي
من استباحة قتل المدنيين بحجة (التتّرس) بالعدو، واسقاطه
المحرمات والموانع بين مقاتل مدني وآخر عسكري. وقد كشفت
مراسلات الزرقاوي وأستاذه وملهمه أبو محمد المقدسي (عصام
البرقاوي)، وأيضاً مراسلاته مع زعيم «القاعدة» أسامة بن
لادن عن خلاف عميق حول هذه النقطة، حيث انصرف الزرقاوي
في السنوات الأخيرة من حياته الى قتل المدنيين الشيعة
في العراق بسادية.
يصف المنصور أبو حمزة المصري، خليفة الزرقاوي بأنه
«ذو عقلية غريبة، وفي عهده توسع الغلو إلى حد كبير..».
ويروي المنصور حادثة نقلها له نائب مسؤول «جيش المجاهدين»،
التقى هو وأحد رفاق دربه بأبي حمزة المصري بعد إعلان الدولة
بأيام قليلة، وقد قال أبو حمزة في هذا اللقاء: لقد صنعنا
للمهدي منبراً؛ لأنه سيظهر بعد مدة وجيزة، «وأقسَمَ أنه
إن لم يكن جنود الدولة الإسلامية هم جيش المهدي فلا جيش
للمهدي! والغريب أنه أراهم صورة المنبر!». وذكر أموراً
غريبة أخرى. السؤال: هل ثمة ما يلفت الى مشترك عقدي لدى
المصري، وجماعة جهيمان العتيبي، بل والوهابية عموماً في
المسألة المهدوية؟!
اما القادة الحاليون فقال عنهم المنصور بأنهم «وقعوا
في كثير مما وقع به الخوارج من الغلو في التكفير والقتل
بغير حق..». ولكن المنصور لم يخف هو الآخر نزعته التكفيرية،
حيث اعتبر الحكومة العراقية بأنها «حكومة مرتدة» وأن غلاة
«الدولة» «مسلمون». مع ذلك، يعارض المنصور تكفير «داعش»
للمشاركين في الانتخابات ويقول «فهل يقول مسلم إنَّ فلانًا
من الناس الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول
الله، وملتزم بأركان الإسلام، وقد دخل الانتخابات باجتهاد
خاطئ، وغايته الذب عن أهل السنة، وتخذيل أهل الباطل وتعطيل
مشاريعهم في ظنه، هل يقول عالم معتبر إنه كافر بعينه؟»!
|
ابو محمد العدناني، الناطق الرسمي |
ويعقد المنصور مقارنة بين تكفيرية الزرقاوي وتكفيرية
البغدادي، وينقل كلاماً قاله له الزرقاوي وهو «أخفهم غلوًا
وأحسنهم حالاً، ولا توجد بينه وبين أمير الزور البغدادي
مقارنة من كل النواحي» حسب المنصور. قال الزرقاوي: «إنَّ
مناط تكفير الشرطي هو الثوب الأزرق - هكذا قال بالحرف
-، فقلت له: لنفرض جدلاً - وفي الفقه يجوز افتراض مسائل
وإن لم تقع - أنَّ هناك شرطياً يحرس مدرسة للبنات في منطقة
سنيّة لكثرة الخطف في ذلك الوقت، وليس له عمل إلا هذا،
وقد أخذ هذا العامي فتوى ممن يشاع عند العوام أنه أهل
للفتوى، فما تقول في هذا؟ فقال لي رحمه الله: هو مرتد؛
لأنَّ مناط التكفير الثوب الأزرق، ولأنه لو كُلِّف هذا
الشرطي بقتال المجاهدين إعانة للصليبيين لفعل، فقلت له:
لا يجوز التكفير بالظنون، ولو أنَّ هذا الشخص كلِّف بعمل
كفري وفعل لوقع في الكفر، ولا كرامة... لكنه قد يُكلَّف
فيرفض. وكان كلامي عن تكفير الأعيان وليس عن الطائفة أو
القتال».
ينقل المنصور صوراً من تكفير «داعش» مثل تكفيرهم لجماعات
جهادية بأكملها، «وهم يعلمون سلفية هذه الجماعات ودعوتها
لتحكيم شرع الله، وبعدها الشديد عن الإرجاء»، وقتل طلبة
العلم والدعاة والمجاهدين وكثيراً من عامة المسلمين بالشبهات
والظنون، وقتل مسلمين لأنهم انتقدوا الغلو في العراق،
وينقل المنصور عن أحد قادة «داعش» حين كانا معاً في السجون
الاميركية أنهم يستبيحون «دم من ينشر كتاب: وقفات مع ثمرات
الجهاد، لأبي محمد المقدسي لأنه انتقدهم في بعض المسائل».
ويقول العيساوي ان جماعة داعش كفّروا الشيخ الالباني
والشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين، ويضيف «وقد كان من
يُحسب على العلم منهم يبدعني عندما كنا في سجن بوكا؛ لأنني
لا أكفر هؤلاء المشايخ الأجلاء الأفاضل! مع أني لا أقول
بكل ما يقولون، وأخالفهم في مسائل، ولا أعتقد اتفاقهم
إجماعاً كما يرى بعض مرجئة العصر». ويأخذ المنصور على
«الدولة» مجازفاتها الفقهية ومنها لا اعتبار لصحة الزكاة
والحج والصلاة الا بوجود جماعة وإمام وكذلك الصوم، وهو
من الآراء التي خالف فيها التميمي مرجعه الأول الشيخ محمد
بن عبد الوهاب.
وتناول المنصور الخليفة البغدادي ونفى عنه شرط الاجتهاد،
كأحد شروط الإمامة الكبرى والخلافة، وخاطب عناصر «الدولة»
بأن «إمامكم» أبعد ما يكون عن الاجتهاد؛ بل هو بعيد عن
مبادىء العلم الشرعي؟ وهذا كاف لإسقاط الدولة.
وفي التفاصيل، يخبر المنصور طرفاً من سيرة البغدادي
وقال «إنه وحسب معرفتنا به رجل من عوام المسلمين..» ويسهب:
«واللهِ إنَّ رضاه ـ أي البغدادي ـ بكذبة الإمامة العظمى
هذه، وهو ساكت - مع علمه بعلم الله به بأنه ليس بمجتهد
ولا عالم ولا طالب علم متمكن، ولم يؤسس في العلوم الشرعية
تأسيساً، وليس بعالم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وليس بفقيه ولا مفسر ولم يتقن أيَّ علم من علوم الشريعة،
بل لا يحسب على طلبة العلم أبداً - إنَّ ذلك لمن أعظم
الأدلة على قول الزور وشهادة الزور والقبول بالزور..».
ويقدّم المنصورة شهادته الجازمة في البغدادي بما نصه:
«أشهد الله الذي لا إله إلا هو بما أعرف عن قربٍ هذا الدعيِّ
الذي سمى نفسه أبا بكر البغدادي، وقد درس عندي مع مجموعة
من الفضلاء شيئًا قليلاً من كتاب زاد المستقنع في سنة
2005م، ثم انقطع الدرس بسبب اعتقالي، وقد عرفته معرفة
دقيقة، وقد كان محدود الذكاء، بطيء الاستيعاب، باهت البديهة،
فليس هو من طلبة العلم المتوسطين، ودراسته دراسة أكاديمية
في الجامعات الحكومية ومستواها هزيل جداً..».
نشير الى أن أبو بكر البغدادي (ابراهيم بن عواد البدري)
خريج (جامعة صدام للعلوم الإسلامية)، التي تأسست عام 1989
ضمن الحملة الايمانية التي أعقبت الحرب العراقية الايرانية،
وقدم فيها البدري بحثين: تحقيق (روح المريد) و (اللآلي
الفريدة) وكلاهما في القراءات وأحكام التجويد.
ويذهب المنصور الى أن «أبا بكر هذا ليس راسخًا في العلم
بل ولا طالب علم متمكن فحسب، إنما لا يتقن كتاباً واحداً
معتمداً في العقيدة أو الفقه أبداً، وإخواننا من طلبة
العلم العراقيين من جميع الجماعات والتوجهات يعرفون هذا
جيداً، ويعلمون أنه ليس بينه وبين العلم نسب..».
وفي رد على الاطراء المبالغ فيه في سيرة ابو بكر البغدادي
ونسبه ودوره في مقاومة الاحتلال الاميركي ومناقبه التي
وردت في أدبيات «داعش»، يقول المنصور «هذا كلام فيه من
الكذب الكثير، ومن ذلك أن يقول إنه [كوَّن جماعة سلفية]
أي جماعة هذه وهو قد كان جندياً عادياً معنا حتى نهاية
2005م..». وأما القول في أنه أبلى بلاء حسناً في الجهاد
فقال: «فهو في الحقيقة موغل في دماء المسلمين وتلطخت يده
حتى العضد ورجله حتى الركب، وإنَّ رضاه بكذبة الإمامة
الكبرى دليل كالشمس على جهله وهواه». وفي الرد على التزكيات
التي ذكروها عنه، قال: «ووالله ما علمنا ذلك عنه رغم معرفتنا
الدقيقة به، وهؤلاء القوم يبرز فيهم أشد الناس ولوغاً
في الدماء وأشدهم جرأة في التكفير».
وفي ردّه على عبارة «أنه يفتي في العويصات والنوازل..»
وقال كيف يفتي «وهو لا يتقن أي مذهب من المذاهب المعتمدة؟!
أما علمه في أصول الفقه فهو لم يتجاوز «الورقات» التي
يقرؤها صغار الطلبة، أما جمع الجوامع وشروحاته أو منهاج
الأصول وشروحاته أو روضة الناظر وشروحاته أو ما يعادلها
فلا يعرف شيئاً عنها. وهذا حاله في سائر علوم الشريعة».
ويضيف «لقد خبرناه لا علم ولا خلق، وهؤلاء القوم يبرز
فيهم أكثر الناس غلوّاً في التكفير وأشدهم استهانة بدماء
المسلمين».
ونقل المنصور عن مقرّبين من البغدادي حين كان ينتمي
الى «جيش المجاهدين» أنه «كان يتعامل بكِبْر مع أقرانه،
وأظنُّ أنَّ هذا المسكين أوتي من هذا الباب القاتل..».
يشير المنصور الى نقطة خطيرة عن علاقة «داعش» بالأميركيين
بما نصّه: «ولا أشك أنهم لو لم يكونوا هم أصحاب هذا المشروع
لأوجدت أمريكا من يقوم به”. وهذا ما قد يلفت في حديثه
عن سيرته القتالية، بما نصّه: «كان إلى نهاية 2005 معنا
من ضمن جنود جيشنا، ولم يكن من المبرّزين في الميدان بل
ولا من أهل الصولة والجولة، ولا المهمات الكبار، ولا نذكر
له واقعة مشهودة لا في الإمداد ولا في المواجهة حتى ابتليت
بدخول المعتقل، عندها تغير الرجل على الإخوة وتنمّر وبدأ
يثير المشاكل في الجماعة وانقلب رأسًا على عقب..».
يعتب المنصور على أيمن الظواهري تأخره في مواجهة مشروع
داعش، وأن توجيهاته المتأخرة لم يعد لها قيمة. ويتبنى
المنصور موقف الظواهري الرافض لقتل المدنيين من كل المذاهب
والطوائف والأديان، لكن الزرقاوي ومن جاء بعده من تنظيم
«الدولة» طبّق استراتيجية أخرى تقوم على استئصال الآخر
المخالف: «وجاءت الأيام وتتابعت السنون، فإذا بالغلو يتوسع
شيئًا فشيئًا حتى وصل إلى مرحلة غاية في الخطورة» حسب
قوله.
صدرت ردود فعل من «داعش» على كتاب المنصور، من بينها
كتيب صغير بعنوان (توبيخ الغالطين على إمام الحرمين) لشخص
يدعى أبي الحسن الأزدي، وقد فرغ من كتابته في 24 ربيع
الأول سنة 1435هـ الموافق26 كانون الثاني (يناير) 2014؛
وفيه رد على ما «نسبوه اليه من دعوى تقويض الإمامة بنقصان
التمكين» في إشارة الى أبي المعالي الجويني حول انحلال
عقد الامامة في حال نقص التمكين. ونسب الى المنصور وغيره
عدم فهم عبارة الجويني، وأسهب الأزدي في شرح عبارة الأخير
بالعودة الى نصوص أخرى من كتاب الجويني (غياث الأمم) بما
ينفي فهم المنصور وغيره لسقوط الطاعة بانتقاص المكنة.
وكتب آخر يطلق على نفسه (أحمد الله تعالى) رداً في
22 جمادى الأولى 1435هـ الموافق 23 آذار (مارس) 2014 بعنوان
(كشف المستور عن أخبار ابي عبد الله المنصور – أمير جيش
المجاهدين في العراق) ردّ فيه على ما وصفه تجاوزاً كبيراً
على مشايخ «الدولة» مثل الزرقاوي وأبو عمر البغدادي وأبو
حمزة المهاجر وأبو بكر البغدادي. ووصف الكاتب بـ «المغرور
ببعض العلم الشرعي الذي يحفظه».
الكاتب الذي أشار الى المؤلف باسم عائلته (العيساوي)
وقال بأنه يعرف «الكاتب معرفة شخصية وهو يعرفني جيداً،
وأشهد الله على هذا، لأني عملت معه لفترة طويلة، ولكن
بفضل الله وحده كشف لي حقيقة هذا الرجل..» وأضاف أن العيساوي
«ليس شرعي فحسب في جيش المجاهدين بل هو امير جيش المجاهدين»
منذ تأسيسه.
وكشف عن حقيقة الخلاف بين الزرقاوي وأبو عبد الله (العيساوي)،
وأنها تتعلق برفض الأخير لإمارة الزرقاوي وكان أبو عبد
الله يصرّ «على ان لا يكون أمير الجماعة رجلاً غير عراقي»،
وعلل ذلك بأنه «يعرف طبيعة الشعب العراقي» وأنهم لن يقبلوا
أميراً عليهم غير عراقي. فقرر أبو عبد الله العيساوي تشكيل
جماعة من المقاتلين ومن توجهات مختلفة وكان من بينهم أبو
بكر البغدادي نفسه الذي لم يكن تعرّف على الزرقاوي حينذاك.
يقسم الكاتب بأن القيادات العسكرية في جيش المجاهدين الذي
يقوده العيساوي هم من حزب البعث العراقي، ولديهم اتصالات
مع عزت ابراهيم الدوري، وهو من تعهد بتمويلهم.
نقاط الخلاف بين «جيش المجاهدين» و«الدولة» كما يرصدها
كاتب الرد تتخلص في:
ـ عدم تكفير الشرطة العراقية، بينما منهج الزرقاوي
يرى أن الشُرط مرتدون .
ـ عدم تكفير عوام الشيعة، وأن علماء الشيعة هم الكفار
فقط، بينما منهج الزرقاوي واضح في تكفير الشيعة. وينقل
الكاتب عن العيساوي قوله لمن استفتاه في تفجير جامع براثا
فكان جوابه: «اضربوها ولا تستفتوني». ويعلق الكاتب: «فسبحان
الله مرة لا يجوز بخلافه مع ابي مصعب ومرة يجوز، وشاهدوا
التذبذب في الفتوى».
في التعليق على نقد ابو عبد الله لشخصية أبو بكر البغدادي
وأنه سيء الخلق ومن أهل الأهواء ومحدود الذكاء ولايصلح
للقيادة ومتكبر.. يقسم الكاتب بأن أبو عبد الله كان من
الذين يثنون أشدّ الثناء على أخلاق أبي بكر، وأقرّ بأنه
حضر بعض الدروس الشرعية لأبي عبد الله، ويرجح أن تكون
في مقر هيئة علماء المسلمين جامع أم القرى في بداية 2004،
وكان حارث الضاري رئيساً للهيئة حينذاك، وهو من سمح للشيخ
أبي عبد الله بأن يعطي دروساً داخل الهيئة، وأن علاقته
بالضاري وثيقة جداً، بل وأضاف «أكاد أجزم بأن المنهج واحد».
|
ابو محارب الجبوري، وزير اعلام الدولة، قرأ بيان
إعلان الخلافة في العراق في 2007 |
يلفت الكاتب الى أن أبي بكر البغدادي ترك الدرس وتنظيم
جيش المجاهدين بعد عدة أشهر، وأرجع الكاتب السبب الى «الأمور
العظام والانحرافات الكبيرة في جيش المجاهدين» التي رآها
البغدادي، حسب قوله. ولفت الكاتب الى السن المتقارب بين
أبو عبد الله وأبو بكر البغدادي، وأنهما في الاربعينيات
وأن أبو عبد الله يكبر البغدادي بسنة واحدة.
في الخلاصة، فإن إعلان «دولة الخلافة» أثار خلافاً
داخل تنظيمات السلفية الجهادية العراقية، قبل أن تنتقل
الى قضية خلافية داخل المجالين الوهابي على وجه الخصوص،
والسنّي عموماً.لا يشترط قادة «داعش» أو «الدولة» بحسب
اصطلاحهم، وجود كيان جيوسياسي مستقر وثابت الحدود، اضافة
الى وجود شعب ونظام من أجل «تطبيق الشريعة»، بل يشترطون
مجرد الوجود في مكان ما، بصرف النظر عن مساحته وطبيعته،
مع إمكانية تحكيم الشريعة فيه. ولذلك من الخطأ وضع تورخة
قريبة لإعلان دولة الخلافة، أي في أول شهر رمضان لسنة
1435 هجرية الموافق 29 يونيو 2014، فالإعلان يعود الى
الرابع والعشرين من شهر شوال لسنة 1427هجرية الموافق 16
نوفمبر 2006، وأن أول أمير المؤمنين ليس أبو بكر البغدادي
بل سلفه أبو عمر البغدادي.
وكان وزير الاعلام في دولة العراق الاسلامية الشيخ
أبو عبد الله محارب الجبوري (قتل في مايو 2007) قد أعلن
في كلمة مصوّرة (الإِعْلانُ عَنْ قِيَامِ دَوْلَةِ العِرَاقِ
الإِسْلامِيَّةِ)، وقال ما نصّه: (يزف إليكم إخوانكم في
حلف المطيبين بشرى إنشاء وإقامة دولة العراق الإسلامية
في بغداد والأنبار وديالى وكركوك وصلاح الدين ونينوى وأجزاء
من محافظة بابل وواسط).
وقد واجه التنظيم إشكالية كبرى كون «الدولة» لم تكن
تملك أرضاً، وإن امتلكت جزءً من الأرض فلأمد قصير تبعاً
لمعادلة الكر والفر في الميدان، فكيف تعلن عن دولة افتراضية
أو غير ثابتة وجوداً وعدماً. وبعد مرور سنتين على الاعلان
عن قيام الدولة الاسلامية في العراق، أجاب عبد المنعم
عز الدين البدوي، وزير الحرب في «الدولة»، وهو مصري الجنسية
وكنيته أبو حمزة المهاجر (قتل في صلاح الدين بالعراق سنة
2010)، عن سبب الإعلان بالرغم من أن التنظيم لا يملك الأرض،
فأحال الى تجربة المسلمين الأوائل، وقال بأن «المدينة
المنورة رغم ظروفها الصعبة، الا أن الرسول (ص) أقام فيها
دولة.
وسأل المهاجر: كم هي مساحة الدولة النبوية في المدينة؟
وما مقدار بسط النفوذ على الأرض في ظل حكم إسلامي؟ وما
مقدار المنعة والسيادة بعدما فاوض النبي (ص) على دفع ثلث
ثمار المدينة للمشركين..»(الدولة النبويّة، تأليف وزير
الحرب في الدولة الاسلامية في العراق أبو حمزة المهاجر،
تقديم وتعليق ابو الغيداء الأردني، كتيبة الكواشف الاعلامية
الجهادية 2008، ص 35).
ثم عرّج على السؤال المركزي: هل الدولة الإسلامية في
العراق استوفت شروط الدولة من حيث المساحة والقوة وبسط
النفوذ، وبالمقارنة بما كانت عليه الدولة النبوية، آخذين
في الاعتبار ما مرّت عليه الدولتان من محن، والفرق الهائل
بينهما...؟». وعرض لبعض المناطق التي ينتشر فيها التنظيم،
وأحصى عدد العناصر المقاتلة في التنظيم.
ولكن بدا كما لو أن أبو حمزة المهاجر يتجاوز أوضاع
تلك المرحلة واختلافها التام عن الأوضاع الحالية من حيث
تطوّر الكيانات الاتحادية، وصولاً الى عصر الدول والمكوّنات
الثابتة فيها. المهاجر تجاوز عنصر الأرض/ الإقليم، وراح
يتحدّث عن السكّان. فهو يقول: «لن أتكلم عن الأنبار وعزّها..
ولن أتكلم عن عرين الإسلام في ديالى ومعاركهم.. ولن أتحدث
عن الموصل ورجالها.. ولن أتحدث عن بغداد ونواحيها.. ولن
أتحدث عن كركوك وصلاح الدين..» إذاً عمّاذا يتحدث المهاجر؟
«إنما أتحدث اليوم عن بقعة منسيّة واحدة من بقاع تلك الدولة
الفتية المترامية الأطراف وخاصة قبل أن يتآمر عليها الخائنون
المجرمون الكافرون من بني جلدتنا حسداً من عند أنفسهم
وكرهاً أن يكون منهج السلف هو الحاكم في أرض الله.. سأتحدث
عن عرب جبور وما حولها..». والسبب في ذلك أن من انضوى
تحت لواء الدولة الإسلامية في العراق كانوا كثر «فبلغ
عدد جنودنا في هذه المنطقة وحدها ثلاثة آلاف مجاهد فأقاموا
الحدود وردوا المظالم ونشروا الأمن وأعالوا الفقراء..»(المصدر
السابق، ص 36 ـ37).
ومع ذلك يعترف ابو حمزة المهاجر بأنه خسر كثيراً من
الأرض التي كان يسيطر عليها: (ونعترف وبمرارة أننا خسرنا
كثيراً من الأماكن بعد عمالة وردِّة الجماعات المشكِّلة
للمجلس السياسي للمقاومة وتحالفه مع المحتل الصليبي، فقد
كانوا نعم العيون والعون للمحتل وخاصة أنهم كانوا مختلطين
بنا، وكنا نراهم إخوة في الدين حتى طعنونا في ظهورنا)(المصدر
السابق ص 37).
وفي سؤال حول إمكانية إقامة الحكم الشرعي، يجيب أبو
حمزة المهاجر: «إذا كنا قادرين على إقامة حكم الله في
أرضه ساعة من نهار بلا مفسدة راجحة بل بمصالح راجحة، ألا
يكون ذلك واجباً علينا؟ فكيف إذا أمكن ذلك لأيام وشهور
وسنين كما هي الحال في الدولة الإسلامية في العراق؟»(أبي
حمزة المهاجر، وزير الحرب بدولة العراق الإسلامية، اللقاء
الصوتي الأول، مؤسسة الفرقان للإنتاج الإعلامي، بتاريخ
24/10/2008).
يحيل ابو حمزة المهاجر كثيراً الى رسائل ومصّنفات ابن
تيمية في ماليات الدولة وتنظيم شؤونها. وينفي ما قد يتوارد
للأذهان من انطباع حول مفهوم الدولة الاسلامية بأنها مشابهة
للكيانات الجيوسياسية التي نشأت بعد إتفاقية سايكس بيكو
(الدولة الحديثة/ الدولة القطرية/ nation-state). وهو
ما نفاه أيضاً المتحدّث باسم «داعش» أبو محمد العدناني
الشامي، حيث اعتبر الحدود المرسومة على أساس الاتفاقية
تلك هي غير ملزمة للدولة وأن «الإسلام أتى للدعوة والانتشار..»،
وقال بأن «تقسيم الولاية على أساس حدود سايكس بيكو يعتبر
تكريساً لتلك الحدود. فتقسيم الجماعة إلى جماعتين إحداها
عراقية وأخرى سورية حسب الحدود، وأمر كل منهما بإلتزام
الحدود الملعونة وعدم تخطيها.. مخالفة لمنهجنا وما نؤمن
به». ويضرب مثالاً على ذلك من التاريخ الاسلامي: ولقد
كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يحركون الجيش والقادة
بين العراق والشام ولا فرق بين الجيشين، وهذا ما نفعله
الآن من تحريك قطاعاتنا وقاداتنا وعدم التفريق بيننا”(كلمة
أبي محمد العدناني الشامي المتحدث الرسمي للدولة الإسلامية
في العراق والشام بعنوان «فذرهم وما يفترون»، مؤسسة الفرقان
للإنتاج الاعلامي، 20 حزيران 2013، موقع منتديات المنبر
الاعلامي الجهادي).
ويعطي أبو محمد العداني توصيفاً خاصاً للدولة بما نصّه:
«الدولة الإسلامية ما وُجِدت قديمًا وحديثًا إلا لتحقيق
هذه الغاية التي هي حمل الناس كافةً على التوحيد والاحتكام
بشرع الله ليكونوا أمةً واحدة..». ويزيد في تصعيد نبرة
خطاب الدولة: «وإنّ الدولة الإسلامية منذ نشأتها الأولى
ظلّت في صراعٍ مع الباطل تقاتل أئمة الكفر وتقطف رؤوس
الشر، ولا زال المسلمون يواجهون أعداءً يتربصون بهم..».
ويخلص للقول: «فليعلم القاصي والداني والشرق والغرب أننا
أقسمنا وعزمنا أنَّه بغير دولة الإسلام لا أمان ولا سلام
لا في العراق ولا في الشام ولا مصر ولا الجزيرة ولا خراسان
ولا في الشرق ولا في الغرب، لن نساوم ولن نسالم، لن نفاوض
ولن نقايض، فشرع الله لا يُحكّم إلا بالسيف ولا يقوم إلا
على الشوكة والقوة”(الشيخ أبي محمد العدناني، العراق العراق
يا أهل السنة، نخبة الاعلام الجهادي، قسم التفريغ والنشر،
مؤسسة الفرقان للانتاج الاعلامي، فبراير 2012).
إنها، بكلمات أخرى: دولة حرب، دولة تستمد وجودها ومشروعيتها
من أيديولوجية الفتح، أي النزاعات مع الدول الأخرى، بل
وعلى القطيعة والخصومة معها، فهي تريد أن تحكم بالسيف
لتطبيق الشرع! وكرر العدناني مواقفه في كلمات أخرى مثل
(السلميّة دين من؟)، و(لن يضروّكم إلاّ أذىً).
تشير الفقرات السابقة من خطاب العدناني حول الدولة،
الى تجربة اخوان عبد العزيز قبل عام 1930، حيث كانوا يخوضون
المعارك باسم الجهاد لنفس الغرض «تحكيم شرع الله».
لا شك ان من يقرأ هذه المعطيات يخلص الى ضحالة تفكير
قادة التنظيم، وتشوّه مفهوم الدولة وتقديم مبدأ تطبيق
الحدود والأحكام على عوامل نشأة الدول ومصادر استقرارها
وسبل استتباب الأمن فيها وشروط بقائها ووظائفها. بكلمات
أخرى، أن الدولة من منظور «داعش» هو المكان الذي يمكن
تطبيق فيه عقيدة التوحيد وإقامة الحدود وتحكيم الشريعة
فحسب. ومن الواضح، أن من يصوغ مثل هذه الآراء لا يدرك
معنى الدولة ولم يقرأ عنها ولا علاقة له بكل تفاصيلها
من حيث درء الأخطار وحفظ المصالح والأرواح، والارتقاء
بقيم المجتمع وإدارة شؤونه بما يحقق أهدافه وتطلعاته..
وهنا مكمن الخطورة على الدولة السعودية التي تمثّل
الوهابية الأيديولوجية المشرعنة لها، حيث يعتنق «داعش»
مشروعاً أممياً ناضلت الوهابية خلال مراحل ثلاث ـ وحتى
نهاية ثلاثينيات القرن الماضي ـ من أجل تحقيقه؛ ولكن تمّ
القضاء عليه نتيجة إذعان ابن سعود لقوانين النظام الدولي
حينذاك.
قيام «الدولة الاسلامية» وفق رؤية عقدية وهابية، يشكّل
خطراً حقيقياً وجديّاً على السعودية التي تسعى لتقويض
أي مشروع أممي قد يصل الى داخل حدودها.. ولذلك، نلحظ كيف
تدرّج مشروع «الدولة» من كونه خاص للعراق، ولأهل السنة
فيه على وجه الخصوص حين أعلن عن «الدولة الاسلامية في
العراق» (تشرين الأول/أكتوبر 2006)، ثم تحوّل الى مشروع
يضم العراق والشام (داعش)، أي «الدولة الاسلامية في العراق
والشام» (9 نيسان/ إبريل 2013)، وثم أصبح مشروع خلافة
إسلامية وأصبح إسمها «الدولة الاسلامية» (29 حزيران/ يونيو
2014)،وهذه مفتوحة على الأرض..
وبحسب عقيدة «الدولة» فإن التنظيم يواجه مشروعين:
ـ مشروع الدولة الديمقراطية المدنية.
ـ مشروع الدولة الدينية القطرية على غرار السعودية.
ولأنصار مشروع الدولة الديمقراطية المدنية، يخاطب المتحدث
باسم «الدولة» أبو محمد العدناني أهل العراق والشام: «ولتعلموا
أن بينكم وبين دولة لا تحكم بشرع الله في الشام: بحار
من الدماء وجبال من الجماجم والأشلاء، ولن تحلموا بأمن
ولا أمان، وإنّا لكم إن شاء الله بالمرصاد حتى يحكم الله
بيننا؛ فإما أن ينعم المسلمون في العراق والشام بعدل الشريعة
ورحمة الإسلام، وإما أن نُباد عن بكرتنا، وهيهات هيهات!».
|
(وزير الحرب) أبو حمزة المهاجر: كم هي مساحة دولة
الرسول في المدينة؟ |
أما أنصار مشروع الدولة الدينية الوطنية التي يقول
العدناني عنها بأنها مدعومة بـ «أموال وفتاوى علماء آل
سلول ـ أي آل سعود ـ وحكومات الخليج، وتهندسُ مشروعَها
المخابراتُ، ولا ضير أن تكون حكومتها طويلة اللحى قصيرة
الثوب، حكومة تسالم اليهود وتحمي الحدود، فتباركها هيئة
الأمم، وتحظى بمقعد في مجلس الأمن..»، فيخاطبهم العدناني
قائلاً: «اتقوا الله، واقطعوا علاقاتكم مع مخابرات وحكومات
الغرب والشرق.. ولئن تظنوا أنكم أدهى من شياطين أمريكا
وأذكى من مخابرات الشرق والغرب: فاعتبروا بأشياعكم في
العراق، وقد كانوا أدهى منكم وأشد بأساً.. لقد جربوا مشروعكم
الفاشل، وسلكوا طريقكم المسدود، ولقد دعمهم آل سلول وغيرهم
من حكومات الخليج أكثر مما يدعمونكم، وبكل ما أوتوا من
مال وإعلام وفتاوى، فأين آل مصيرهم؟ وكيف أضحت جماعاتهم
وفصائلهم؟ لقد تشتتت وتبددت..».
والحل، كما يتصوّره العدناني، يتلخّص في الالتحاق بمشروع
الدولة الاسلامية، وحسب قوله: «فإن المشروع مشروعكم، وإن
مجيئكم أتقى لربكم وأقوى لجهادكم وأغيظ لعدوكم. هلموا
فإنا لا نشك أبداً أنه مَن كان منكم فيه خير: فسيأتي الله
به ولو بعد حين، وتفكّروا بمن يلتحق بصفوف الدولة كل يوم
جماعات وفرادى: أليسوا هم من خيار الفصائل وخِيار إخوانكم؟»(ابو
محمد العدناني: لن يضروكم إلا أذىً، مؤسسة الفرقان للإنتاج
الاعلامي، 31 تموز 2013، منتديات المنبر الاعلامي الجهادي).
وفي كلام العدناني هذا بيان صريح عن العقل الذي يدير
التنظيم ومشروعه، حيث تستحوذ عليه نزعة نرجسية فارطة تجعل
من التنظيم «الطائفة المنصورة» و»الفرقة الناجية»، فيرى
بأنه المالك الوحيد والمطلق للحقيقة الدينية، ونفي الآخر
تماماً، بل وتدنيسه حد جواز استئصاله، كما توحي عبارات
الوعيد. فالعدناني يضع الناس أمام خيارين إما القبول بتحكيم
الشريعة أو الموت، فيما يتحوّل قادة «الدولة» الى جماعة
انتحارية أو يقيمون دولة الشريعة.
حين يسرد الأمير السابق للدولة الاسلامية في العراق
ابو عمر البغدادي مكاسب «مجاهدي» الدولة بعد أربع سنوات
من ولادتها، يقول: «ففي فترة زمنية قياسية درب جيل كبير
من الشباب على عقيدة الولاء والبراء المنسية..»، ولا تتحقق
هذه العقيدة إلا بوجود جماعة، وتعليل ذلك: «أن الجماعة
هي تجسيد عملي لحقيقة الولاء والبراء في الإسلام، فارتباط
المؤمنين في جماعة واحدة بعد ارتباطهم بالتوحيد هو الذي
يجسد هذا الإيمان في واقع الحياة». فهي إذاً دولة دعوية
على المنهج الوهابي، ولا صلة لها بالدول المتعارف عليها.
وليتخيّل المرء كيف يمكن لدولة كهنوتية تحكم باسم السماء
أن تخضع للمحاسبة أو تدير شؤون الناس ومصالحهم، فهي معنيّة
بالدرجة الأساسية بتربية الرعيّة على عقيدة الولاء للدولة
باعتبارها النطاق الذي يجري فيه الاحتكام للشريعة، والبراءة
من خصومها كونهم يحكمون بغير ما أنزل الله، بحسب عقيدة
«الدولة الاسلامية».
في خطابه للأمة، يقول «أمير المؤمنين» السابق أبو عمر
البغدادي: «إننا حينما أعلنا دولة الإسلام وأنها دولة
هجرة وجهاد لم نكن نكذب على الله ثم على الناس، ولم نكن
نتحدّث عن أضغاث أحلام؛ لكنّا بفضل الله تعالى الأقدر
على فهم سنة الله في هذا الجهاد – هذا الفهم منشؤه دماء
المجاهدين من مهاجرين وأنصار بعد معاينة أخلاقهم ومنهجهم»(أمير
المؤمنين أبو عمر البغدادي، حصاد السنين بدولة الموحدين،
مؤسسة الفرقان للإنتاج الاعلامي، دولة العراق الاسلامية،
وزارة الاعلام، 16 نيسان 2007، مركز الفجر للإعلام).
أما الخليفة الحالي لـ «الدولة» أبو بكر البغدادي فقال
في خطبته الشهيرة في المسجد الكبير في الموصل في 4 يوليو
2014 بعد اعلان دولة الخلافة ما نصّه: «إني لا اعدكم كما
يعد الملوك والحكام أتباعهم ورعيتهم من رفاهية وأمن ورخاء..»
وإنما يعد رعيته بمكافأة مؤجلة في الآخرة، شريطة أن يتحوّلوا
الى مقاتلين في خدمة مشروع الدولة: «وإن أردتم موعود الله،
فجاهدوا في سبيل الله وحرضوا المؤمنين واصبروا على تلك
المشقة..».
في ضوء الأدلجة الفارطة للدولة، نجد أنفسنا أمام الرؤية
الوهابية النقيّة التي صاغها الشيخ محمد بن عبد الوهاب
حين أقام إمارة دينية تكون منصّة لإطلاق مشروع الخلافة/
الإمامة الاسلامية القائمة على: التوحيد، والولاء والبراء،
والهجرة والجهاد. لم يقدّر للمشروع النجاح بعد أن انحرفت
الدولة السعودية الأولى عن تعاليم المؤسس في آخر أيامها،
وتحوّلت الى ملك سياسي دون صبغة دينية، وإن المحاولات
اللاحقة واجهت تحديّات ذاتية أي من الشريك الآخر، ابن
سعود، الذي وجد نفسه أمام معادلات جيوسياسية إقليمية ودولية
يصعب تجاوزها، لأن الدولة التي أرادها الشيخ محمد بن عبد
الوهاب تؤسس لحروب مفتوحة ودائمة مع القريب والبعيد، لكونها
تقوم على رؤية عقدية للعالم: التكفير، الهجرة، الجهاد،
أي انها تؤسس لدولة توسّعية، وهذا ما تبشّر به أدبيات
داعش.
دعوة أبي بكر البغدادي، خليفة «الدولة الاسلامية» المسلمين
عموماً بالانضواء في الدولة والهجرة اليها، واعتبار أن
الوقوف ضد الدولة هو ضد شرع الله وإرادته التي اختارت
البغدادي خليفة وإماماً لدولتهم! ليست سوى الصدى لصوت
انطلق في منتصف القرن الثامن عشر، حين كانت النزعة الرسولية
لدى الشيخ محمد بن عبد الوهاب تستحثه لمراسلة رؤوساء البلدان
وعلمائها للدخول في الاسلام الذي جاء به، بعد أن عاد المسلمون
الى عبادة الأصنام في الجاهلية الثانية.
يتقمّص ابو بكر البغدادي شخصية الخليفة الراشد، مستيقناً
بأن له سلطاناً على الامة فصار «ظل الله في الأرض»، وأطلق
مشروع دولة ـ الأمة، في خطبته بالمسجد الكبير بالموصل
الى «مجاهدي الدولة» قائلاً: (إن أمة الإسلام؛ ترقب جهادكم
ونزالكم بأعين الأمل، وإن لكم في شتى بقاع الأرض إخوانا
يُسامون سوء العذاب؛ أعراضا تُنتَهَك، ودماء تُراق، وأسارى
تئن وتستصرخ، ويتامى وأراملَ تشكو، وثكالى تنوح، ومساجد
تُدنَّس، وحرمات تُستَباح، وحقوقا مسلوبة مغتصَبَة؛ في
الصين والهند وفلسطين والصومال، في جزيرة العرب والقوقاز
والشام ومصر والعراق، في إندونيسيا وأفغانستان والفلبين،
في الأحواز وإيران، في باكستان وتونس وليبيا والجزائر
والمغرب، في الشرق والغرب؛ فالهمة الهمة يا جنود الدولة
الإسلامية! فإن إخوانكم في كل بقاع الأرض ينتظرون نجدتكم،
ويرقبون طلائعكم.. فَوَالله لَنثأرنّ! والله لَنثأرنّ
ولو بعد حين لَنثأرنّ! ولَنردّنّ الصاع صاعات، والمكيال
مكاييل).
وخاطب ابو بكر البغدادي المسلمين في كل مكان وبشّرهم
بأن لهم «دولة وخلافة، تعيد كرامتكم وعزّتكم، وتسترجع
حقوقكم وسيادتكم..». خلافة تضم من كل الجنسيات «القوقازي
والهندي والصيني، والشامي والعراقي واليمني والمصري والمغربي،
والأمريكي والفرنسي والألماني والأسترالي..»، وهم مقاتلو
داعش الذين تحوّلوا الى مواطنين في دولة الخلافة التي
يتولاها.
وطالب البغدادي المسلمين الالتحاق بها: «فهلموا إلى
دولتكم أيها المسلمون، نعم دولتكم؛ هلموا؛ فليست سوريا
للسوريين، وليس العراق للعراقيين». ووجّه نداء واضحاً
ودعوة مفتوحة للمسلمين عامة: «فيا أيها المسلمون في كل
مكان؛ مَن استطاع الهجرة إلى الدولة الإسلامية فليهاجر؛
فإن الهجرة إلى دار الإسلام واجبة.. ففرّوا أيها المسلمون
بدينكم إلى الله مهاجرين..».
إن عبارة «الهجرة الى دار الإسلام واجبة..» كفيلة بالكشف
عن حقيقة عقدية لدى البغدادي وأهل دعوته، فمجرد الدعوة
الى الهجرة يعني أن ثمة دار شرك يراد الهجرة منها الى
مكان آخر، كالهجرة من مكّة الى المدينة، وأن تكون الهجرة
واجبة تعني أن المشروعية الدينية باتت محصورة في النطاق
الجغرافي للدولة الاسلامية التي يتولى أمرها ابو بكر البغدادي.
هنا نستحضر تجربة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وانتقاله من
العيينة الى الدرعيّة وسط نجد، حين دعا أنصاره بالهجرة
الى الدرعية باعتبارها دار إسلام وأن الهجرة اليها واجبة،
وماعداها يصبح تلقائياً دار كفر.
أحدثت تجربة «الدولة» ردود فعل واسعة، ولكن ثمة ميزة
خاصة لردود رفاق الدرب لقادة ومقاتلي «الدولة» في العراق
على وجه الخصوص، لامتلاك هؤلاء الكثير من المعطيات الخاصة
والأسرار حول شخصيات «الدولة» والتجارب القتالية التي
خاضوها سويّاً، والانشقاقات التي وقعت لاحقاً وأسبابها.
وكان من أهم الردود التي صدرت على اعلان «الدولة الاسلامية»،
من الشيخ ابو عبد الله محمد المنصور وكنيته (العيساوي)،
الشرعي وأمير «جيش المجاهدين» السلفي بالعراق، وهو أستاذ
ابو بكر البغدادي قبل أن يدخل السجن في العام 2005، حيث
ألف كتاباً بعنوان (الدولة الاسلامية بين الحقيقة والوهم)،
صدر في يناير 2014 ردّ فيه على كتاب (إعلام الأنام بميلاد
دولة الاسلام) لـ (عثمان بن عبدالرحمن التميمي)! الذي
أصدره تنظيم دولة العراق الاسلامية، وتعرض المنصور في
نهاية الكتاب للرد على كتاب آخر لتنظيم داعش بعنوان (مدّ
الأيادي لبيعة البغدادي).
عقدياً، لم يختلف «جيش المجاهدين» مع «داعش» ولا «القاعدة»
من ناحية الانتماء السلفي الوهابي، وهو يؤكد على «وجوب
تحكيم شرع الله”، ولكنه يرى بأن الخلاف مع «داعش» يتركز
في أصول خمسة: (التكفير بغير حق، والقتل بغير حق، والكذب،
والجهل، وعدم مراعاة السياسة الشرعية في العمل الجهادي).
المنصور يلفت الى حقيقة جديدة تنطبق عليه وعلى كل تنظيمات
الجهادية السلفية، بأن الكلام اليوم ليس عن تكفيري وغير
تكفيري، بل عن تكفيري، وآخر أقل أو أكثر غلواً وإيغالاً
في التكفير. لنتوقف عند هذه الفقرة المثيرة للشيخ المنصور
العيساوي:
(وينبغي أن يُعلم أنَّ من ينتسب إلى هذا التنظيم ليسوا
على درجة واحدة في الغلو، فكثير من قيادة جماعة «التوحيد
والجهاد» التي كان يتزعمها أبو مصعب الزرقاوي رحمه الله
أقل غلوًا بكثير جدًّا ممن أتى بعده، وغالبُ خلافاتنا
معهم آنذاك في السياسة الشرعية).
وليتخيّل المرء كيف يكون الغلو في التكفير بعد الزرقاوي
الذي يترحم عليه المنصور، بالرغم مما عرف عن الزرقاوي
من استباحة قتل المدنيين بحجة (التتّرس) بالعدو، واسقاطه
المحرمات والموانع بين مقاتل مدني وآخر عسكري. وقد كشفت
مراسلات الزرقاوي وأستاذه وملهمه أبو محمد المقدسي (عصام
البرقاوي)، وأيضاً مراسلاته مع زعيم «القاعدة» أسامة بن
لادن عن خلاف عميق حول هذه النقطة، حيث انصرف الزرقاوي
في السنوات الأخيرة من حياته الى قتل المدنيين الشيعة
في العراق بسادية.
يصف المنصور أبو حمزة المصري، خليفة الزرقاوي بأنه
«ذو عقلية غريبة، وفي عهده توسع الغلو إلى حد كبير..».
ويروي المنصور حادثة نقلها له نائب مسؤول «جيش المجاهدين»،
التقى هو وأحد رفاق دربه بأبي حمزة المصري بعد إعلان الدولة
بأيام قليلة، وقد قال أبو حمزة في هذا اللقاء: لقد صنعنا
للمهدي منبراً؛ لأنه سيظهر بعد مدة وجيزة، «وأقسَمَ أنه
إن لم يكن جنود الدولة الإسلامية هم جيش المهدي فلا جيش
للمهدي! والغريب أنه أراهم صورة المنبر!». وذكر أموراً
غريبة أخرى. السؤال: هل ثمة ما يلفت الى مشترك عقدي لدى
المصري، وجماعة جهيمان العتيبي، بل والوهابية عموماً في
المسألة المهدوية؟!
|
الزرقاوي تكفيري مخفّف اذا ما قيس بالبغدادي!
|
اما القادة الحاليون فقال عنهم المنصور بأنهم «وقعوا
في كثير مما وقع به الخوارج من الغلو في التكفير والقتل
بغير حق..». ولكن المنصور لم يخف هو الآخر نزعته التكفيرية،
حيث اعتبر الحكومة العراقية بأنها «حكومة مرتدة» وأن غلاة
«الدولة» «مسلمون». مع ذلك، يعارض المنصور تكفير «داعش»
للمشاركين في الانتخابات ويقول «فهل يقول مسلم إنَّ فلانًا
من الناس الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول
الله، وملتزم بأركان الإسلام، وقد دخل الانتخابات باجتهاد
خاطئ، وغايته الذب عن أهل السنة، وتخذيل أهل الباطل وتعطيل
مشاريعهم في ظنه، هل يقول عالم معتبر إنه كافر بعينه؟»!
ويعقد المنصور مقارنة بين تكفيرية الزرقاوي وتكفيرية
البغدادي، وينقل كلاماً قاله له الزرقاوي وهو «أخفهم غلوًا
وأحسنهم حالاً، ولا توجد بينه وبين أمير الزور البغدادي
مقارنة من كل النواحي» حسب المنصور. قال الزرقاوي: «إنَّ
مناط تكفير الشرطي هو الثوب الأزرق - هكذا قال بالحرف
-، فقلت له: لنفرض جدلاً - وفي الفقه يجوز افتراض مسائل
وإن لم تقع - أنَّ هناك شرطياً يحرس مدرسة للبنات في منطقة
سنيّة لكثرة الخطف في ذلك الوقت، وليس له عمل إلا هذا،
وقد أخذ هذا العامي فتوى ممن يشاع عند العوام أنه أهل
للفتوى، فما تقول في هذا؟ فقال لي رحمه الله: هو مرتد؛
لأنَّ مناط التكفير الثوب الأزرق، ولأنه لو كُلِّف هذا
الشرطي بقتال المجاهدين إعانة للصليبيين لفعل، فقلت له:
لا يجوز التكفير بالظنون، ولو أنَّ هذا الشخص كلِّف بعمل
كفري وفعل لوقع في الكفر، ولا كرامة... لكنه قد يُكلَّف
فيرفض. وكان كلامي عن تكفير الأعيان وليس عن الطائفة أو
القتال».
ينقل المنصور صوراً من تكفير «داعش» مثل تكفيرهم لجماعات
جهادية بأكملها، «وهم يعلمون سلفية هذه الجماعات ودعوتها
لتحكيم شرع الله، وبعدها الشديد عن الإرجاء»، وقتل طلبة
العلم والدعاة والمجاهدين وكثيراً من عامة المسلمين بالشبهات
والظنون، وقتل مسلمين لأنهم انتقدوا الغلو في العراق،
وينقل المنصور عن أحد قادة «داعش» حين كانا معاً في السجون
الاميركية أنهم يستبيحون «دم من ينشر كتاب: وقفات مع ثمرات
الجهاد، لأبي محمد المقدسي لأنه انتقدهم في بعض المسائل».
ويقول العيساوي ان جماعة داعش كفّروا الشيخ الالباني
والشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين، ويضيف «وقد كان من
يُحسب على العلم منهم يبدعني عندما كنا في سجن بوكا؛ لأنني
لا أكفر هؤلاء المشايخ الأجلاء الأفاضل! مع أني لا أقول
بكل ما يقولون، وأخالفهم في مسائل، ولا أعتقد اتفاقهم
إجماعاً كما يرى بعض مرجئة العصر». ويأخذ المنصور على
«الدولة» مجازفاتها الفقهية ومنها لا اعتبار لصحة الزكاة
والحج والصلاة الا بوجود جماعة وإمام وكذلك الصوم، وهو
من الآراء التي خالف فيها التميمي مرجعه الأول الشيخ محمد
بن عبد الوهاب.
وتناول المنصور الخليفة البغدادي ونفى عنه شرط الاجتهاد،
كأحد شروط الإمامة الكبرى والخلافة، وخاطب عناصر «الدولة»
بأن «إمامكم» أبعد ما يكون عن الاجتهاد؛ بل هو بعيد عن
مبادىء العلم الشرعي؟ وهذا كاف لإسقاط الدولة.
وفي التفاصيل، يخبر المنصور طرفاً من سيرة البغدادي
وقال «إنه وحسب معرفتنا به رجل من عوام المسلمين..» ويسهب:
«واللهِ إنَّ رضاه ـ أي البغدادي ـ بكذبة الإمامة العظمى
هذه، وهو ساكت - مع علمه بعلم الله به بأنه ليس بمجتهد
ولا عالم ولا طالب علم متمكن، ولم يؤسس في العلوم الشرعية
تأسيساً، وليس بعالم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وليس بفقيه ولا مفسر ولم يتقن أيَّ علم من علوم الشريعة،
بل لا يحسب على طلبة العلم أبداً - إنَّ ذلك لمن أعظم
الأدلة على قول الزور وشهادة الزور والقبول بالزور..».
ويقدّم المنصورة شهادته الجازمة في البغدادي بما نصه:
«أشهد الله الذي لا إله إلا هو بما أعرف عن قربٍ هذا الدعيِّ
الذي سمى نفسه أبا بكر البغدادي، وقد درس عندي مع مجموعة
من الفضلاء شيئًا قليلاً من كتاب زاد المستقنع في سنة
2005م، ثم انقطع الدرس بسبب اعتقالي، وقد عرفته معرفة
دقيقة، وقد كان محدود الذكاء، بطيء الاستيعاب، باهت البديهة،
فليس هو من طلبة العلم المتوسطين، ودراسته دراسة أكاديمية
في الجامعات الحكومية ومستواها هزيل جداً..».
نشير الى أن أبو بكر البغدادي (ابراهيم بن عواد البدري)
خريج (جامعة صدام للعلوم الإسلامية)، التي تأسست عام 1989
ضمن الحملة الايمانية التي أعقبت الحرب العراقية الايرانية،
وقدم فيها البدري بحثين: تحقيق (روح المريد) و (اللآلي
الفريدة) وكلاهما في القراءات وأحكام التجويد.
ويذهب المنصور الى أن «أبا بكر هذا ليس راسخًا في العلم
بل ولا طالب علم متمكن فحسب، إنما لا يتقن كتاباً واحداً
معتمداً في العقيدة أو الفقه أبداً، وإخواننا من طلبة
العلم العراقيين من جميع الجماعات والتوجهات يعرفون هذا
جيداً، ويعلمون أنه ليس بينه وبين العلم نسب..».
وفي رد على الاطراء المبالغ فيه في سيرة ابو بكر البغدادي
ونسبه ودوره في مقاومة الاحتلال الاميركي ومناقبه التي
وردت في أدبيات «داعش»، يقول المنصور «هذا كلام فيه من
الكذب الكثير، ومن ذلك أن يقول إنه [كوَّن جماعة سلفية]
أي جماعة هذه وهو قد كان جندياً عادياً معنا حتى نهاية
2005م..». وأما القول في أنه أبلى بلاء حسناً في الجهاد
فقال: «فهو في الحقيقة موغل في دماء المسلمين وتلطخت يده
حتى العضد ورجله حتى الركب، وإنَّ رضاه بكذبة الإمامة
الكبرى دليل كالشمس على جهله وهواه». وفي الرد على التزكيات
التي ذكروها عنه، قال: «ووالله ما علمنا ذلك عنه رغم معرفتنا
الدقيقة به، وهؤلاء القوم يبرز فيهم أشد الناس ولوغاً
في الدماء وأشدهم جرأة في التكفير».
وفي ردّه على عبارة «أنه يفتي في العويصات والنوازل..»
وقال كيف يفتي «وهو لا يتقن أي مذهب من المذاهب المعتمدة؟!
أما علمه في أصول الفقه فهو لم يتجاوز «الورقات» التي
يقرؤها صغار الطلبة، أما جمع الجوامع وشروحاته أو منهاج
الأصول وشروحاته أو روضة الناظر وشروحاته أو ما يعادلها
فلا يعرف شيئاً عنها. وهذا حاله في سائر علوم الشريعة».
ويضيف «لقد خبرناه لا علم ولا خلق، وهؤلاء القوم يبرز
فيهم أكثر الناس غلوّاً في التكفير وأشدهم استهانة بدماء
المسلمين».
ونقل المنصور عن مقرّبين من البغدادي حين كان ينتمي
الى «جيش المجاهدين» أنه «كان يتعامل بكِبْر مع أقرانه،
وأظنُّ أنَّ هذا المسكين أوتي من هذا الباب القاتل..».
يشير المنصور الى نقطة خطيرة عن علاقة «داعش» بالأميركيين
بما نصّه: «ولا أشك أنهم لو لم يكونوا هم أصحاب هذا المشروع
لأوجدت أمريكا من يقوم به”. وهذا ما قد يلفت في حديثه
عن سيرته القتالية، بما نصّه: «كان إلى نهاية 2005 معنا
من ضمن جنود جيشنا، ولم يكن من المبرّزين في الميدان بل
ولا من أهل الصولة والجولة، ولا المهمات الكبار، ولا نذكر
له واقعة مشهودة لا في الإمداد ولا في المواجهة حتى ابتليت
بدخول المعتقل، عندها تغير الرجل على الإخوة وتنمّر وبدأ
يثير المشاكل في الجماعة وانقلب رأسًا على عقب..».
يعتب المنصور على أيمن الظواهري تأخره في مواجهة مشروع
داعش، وأن توجيهاته المتأخرة لم يعد لها قيمة. ويتبنى
المنصور موقف الظواهري الرافض لقتل المدنيين من كل المذاهب
والطوائف والأديان، لكن الزرقاوي ومن جاء بعده من تنظيم
«الدولة» طبّق استراتيجية أخرى تقوم على استئصال الآخر
المخالف: «وجاءت الأيام وتتابعت السنون، فإذا بالغلو يتوسع
شيئًا فشيئًا حتى وصل إلى مرحلة غاية في الخطورة» حسب
قوله.
صدرت ردود فعل من «داعش» على كتاب المنصور، من بينها
كتيب صغير بعنوان (توبيخ الغالطين على إمام الحرمين) لشخص
يدعى أبي الحسن الأزدي، وقد فرغ من كتابته في 24 ربيع
الأول سنة 1435هـ الموافق26 كانون الثاني (يناير) 2014؛
وفيه رد على ما «نسبوه اليه من دعوى تقويض الإمامة بنقصان
التمكين» في إشارة الى أبي المعالي الجويني حول انحلال
عقد الامامة في حال نقص التمكين. ونسب الى المنصور وغيره
عدم فهم عبارة الجويني، وأسهب الأزدي في شرح عبارة الأخير
بالعودة الى نصوص أخرى من كتاب الجويني (غياث الأمم) بما
ينفي فهم المنصور وغيره لسقوط الطاعة بانتقاص المكنة.
وكتب آخر يطلق على نفسه (أحمد الله تعالى) رداً في
22 جمادى الأولى 1435هـ الموافق 23 آذار (مارس) 2014 بعنوان
(كشف المستور عن أخبار ابي عبد الله المنصور – أمير جيش
المجاهدين في العراق) ردّ فيه على ما وصفه تجاوزاً كبيراً
على مشايخ «الدولة» مثل الزرقاوي وأبو عمر البغدادي وأبو
حمزة المهاجر وأبو بكر البغدادي. ووصف الكاتب بـ «المغرور
ببعض العلم الشرعي الذي يحفظه».
الكاتب الذي أشار الى المؤلف باسم عائلته (العيساوي)
وقال بأنه يعرف «الكاتب معرفة شخصية وهو يعرفني جيداً،
وأشهد الله على هذا، لأني عملت معه لفترة طويلة، ولكن
بفضل الله وحده كشف لي حقيقة هذا الرجل..» وأضاف أن العيساوي
«ليس شرعي فحسب في جيش المجاهدين بل هو امير جيش المجاهدين»
منذ تأسيسه.
وكشف عن حقيقة الخلاف بين الزرقاوي وأبو عبد الله (العيساوي)،
وأنها تتعلق برفض الأخير لإمارة الزرقاوي وكان أبو عبد
الله يصرّ «على ان لا يكون أمير الجماعة رجلاً غير عراقي»،
وعلل ذلك بأنه «يعرف طبيعة الشعب العراقي» وأنهم لن يقبلوا
أميراً عليهم غير عراقي. فقرر أبو عبد الله العيساوي تشكيل
جماعة من المقاتلين ومن توجهات مختلفة وكان من بينهم أبو
بكر البغدادي نفسه الذي لم يكن تعرّف على الزرقاوي حينذاك.
يقسم الكاتب بأن القيادات العسكرية في جيش المجاهدين الذي
يقوده العيساوي هم من حزب البعث العراقي، ولديهم اتصالات
مع عزت ابراهيم الدوري، وهو من تعهد بتمويلهم.
نقاط الخلاف بين «جيش المجاهدين» و«الدولة» كما يرصدها
كاتب الرد تتخلص في:
ـ عدم تكفير الشرطة العراقية، بينما منهج الزرقاوي
يرى أن الشُرط مرتدون .
ـ عدم تكفير عوام الشيعة، وأن علماء الشيعة هم الكفار
فقط، بينما منهج الزرقاوي واضح في تكفير الشيعة. وينقل
الكاتب عن العيساوي قوله لمن استفتاه في تفجير جامع براثا
فكان جوابه: «اضربوها ولا تستفتوني». ويعلق الكاتب: «فسبحان
الله مرة لا يجوز بخلافه مع ابي مصعب ومرة يجوز، وشاهدوا
التذبذب في الفتوى».
في التعليق على نقد ابو عبد الله لشخصية أبو بكر البغدادي
وأنه سيء الخلق ومن أهل الأهواء ومحدود الذكاء ولايصلح
للقيادة ومتكبر.. يقسم الكاتب بأن أبو عبد الله كان من
الذين يثنون أشدّ الثناء على أخلاق أبي بكر، وأقرّ بأنه
حضر بعض الدروس الشرعية لأبي عبد الله، ويرجح أن تكون
في مقر هيئة علماء المسلمين جامع أم القرى في بداية 2004،
وكان حارث الضاري رئيساً للهيئة حينذاك، وهو من سمح للشيخ
أبي عبد الله بأن يعطي دروساً داخل الهيئة، وأن علاقته
بالضاري وثيقة جداً، بل وأضاف «أكاد أجزم بأن المنهج واحد».
يلفت الكاتب الى أن أبي بكر البغدادي ترك الدرس وتنظيم
جيش المجاهدين بعد عدة أشهر، وأرجع الكاتب السبب الى «الأمور
العظام والانحرافات الكبيرة في جيش المجاهدين» التي رآها
البغدادي، حسب قوله. ولفت الكاتب الى السن المتقارب بين
أبو عبد الله وأبو بكر البغدادي، وأنهما في الاربعينيات
وأن أبو عبد الله يكبر البغدادي بسنة واحدة.
في الخلاصة، فإن إعلان «دولة الخلافة» أثار خلافاً
داخل تنظيمات السلفية الجهادية العراقية، قبل أن تنتقل
الى قضية خلافية داخل المجالين الوهابي على وجه الخصوص،
والسنّي عموماً.
|