إيران والسعودية: العقدة والمنشار
عبد الوهاب فقي
أينما تكون إيران تكون السعودية وبالعكس، وكل منهما
قد يلعب دور العقدة في مكان والمنشار في مكان آخر..
في البحرين على سبيل المثال، ترفض السعودية أي حديث
عن إتفاق سياسي يفضي الى إشراك المعارضة في السلطة، أو
يمهّد لحكومة منتخبة وانتخابات تشريعية حرّة ونزيهة، وترفض
أي كلام عن تفاهم مع إيران في الملف البحريني، على قاعدة
أن البحرين جزء من مجال النفوذ السعودي الذي لا يقبل المنافسة
والمناقشة. ولذلك، لا مانع لدى ال سعود بأن تبقى البحرين
في حالة توتّر دائم، وأن يصل الحال فيها الى حد تجريم
عائلة آل خليفة وتشوّه صورتها في المحافل الدولية، وملاحقة
أعضائه بمن فيهم إبن الملك ناصر بن حمد. وفي النتائج،
فإن سمعة النظام البحريني حتى لدى الدول الحليفة تزداد
سوءاً بالرغم من دفاع بعضها عنه في السر، مثل بريطانيا
التي لا تزال تقدّم المشورة والدعم السياسي والأمني للنظام
الخليفي، مع أن القضاء البريطاني هو من صدر عنه رفع الحصانة
عن إبن الملك.
خلاصة القول في الملف البحريني، أن السعودية منعت أي
تفاهم داخلي بين الحكومة والمعارضة، حتى فقد دعاة الحوار
والمصالحة في العائلة المالكة، وخصوصاً ولي العهد سلمان
بن حمد مصداقيتهم، لأن كل جولات الحوار انتهت بدون نتيجة،
ولم تعد المعارضة تثق بدعوات الحوار، وباتت بعض القوى
الرئيسية تخشى على شعبيتها في حال استجابت الى حوار عقيم
مع سلطة لا تملك قرارها.
شيوخ آل خليفة يردّدون بأن «الأعمام» في المملكة هم
من يمنع التفاهم، والاتفاق، والشراكة.. و»الاعمام» يردّدون
بأن ما يجري في البحرين مؤامرة إيرانية ولن نتنازل!
|
من العقدة؟ ومن المنشار؟ |
في الملف اليمني كذلك، أي تحرّك شعبي يصبح في المنظور
السعودي مؤامرة إيرانية، ولن يقبل آل سعود أن يكون أي
طرف بما في ذلك الشعب اليمني شريكاً في القرار اليمني،
هكذا يعمل منطق الوصاية منذ عقود.
تصريحات المسؤولين، مقالات الصحف الرسمية، البيانات
المشتركة تحت مظلة مجلس التعاون الخليجي.. جميعها يشير
الى مؤامرة خارجية، أي إيرانية. وحين يقال (لن نقف مكتوفي
الأيدي) تكشف السر على الفور، يعني أن التدخل في اليمن
امتياز سعودي محض.
في لبنان، جملة موضوعات تكشف عن التجاذب السعودي الإيراني،
وعن معادلة العقدة والمنشار في أجلى صورها.
نتوقف عند موضوع «الهبة» السعودية وتالياً الإيرانية
للجيش اللبناني، وذلك لقراءة الخلفيات السياسية، وتظهير
التنافس في أسوأ صوره.
فمن المعلوم أن آل سعود أعلنوا عن «هبة» بثلاثة مليارات
دولار للجيش اللبناني في ديسمبر من العام الماضي، وقد
دار الجدل حولها حتى شعر اللبنانيون بأنها أقرب الى بقرة
بني إسرائيل منها الى الهبة. فقد وضع ال سعود شروطاً تعجيزية
على الهبة حتى فرطت بالكامل، فأصبحوا يمنّون على اللبنانيين
بأنهم أعطوهم هبة بثلاثة مليارات ولكن لم يقبضوا منها
شيئاً، فكانت (منيّة بدون عطيّة) وعلاوة على ذلك ألحقوها
بأذى.
على أية حال، طارت المليارات الثلاثة ولا يعلم مصيرها،
وفجأة جرى استبدالها بمليار دولار جاء بها سعد الحريري
الى بيروت بعد غياب دام أكثر من عامين. وراح «يبهدل» فيها
اللبنانيين في الطالع والنازل، يتحدّث عن «الهبة» السعودية
للبنان، وقسّمها بطريقة تكاد تضيع معالمها، وصار المليار
الموعود منقسماً ومتنقلاً كما الرذاذ بين «الجيش» الذي
يجهل الحريري تركيبته، وقوى الأمن الداخلي، والأمن العام،
وفرع المعلومات.
تنقّل الحريري بالهبة السعودية من مكان لآخر، وصار
يتصرّف كما لو أنه رئيس الحكومة الفعلي وليس تمّام سلام.
يعني حملة تسويق سعودية لرجلها الغائب عن لبنان لناحية
تقديم عرض مالي مقابل تنصيبه رئيس للحكومة.
الفريق المقابل الممثل في 8 آذار قرر ألا يتفاعل مع
الهبة ولا مع المواطن الضيف، وكان استقباله لخبر عودته
ـ أي الحريري ـ باهتاً بل ولا إبالياً. وعاد الحريري أدراجه
الى الوطن الأول والأخير، بانتظار تعليمات القيادة السعودية.
على اية حال، فإن موضوع الهبة السعودية للجيش أثار
جدلاً ولغطاً ثم غضباً وتهكماً وانتقاداً، لأنها تحوّلت
الى ما يشبه الإهانة.
في المقابل، وصل الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن
القومي الإيراني الأميرال علي شمخاني الى بيروت وأعلن
على الفور عن هبة عسكرية إيرانية للبنان (كعربون محبة
وتقدير للبنان ولجيشه الباسل، نظرا للمواجهة التي يخوضها
لبنان في بعض مناطقه الحدودية ضد الإرهاب التكفيري المتطرف».
إعلان سريع وعاجل، والأهم حاسم: رئيس الحكومة تمّام
سلام رحّب بالهبة العسكرية الإيرانية، بانتظار زيارة وزير
الدفاع سمير مقبل إلى طهران بعد إسبوعين من الاعلان للاتفاق
على كل التفاصيل.
عرض إيراني واضح وترحيب لبناني أيضاً واضح. فما الذي
أغضب السعودية؟
حملة مفاجئة في الصحافة السعودية على «الهبة» الإيرانية
للجيش اللبناني. صحيفة «الوطن» السعودية كتبت في 2 أكتوبر
الجاري ما نصّه: (من المثير للدهشة والحيرة أن يصرّح شمخاني
بأن بلاده تنوي تقديم مساعدات عسكرية للجيش اللبناني،
وهي التي عملت عبر سنوات طويلة على إضعاف هذا الجيش، وخلق
حزب الله، وتقويته، ليكون شوكة في خاصرة لبنان، وعقبة
في طريق أداء الجيش لمهامه الوطنية).
كلام غير مترابط وغير منطقي قالته الصحيفة، ولا أعتقد
أن أحداً يشتريه في لبنان أو المطلّعين على الشأن اللبناني.
والسؤال المباشر: وما الذي يمنع السعودية من تقديم «هبات»
للجيش اللبناني طيلة العقود الماضية، بغرض تقويته ورفع
قدرته العسكرية؟.
الصحافة السعودية في لبنان شنّت هي الأخرى حملة على
الهبة الايرانية للجيش. واعتبرت صحيفة «المستقبل» في 2
أكتوبر الجاري أن حقيقة الهبة الإيرانية لتسليح الجيش
جاءت متأخرة جداً، وإلا ليس هناك استعداد سابق لايران
لتقديم هبة للجيش. فيما صوّر مقال آخر في الصحيفة نفسها
بأن الهبة الايرانية جاء كرد فعل (وربما من باب الغيرة
والحسد) على هبات سعودية وأميركية ومن دول غربية أخرى
للقوى الأمنية. ولكن الكاتب ردّ على كاتب آخر في الصحيفة
في نفس العدد حول عدم استعداد إيران لتقديم «هبة» عسكرية،
ومنها العرض الذي حصل عليه الرئيس اللبناني السابق ميشال
سليمان إبان زيارته لطهران (لكنه لم يثمر خشية انعكاسات
العقوبات الدولية المفروضة على الجمهورية الاسلامية).
وهنا إشارة واضحة الى أن الغرب وليس إيران هو من أفسد
العرض.
على أية حال، ومهما تكن تفسيرات الجانب السعودي، فإن
الهبة الإيرانية وجّهت «ضربة معلم» للنظام السعودي الذي
أنهك اللبنانيين بوعوده، وراح يتصرّف بطريقة انفعالية
وغرائزية، حتى بات يجهل التسلسل المنطقي للأحداث والربط
بينها. يحدث ذلك، بالرغم من أن لدى الفريق المقابل للفريق
السعودي، ما يكفي من الأدلة على استعداد إيران لتزويد
لبنان بكل ما يحتاجه بما في ذلك حل مشكلة الكهرباء، واستخراج
النفط وتصنيعه، وتزويده بما يحتاجه من السلاح.
الفارق بين الهبّة السعودية والهبة الإيرانية، أن الأولى
يعلن عنها وتوافق الحكومة اللبنانية عليها، ولكن لا تقبض
منها سوى الريح. بينما الثانية يتم الإعلان عنها ولكن
الحكومة اللبنانية هي من تتلكأ في قبولها، لا لشيء إلا
لأن السعودي والاميركي والفرنسي لم يعطوا الضوء الأخضر!
فالمشكلة بالنسبة للسعودية ليست في ضعف أو قوة الجيش
اللبناني، بل في الدور الإيراني. لا مانع لدى السعودية
أن يبقى الجيش اللبناني ضعيفاً، مكشوفاً، مجرّداً من أي
سلاح نوعي أو رادع، ولكن هناك ألف مانع ومانع من أن يصبح
لإيران دور في لبنان.
وكما في اليمن والبحرين، تتصرّف السعودية في لبنان
كما لو أنه جزء من مجال نفوذها المطلق الذي لا تقبل أن
يتقاسم معها أحد فيه.
لوزير الخارجية سعود الفيصل تصريحات كثيرة حول ايران
وتدخلها في الشؤون العربية، وحين التقى بنظيره الايراني
اعترف بأن دولته وايران لهما نفوذ في المنطقة، ومن المصادفة
أن يصدر التصريح في اليوم الذي دخل الثوّار اليمنيون صنعاء
وأسقطوا الحكومة.
لبنان بدون رئيس منذ 25 مايو الماضي، حيث انتهت ولاية
الرئيس السابق ميشال سليمان. مسيحياً، المرشّح الأوفر
حظاً لجهة الحيثية الشعبية هو رئيس تكتل التغيير والاصلاح
ميشال عون، ولكن القرار السعودي يحول دون وصوله الى قصر
بعبدا، لأن عون محسوب على فريق 8 آذار وإن لم يكن منتمياً
عضوياً للفريق، ولكنه بالتأكيد على خصومة مع 14 آذار،
السعودي بامتياز.
في 3 أكتوبر الجاري نقلت صحيفة «الحياة» بأن وزير الخارجية
اللبناني جبران باسيل قال لنظيره الأميركي جون كيري عندما
التقاه لدى سؤال الأخير عن الانتخابات الرئاسية في لبنان:
إن هذا الأمر ينتظر ضوءاً أخضر من السعودية ليتم. الجانب
الأميركي فهم من كلام باسيل بأن عون لن يسحب ترشيحه للانتخابات
الرئاسية على رغم ان باسيل لم يذكر اسمه عندما تحدث عن
الضوء الأخضر السعودي.
في الخلفيات، نشرت صحيفة «الأخبار» في 25 أغسطس الماضي
مقالاً للكاتبة ليا القزي بعنوان «السعودية تهاجم عون:
ورقة وستحترق» قالت فيه بأن خطاب الرياض لم يتبدّل تجاه
عون في موضوع الرئاسة (حتى في عزّ العلاقة بين التيار
الوطني الحر وتيار المستقبل). وتضيف (بالنسبة لمملكة الوهابيين،
لا يزال عون يمثل قائد الجيش الذي رفض اتفاق الطائف عام
1989، متحدياً أن «يأخذ العالم توقيعي»، لينتهي به الأمر
منفياً الى فرنسا).
ونقلت القزي كلاماً لوزير الخارجية سعود الفيصل لمسؤولين
لبنانيين بأن وصول عون الى الرئاسة يمثل خطراً على «الميثاق
الوطني»، متحدّثاً عن «عدم نسيان الإهانات التي وجّهها
للمملكة». اللافت أن هذا الكلام نقل عن سعود الفيصل خلال
«ذروة الغزل» بين عون والرياض، في وقت كان السفير السعودي
علي عوّاض عسيري يتردد على الرابية في محاولة لتخريب علاقة
عون بحزب الله واستمالته ناحية الرياض.
تستند القزي على مقالة كانت «الوطن السعودية» قد نشرتها
في 24 أغسطس الماضي بعنوان (المشروع «العوني».. وحرق ورقة
«الطائف») وصفت الصحيفة فيه مقترح الجنرال عون بأن يكون
الشعب هو من ينتخب الرئيس بدلاً من البرلمان، بأنه مشروع
«أشبه بالإنقلاب على الحياة السياسية في لبنان، وتحويرها
لصالح فئة معينة، دون اكتراثٍ بما ستعود به الأمور على
بلدٍ ذي تركيبة طائفية معقدة.
الصحيفة وجّهت كومة مواقف تهجّمية على التيار «العوني»
تاره بوصفه (غطاء مسيحي لخدمة الحزب المنغمس في الدم السوري)
وتارة بكونه (غطاء سياسي معين لدعم نفوذ نظام وحزب الله
في لبنان».
مصادر نيابية في تيار المستقبل نقلت للقزي بأن المقال
يؤكد أن «الفيتو الذي وضعته المملكة على عون لا يزال قائماً»
وبالتالي لا إتفاق رئاسياً قريباً. وهذا ما أفصح عنه باسيل
لنظيره الأميركي حين قال بأن الضوء الأخضر لم يصل من السعودية.
ما علاقة ايران بالموضوع؟
يصرّ فريق السعودية في لبنان أن يكون الرئيس اللبناني
منه، ولذلك اختارت سمير جعجع، قائد القوات اللبنانية،
بالرغم من قناعة اللبنانيين والسعوديين وحتى فريقه السياسي
أنه من المستحيل وصوله الى بعبدا ما لم تكن هناك معجزة
أكثر من سياسية لحصول ذلك.
|