الدولة الجريمة
ليس خطئاً في العنوان، حين اخترنا وصف الدولة بالجريمة،
لأن أي توصيف أخرى بدون أل التعريف يصبح تخفيضاً لواقع
الحال والصيروة التاريخية التي خلصت الى إنتاج كيان لم
يقم على تراضي مجتمعي أو تعاقد بين المكوّنات السكانية..بكلمات
أخرى، الكلام ليس عن الجريمة بل عن الدولة التي تحوّلت
بحد ذاتها الى جريمة.
وفي ضوء القاعدة المنطقية والشرعية «الحكم على الشيء
فرع عن تصوّره»، فإن العقيدة الوهابية التي نشأت على قاعدة
تكفير الآخر، بصرف النظر عن قربه المكاني أو بعده، أو
قربه الديني أو بعده، أو قربه الإجتماعي أو بعده، إنما
انطلقت من تصوّرات خطيرة عن «الآخر» الأمر الذي أباح لها
استخدام أقصى ما يمكن أن تصل اليه قدرتها على البطش والتنكيل
لتحويل التصوّر الى حكم وتالياً الى فعل مادي، أي تبرير
القتل وإفناء الآخر المختلف..
المراجع الوهابية الرسمية تقدّم وبارتياح تام روايات
جمّة عن حروب الوهابيين ضد سكّان المناطق في الجزيرة العربية،
وتسجّل تفاصيل دقيقة حول الغارات، وعمليات القتل، والنهب
والسلب، والذبح والسبي، ومصادرة الممتلكات أو حرقها..كل
ذلك يروى ولا يجد المسؤول الرسمي أو الداعية الوهابية
أو حتى الإعلامي النجدي غضاضة فيما يرويه، ويروّج له.
ومما يبعث على الغرابة أن يتولى الأمراء طباعة بعض الكتب
والمراجع التي تشتمل على أدلة دامغة تثبت اقتراف آبائهم
وأجدادهم لجرائم ضد الانسانية يعاقب عليها القانون وتفرض
على المؤسسات الحقوقية مسؤولية أخلاقية في الضغط حتى لا
تتمتع أي دولة بحصانة أو الإفلات من العقاب.
وفي تقديرنا لن يطول الوقت قبل أن تفتح سيرة جرائم
الوهابيين في الجزيرة العربية بدعم من آل سعود. فسيوف
البغي التي هوت على رؤوس الأبرياء سوف ترتد على أصحابها
في يوم ما، فهذا عدل الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة..
كتب السيرة السعودية متوفرة في المكتبات العامة وليست
خفيّة، ويكفي أن تطالع كتاب (عنوان المجد) لابن بشر أو
(تاريخ نجد) لحسين بن غنّام أو حتى موسوعة (الدرر السنيّة
في الأجوبة النجدية) وغيرها من الكتب التي عنت بتدوين
سيرة المملكة الوهابية، والتي كتبها أجانب أمثال أمين
الريحاني وجون فيلبي أو هـ. ديكسون أو كتبها مستشارون
لابن سعود مثل حافظ وهبه أو محمد المانع أو أحمد عبد الغفور
عطّار وغيرهم..في كل هذه الكتب يمكن العثور على روايات
برائحة الدم. وحين يتأمل القارىء في طريقة تقديم الرواية
السعودية عن المعارك يخرج بانطباع أن الكاتب جزء من المعركة
فهو يزهو، ويفخر، ويمجّد فعل الجريمة الذي ارتكبه آل سعود
والوهابيون ضد سكّان محليين لا ذنب لهم سوى أنهم خالفوهم
في الرأي أو المذهب أو التوجّه.
من الجرائم البشعة التي ارتكبها آل سعود في الجزيرة
العربية ما جرى في وادي تربه بالطائف سنة 1924. وهي جريمة
تستحق التوثيق لأنها كافية لإدانة النظام السعودي وما
اقترفه من مجازر ضد سكّان هذه البلدة. وقد روت مصادر عديدة
تفاصيل عن الجريمة، ومن بينها ما ذكره أحمد عبد الغفور
عطّار في الجزء الثاني من كتاب (صقر الجزيرة) الذي أنفق
عبد العزيز المال لطبعه بعد أن أملاه على عطّار، وكان
ذلك أشبه باعتراف من عبد العزيز على نفسه وما ارتكبه من
جرائم. وبعد أن يسرد عطّار قصة استعدادات عبد العزيز بعد
مغادرة حجاج بيت الله الحرام في عام 1342هـ وشروع عبد
العزيز بتجهيز الجيوش في العاشر من محرم سنة 1343هـ التي
احتشدت في الرياض، حيث تحرّك ستة عشر لواء على كل لواء
أمير وسارت نحو تربة، واجتازت حدود الحجاز وأخذت تحتل
القرى وتقتل من تجده في طريقها.
الهجوم المباغت الذي شنّه عبد العزيز على تربة وخرمه
لم يمكّن قوات الشريف حسين من التصدّي حيث كان جيش «الإخوان»
(داعش ذاك الزمان)، ينقضّون كالوحوش حتى أثاروا الذعر
والهلع بين السكان المدنيين «ففر من استطاع تاركاً كل
ما معه ناجياً بروحه، وبقي من بقي يفتك فيه الخوف والقلق
فتكاً، وخبأ الاغنياء الذهب والاحجار الكريمة وأغلقوا
الابواب وحصنوها من الداخل بأحجار كبيرة ليستعصى فتحها
إذا ما احتل الغزاة المدينة» بحسب رواية عبد العزيز لعطّار.
ولكن لا مهرب حيث اجتاح «الاخوان» المدينة بعد وصول الجيش
السعودي الى أكثر من خمسين ألف «وروّع البلد الجميل بالقذائف
المتفجرة فتداعت البيوت القديمة وتطاير فوق جوه الحالم
البديع الرصاص كشرر جهنم. وعلا صراخ الاطفال وعويل النساء
وبكاء الرجال خوفاً على أفلاذ الأكباد وعلى الارواح..»
ويمضي العطّار في وصف المشهد نقلاً عن صانع الجريمة عبد
العزيز وهو يصف مشاعر السكّان المحليين وهم «ينظرون من
الثقوب فيرون الاخوان الوحوش والاعراب يملؤون البطاح ويطوفون
بالسور والسيوف تتدلى كأنها تهتز من طرب..». ويصف استباحة
المدينة من قبل الإخوان «فراحوا يقضون الليل في السلب
والنهب والقتل وهتك الاعراض بلا رادع من دين أو ضمير أو
سلطان وهاجموا البيوت وحطموا الابواب ودخلوا على الابرياء
ومزقوهم بالسيوف وأطلقوا عليهم الرصاص، واستلبوا كل ما
وجدوا من غال ورخيص..».
ويتابع العطار السعودي صياغته لاعترافات عبد العزيز
آل سعود، فيقول: (وقد وجد البدو ممن لهم ثارات عند الأهلين
فرصة نادرة للانتقام فزحفوا إلى بيوتهم واقتحموها عليهم
وقتلوهم شر قتلة تشفيّاً منهم، وهتكوا أعراضهم، وبعد أن
ذبحوهم وضعوا رقابهم في حنفيات الماء والصهاريج..ولم يكلفوا
أنفسهم عناء استلام الأساور الذهبية من أيدي النساء الممتدة
بل قطعوا أيديهن وأرجلهن ولبس «الاخوان» الحلي وهذه الاساور
بأيديهم ووضعوا القلائد الخرزية والذهبية في رقابهم كي
لا تعيقهم عن بقية النهب والقتل… وهكذا «دخل سلطان الدين
السعودي» أي سلطان بن بجاد البلدة وأخلاها من السكان المدنيين
وحشدهم كلهم في حدائق شبرا وقصرها العتيد، وكان النساء
سافرات لاول مرة في هذه البلاد وكن مع الرجال ومكثوا أياما
بلا طعام ولا ماء!).
هذه واحدة من مئات الجرائم التي ارتكبها آل سعود منذ
بدء التحالف المشؤوم مع الوهابية في منتصف القرن الثامن
عشر، وسوف نعثر في المصادر المختصّة بتدوين السيرة السعودية
على مئات الأدلة التي تؤكد بأن هذه الدولة بحد ذاتها جريمة،
وإن بقاءها إيغال في الجريمة.
|