السعودية أمام تحوّل تاريخي
انتهى وقت زرع الخراب، وبدأ عصر الحصاد المر
محمد قستي
نقول ان الرياض في مفترق طرق.
فهي أمام خيار مواصلة سياستها التقليدية التخريبية
في كل البلدان المنافسة او المعادية لها والرافضة للحوار
أو أنصاف الحلول.. أو خيار تغيير السياسات، وتخفيف وطء
الهزيمة وتقليص حجم الخسائر بشيء من الحوار والإنفتاح.
التعبير الأصدق هو ان الرياض تحصد اليوم ـ وربما دفعة
واحدة ـ نتائج زرعها البائس في كل المحاور والملفات السياسية.
لعلها تدرك اليوم ان الوقت المتبقي لإعلان هزيمتها
لم يعد بالسنين، وانما بالأشهر في أكثر الأحوال، ان لم
يكن بالأسابيع.
هل هو مفاجئ أن يعلن زعيم حركة انصار الله السيد عبدالملك
الحوثي عن اتصالات مع السعودية لمناقشة الوضع اليمني على
أسس متكافئة؟
أم هل هو مستغرب أن يوصل وزير الخارجية العماني يوسف
بن علوي للإيرانيين رسالة تقول بأن الرياض على استعداد
لمناقشة القضايا الأمنية والسياسية، وأن يُعلن ذلك على
الملأ؟
كيف هو شعور الرياض اليوم وهي تسمع وزير الخارجية الأميركي
جون كيري بأن بلاده (مضطّرة) للحديث مع الأسد من أجل التوصل
الى حل سياسي للأزمة السورية؟
وما عساها تقول وهي ترى قطر تتفلّت من جديد من اتفاق
الرياض الذي رعته لحل الأزمة مع مصر؟
الإتفاق النووي الإيراني، يرجح أن يوقّع قريباً، وهو
يعني أن الرياض قد أُسقط بيدها، فلا حربٌ شُنّت على طهران،
ولا حصار سياسي او اقتصادي يمنع من تغوّل نفوذها في المنطقة
على حساب الرياض.
حصاد الرياض المتوقّع مرٌّ حقاً.
في سوريا، ليس فقط لم يسقط الأسد، وأنما بدأ الغرب
يعيد النظر في كامل القضية السورية، ويفتح قنوات معه.
الرياض رفضت انصاف حلول للأزمة، ما أطال عمرها، ودفع المدنيون
ثمناً كبيراً لها. لم تكن الرياض تحبذ جنيف1 او جنيف2؛
وفرحت بتخريب أجنّة المفاوضات، وكان الشعار: لا مفاوضات
مع الأسد، لا حل للأزمة إلا بإسقاطه.
ولكن الى متى تستمر الحرب؟ اتّكأت الرياض على الرئيس
الفرنسي هولاند لتحقيق أمرين: تخريب المفاوضات المقترحة
روسيا وأمريكياً في جنيف او موسكو او غيرها؛ والآخر تمويل
شراء أسلحة (فتّاكة بالتعبير الغربي) لتصطاد الدبابات
السورية وصواريخ تسقط الطائرات، فعلت ذلك هي وقطر، وكان
دور تركيا حاضراً كموصّل ومنظّم.
الآن ماذا ستقطف الرياض؟ لقد اضطرت الى حرب ربيبتها
داعش، وتحاول ان لا يصل اضطرارها الى حرب النصرة، وماذا
بقي من المعارضة السورية ان ذهب القواعد والدواعش؟ ما
هو النفوذ الذي ستحصل عليه في بلد تخلّت عن أهله وعن مهجّريه
وربما في المستقبل القريب عن معارضيه؟ كيف سيكون شكل سوريا
التي كان للرياض كلمة مسموعة فيها بعد أن تتوقف الحرب؟
وهل حققت الرياض غايتها ـ إن لم يكن بإسقاط نظام الحكم
ـ فعلى الأقل بإضعاف إيران ونفوذها؟
كل الدلائل تشير الى خسارة فادحة للرياض من أي حل سلمي
في سوريا.
في العراق اضطرت الرياض الى تغيير شيء من سياستها.
اثنا عشر عاماً مرت على سقوط صدام حسين ونظامه الذي ساهمت
الرياض فيه بحصّة كبيرة. كل دول العالم فتحت سفاراتها
في بغداد، ما عدا الرياض والدوحة! حصار العراق سياسيا
واقتصاديا وتوجيه القاعديين السعوديين وغيرهم للقتال والذبح
فيه، شارف على النهاية أيضاً.
كان بإمكان الرياض ان تكسب الكثير، فقد كان معظم الساسة
العراقيين ومن مختلف الاتجاهات يطلبون ودّها؛ وكان نفوذ
الرياض محفوظاً لو انتهجت سبيل الاحتضان والسلم والمصالحة
لا تأجيج الفتن والإرهاب. اليوم الحال تغير في العراق،
فهناك اجماع بأن ازمته الأمنية بالذات جاءت من المملكة.
ليس للرياض حظوة لا عند الأكثرية، ولا عند الأقلية التي
تم استخدامها في حريق معارك الرياض الإقليمية.
تنظر الرياض بألم الى مآل سياساتها الفاشلة، فلا ترى
أنصاراً، وما يؤلمها أكثر بأن أخطاءها ليس فقط أفقدتها
النفوذ السياسي الذي كان محفوظاً لها بين العراقيين، بل
انقلب الى عداء، وأن تقليص النفوذ الايراني الذي كان حجّة
السعودية في ارهابها وشنائعها، ازداد اتساعاً؛ وبدلاً
من جعل العراق حربة في خاصرة ايران، اصبح حليفاً استراتيجياً
لها بكل مكوناته الكردية والشيعية والسنيّة.
معركة السعودية في العراق شارفت على النهاية بنهاية
داعش. لا رهان للرياض إلا على داعش والتخريب والقتل، وقد
آن أوان نهايته.
في البحرين، حيث الذكرى الرابعة لتدخل القوات السعودية
لحماية حكم آل خليفة، استطاعت الرياض ان تمنع سقوط النظام،
ولكنها لم تفعل شيئاً لحل الأزمة. فالمعارضة البحرينية
ممثلة في (الوفاق) لم تكن تستهدف (الإسقاط) وانما الحل
السياسي. والرياض أصرت على أن لا تنازل ولا حل الا الحل
الأمني، واختطفت القرار البحريني الرسمي بفعل قواتها على
الأرض، وحاجة النظام الخليفي الى الدعم المالي والسياسي
والإعلامي. لكن الأزمة البحرينية طالت هي الأخرى، واضطراب
البحرين يبقي الأزمة في المنطقة الشرقية النفطية السعودية
قائمة، أو لا يساعد ال سعود في إخمادها.
ما بعد الإتفاق النووي ستتغير الأوراق، وسيجبر الأميركيون
الرياض وآل خليفة على القبول بـ (حل سلمي) و (نصف ديمقراطي).
حاول الإيرانيون ان يتفاهموا مع الرياض حول الأمر، ولكن
حين التقى مصلحي وزير الداخلية بالأمير نايف، قال الأخير
ان الحل للأزمة البحرينية سهل يسير وهو: ان يعود المتظاهرون
الى منازلهم!
وكان بإمكان آل خليفة أن يجروا حواراً معقولاً مع المعارضة،
ولكنهم اصروا على التلاعب بالوقت ـ شأن حلفائهم السعوديين
ـ ظنا ان الوضع الاقليمي سيكون لصالحهم وبالتالي لا داعي
لتقديم تنازلات لشعبهم. الآن الوضع الاقليمي انقلب في
غير صالحهم، وقادة المعارضة في السجون، وسمعة البحرين
في الحضيض، وليس هناك من متسع للنقاش داخل البحرين عن
حلول سياسية؛ ولا تستطيع الرياض الآن إلا أن تقبل بما
ستسفر عنه المفاوضات الايرانية الأميركية التي ستلي حلحلة
الملف النووي.
في اليمن، أعلنت الرياض حربها على المكوّن الزيدي،
لم تكن حرباً مذهبية فحسب، بل حرباً سياسية واعلامية،
وأخيراً عسكرية. لم تكن للرياض أية مبررات لتلك المعركة
والتي لاتزال متواصلة حتى اليوم. وحين سيطر الحوثيون على
الوضع، أسقط بيد الرياض، خسرت القبائل التي انحلّت بانحلال
آل الأحمر؛ وخسرت الإخوان/ حزب الاصلاح لصالح الداعم الجديد
قطر؛ وخسرت علي عبدالله صالح الذي كان حليفها لنصف قرن،
وراحت تشنّع به وتتهمه بكل ما اقترفته هي من أخطاء وجرائم.
وزيادة على ذلك لم يبق من رؤوس الدولة من له سلطة أو يستطيع
ان يفيدها بالوقوف معها. وضعت الرياض شروطاً مستحيلة التحقيق،
واساءت فهم الخصم، وخسرت المعركة والنفوذ، ولا يوجد امامها
سوى ان تحاور خصمها العنيد وتعترف به، وتعيد النظر في
كامل سياستها. هذا هو حصادها المر على مدى نصف قرن من
نفوذها في اليمن.
هناك حصاد مرّ آخر لسياسة الرياض، فخيبة أملها من الأصدقاء
لا تقلّ عن خيبتها إزاء الخصوم.
الرياض شديدة الإمتعاض من سياسة واشنطن، ومن شخص اوباما،
لم تعد تثق ما اذا كانت الولايات المتحدة (حامية) لمُلك
آل سعود، أم (مقوّضة) له؟ عموماً فإن (الحامي) يمكن له
أن يقلب دوره الى (مدمّر) أيضاً، تبعاً للمصالح، فهل اصبحت
الرياض مستهدفة من قبل حلفائها على خلفية تمويل الارهاب،
أم أصبح الغرب زاهداً بالرياض بعد أن بدأت بفقدان مكانتها
الاستراتيجية لصالح ايران؟ هذه الأسئلة تشغل بال الأمراء،
وهم لا يملكون جواباً. والبدائل لديهم ليست متوفرة، فلطالما
بحثوا عن حماة (الانجليز سابقاً والأميركيون لاحقاً)؛
وحين أرادوا إثبات (سعَة) خياراتهم، جاؤوا بالباكستانيين
العسكريين (ثلاثين ألفاً!).
وكما حصاد ال سعود مُرّ على الصعيد الخارجي، فإن حصاداً
مرّاً آخر ينتظرهم في الداخل، ولو بعد حين.
فما أكثر اخطاءهم الداخلية؛ وما أشدّ صلفهم ورعونتهم
وتماديهم في الغيّ والباطل والظلم! وما أقبح فسادهم!
من يفعل مثل فعلهم، عليه أن يخشى على مصيره حقاً.
|