قراءة في رسائل محمد بن عبد الوهاب
رسـول الـتـكـفـيـر
الجزء الأول
سعد الشريف
ثلاثمائة غزوة قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب خلال
عشرين عاماً ضد مشركي الجزيرة العربية، بمعدل خمس عشرة
غزوة في كل عام، الغالبية منها جرت في منطقة نجد. سرّ
هذه الغزوات يكمن في الرؤية العقدية التي صاغها ابن عبد
الوهاب، وأسّست لمشروع سياسي لا يزال قائماً. سقط عشرات
الآلاف ضحايا، وتم تهجير ما يقرب من نصف سكان الجزيرة
العربية، بفعل النزوع الاصطفائي لدى أنصار الدعوة الوهابية،
وحدثّت إنقسامات إجتماعية حادّة في البلدان التي دخلت
اليها، ولاتزال تتمسّك بنفس التعاليم العقدية المسؤولة
عن سفك الدماء، ونهب الممتلكات، واحتلال البلدان، وسبي
الذراري.
نحاول هنا قراءة الضامر، والكامن، والخطير في تلك التعاليم،
وما يعني «التكفير» في المدلول الديني وترجماته الميدانية.
كتب ابن عبد الوهاب تمثّل مادة مكتظّة بكل ما هو جدير
بالتأمل والتحليل، وسوف نتوقف عند مجموع الرسائل التي
كان يبعث بها الى علماء أو وجهاء أو قادة سياسيين، والتي
تأتي في هيئة إما دعوة باعتناق مذهبه، أو جواب على سؤال،
أو ردّ على انتقادات وجّهت له.
ما يجمع بين هذه الرسائل هو «التكفير» موضوعاً أو حكماً،
وهو ما نلحظه في كل رسائله تقريباً، فلا نكاد نجد رسالة
تخلو من التعرّض له، أو مقاربته من جهة وأخرى..
الرسائل الشخصية لابد عبد الوهاب والمجموعة في موسوعة
(الدرر السنيّة في الأجوبة النجدية)، كانت موضع اهتمام
بعض مشايخ الوهابية مثل الشيخ صالح الفوزان، فقام بجمعها
في كتاب مستقل بعنوان (الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن
عبد الوهاب)، وتنطوي على كثير من الحقائق حول الرجل، خصوصاً
ما يتعلق بتهمة التكفير التي صاحبته منذ بدئه التبشير
بدعوته وحتى اليوم.
في القسم الأول المعنوّن بـ (عقيدة الشيخ وبيان حقيقة
دعوته ورد ما ألصق به من التهم)، ثمة طائفة من الرسائل
التي بعث بها بن عبد الوهاب الى الناس، وتضمّنت بعض اعتقاداته.
وفي الرسالة الأولى التي وجهها الى أهل القصيم في الجواب
عن سؤالهم عن عقيدته.
بدأ جوابه بتقرير أن ما يراه هو (ما اعتقدته الفرقة
الناجية أهل السنة والجماعة)، وهنا يبدأ الانقسام وجذر
المشكلة مع الآخر، أي على أساس ما يعتقده وما يحاول فرضه
على بقية المسلمين، أو ما يعتقد بأن ما هو عليه يجب أن
يكون اعتقاد بقية المسلمين خصوصاً فيما يتعلق بالأسماء
والصفات الخاصة بالله عزّ وجل، وهل هي مادية، وتفسير ما
ورد في القرآن الكريم حول الصفات بأنها على سبيل الحقيقة
لا المجاز «فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه ولا أحرف الكلم
عن مواضعه..».
يضع «الفرقة الناجية» التي يتقمّص تمثيلها في وسط «باب
أفعاله تعالى بين القدرية والجبرية»، و»في باب وعيد الله
بين المرجئة والوعيدية» و»في باب الإيمان والدين بين الحرورية
والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية»، و»في باب أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض والخوارج». وكما
ترى، فإنه لم يبق من فرق المسلمين فرقة الا جعلها خارج
نطاق الوسطية، سوى ما عليه هو وأهل دعوته.
وبالرغم من عدم تكفيره أحد المسلمين بذنب، إلا أن النواقض
العشرة التي وضعها للإسلام بما فيها من تساهل وخصوصية
شديدة تجعل من غالبية المسلمين خارج دائرة الاسلام.. خصوصاً
أولئك الذين لا يؤمنون بثلاثية التوحيد: الالوهية والربوبية
والاسماء والصفات، لا سيما الأخيرة والقول بالتجسيم.
واجه ابن عبد الوهاب انتقادات واسعة من داخل نجد، ومن
علمائها على وجه الخصوص وكان من بينهم سليمان بن سحيم
(1130 ـ 1181هـ ) وهو من كبار علماء نجد، وآل سحيم بيت
علم كبير. وقد جاء في سيرته أنه قرأ على علماء نجد، و
منهم والده حتى صار مدّرس أهل البلاد و مفتيهم وإمامهم
و خطيبهم.
وقد قابل ابن عبد الوهاب انتقادات بن سحيم بالتشنيع
وخروج عن اللياقة والأدب، وخاطبه بكلمات بذيئة وقال لهم
«لكن البهيم سليمان بن سحيم لايفهم معنى العبادة»، وزاد
على ذلك قائلاً: «هذا الرجل من البقر!! التي لا تميّز
بين التين والعنب»؛ وهذا لا يصدر من رجل علم، فكيف برجل
دين يقدّم نفسه لأهل دعوته باعتباره قدوة في الأخلاق قبل
أن يكون قدوة في العلم.
ولقد كتب محمد بن عبد الوهاب رسالة الى سليمان بن سحيم
تشبه رسائل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الكفار والمشركين
يخاطبه فيها قائلاً:
«نذكر لك أنك أنت وأباك مُصرِّحون بالكفرِ
والشركِ والنفاقِ...أنت وأبوك مجتهدان في عداوة هذا الدين
ليلاً ونهاراً... إنَّك رجل معاند ضال على علم، مختار
الكفر على الإسلام... وهذا كتابكم فيه كفركم».
وكان الشيخ سليمان بن سحيم قد رفض متبنيات بن عبد الوهاب
ومنها: إبطال كتب المذاهب الأربعة، وإن الناس من ستمائة
سنة ليسوا على شيء، وادعاء الاجتهاد، والخروج عن التقليد
والقول أن اختلاف العلماء نقمة، وتكفير المتوسلين بالصالحين،
وتكفير البوصيري لقوله يا أكرم الخلق، وقوله لو أقدر على
هدم قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهدمتها، وأيضاً
قوله لو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزاباً
من خشب، وتحريمه زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم،
وانكاره زيارة قبر الوالدين، وتكفيره من حلف بغير الله،
وتكفير ابن الفارض وابن عربي، وحرق كتاب دلائل الخيرات،
وروض الرياحين، وتسميته روض الشياطين.
وبالرغم من نفي ابن عبد الوهاب لهذه الاتهامات، إلا
أن ثمة أموراً حصلت من بعده ومن أهل دعوته تؤكّدها. على
سبيل المثال، ذكر ابن غنّام المعاصر لابن عبد الوهاب ومن
أتباعه وكاتب تاريخه في مقدمة كتابه (روضة الأفكار والأفهام
لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الاسلام): (كان أكثر
المسلمين قد ارتكسوا في الشرك، وارتدّوا الى الجاهلية،
وانطفأ في نفوسهم نور الهدى...ولقد انتشر هذا الضلال حتى
عمّ ديارالمسلمين كافة). وفي رسالة لسليمان بن سحيم يعترض
فيها على بن عبد الوهاب جاء فيها: «ومنها أنه ثبت أنه
يقول الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء وتصديق ذلك أنه
بعث إلي كتاباً يقول فيه أقرّوا أنكم قبلي جهّال ضلاّل».
وكان ابن عبد الوهاب قد بعث برسالة الى علماء الدرعية
يقول لهم فيها: (وأنتم ومشائخكم ومشايخهم
لم يفهموا ولم يميزّوا بين دين محمد ودين عمرو بن لحي
الذي وضعه للعرب..). وبن لحي هو أول من جاء بالأصنام
الى مكة من الشام.
وهناك رسائل ونصوص كثيرة تؤكد النزوع التكفيري الراسخ
لابن عبد الوهاب.
وعن هدم قبة المسجد النبوي فهناك من الأدلة المتوافرة
ما تثبت ذلك، منها ما جاء على لسان الشيخ بن عثيمين وعبارته
المعروفة «عاد القبة الله يسهل هدمها»، وما جاء في كتاب
الشيخ ابراهيم بن سليمان الجبهان (تبديد الظلام وتنبيه
النيام.. ص 389) المطبوع بإذن رئاسة البحوث العلمية والافتاء
والدعوة والارشاد برئاسة المفتي السابق الشيخ عبد العزيز
بن باز تحت رقم 1144/5 بتاريخ 11/7/1400هـ
(وإن إدخال قبره ـ أي قبر المصطفى ـ
في المسجد ــ أي المسجد النبوي ــ أشد إثماً وأعظم مخالفة)؛
ويضيف بأن (سكوت المسلمين على
بقاء هذه البنية لا يصيّرها أمراً مشروعاً).
ودعا ناصر الدين الالباني في كتابه (تحذير الساجد)
الى اخراج قبر النبي صلى الله عليه وسلم من المسجد وتسويته
بالأرض. وهناك فتوى مشهورة عن مشايخ الوهابية بعدم جواز
السفر القاصد من بعيد لزيارة قبر النبي صلى الله عليه
وسلم استناداً على حديث :»لا تشد الرحال الا الى ثلاثة:
المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا».
بل هناك من عاهد نفسه بعدم زيارة قبر الرسول صلى الله
عليه وسلم قبل هدم القبة وإخراج القبر من المسجد.. فمن
أين جاء مشايخ الوهابية بهذه الآراء إن لم تكن لها سوابق
مؤسسة في العقيدة الوهابية، وفي رسائل ابن عبد الوهاب
نفسه؟!
ينسحب الكلام أيضاً الى تكفير ابن عربي وابن الفارض
وغيرهما والذي جاء في كتب مشايخ الوهابية، فهل يعقل أن
تكون مجرد مصادفة أن ينفي مؤسس المذهب التكفير ثم يثبت
تلامذته ذلك. ولو كان في مسألة واحدة لقلنا اجتهاداً من
التلامذة، ولكن أن يشمل ذلك كل المسائل التي أوردها سليمان
بن سحيم كشواهد على تكفيره.. فذاك لا يكون محض صدفة.
وفي رسالة محمد بن عبدالوهاب الى مطوّع ثرمداء وسط
نجد محمد بن عباد، نفى فيها إسلام علماء سدير وقال عنهم:
«إن هؤلاء ما عرفوا التوحيد، وإنهم
منكرون دين الإسلام»، وذكر مشايخ من العارض بأنهم
«قاموا وقعدوا ودخلوا وخرجوا وجاهدوا
ليلاً ونهاراً في صد الناس عن التوحيد يقرأون عليهم مصنفات
أهل الشرك لأي شيء لم تظهر عداوتهم وأنهم كفار مرتدون».
بل طلب محمد بن عبد الوهاب من ابن عباد أن يرصد
من خالف عقيدته وقال: «فإن كان باين
لك أن أحداً من العلماء لا يكفّر من أنكر التوحيد أو أنه
يشك في كفره فاذكره لنا وأفدنا».
وفي رسالة أخرى له بعثها إلى محمد بن عيد وهو من مطاوعة
ثرمدا يقضي بـ «تكفير من بان له أن
التوحيد هو دين الله ورسوله ثم أبغضه ونفر الناس عنه»،
والتوحيد المقصود هنا ليس شيئاً آخر سوى ما فهمه
بن عبد الوهاب، وليس ما ورد في كتب المسلمين الأوائل أو
ما فهموه.. ولذلك يقول: «ومن عرف الشرك
وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بإنكاره وأقر بذلك
ليلا ونهاراً ثم مدحه وحسّنه للناس وزعم أن أهله لا يخطئون
لأنهم السواد الأعظم..». ثم يعقب ذلك نفي تكفيره
بالظن وبالموالاة والجهل، ويعتقد بأن من يتهمونه بذلك
«يريدون به تنفير الناس عن الله ورسوله» فهذا يعكس النزعة
الرسولية لدى ابن عبد الوهاب، حتى بات يعتقد كل نقد يوجّه
اليه هو نقد لله سبحانه وتعالى وللرسول صلى الله عليه
وسلم.
الأخطر في رسائل محمد بن عبد الوهاب هو تكفيره لأهل
البادية الذين كانوا يمثّلون أكثرية سكانية في الجزيرة
العربية، حيث قال ما نصّه:
«من المعلوم عند الخاص والعام ما
عليه البوادي أو أكثرهم، فإن كابر معاند لم يقدر على إن
عنزة وآل ظفير وأمثالهم كلهم مشاهير هم والأتباع إنهم
مقرون بالبعث ولا يشكون فيه، ولا يقدر أن يقول إنهم يقولون
إن كتاب الله عند الحضر وأنهم عانقوه ومتبعون ما أحدث
آباؤهم مما يسمونه الحق ويفضلونه على شريعة الله، فإن
كان للوضوء ثمانية نواقض ففيهم من نواقض الإسلام أكثر
من المائة ناقض..». وفي هذا القول خروج عن كل معيار
ديني أو علمي في تقييم الآخرين.
وينقل بن عبد الوهاب ما يقوله شيوخ من نجد وأتباعهم
عنه بأنه مبتلى بالتكفير والقتال.
وفي رسالة بعث بها الى رئيس بادية الشام في زمانه فاضل
آل مزيد، وكان سبب المراسلة هو مكاتبة راشد بن عربان له
بأن آل مزيد طلب منه توضيح معتقده بسبب ما يصله من انتقادات
ضده، فأراد استمالته اليه، فكتب له الرسالة وقال له:
«فقدّم لنفسك ما ينجيك عند الله».
وألمح الى أن نجاته هي في اتباع عقيدة محمد بن
عبد الوهاب..
وقد أنكر أهل الشام على ابن عبدالوهاب اتهامه إياهم
بالشرك لزيارة المقامات وردوا عليه:
«أجعلتنا مشركين وهذا ليس إشراكاً».
وفي رسالة من ابن عبدالوهاب الى العالم العراقي عبد
الرحمن بن عبد الله السويدي، وقد أنكر عليه هذا الأخير
اسرافه في تكفير الناس، يردّ فيها ابن عبد الوهاب عما
يقول الناس فيه، بدأها بقوله: «أني
ولله الحمد متبع ولست بمبتدع عقيدتي وديني الذي أدين الله
به مذهب أهل السنة والجماعة..». وراح يسهب في شرح
عقيدته التي بيّنها للناس بقوله: «نهيتهم
عن دعوة الأحياء والأموات من الصالحين، وغيرهم، وعن إشراكهم
فيما يعبد الله به من الذبح والنذر والتوكل والسجود وغير
ذلك..»، ثم ينتقل لتسمية الأشياء بأسمائها
«وبينت لهم أن أول من أدخل الشرك في
هذه الأمة هم الرافضة الملعونة الذين يدعون علياً وغيره
ويطلبون منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات..»،
ثم يشير الى نفسه بنوع من تمجيد الذات
«وأنا صاحب منصب في قريتي مسموع الكلمة..».
ثم نفى ابن عبدالوهاب عن نفسه كل الاتهامات كالقول
«أني أكفر جميع الناس إلا من اتبعني،
وأزعم أن أنكحتهم غير صحيحة». وكذلك القول
«لو أقدر أهدم قبة النبي صلى الله عليه
وسلم لهدمتها». وقد أثبتنا سلفاً أن دعوته هذه
قد ثبتت صحتها بحسب ما ظهر في فتاوى وكتب وخطب مشايخ الوهابية.
وأما كتاب ( دلائل الخيرات وشوارق الأنوار) لمحمد بن
سليمان الجزولي، وهو من الكتب الصوفية ويشتمل على أذكار
ودعوات وقصائد في مدح النبي صلى اللهي عليه وسلم، ولكن
الوهابية تعاملوا معه باعتباره كتاباً كفرياً وقالوا عنه
بأنه مشتمل على «عبارات استغاثة ودعاء من الضلال والكفر».
ومع ذلك نفى ابن عبد الوهاب أنه أمر باحراق الكتاب،
مع أن أهل دعوته اعتبروه كتاباً كفرياً، فماذا يعني ذلك؟
ونفى عن نفسه التكفير كما هي العادة وقال
«فأنا أكفّر من عرف دين الرسول ثم بعد
ما عرفه سبه ونهى الناس عنه وعادى من فعله فهذا هو الذي
أكفره وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك». فإذا
كان أكثر الأمة ليسوا كذلك، فعلام تكفير من لم يعتنق عقيدة
التوحيد بحسب ما شرحها هو في كتابه (التوحيد.. الذي هو
حق على العبيد)، أي الايمان بأن التوحيد له ثلاثة أنواع:
الالوهية والربوبية والاسماء والصفات، وقال في (كشف الشبهات):
«من عرف التوحيد ولم يعمل به فهو كافر
معاند كفرعون وإبليس.. فإن عمل بالتوحيد عملاً ظاهراً
وهو لايفهمه ولا يعتقده بقلبه فهو منافق، وهو أشرّ من
الكافر الخالص». فهذان حكمان لا يستقيمان في مكان
واحد، فإما أن يكون أكثر الأمة على الاسلام، وإما أن تكون
كافرة ومنافقة لأنها لا تعتقد بما يعتقده في التوحيد بأنواعه
الثلاثة، وبالتأكيد أكثر الأمة ليسوا على هذا التقسيم.
وفي رسالة الى علماء مكة ينفي ابن عبدالوهاب فيها ما
أشاعوا عنه من التكفير وأنه أفتى «بكفر
البوادي الذي ينكرون البعث والجنة والنار، وينكرون ميراث
النساء مع علمهم أن كتاب الله عند الحضر..»، ومع
ذلك عاد وأكّد ما نفاه وقال «فلما أفتيت
بكفرهم مع أنهم أكثر الناس في أرضنا..» وكرّر ذلك
لاحقاً: «فلما أفتيت بكفر من تبر البوادي
من أهل القرى..».
وفي رسالة لأحد علماء أهل المدينة (لم يرد ذكر إسمه)،
وأجابه عن سؤال عن سبب الاختلاف بينه وبين الناس، فنفى
أن يكون حول الصلاة والصيام والحج والزكاة وغيرها من الفرائض.
ولكن حول «إخلاص الدين لله». ونفى عن نفسه التكفير بالعموم
مع أنه فعل كثيراً في رسائله «تكفير البوادي» و»تكفير
قبائل» و»تكفير قرى»، كما أوردنا. يقول
«فإن قال قائلهم إنهم يكفرون بالعموم
فنقول: سبحانك هذا بهتان عظيم»؛ فمالذي يكفّره
الوهابيون إذن: «الذي نكفّر الذي يشهد
أن التوحيد دين الله ودين رسوله، وأن دعوة غير الله باطلة
ثم بعد هذا يكفر أهل التوحيد، ويسميهم الخوارج ويتبين
مع أهل القبب على أهل التوحيد..». أليس هذا ما
يفعله ابن عبد الوهاب نفسه مع المخالفين له؟
وفي رسالة له الى أهل دعوته من وصفهم
«الإخوان المتبعين محمداً صلى الله
عليه وسلم» ينكر فيها ما «ذكره
المشركون» عنه. هذه الثنائية التي تنطوي على رؤية
تقييمية للعالم، إذ يصبح هو وأتباعه في معسكر الايمان
ومخالفوه في معسكر الكفر والالحاد تفصح عن موقفه إزاء
الآخر، المختلف، الذي يصبح دائماً على ضلال.
يكرر ذات المؤاخذات عليه ليرد عليها ومنها نهيه عن
الصلاة على النبي، وقوله «لو أن لي أمراً هدمت قبة النبي
صلى الله عليه وسلم»، وأنه يقدح في الصالحين من غير مذهبه،
وينهى عن محبتهم.
وهنا يتحرر ابن عبد الوهاب من ضوابط وضعها لنفسه بعدم
تكفير العموم، حيث حكم بكفر عوائل ونسب اليهم تهماً بالعموم،
فقال «فكل هذا كذب وبهتان افتراه علي
الشياطين الذين يريدون أن يأكلوا أموال الناس بالباطل
مثل أولاد شمسان، وأولاد إدريس الذين يأمرون الناس ينذرون
لهم وينخونهم ويندبونهم، وكذلك فقراء الشيطان الذين ينتسبون
إلى الشيخ عبد القادر ..».
وتمادى ابن عبد الوهاب في تشنيعه على كل من ينخا نبياً
أو وليّاً، فقال «فإذا كان اعتقد في
عيسى ابن مريم مع أنه نبي من الأنبياء وندبه ونخاه فقد
كفر فكيف بمن يعتقدون في الشياطين كالكلب أبي حديدة، وعثمان
الذي في الوادي، والكلاب الأخر في الخرج وغيرهم في سائر
البلدان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن
سبيل الله..».
هذا نص في غاية التوتّر ولا ينم سوى عن شخصية مأزومة
لا تتمتع بالورع والحذر من الوقوع في المحظور ولا تحسب
حساباً لأي قيمة دينية، فتنال من هذا وتقدح في هذا، وتستعمل
اقذع الألفاظ وأسوئها.
وفي رسالة مفتوحة الى عموم المسلمين ينفي فيها تفكيره
للعموم ويقول: «ما ذكر لكم عني أني
أكفر بالعموم فهذا من بهتان الأعداء»، مع أنه ثبت
في رسائل سابقة أنه يفعل ذلك وبإسراف.
ونفى أيضاً القول بأن «من تبع دين
الله ورسوله وهو ساكن في بلده أنه ما يكفيه حتى يجييء
عندي»؛ مع أنه يقول بالهجرة من بلاد الشرك الى
بلاد الإسلام، وقد قال في الاصل الثالث من أصول الايمان
ذلك بما نصّه: «والهجرة الانتقال من
بلد الشرك الى بلد الإسلام، الهجرة فريضة على هذه الأمة
من بلد الشرك الى بلد الإسلام، وهي باقية إلى أن تقوم
الساعة..». فكيف يكون بهتان وهو من فرض على المؤمنين
بدعوته الهجرة.
الغريب أن ابن عبد الوهاب فسّر المجيء اليه بطريقة
مواربة حيث قال «إنما المراد اتباع
دين الله ورسوله في أي أرض كانت..». وعلى الأساس
ذاته قارب موضوعة التكفير.
وفي رسالة لابن عبد الوهاب الى حمد التويجري، وقد نقل
له عن أحد ما لم يذكر إسمه مسائل اشتهر بها خصوصاً ما
يتعلق منها بالتكفير، كقوله «الذي ما يدخل تحت طاعتي كافر».
ونفى ذلك وأجاب بطريقة مواربة كما هي عادته بقوله
«من عمل بالتوحيد، وتبرأ من الشرك وأهله
فهو المسلم في أي زمان وأي مكان وإنما نكفر من أشرك بالله
في إلهيته بعد ما نبين له الحجة على بطلان الشرك وكذلك
نكفر من حسنه للناس، أو أقام الشبه الباطلة على إباحته،
وكذلك من قام بسيفه دون هذه المشاهد التي يشرك بالله عندها،
وقاتل من أنكرها وسعى في إزالتها..».
في هذا النص يجعل ابن عبد الوهاب طاعته في طول طاعة
الله سبحانه وتعالى، والكفر بدعوته هو كفر برسالة الله
عزّ وجل، الأمر الذي يبرئه من تهمة التكفير، فهو إنما
يكفّر من كفّره الله ورسوله، فتأمّل!
وفي رسالة جوابية لعبد الله بن سحيم مطوّع أهل المجمعة،
حين سأله عن رسالة بعث بها الى أهل البصرة والإحساء العالم
النجدي ومطوّع أهل الرياض سليمان بن محمد بن سحيم، وتصفه
الرسالة بأنه (عدو الله) وهذا وحده كاف للتكهن بموقف ابن
عبد الوهاب منه وبالحكم عليه.
في رسالة بن سحيم الى أهل البصرة والإحساء تحذير من
عقائد ابن عبد الوهاب ونزعته التكفيرية وإحداث الفرقة
والفتنة بين المسلمين. والرسالة غير مثبتة في أي مصدر
محايد وينقل مقاطع منها ابن غنام في تاريخه، منها:
أنه قد خرج في قطرنا رجل مبتدع جاهل مضل
ضال.. وأنه عمد إلى شهداء أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم الكائنين في الجبيلة: زيد بن الخطاب وأصحابه وهدم
قبورهم وبعثرها .. ومنها أنه يقطع بتكفير ابن الفارض وابن
عربي .. ومنها أنه يقطع بكفر الذي يذبح الذبيحة ويسمي
عليها ويجعلها لله تعالى، ويدخل مع ذلك دفع شر الجن.
و منها :( أنه قاطع بكفر سادة عندنا من آل الرسول لأجل
أنهم يأخذون النذور).
وإذ من غير المتيسر الحصول على أصل رسالة الشيخ سليمان
بن سحيم الى أهالي البصرة والاحساء، فإننا نحاول تلمّس
بعض ما جاء فيها من خلال رد محمد بن عبد الوهاب عليه،
والتي كتبها الى مطوّع أهل المجمعة عبد الله بن سحيم،
وكان من بين من وصلته رسالة الشيخ سليمان بن سحيم.
ذكر ابن عبد الوهاب أن المسائل التي وردت في رسالة
بن سحيم تصل الى أربعة وعشرين مسألة. شنّع ابن عبد الوهاب
على ابن سحيم وقال «فإن الذي راسلكم
هو عدو الله ابن سحيم». يزعم ابن عبد الوهاب أن
بن سحيم دعا العامة الى عبادة شمسان وأمثاله، وزعم
«أن العامة قالوا له ولأمثاله إذا كان
هذا هو الحق فلأي شيء لم تنهونا عن عبادة شمسان وأمثاله،
فتعذروا أنكم ما سألتمونا، قالوا: وإن لم نسألكم كيف نشرك
بالله عندكم ولا تنصحونا..». وفي هذا الكلام هنّات
وهنّات، إذ لا يعقل أن يطلب رجل دين من العامة عبادة بشر
تحت أي عنوان، ولا يعقل أيضاً أن يستجيب العامة لذلك،
وحين ينتبه هؤلاء الى ضلالهم ينكروا على العلماء فيكون
الجواب بأنكم لم تسألوننا ولم تطلبوا منا توضيح ذلك. رواية
تبدو في غاية الركاكة والتشويه، ولا يصح اعتمادها، وإن
الغاية منها هو إثبات أن العلماء والناس كانوا على ضلالة
وإنه جاء ليخرجهم من الظلمات الى النور!.
أعاد سرد المؤاخذات التي وردت في رسائل سابقة ومنها:
إبطاله كتب المذاهب، وقوله إن الناس من ستمائة سنة ليسوا
على شيء، وادعاء الاجتهاد، وأن اختلاف العلماء نقمة، وتكفير
من يتوسل بالصالحين، وتكفير البوصيري لقوله يا أكرم الخلق،
والقول بهدم حجرة الرسول عند القدرة، وتغيير ميزاب الكعبة
الى خشب، وإنكار زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم،
وانكار زيارة قبر الوالدين وغيرهم، وتكفير من يحلف بغير
الله.
يلفت تكرار المؤاخذات نفسها في رسائل محمد بن عبد الوهاب
الى احتمالات:
صدورها عن جهة واحدة، وهي من قام بنشرها وتعميمها على
نطاق واسع وايصالها الى طائفة كبيرة من رجال الدين في
الجزيرة العربية والعراق. وهذا يتطلب وجود شخصية لها حيثية
شعبية وتملك إمكانيات كبيرة تسمح لها بإيصال رسائلها الى
أماكن بعيدة وأن يكون لها هذا التأثير القوي، الى حد أن
تتردد المؤاخذات في رسائل علماء دين من العراق ومن أنحاء
متفرقة من الجزيرة العربية. فهل كان سليمان بن سحيم مصدرها؟
أن المؤاخذات كانت شائعة في زمان ابن عبد الوهاب، الى
حد أنها باتت تكرر في رسائل وردود المشايخ والعلماء عليه،
وقد اضطر لذكرها في أغلب رسائله لما تتطلبه من إجابات
محددة.
في ردوده على المسائل المثارة، لجأ ابن عبد الوهاب
الى تفسيراته الخاصة لمعنى التوحيد وأنواعه، وقال بأن
التوحيد نوعان: توحيد الربوبية وقال بأن مجرد الاقرار
بـ «أن الله سبحانه متفرد بالخلق والتدبير
عن الملائكة والأنبياء وغيرهم، وهذا حق لابد منه، لكن
لا يدخل الرجل في الإسلام لأن أكثر الناس مقرون به..»
وأن الذي يدخل الرجل الاسلام هو «توحيد الألوهية»،
وهو : «أن لا يعبد إلا الله لا ملكاً مقرباً ولا نبياً
مرسلا». ونسب الى أهل زمانه الكفر وقال «فصار ناس من الضالين
يدعون أناساً من الصالحين في الشدة والرخاء مثل عبد القادر
الجيلاني، وأحمد البدوي وعدي بن مسافر، وأمثالهم من أهل
العبادة والصلاح..». تفسير ابن عبد الوهاب لزيارة الناس
لقبور هؤلاء الصالحين قد تختلف عمّا يعتقدونه فيهم، ولكنّه
يعدّه من باب العبادة لغير الله، ويتطلب ذلك أكثر من مجرد
تفسير من بعيد.
في رؤية ابن عبد الوهاب للعالم من حوله ما يشي بموقف
عقدي، فقوله «أن دين الإسلام اليوم من أغرب الأشياء..».
ووصف أهل زمانه بالمشركين وقال «واعلم
أن المشركين في زماننا قد زادوا على الكفار في زمن النبي
صلى الله عليه وسلم..»، بدعوى أنهم «يدعون الأولياء
والصالحين».
يحاول ابن عبد الوهاب رسم مسار عام للشرك في الامة
الإسلامية، ويعود الى زمان أبو بكر الطرطوشي (451هـ -
520هـ) صاحب كتاب (سراج الملوك في سلوك الملوك)، حيث ينقل
عنه كلاماً في ظاهرة الشرك في زمانه ويشدّد على وقوع ذلك
في زمان «أبي يعلى الحنبلي» ما يلفت الى نزعة اصطفائية
من نوع خاص، حيث يرى في الخط الحنبلي وحده الممثل للإسلام
الصحيح، ثم يختم بسؤال «الزمان صلح بعده؟»، في إشارة واضحة
الى أن الشرك عمّ البلاد والعباد، ما يؤكد مؤاخذة بن سحيم
وقوله بأنه الناس لم تكن على شيء منذ ستمائة سنة.
وكان ابن عبد الوهاب قد نفى في رسالة سابقة بأنه كفّر
إبن عربي، ولكن لحظنا في هذه الرسالة كلاماً صريحاً له
بتكفيره، ونقل عن علماء لم يسمّهم بـ «أنه أكفر من فرعون»،
وأصدر حكماً عاماً على أهل زمانه، وقال
«وغلب الشرك على أكثر النفوس لغلبة
الجهل وخفاء العلم، وصار المعروف منكراً والمنكر معروفاً،
والسنّة بدعة والبدعة سنّة، ونشاً في ذلك الصغير، وهرم
عليه الكبير، وطمست الأعلام واشتدت غربة الإسلام وقل العلماء،
وغلب السفهاء وتفاهم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد
في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس». إن لم يكن
هذا مصداقاً لتكفير العموم، فما هو إذن؟
برّر ابن عبد الوهاب حكمه «بكفر شمسان وأولاده ومن
شابههم» وسمّاهم «طواغيت» بدعوى «أنهم
يدعون الناس إلى عبادتهم من دون الله عبادة أعظم من عبادة
اللات والعزى بأضعاف»، ويصرّ بأن ما يقوله ليس
«مجازفة بل هو الحق». بدا ابن عبد الوهاب في هذا الموقف
موتوراً، وكأنه يعكس موقفاً شخصياً من عائلة شمسان، ومبالغته
في نقدهم الى حد اتهام الناس بعبادتهم تعكس أكثر من مجرد
حكم ديني، بل محاولة لنزع سلطة يتمتع بها شمسان في قومه.
وكان ابن عبد الوهاب قد بعث برسالة الى سليمان بن سحيم
حكم فيها على سكان نجد والحجاز بالشرك وقال مانصّه:
«ومعلوم أن أهل أرضنا وأرض الحجاز الذي
ينكر البعث منهم أكثر ممن يقر به، وأن الذي يعرف الدين
أقل ممن لا يعرفه، والذي يضيع الصلوات أكثر من الذي يحافظ
عليها، والذي يمنع الزكاة أكثر ممن يؤديها». وهذا
ينطوي ليس على حكم عام فحسب، بل إنه ينفي عن أكثر سكّان
نجد والحجاز صفة الإسلام مطلقاً.
وفي رسالة يردّ فيها على ما جاء في «أوراق بخط ولد
ابن سحيم» حوت ما يعتقد ابن عبد الوهاب بأنه يريد
«أن يصد بها الناس عن دين الإسلام،
وشهادة أن لا إله إلا الله»، ومما جاء في الأوراق
«تكفير كل من قال لا إله إلا الله». ويرد على ذلك بإسلوب
مشحون بالغضب «فإذا ذكرنا لهم الآيات
التي فيها كفره، وكفر أبيه، وكفر الطواغيت..».
واتهم ابن سحيم بأنه تكفيري، ونقل أمثلة من أوراق حسب
قوله منها «من قال إن النبي صلى الله عليه وسلم أملس الكف
كفر..» وأنه قال بـ «كفر القدرية، والعلماء لا يكفرونه
فكفر ناساً لم يكفروا وأنكر علينا تكفير أهل الشرك»..
ولغياب مصدر يمكن الرجوع اليه للتحقق من مقولات بن سحيم
تجعلنا نتحفظ على ما يرد في ردود ابن عبد الوهاب، لأنها
في الغالب مجتزئة وغير مثبتة في مصادر أخرى محايدة، دع
عنك من المصدر نفسه.
يزعم ابن عبد الوهاب أن بن سحيم صدّق بكل ما قاله هو
في التوحيد وانواعه، ولكنه يكفر بها ويرد عليه
«فإذا كفرنا من قال إن عبد القادر والأولياء
ينفعون ويضرون قال: «كفرتم أهل الإسلام، وإذا كفرنا من
يدعو شمسان وتاجا وحطاباً قال كفرتم أهل الإسلام..».
وسرد قائمة موضوعات يقول بها بن سحيم ثم يكفر بها
بعد أن كفّر ابن عبد الوهاب أصحابها. وهذا يناقض ما قال
ابن عبد الوهاب عنه بأنه يكفّر من يقول بكذا وكذا. وختم
ابن عبد الوهاب رسالته بكلام فيه توهين لابن سحيم بما
نصّه: «ما من عقول تفهم أن هذا الرجل
من البقر التي لا تميز بين التين والعنب..».
وفي رسالة كتبها محمد بن عبد الوهاب ومعه عبد العزيز
بن محمد بن سعود الى أحمد بن محمد بن العديلي البكيلي
أحد وجوه اليمن، وكان فيها ردّ على تهمة الاجتهاد، ونفيا
ذلك وقالاً «فنحن مقلدون الكتاب والسنة
وصالح سلف الأمة، وما عليه الاعتماد من أقوال الأئمة الأربعة
أبي حنيفة النعمان بن ثابت ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس،
وأحمد بن حنبل». وتحدّثا بكلام لا يليق كقولهما
«حتى آل الأمر إلى الهتيميات، المعروفات
بالزنى، والمصريات، يأتون وفوداً يوم الحج الأكبر، كل
من الأشراف معروفة بغيته منهن جهاراً، وأن أهل اللواط،
وأهل الشرك، والرافضة، وجميع الطوائف، من أعداء الله ورسوله
آمنين فيها، وأن من دعا أبا طالب آمن، ومن وحد الله وعظمه
ممنوع من دخولها، ولو استجار بالكعبة ما أجارته، وأبو
طالب والهتيميات يجيرون من استجار بهم..». وهتيم
تتحدّر من قبيلة سبيع وقد عرفن بالجمال، وإتهام ابن عبد
الوهاب لهن جميعاً بالزنا يندرج في سياق لا ديني ويصدق
عليه القذف والتشهير، وكذلك قوله عن نساء مصر.
غاية ابن عبد الوهاب وابن سعود من الرسالة هو تحريض
البكبلي على أشراف مكة بأنهم سمحوا للمشركين والزناة وأهل
اللواط وغيرهم بالقدوم الى مكة وإنهم آمنون فيها على أنفسهم،
فيما حُرم أهل التوحيد من الحج والعمرة!!. وتكشف الرسالة
عن خروج ابن عبد الوهاب عن الضوابط الدينية التي يدعي
الالتزام بها، خصوصاً فيما يتعلق بتكفير العموم، ومبدأ
الأحكام العمومية.
لغة تصعيدية طبعت الرسالة من أولها لآخرها، ما يؤكد
النزعة التحريضية فيها، كقوله: «نقاتل
عبّاد الأوثان كما قاتلهم صلى الله عليه وسلم ونقاتلهم
على ترك الصلاة وعلى منع الزكاة كما قاتل مانعها صديق
هذه الأمة أبو بكر الصديق..».
وبالرغم من تكفيره العموم كما هو واضح في رسائله السابقة
جاء من ينفي عنه ذلك، وكتب إليه اسماعيل الجراعي رسالة
نيابة عن صاحب اليمن البكبلي، قال له :»لا أصدق أنك تكفر
بالعموم..».
وردّ ابن عبد الوهاب على رسالته وأكّد نفيه التكفير
بالعموم وقال «فذلك من بهتان الأعداء
الذين يصدون به عن هذا الدين..». ولا نعلم إن كان
لابن عبد الوهاب فهم خاص لتكفير العموم، بالرغم من وضوح
ما قاله وأسلفنا ذكره.
وفي رسالة الى عالم الدين اليمني عبد الله بن عبد الله
الصنعاني يجيب فيها عن سؤال الأخير عن دين ابن عبد الوهاب.
يقدّم الأخير مطالعة عقدية مطوّلة تدور حول حدي الشرك
والتوحيد. وعرّف بمذهبه، وقال «وأما مذهبنا فمذهب الإمام
أحمد بن حنبل إمام أهل السنة..»، ومع أنه لم ينكر على
أهل المذاهب الاربعة الا أنّه وضع شرطاً «إذا لم يخالف
نص الكتاب والسنة وإجماع الأمة وقول جمهورها». فهو حين
يثبّت لأهل السنة إماماً دون بقية أئمة المذاهب إنما ينزع
المشروعية عنها، وحين يشترك صحة عملها بما يقرّره هو يجعل
من المذهب الحنبلي محوراً لصحة إيمان المرء وسقمه.
وفي رسالة الى أهل المغرب يدعوهم فيها للدخول في دعوته،
ويحذّرهم من الوقوع في الشرك وقال «فمعلوم ما قد عمّت
به البلوى من حوادث الأمور التي أعظمها الإشراك بالله
والتوجه إلى الموتى وسؤالهم النصر على الأعداء وقضاء الحاجات
وتفريج الكربات.. وكذلك التقرب إليهم بالنذر وذبح القربان،
والاستغاثة بهم في كشف الشدائد وجلب الفوائد..».
وبعد انتهائه من مطالعته، قال «فهذا
هو الذي أوجب الاختلاف بيننا وبين الناس حتى آل بهم الأمر
إلى أن كفرونا وقاتلونا واستحلوا دماءنا وأموالنا حتى
نصرنا الله عليهم وظفرنا بهم، وهو الذي ندعو الناس إليه
ونقاتلهم عليه بعد ما نقيم عليهم الحجة من كتاب الله وسنة
رسوله وإجماع السلف الصالح من الأئمة ..». فهو
هنا لا يدعو لحوار أو مناظرة بل تبدو النزعة الرسولية
واضحة، وهو إنما يخيّر المعنيين برسالته إما القبول بدعوته
أو انتظار سيفه، هكذا ببساطة متناهية، أو حسب قوله:
«فمن لم يجب الدعوة بالحجة والبيان
قاتلناه بالسيف والسنان».
وفي رسالة مفتوحة الى المسلمين عامة، والى محمد بن
عبيد وعبد القادر العديلي وابنه وعبد الله بن سحيم وعبد
الله بن عضيب وحميدان بن تركي وعلي بن زامل ومحمد أبا
الخيل وصالح بن عبد الله على وجه الخصوص وحديث مكرور عن
التوحيد والشرك ومصاديقهما في الواقع، وعاد وكرر مقولته
السابقة «لكن المشركين في زماننا أضل
من الكفار في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم..»
مع شرح ذلك من وجهين: أن كفار زمانه يدعون الانبياء
والملائكة في الشدّة والرخاء معاً، وأن «مشركي زماننا
يدعون أناساً لا يوازنون عيسى والملائكة». ثم أخبرهم
«فلا يخفى عليكم ما ملأ الأرض من الشرك
الأكبر عبادة الأصنام..»، أي زيارة قبور الانبياء
والصحابة.
وفي رسالة أخرى لمطوّع المجمعة عبد الله بن سحيم يجيب
فيه عن سؤال حول كتاب المويس الذي أرسل لأهل الوشم وفيه
كلام عن علم أصول الدين أو العقائد وكلام في التوحيد والشرك،
والثالث اتباع أهل العلم وتقليدهم واتباع الأدلة..
وعاد ابن عبد الوهاب في رسالته الى تكفير ابن عربي
ونقل عن «الاقناع» لأبي شجاع في باب حكم المرتد قوله عن
أهل الشام «وهم يعبدون ابن عربي جاعلين
على قبره صنماً يعبدونه». ولكن ابن عبد الوهاب
يستدرك، لانتماء ابن تيمية وأتباعه الى الشام، فقال:
«ولست أعني أهل الشام كلهم حاشا وكلا
بل لا تزال طائفة على الحق وإن قلت واغتربت».
وما يلفت في رسائل ابن عبد الوهاب مبالغته في «شيطنة»
الخصم، الى حد إظهاره في هيئة الشرير والعدو للدين كقوله
عن سليمان ابن سحيم بأنه «كاتب إلى
أهل الحساء يعاونهم على سب دين الله ورسوله»، ومن
الواضح أنه يهدف تشويه صورة الرجل وليس بالضرورة الدقة
فيما ينقل.
وفي رسالة الى أحد مشايخ الاحساء محمد بن سلطان ينكر
عليه مطالبته له بالدليل على ادعاءاته بكفر من ينذرون
وينتخون في الشدائد ويرضون بذلك، وينقل ابن عبد الوهاب
عنه أنه «ويذكرون عنك أنك تقول أبغي أعرضه على العلماء
في الخرج وفي الأحساء..». ولكن ابن عبد الوهاب عرّض بالعلماء
في الإحساء وقال بأنهم يكابرون، وأنه كان يعرض عليهم من
سنين وكان يجادل كل انسان بمذهبه «فإذا
أرسلت إليهم ذلك عدلوا عن الجواب لأنهم يعرفون أني على
الحق وهم على الباطل وإنما يمنعهم من الانقياد التكبر
والعناد على أهل نجد..». وعبارة «على أهل نجد»
تنقلنا الى سياق آخر غير عقدي، فالرجل يفشي سراً عن التجاذب
المناطقي في مرحلة مبكرة، وزاد على ذلك بقوله:
«وكن على حذر من أهل الأحساء أن يلبسوا
عليك بأشياء لا ترد على المسألة أو يشبهوا عليك بكلام
باطل..».
وفي رسالة مفتوحة الى المسلمين عامة يعرّف عن عقيدته
قائلاً: «عقيدتي وديني الذي أدين الله
به مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين مثل
الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة..». كلام
يبدو كما لو أنه ينطوي على تراجع عن الخط الحنبلي، ولكن
قد يحمل دلالات أخرى غير مباشرة، وهي أنها محاولة لحشد
أكبر عدد من المؤيدين، وقد تكون الرسالة في بدايات حركته
الدعوية، كما يلمح لذلك في الرسالة نفسها
«وأنا صاحب منصب في قريتي مسموع الكلمة
فأنكر هذا بعض الرؤساء لكونه خالف عادة نشأوا عليها، وأيضاً
ألزمت من تحت يدي بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وغير ذلك
من فرائض الله، ونهيتهم عن الربا وشرب المسكر وأنواع من
المنكرات فلم يمكن الرؤساء القدح في هذا وعيبه لكونه مستحسناً
عند العوام فجعلوا قدحهم وعداوتهم فيما آمر به من التوحيد
وما نهيتهم عنه من الشرك، ولبسوا على العوام أن هذا خلاف
ما عليه الناس، وكبرت الفتنة جداً، وأجلبوا علينا بخيل
الشيطان ورجله».
تشير الرسالة الى أن ابن عبد الوهاب لم يكن لديه نفوذ
ولا صاحب سلطة، في ظل وجود رؤوساء وأصحاب سطوة. ثم ما
يلبث ابن عبد الوهاب يكرر حديثه المعروف في التوحيد بنوعيه:
توحيد الربوبية وهذا لا يدخل صاحبه الاسلام ما لم يتواشج
مع توحيد الالوهية.
وكرر ابن عبد الوهاب مقولته السابقة
«واعلم أن المشركين في زماننا قد زادوا
على الكفار في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يدعون
الملائكة والأولياء والصالحين..». وأضاف في مكان
آخر: «وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه
هو توحيد العبادة الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد..».
بل يرى ابن عبد الوهاب بأن جهّال الكفار يعلمون معنى
لا اله الا الله أكثر من المسلمين، أو بالأحرى المصنّفين،
بحسب اعتقاده، في خانة المسلمين، وهو حسب اعتقاده «ما
أصبح غالب الناس فيه».
وعاد وكرر نفيه للتكفير بطريقة مواربة وقال «وأما التكفير
فأنا أكفّر من عرف دين الرسول ثم بعد ما عرفه سبه ونهى
الناس عنه، وعادى من فعله فهذا هو الذي أكفر..». وقال
بأن أكثر الامة ليسوا كذلك، ولكن كل ما ورد في رسائله
من أحكام بالتكفير تنفي هذه العقيدة لديه، بل إن قوله
«وأما القتال فلم نقاتل أحداً إلى اليوم
إلا دون النفس والحرمة وهم الذين أتونا في ديارنا ولا
أبقوا ممكناً..»، فإنه لا يصدق على الواقع، لأن
حديثه في الجهاد وغزواته التي تجاوزت في نجد وحدها المائتي
وخمسين غزوة خلال عشرين عاماً ليست دفاعية بل هي من باب
«جهاد الطلب».
|