الفيصل في موسكو بلا إغراءات
حرب الرياض ـ موسكو الباردة
ناصر عنقاوي
يروي بوغدانوف لمحادثيه في المنطقة، كيف
ان رئيس الاستخبارات السعودية السابق الامير بندر بن سلطان
قال حرفيا في موسكو: (نريد تدمير هذا النظام العلوي في
سوريا، حتى لو جرى تدمير سوريا). وحين سأله بوغدانوف:
(كيف كانت علاقتكم بالرئيس الراحل حافظ الاسد؟)، سارع
الامير السعودي إلى الاجابة: (كانت ممتازة، وكان رجلا
حكيما)، فقال له بوغدانوف: (إذاً المشكلة ليست في النظام
العلوي، بل مع الرئيس بشار الاسد نفسه).
سامي كليب، جريدة الأخبار،
13/12/2014
منذ سقوط الإتحاد السوفياتي قبل أكثر من عقدين، راوحت
العلاقات السعودية/ الروسية مكانها، مع ان الروس أنفسهم
افترضوا أن عقدة (الشيوعية) التي وصمت النظام القديم قد
تلاشت لدى السعوديين، وبالتالي لم يعد هناك مبرر لقطع
العلاقات التي استمرت منذ اواخر الثلاثينات، وحتى بداية
التسعينيات الميلادية الماضية.
الرياض لم تكن تحارب الاتحاد السوفياتي لأنه كان (شيوعياً)
(ملحداً)، وهي أيديولوجيا تصادم العقيدة الإسلامية التي
تزعم الرياض انها ايديولوجيتها ومحور شرعيتها. لو كان
الأمر كذلك، لما انقطعت العلاقات في الأساس من طرف السوفيات
أواخر الثلاثينات، ولما كانت هناك علاقات سياسية وتجارية
مع موسكو منذ منتصف العشرينيات الميلادية، وكان ممثل الروس
(حكيموف) متواجداً في جدة.. ولما كان فيصل (الملك فيما
بعد) يزور موسكو، ويعقد صفقة تجارية معها لجلب الكيروسين
الى الأراضي السعودية، وهي صفقة لم تكمل الرياض دفع ثمنها
حتى بعد انقطاع العلاقات!
القضية لم تكن يوماً إلاّ سياسية، وليست ايديولوجية،
وهذا ما لم يدركه الروس، خلفاء السوفيات، الا متأخراً
جداً.
فالسعودية حاربت الإتحاد السوفياتي تحت مسمّى محاربة
الإلحاد، كجزء من دور سياسي كانت تلعبه ضمن معسكر الغرب
ليس إلاّ، والذي تشكل حجراً اساسياً فيه. منذ اواخر الأربعينيات
الميلادية، استخدمت واشنطن الديانتين المسيحية والإسلامية
لمحاربة السوفيات تحت مسمى محاربة (الإلحاد الشيوعي)،
وكان الشرق الأوسط ساحته الأساس، لذا ظهر (حلف السنتو/
حلف بغداد) الذي جمع تركيا والعراق وايران وحتى الباكستان
لمنع التمدد السوفياتي. وظهر لنا الأمراء السعوديون بـ
(الحلف الإسلامي) الذي سيقاوم الشيوعية. ومنذئذ عُقدت
مؤتمرات لإنهاض الدين مقابل الشيوعية، فكان مؤتمر بحمدون
بلبنان، وقد دُعي اليه رجال الدين شيعة وسنة ومسيحيين،
وقد رفض كثير منهم الانخراط في المؤتمر لأن غايته معروفة،
وكتبَ احدهم (الشيخ كاشف الغطاء) كتاباً بعد ان رفض الدعوة:
(المُثُل العليا في الإسلام لا في بحمدون).
في السعودية جرى تنشيط المؤسسات الإسلامية لغرض محاربة
الشيوعية اسماً والاتحاد السوفياتي حقيقة وسياسة. وفي
مصر أيضاً جرت محاولات استنهاض الإسلام والمسيحية لذات
الغرض، ما دعا سيد قطب لأن يكتب في هذا الإتجاه، ويفضح
السياسة الغربية، ويسمّي الإسلام الذي تستخدمه السعودية
والغرب بـ (الإسلام الأمريكي) وهو أول من أطلق هذه الصفة
التي اصبحت دارجة بعدئذ في الصحافة.
بسقوط الإتحاد السوفياتي، افتتحت سفارة لروسيا في الرياض.
لكن العلاقات التجارية والإقتصادية لم تتطور، لأن الغرب
لازال ينظر بعين الحذر والرغبة في تدمير الفيدرالية الروسية
نفسها. ولأن السعودية تابع في السياسة، لم تستطع أو ترغب
في توسيع هامش تحالفاتها، وكل ما قامت به حتى الآن، مجرد
محاولات إغراء أولية فشلت في صنع علاقة متينة، يمكن الاستفادة
منها وقت الأزمة.
في عهد غورباتشيف، وعشية الحرب على صدام لإخراجه من
الكويت، تعهدت الرياض بإعطاء موسكو اربعة مليارات دولار،
من اجل ان لا تصطف الى جانب بغداد. ولا يعلم هل استلمت
موسكو شيئاً من ذلك المبلغ ام لا. لكن الأخيرة اكتشفت
مبكراً جداً خطر الأيديولوجية الوهابية عليها، في دول
آسيا الوسطى المستقلة حديثاً، حيث عمدت الرياض الى نشر
معتقدها هناك، الى حد تمويل جماعات مسلحة والتورط في انقلابات
عسكرية. وفي الشيشان، اكتشفت موسكو ان الرياض وحاشيتها
الدينية الرسمية، جزءً اساس من المعركة التي تخوضها ضد
الإنفصاليين الشيشان.
حاولت موسكو مراراً إنجاح بعض الصفقات التجارية مع
الرياض، ولكنها فشلت. حيث بقي الإهتمام السعودي محصوراً
في دول الغرب. وفي محاولة لكسب موسكو من اجل تضييق الخناق
على إيران اقتصاديا عبر مجلس الأمن، سايرت موسكو الرياض،
التي وعدت قبل بضع سنوات بعقد صفقة عسكرية قيل ان بندر
بن سلطان قد أبرمها بقيمة ثمانية مليارات دولار تتضمن
شراء اسلحة وطائرات هيلوكبتر، ثم جرى تناسي الصفقة ولم
تنفذ الرياض منها شيئاً بعد ان حققت ما تريد سياسياً.
أيضاً قدمت الرياض اغراءات اخرى لموسكو دون أن تنفذها
قبيل وبعد ظهور الأزمة السورية. بل أن حماقة بندر بن سلطان
جعلته يهدد الروس بمقاتلي القاعدة ليفجروا مدينة الألعاب
الأولمبية الشتوية في مدينة سوتشي الروسية، والتي تمت
في فبراير الماضي، ان لم تغير موسكو مواقفها من الأزمة
السورية، فما كان من موسكو إلا توجيه رسالة تهديد صريحة
للرياض إن هي شاركت في العبث بالأمن الروسي.
أواخر نوفمبر الماضي، زار سعود الفيصل موسكو والتقى
بنظيره لافروف، وقيل ان بوتين رفض مقابلته. الزيارة جاءت
في وقت كان الإيرانيون يسابقون الزمن مع نظرائهم الأميركيين
في فيينا من أجل حل أزمة الملف النووي الإيراني. رسالة
سعود الفيصل كانت واضحة: (ساعدونا في إبقاء القيود على
إيران؛ نساعدكم في سوريا). لم تكن هناك اغراءات مالية،
ولم تكن هنالك ثقة في سياسيي العائلة المالكة، والروس
لم يعودوا يطمعون في علاقة منافع مع الرياض، فانتهت زيارة
الفيصل الى الفشل، ونُقل عنه أنه شعر بالإهانة من بوتين
شخصياً الذي كان يلتقي مع بندر رئيس الإستخبارات، في حين
يرفض لقاءه هو.
والآن جاءت الضربة الأخرى لموسكو من الرياض، من خلال
إمعان الأخيرة في زيادة انتاجها النفطي للإضرار بها، وبطهران
أيضاً، وكأنها جزء من العقوبات الإقتصادية التي يشنها
الغرب على البلدين.
في كل الأحوال، فإن الرياض لاتزال تعيش حرباً باردة،
يتحكم في ترمومتر حرارتها الغرب نفسه. ومادام الأخير قد
فتح جبهة اوكرانيا ضد الروس، وأشعل أزمة أهلية في ذلك
البلد، قد تتصاعد، فإن الرياض لن تكون ـ وكما هي عادتها
ـ إلا جزءً من حرب المعسكر الغربي ضد خصومه.
|