مؤرّخو الوهابية.. عثمان بن بشر
الغزو أساس المُلك - 1
سعد الشريف
قلة، إن وجدت، من تعرّض بالتأمل والتحليل في السيرة
السعودية ـ الوهابية في مرحلتها المبكّرة، حسبما كتبها
المؤرّخون المقرّبون منها أمثال ابن بشر وابن غنّام. وفيما
يدوّن هؤلاء تفاصيل تلك السيرة بزخم معنوي مصحوب بمستوى
مرتفع من الزهو، فإن حقائق كثيرة طبعت تلك الكتابة التأريخية،
لاعتقاد أصحابها بأنها جديرة بأن تبقى كما هي لأنها سيرة
المنتصرين و"الفاتحين". ولأنها سيرة جماعة عقدية ترى في
نفسها التجسيد المادي للحقيقة الدينية، فإن كل ما يقال
عن معاركها مهما بلغت من بشاعة، يصبح مباحاً وربما أكثر
من ذلك..
ومن بين مؤرخي السيرة السعودية ـ الوهابية، يعد الشيخ
عثمان بن عبد الله بن بشر الأبرز، الى جانب الشيخ حسين
بن غنّام (الذي سنأتي على قراءته كتابه في وقت لاحق) والأقرب
الى تلك المرحلة زمنياً ومكانياً وعقدياً. فالرجل من نجد
ومن قبيلة بني زيد، ومن بلدة جلاجل من بلدان سدير بنجد
وتربى على يد أحد أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
تتبّع إبن بشر تفاصيل المعارك السعودية ـ الوهابية
بحسب السنوات، وأورد تفاصيل كثيرة، تكتسب في الغالب أهمية
خاصة. بدون ريب، يقدّم ابن بشر رواية غير محايدة، فهو
ينتمي الى الوهابية ويرى في أفعال أتباعها واجبات دينية،
بل يرى في الوهابية نفسها مشروعاً تجديدياً في سياق حركات
التجديد التي تنعقد وفق الرؤية الدينية على رأس كل قرن.
فهو يحمد الله في مقدّمة كتابه (عنوان المجد في تاريخ
نجد) : «الذي جعل لهذه الأمة من يجدّد لها دينها ويحيي
سنن نبيها، فينفذ الحق ويرعاه ويجلو عن دينه درن الشرك
والبدع المضلة وحماه. ويقرر لها التوحيد وكلمة لا إله
الا الله..» ص 25.
كتاب ابن بشر (عنوان المجد في تاريخ نجد) يعد مصدراً
أساسياً لمن أراد التعرّف على تفاصيل مرحلة تاريخية بالغة
الخطورة في منطقة نجد خصوصاً والجزيرة العربية على وجه
العموم. الكتاب الذي بين يدينا هو من تحقيق وتعليق عبد
الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ، من أحفاد
مؤسس المذهب الوهابي، وقامت دارة الملك عبد العزيز بالرياض
بطباعة الكتاب عدّة طبعات، ونحن بصدد اعتماد الطبعة الرابعة
الصادرة سنة 1982. ونشير الى أن الكتاب طبع أول مرة في
الهند بعنوان آخر (علو المجد)، ثم جرى تنقيحه لاحقاً لما
يحتوي عليه من أدلة إدانة ضد الوهابية وما ارتكبه أتباعها
في قرى نجد، كما طبع في مصر في الربع الأول من القرن الماضي..وبالرغم
من محاولات التنقيح الا أن ما دوّنه ابن بشر يصعب على
أكثر البارعين إزالة الكتلة الكبرى من المحتوى الارهابي
للتجربة الوهابية..
يقول المحقق في سياق تقريضه لكتاب ابن بشر: «هو المصدر
الوحيد لما وقع في نجد من الحوادث التاريخية ـ منذ فجر
النهضة الاصلاحية وظهور الدعوة السلفية الى ما قبل وفاة
الإمام فيصل بن تركي بن عبد الله بن محمد ابن سعودج بخمس
عشرة سنة..»(ص11). ويرجع المحقق السبب في نيل الكتاب تلك
الحظوة «لأنه خصّص هذا الكتاب لتاريخ الدعوة السلفية وبدء
ظهورها وذكر الجهاد والغزوات اتي حصلت بين ولاة دعوة التوحيد
السلفية من ملوك آل سعود الكرام، وخصوم هذه الدعوة وجعل
السوابق زائدة على هذا الغرض وخارجة عن هذا القصد»(ص 11).
وفي تقييمه للمؤلف ـ ابن بشر، قال المحقق ـ آل الشيخ،
عنه بأنّه «عدل ثقة صادق الرواية واسع الإطّلاع ولا أدل
على صدق روايته من اتفاقه مع ثقات مؤرخي زمنه في جل ما
يرويه» ص 11.
وحين نبدأ في قراءة الرواية التاريخية التي سجّلها
ابن بشر، نجد أنفسنا أمام عالم آخر يرتد بنا الى الماضي،
الى حيث الأيام الأولى لنزول الوحي على رسول الله صلى
الله عليه وسلم. هنا تبدو عملية الاقتباس، والاسقاط، وتقمّص
الأدوار، والاستلهام المشوّه للفعل الرسالي. فاسترشاداً
بالتجربة الأولى للصحابة لبدء تاريخ المسلمين فكانت هجرة
الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة الى المدينة يقول ابن
بشر: «ثم إن هذا الدين الذي منّ الله به في آخر هذا الزمان
على أهل نجد بعدما كثر فيها الجهل والضلال والظلم والجور
والقتال، فجمعهم الله بعد الفرقة وأعزّهم بعد الذلّة،
وأغناهم بعد العيلة، فجعلهم إخواناً فأمنت السبل، وحييت
السنن، وماتت البدع، واستنار التوحيد بعدما خفا ودرس،
وزال الشرك بعدما رسى في البلاد وغرس، وطغت نيران الظلم
والفتن، ورفعت مواد الفساد والمحن ونشرت راية الجهاد على
أهل الجور والعناد..وذلك بسبب من عمت بركة علمه العباد
وشيّد منار الشريعة في البلاد وقدوة الموحدة ...الخ ص
27
بدأ ابن بشر كتابه بسيرة محمد بن عبد الوهاب، إذ تظهر
الرواية العقدية للتاريخ، ومن بين ما قال: «وكان الشرك
إذ ذاك قد فشى في نجد وغيرها، وكثر الاعتقاد في الاشجار
والأحجار والقبور والبناء عليها والتبرك بها والنذر لها،
والاستعاذة بالجن والنذر لهم..وغير ذلك من الشرك الأكبر».
ص 33 ـ 34.
هذا ليس مجرد توصيف عقدي لواقع نجد، بل هو رؤية تمهيدية
تبريرية لما سوف يأتي من وقائع. ينقل عن ابن عبد الوهاب
بعد انتقاله الى الدرعية ولقائه بمحمد بن سعود قوله: «وأنت
ترى نجداً كلها وأقطارها أطبقت على الشرك والجهل، والفرقة،
والاختلاف والقتال لبعضهم بعض» ص 41. إذن، فالرؤية الكونية
تؤسس لحركة تغيير تستهدف نجد المجتمع والمكان، وهنا تصبح
المعادلة مختلفة تماماً عمّا يقال عن أن ظاهرة الشرك تطبق
على نجد وأريد تحويلها الى ظاهرة إيمانية..ولكن لأن العصبية
تتطلب الوصول الى أقصى ما يمكن أن تصل اليه المبالغة في
تصوير الواقع من أجل تسويغ الانفصال عنه واعتزاله في المرحلة
الأولى ثم الانقلاب عليه والصدام معه في المرحلة الثانية،
فإن محمد بن عبد الوهاب كان بحاجة الى رؤية راديكالية
اقتلاعية تبرر عزلته للمجتمع وصوغ المجتمع المضاد أو البديل.
في سنة 1157هـ هاجر الى محمد بن عبد الوهاب أصحابه
الذين بايعونه في العيينة ومنهم من هم رؤوساء المعامرة
المخالفين لعثمان بن معمر فتزايد المهاجرون إليه من كل
بلد لما علموا استقراره وأنه في دار منعة ص43. يعلّق ابن
بشر بأن عثمان بن معمر علم بأن «الدرعية صارت دار هجرة»..»(ص43).
ولما كثر المهاجرون عند الشيخ إبن عبد الوهاب ضاق بهم
العيش وشدة الحاجة وابتلوا في ذلك أشد بلاء، فكانوا بالليل
يحترفون ويأخذون الأجرة، وفي النهار يجلسون عند الشيخ
في درس الحديث والمذاكرة (ص 43).
كان العامل الاقتصادي دافعاً قوياً لاعلان القتال،
أو الجهاد، فجعل من مقاتلة ونهب الخصوم مهمة دينية، الأمر
الذي قطع دابر النزاع الداخلي على مستوى الفرد والجماعة
بأن ما يقومون به ليس مكافئاً لما يفعله بقية المقاتلين
من أبناء القبائل الأخرى المتناحرة. كاتب الشيخ بن عبد
الوهاب أهالي البلدان القريبة والبعيدة وخاطب رؤوسائهم
وقضاتهم فمنهم من قبل ومنهم من رفض ..ثم أمر بالجهاد «لمن
عادى أهل التوحيد وسبّه وسبّ أهله، وحضهم عليه فامتثلوا،
فأول جيش غزا سبع ركايب، فلما ركبوها وأعجلت بهم النجايب
في سيرها سقطوا من أكوارها لأنهم لم يعتادوا ركوبها، فأغاروا
أظنه على بعض الأعراب فغنموا ورجعوا. ص 45 ـ 46.
ويظهر من أول غزوة أن السبب كان اقتصادياً، وقبل أن
يصل «المؤمنون» الجدد الى مستوى عالي من الجهوزية القتالية،
فكانوا مدفوعين بالعوز والحاجة الى سد الرمق.. وكانت أوضاع
أتباع الشيخ مزرية، وكما يقول ابن بشر «كان الشيخ لما
هاجر إليه المهاجرون يتحمّل الدين الكثير في ذمته لمؤنتهم
وما يحتاجون إليه، ولحوائج الناس وجوايز الوفود اليه من
أهل البلدان والعربان..» ص 46
تفيد رواية ابن بشر أن الشيخ ابن عبد الوهاب كان هو
الآمر والناهي، ومن يحل ويعقد «فكانت الاخماس والزكاة
وما يجبى الى الدرعية من دقيق الأشياء وجليلها، كلها تدفع
اليه، يضعها حيث يشاء، ولا يأخذ عبد العزيز ـ إبن محمد
بن سعود ووريثه على العرش ـ ولا غيره من ذلك شيئاً الا
عن أمره، فبيده الحل والعقد، والاخذ والإعطاء، والتقديم
والتأخير، ولا يركب جيش ولا يصدر رأي من محمد وعبد العزيز
الا عن قوله ورأيه..»، واستمر الحال كذلك الى حين فتح
الرياض، وحينذك «جعل الشيخ الأمر بيد عبد العزيز وفوض
أمور المسلمين وبيت المال إليه، وانسلخ اليها بالكلية
ولزم العبادة، وتعليم العلم، ولكن ما يقطع عبد العزيز
أمراً دونه ولا ينفذه الا بإذنه» ص 46 ـ 47
وفيما يبدو، فإن الشيخ محمد إبن عبد الوهاب تولى إدارة
الشؤون السياسية والدينية في الدولة السعودية لحاجة الأمراء
اليه في المرحلة التأسيسية، فكان هو المعني بتوحيد السلطة
ومركزتها في هذه المرحلة. ويذكر ابن بشر في حوادث سنة
1158هـ أو التي بعدها «بايع عثمان بن معمر الشيخ محمد
بن عبد الوهاب على الإسلام والجهاد في سبيل الله..». ص
48. فكان الشيخ موكل بنشر الدعوة الوهابية طوعاً أو كرهاً،
كونها الأيديولوجية المشرعنة للدولة السعودية والهوية
التي تطبعها. يقول ابن بشر «ولمّا منّ الله سبحانه بظهور
هذه الدعوة وهذا الدين، واجتماع شمل المسلمين، واشراق
شمس التوحيد على أيدي الموحدين، أمر الشيخ بالجهاد لمن
أنكر التوحيد من أهل الإلحاد..» ص 48.
لا بد من الاشارة الى أن بشر حين يستعمل وصف «المسلمون»
فهو يقصد أهل دعوة محمد بن عبد الوهاب، كون غيرهم ليسوا
كذلك.. كقوله في المواجهات بين العيينة والدرعية «أن محمد
بن سعود خرج من الدرعية بمن عنده من المسلمين ..»، و»قُتِل
من المسلمين..» ص 53. ولربما عمدت أيدي المنقّحين الى
تغيير بعض الكلمات ذات الدلالة العقدية، فاستبدلوها بغيرها
فبدلاَ من غزا المسلمون صارت في بعض المحطّات صار أمير
الغزو، ولكن في سياق الحديث تبدو واضحة أن المقصود هو
ذات الجماعة التي حملت على عاتقها مهمة اجتياح المناطق
وفرض أجندته العقدية ووضع اليد على ممتلكات الناس..
بحلول عام عام 1160 بدأت سلسلة من الوقائع والغزوات
التي جرّدها الشيخ ابن عبد الوهاب والحكّام السعوديين،
ومنها وقعة دلقة حيث خرج أهل العيينة والدرعية ومنفوحة
في ربيع الأول من نفس العام باتجاه الرياض، وانفلت رجل
من أهل حريملاء يقال له أبو شيبة فأنذر دهام بن دواس «فلم
يهتم المسلمون الا وهم مستعدون، فصبحهم المسلمون في جوف
فلذا سميت وقعة دلقة، فاقتتلوا فتالاً شديداً، والتقى
دهام هو وحمد بن محمد بن منيس، وكان فاتكاً..» ص 54
وهنا تبدو الغارة بلا أهداف دينية، فلا حديث عن عرض
للدعوة على أهل الرياض، بل جيء بالمحاربين ليدهموا المدينة
ومقاتلة أهلها.
وفي عام 1161 قاد عثمان بن معمر وقعة البنية: «فسار
بالمسلمين من أهل العيينة وحريملاء ومعه عبد العزيز بن
محمد بن سعود بأهل الدرعية، وقراها وأهل ضرما، وقصد الرياض،
فأتوها من شرقها يمشون في وادي الوتر..وأصيب من أهل الرياض
سليمان بن حبيب وأناس معه، ودخل قلوبهم الرعب، وقتل من
المسلمين عبد الله بن عبيكة وابن عقيل». ص 56
فلما كان آخر اليوم «سار المسلمون الى منفوحة، وأقاموا
بها ثلاثة أيام يديرون الرأي في أمرهم، فاتفق رأيهم على
السير الى الرياض» فساروا اليها وافترقوا فرقتين ودخلوها
بالقتال الشديد..وقصد أهل حريملاء وأهل عرقة الى مقرن
ودخلوه، واجتمعوا فيها عند قصر دهام فاقتتلوا ساعة فخرج
أهل حريملاء ومن معهم منهزمين، وقتل منهم نحو خمسة وعشرين
رجلا ثم ظهر دهام ومن معه وقصدوا من كان في صياح من المسلمين
وهم متفرقون في البيوت والنخيل، وجاءهم بغتة، فحصل قتال
شديد وانهزم المسلمون، وقتل منهم نحو من عشرين ومن أهل
حريملاء خمس وعشرين...ولما خرج المسلمون من البلاد اجتمعوا
خارجها فهدموا جدران البنية والمربعة والمبنية وقصدوا..
بلدانها..ص 57
ليس هناك ما يمكن اعتباره استثناءً، فهي معركة خالصة
بأهداف عسكرية، لم تعرض رسالة وأهداف الدعوة، ولم يدع
الناس لاعتناق المذهب الجديد، وإنما هي الحرب بأهدافها
المعروفة. يتحدث ابن بشر عن وقعة البطين عام 1161هـ ويقول:
«وهي وقعة عظيمة بين المسلمين وأهل ترمدا ـ وذلك أن عثمان
بن معمر سار بأهل العيينة وحريملاء، وعبد العزيز بأهل
الدرعية وقراها وأهل ضرما، والأمير على الجميع عثمان..وقتل
منهم سبعين رجلا من أشرافهم (ص58). ويتحدث عن أحوال سنة
1161 هـ ويقول: «وفيها غزا المسلمون بلد ثادق وجعلوا لهم
كميناً فأخذوا أغنامهم وقتل من أهل البلد ستة رجال منهم،
محمد بن سلامة..ص 59
وسوف نجد السلب والنهب من الأهداف الثابتة للغزوات
السعودية الوهابية، حتى لا تحكاد تخلو غزوة من هذه الأهداف.
ففي حوادث سنة 1162 يذكر ابن بشر وقعة الحبونية حيث هدمت
جدرانها، وفي التفاصيل «أن المسلمين ساروا الى الرياض
والأمير محمد بن سعود، فوصل اليها وقت الصبح..فقتل من
أهل الرياض سبعة رجال، وقتل من المسلمين ثلاثة...» ثم
يقول «دخل المسلمون منفوحة، ثم صار عدة وقعات صغار بين
أهل الرياض وأهل الدرعية» (ص 59).
وفي حوادث سنة 1163 قتل عثمان بن معمر وسبب قتله كما
يقول ابن بشر: «لما تبيّن منه موالاة أهل الباطل، وإذلال
من عنده من المسلمين وتقريبه لأعدائهم، واشتهر منه الشقاق
والخلاف، وتحقق عند الشيخ ذلك منه..». وأهل الباطل ليسوا
سوى خصوم ال سعود وال الشيخ. وفي التفاصيل، أن أهل العيينة
جاءوا ابن عبد الوهاب وطلب البيعة من أربعة منهم وخشي
عثمان بن معمر على نفسه ولما فرغت صلاة الجمعة وخرج عثمان
قتل في المسجد وجاء محمد بن عبد الوهاب الى العيينة خشية
الفوضى وذلك بعد ثلاثة أيام من مقتله ص ص 59 ـ 60.
وفي العام نفسه حدثت وقعة البطحاء ووقعة الوطية، وفي
عام 1164هـ اقتتل أهل الدرعية والرياض. ونلحظ بأن الرياض
كانت تتعرض للغزوات السعودية الوهابية في كل عام، ولمرات
عديدة في العام الواحد، وكأنها كانت النقطة الفاصلة في
التجربة السعودية الوهابية حتى أن ابن عبد الوهاب تخلى
عن دور الحاكم المطلق الديني والزمني بعد أن سيطرت قواته
على الرياض..
ويذكر ابن بشر في حوادث سنة 1165 «غزا المسلمون الخرج
وأميرهم مشاري بن معمر ـ الذي عينه محمد بن عبد الوهاب
في العيينة بعد مقتل عثمان بن معمر ـ وأخذوا أغناماً لأهل
الدلم، وانقلبوا بها ولحقهم الطلب، فوقع القتال بينهم
في عفجة الحاير، والمسلمون نحو من أربعين رجلاً، والطلب
نحو المائة..ص65. وفي هذا العام «قام أناس من رؤساء بلدة
حريملاء وقاضيهم سليمان ابن عبد الوهاب ـ شقيق محمد بن
عبد الوهاب ـ على نقض عهد المسلمين ومحاربتهم، واجمعوا
على ذلك وعزلوا أميرهم محمد بن عبد الله بن مبارك وأخرجوه
من البلد، وكان الشيخ قد أحس من سليمان أخيه إلقائه الشبه
على الناس وغير ذلك، فكتب إليه الشيخ ونصحه وحذره شؤون
العاقبة، فكتب الى الشيخ وتعذّر منه، وأنه ما وقع منه
مكروه وأنه ان وقع من أهل حريملاء ردة أو مخالفة لا يقيم
فيها ولا يدخل فيما دخلوا فيه.. ص 65.
وكان سليمان بن عبد الوهاب قد نسب إليه كتاب يرد فيه
على أخيه محمد بن عبد الوهاب وأطلق على الكتاب عنوان (الصواعق
الالهية في الرد على الوهابية) ولعل التسميّة استعملت
بعد موت المؤلف. أما القول بأنه رجع عن موقفه من أخيه
في وقت مبكر فإننا سوف نلحظ بأنه في مرحلة لاحقة وفي أواخر
حياته هرب من قريته بعد اجتياحها من قبل القوات السعودية
الوهابية ولم يجد ملاذاً الا بعد أن حصل على الأمان من
أخيه، الأمر الذي يلفت الى أن الرجل تمسّك بموقفه حتى
آخر حياته وأن هروبه ينم عن مخاصمة وليس عن تصالح مع عقيدة
أخيه..
يواصل ابن بشر سرد وقائع السنوات، ويذكر بأنه في سنة
1166 «نقض أهل منفوحة العهد وحاربوا المسلمين وطردوا إمامهم
محمد بن صالح وهاجر منهم الى الدرعية في يوم سبعون رجلاً»
ص 66. وفي ذلك إشارة الى أن الوهابية لم تكن تحظى بترحيب
الأهالي، بل تمثّل تلك الواقعة بادرة تمرّد على الوهابية
ودعاتها وأتباعها..وسوف نلحظ في مرحلة لاحقة كيف أخذ التمرّد
شكلاً واسعاً وراديكالياً. وفي حوادث سنة 1167 نلحظ أن
دهام بن دواس حاكم الرياض في الفترة ما بين (1737 - 1773)
والذي خاض حروباً طويلة مع القوات السعودية الوهابية،
عرض على محمد بن سعود هدنة. يعلّق ابن بشر على حوادث هذه
السنة ويقول :»وفيها تضجر دهام بن دواس من الحرب بينه
وبين المسلمين وطلب من محمد بن سعود المهادنة والدخول
في الدين وتجري عليه أحكام المسلمين، فطلب عليه الامام
محمد خيلاً وسلاحاً فبذل له ما طلب وطلب منه أيضاً أن
يرسلو لايه معلما يحقق لهم التوحيد، ويقيم شرائع الاسلام..ص
67.
فالهدنة لم تكن بدون ثمن، بل الى جانب الخضوع تحت سلطة
الحكم السعودي الوهابي، فرض عليه بذل الخيل والسلاح، فيما
أرسل له دعاة يتولون زرع عقيدة الولاء للحكم الجديد..
وفي هذا العام حدث ما يلفت الانتباه، ويضيء على من
يقول أن سليمان بن عبد الوهاب تراجع عن موقفه من أخيه
في بداية الدعوة. فقد كتب ابن بشر بأن سليمان بن عبد الوهاب
كتب إلى أهل العيينة رداً على أخيه محمد بن عبد الوهاب
وبعث به مع رجل يدعى سليمان بن خويطر ولما قدم بلد حريملاء
خفية وهي حرب، وانكشف أمره لدى محمد بن عبد الوهاب وأن
ابن خويطر قدم العيينة بكتاب يرد فيه سليمان بن عبد الوهاب
على دعوة أخيه، أمره محمد بن عبد الوهاب بقتل ابن خويطر
فقتل. يضيف ابن بشر «وأرسل الشيخ الى أهل العيينة رسالة
في تبطيل ما لبس به سليمان على العوام وأطال فيها الكلام
من كتاب الله وسنة نبيه» ص 68. وفي هذا العام قتل السيايرة
في ضرما بأمر من محمد بن عبد الوهاب رغم جهل حالهم ولكن
بتحريض من بعض اتباعه وظنون منهم فقال «فإن كنتم تحققتم
ذلك منهم فأمضوا فيهم بعلمكم فمضوا عليهم فقتلوا صبراً»
ص 68 ـ 69.
وفي سنة 1168 فتحت بلد حريملاء عنوة وقتل من أعوان
البلد كثيرون وهرب سليمان بن عبد الوهاب ماشياً ووصل الى
سدير سالماً، وقتل من الغزو نحو ثمانية رجال..»وهاجر من
منفوحة أناس كثير للدرعية» ص ص 71 ـ72. وهنا يتأكد أن
سليمان بن عبد الوهاب كان حتى هذا العام على خصومة عقدية
مع أخيه محمد بن عبد الوهاب. وفي حوادث سنة 1170، وقعة
الرشا (والرشا حاجز للسيل عند منفوحة)، وذلك أن عبد العزيز
بن محمد بن سعود سار بالقوات الى منفوحة فدخلوا دوراً
من البلاد فأخذوا في هدم الرشا. ففزع علهم دهام بن دواس
وجنود، والمسلمون يهدمون فيه فاقتتلوا قتالاً شديداً.(ص
74). فالعقوبة لا تقتصر على القتل فحسب بل تشمل أحياناً
كثيرة الهدم، هدم البيوت والقصور والجسور وغيرها.
وفيها وقعة القراين البلد المعروفة في الوشم وذلك أنه
اجتمع أهل منيخ وسدير والوشم وساروا الى بلد شقرا. ونتوقف
هنا عند توصيف ابن بشر لأهل شقرا «أهل سابقة في الدين،
وأول من بايع وساعد المسلمين» وما يحمل التوصيف من دلالة
عقدية، كونه يعد من سبقهم كفّاراً ومن عاصرهم ولم يلحق
بدعوتهم كذلك، فصار قتالهم مشروعاً. فنازلوهم مقاتلو منيخ
وسدير والوشم وناوشوهم القتال، فبلغ محمد بن سعود الخبر،
فنهض اليهم ابنه عبد العزيز في من معه من الجنود، وأرسل
الى اهل شقرا يخبرهم بذلك، وواعدهم على عدوهم وكمن كمياً،
وقال لأهل شقرا ناشبوهم القتال، فناشبوهم، ثم خرج عليهم
الكمين فانكسرت تلك الجنود، وانهزموا الى بلد القراين
فقتل منهم في الهزيمة خمسة عشر رجلاً..وحصروهم في القراين
عشرين يوماً .ص 74 ـ 75.
وفيها وقعة باب القبلي في الرياض ، وفي تفاصيلها: «أن
عبد العزيز سار بمن معه من المسلمين، فنزل باب القبلي
في الرياض، ورتب الكمين بالليل، فلما أصبحوا خرج إليهم
أهل الرياض، وتلاحم القتال، فخرج الكمين عليهم، وانهزموا
الى الباب، وتضايفوا فقتل من أهل الرايض ثمانية..» (ص
75). وفي العام نفسه سار محمد بن عبد الله أمير ضرما «ومعه
شرذمة من المسلمين الى الوشم،» حسب ابن بشر فصادف في طريقه
غزواً للصمدة من آل ظفير وهم كثير فانهزم محمد بن عبد
الله ولحقهم الغزو وأخذوا منهم رجالاً، فافتدوا منهم..
وفيها سار عبد العزيز الى أشيقر وخرج اليها أهلها فحصل
بينهم قتال وانهزموا الى بلدهم، وقتل منهم أربعة رجال
ص 75. وفيها غزا عبد العزيز وقصد ثادق «فنازلهم، وقطع
منها نخيلاً، وقتل عليهم ثمانية رجال، وقتلوا عليه ثمانية..».ص
76
ويستكمل في غزوات هذا العام سوق عبد العزيز «جنود المسلمين»
الى جلاجل القرية المعروفة في سدير، فنازل أهلها، في الموضع
المعروف بالعميري، شمال البلاد فناوشهم القتال، ثم رجع
فأناخ في سدير، واستلحق معه قضاتهم ..ص 76. وفي أواخر
حوادث هذا العام، غزوة عبد العزيز للرياض التي باتت هدفاً
دائماً كما أسلفنا. ويذكر في حوادث سنة 1171 وقعة البطيحا
في ثرمدا وفيها «فقتل من المسلمين في تلك الواقعة نحو
من ثلاثين رجلاً، وقتل من أهل ثرمدا ثمانية رجال..ص 77.
كما غزا عبد العزيز سدير وعدا على جلال وأخذ سوارح غنمهم
وحصل بينهم قتال فقتل منهم ستة رجال ص 78.
وفي سنة 1173 «سار عبد العزيز بجنود المسلمين الى جهة
منيخ فواقع أهل المجمعة وحصل بينهم مناوشة قتال فقتل من
أهل المجمعة علي بن دخان وأربعة رجال غيره وعقروا عليهم
كثيراً من الدواب، ثم غزا عبد العزيز الى الخرج، فأوقع
بأهل الدلم وقتل من أهلها ثمانية رجال، ونهبوا بها دكاكين
فيها أموال، ثم غاروا على بلد نعجان، فخرج إليه أهلها
فكسرهم، وقتل منهم عودة بن علي ورجع الى وطنه ص 82.
ولنتأمل في هذه الواقعة، وهي ليست الوحيدة بل تمثّل
نموذجاً يتكرر في وقائع عسكرية أخرى مشابهة، بأن يغزو
الجنود السعوديون ـ الوهابيون بلداً فيقتلوا ثم ينهبوا،
ويعقروا ويهدموا ويقفلوا عائدين من حيث أتوا.
وفي نفس العام، غزا عبد العزيز بلدة ثرمدا وقتل من
أهلها أربعة رجال ثم قصد الدلم والخرج وقاتل أهلها وقتل
من فزع أهل البلد سبعة رجال وغنم عليهم إبلاً كثيرة، ثم
إنه كرّ راجعاً الى الوشم ص 83. ثم قصد أشيقر وقتل عليهم
عشرين رجلاً. وفي هذا العام حدث ما يلفت الاهتمام، فقد
عزل محمد بن سعود مشاري بن معمر عن إمارة العيينة، واستعمل
عليها أميراً وهو سلطان بن محسن المعمري، وركب الشيخ محمد
بن عبد الوهاب الى العيينة فأمر بهدم قصر بن معمر، فهدم
ثم غزا عبد العزيز منفوحة، وأشعل في زرعها النار ص 84.
حين تستبعد المبررات الدينية وراء تلك الافعال، هل
ثمة ما يميّزها عن أفعال الغزاة وقطّاع الطرق؟
وفي هذا العام أيضاً سار عبد العزيز بجميع رعاياه،
وصبح آل عسكر من الظفير على الثرمانية، وهي ماء معروف
قرب بلد رغبه، وأخذ كثيراً من أثاثهم، ، وغنم منهم إبلاً
كثيرة، وقتل من الأعراب عشرة رجال.. كما غزا عبد العزيز
الوشم، فصادف في طريقه خمسة عشر رجلاً من ثرمدا، فهربوا
التجأوا الى الحُريق البلدة المعروفة تحت الضلع قرب بلد
القصب، عند أهلها المعروفين بآل يوسف فطلبهم منهم عبد
العزيز ليقتلهم فأبوا، ففدوهم منه بألف وخمسمائة أحمر..ص
84.
من الواضح أن وتيرة المعارك في العام 1173 تصاعدت وأخذت
أبعاداً أكبر وقد تحمل دلالات معينة، ومنها أن آل سعود
والوهابيين حققوا انتصارات عسكرية كبيرة ما دفعهم الى
تصعيد العمليات، وتبني استراتيجية الحسم السريع بعد أن
كانوا خاضعين لمعادلة الكر والفر لفترة طويلة والتي انهكتهم
وما رافقها من خيانات وانسحابات وقد يكون عزل مشاري بن
معمر وهدم قصره أحد الدلالات. يذكر ابن بشر في حوادث سنة
1174 بأن عبد العزيز سار «بالمسلمين الى جهة سدير ولم
يكن معه الا ثمانون مطية، فأغار على أهل بلد الورضة وقتل
من أهلها خمسة رجال، وقتل من المسلمين شهيل بن سحين ص84.
وسار فيما بعد على بلد الزلفى فأخذ غنمهم ولحقه الفزع
وتركها لهم ص 85.
وفي هذا العام، غزا عبد العزيز الرياض فنزل عليها ليلاً
وجعل له كميناً..وقتل من أهل الرياض تسعة رجال.. ص 85.
وقتل في منفوحة سبعة رجال. وفيها أغار عبد العزيز على
مساعد بن فياض وعربانه المعروفين بالنبطة من سبيع، فأخذهم
وهم بالموضع المعروف بالعنك بين سدير والمحمل، وقتل منهم
عشرة رجال منهم القروي وأولاده وأخذ أثاثهم وغنم المسلمون
منهم ثمانين ذوداً من الإبل وجميع أمتعتهم ص 85.
وفي حوادث سنة 1175هـ سار عبد العزيز الى الخرج وقتل
منهم سبعة رجال وقطع بعض النخيل ص 86. نشير الى أن محقق
الكتاب قام بتبرير هذا الفعل بالعودة الى صحيح مسلم في
باب قطع نخيل العدو وحرقها، دون ذكر السياق التاريخي الذي
جرت فيه حادثة قطع النخيل وحرقها، وماهي ظروف تلك المرحلة.
وفي هذا العالم سار الى الوشم وقتل من أهلها عشرين رجلاً
ص 87، وعاد وغزا الرياض وسار الى الوشم يريد ثرمدا. وفي
سنة 1176 غزا عبد العزيز الرياض فنزل عليها وعبأ كمينه
وعدوته، فدخلت العدوة البلد ليلاً، وعلم بهم أهلها بعد
ما طلع الصبح فحصل بينهم قتال وانهزم أهل الرياض وقتل
منهم أربعة رجال..ص 89. وقاتل عبد العزيز بقوات من أهل
الدرعية أهل الرياض في عملية مباغتة وقتل منهم خمسة وعشرين
رجلاً ونهب أربعاً من الخيل وجميع ما معهم من الركاب ص
90. وفي هذا العام أيضاً، سار عبد العزيز بالجيوش غازياً
الأحساء، وأناخ بالموضع المعروف بالمطير في الاحساء، ومعه
من الخيل نحو الثلاثين وصبحهم وقتل منهم رجالاً كثيرة
نحو السبعين رجلاً، وأخذ أموالاً كثيرة، ثم أغار على المبرز
فقتل من أهلها رجالاً ثم ظهر من الأحساء راجعاً فلما وصل
العرمة وافق قافلة لأهل الرياض وأهل حرمة معها أموال كثيرة،
فأخذ أهل الرياض وترك أهل سدير لأجل هدنة بينه وبينهم»
ص 90.
وتستمر وتيرة الغزوات بنفس الطريقة ولنفس الغايات من
قتل وسلب ونهب فيما تغيب الدعوة الوهابية أو تحضر حين
تستسلم المنطقة للحكم السعودي فتصبح الوهابية عنوان الولاء
لهذا الحكم، والا فإن الغزو يأخذ شكله المألوف السائد
في النزاعات القبلية في صحراء الجزيرة العربية. فلو جرّدنا
روايات ابن بشر عن الغزوات من كلمة «المسلمين» لأصبحنا
أمام رواية عن الحروب القبلية من أجل أهداف مادية محضة.
ولكن تلك الوهابية التي أضفت على النزاع طابعاً علوياً
دينياً، ما جعل من القتل والنهب والسلب والهدم والحرق
مهمات دينية.
ففي العام 1176 غزا عبد العزيز بـ «المسلمين» وقصد
عربان سبيع وهم في الموضع المعروف بسيح الديول، فأغار
عليهم و«أخذ عليهم نحو مائتين بعير» ص 90 ـ 91. وفي سنة
1177 أرسل دهّام بن دواس، حاكم الرياض، الى الشيخ محمد
بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود، وبايعهم على دين الله ورسوله
والسمع والطاعة، وأعطاهم ألفي أحمر نكالاً ص 91. وفي هذا
العام سار عبد العزيز إلى جلاجل ومعه «جنود المسلمين»..وقتل
من أهلها نحو عشرة رجال، وحين رجع من سدير وصل رغبة المعروفة
واشتبك في الطريق في القويعية والنفود وقتل منهم خمسين
رجلاً وأسر منهم نحو المائتين أسير واستأصل ركابهم وخيلهم
وهم قريب أربعمائة مطية..ص 91 ـ 91. وفي سنة 1178 سار
عبد العزيز الى الرياض ومعه دواس بن دهام فأغار على حماد
المديهيم ومعه من آل سعيد الظفير «فاستأصل جميع أموالهم
وقتل منهم نحو الثلاثين رجلاً..» ص 93.
وفي هذه السنة تعرّضت القوات السعودية الوهابية الى
ضربة قاصمة على يد أهالي نجران، في وقعت الحاير، المشهور
بحاير سبيع ويقع بين الخرج والرياض. ويرجع سبب الحرب الى
أن العجمان لما قتل منهم وأسر منهم من أسر في قذله جدّوا
في المسير الى نجران لأخذ الثأر واستنقاذ الأسرى واستنفر
عبد العزيز جماعته ووقع قتال شديد فقتل من الأخير نحو
خمسمائة رجل وأسروا أسرى كثيرة ومن أهل الدرعية سبعة وسبعون
رجلا ومن منفوحة سبعون رجلاً ومن الرياض خمسون رجلاً ومن
أهل عرقة ثلاثة وعشرون رجلاً ومن العيينة ثمانية وعشرون
رجلاً ومن أهل حريملاء ستة عشر رجلاً ومن أهل ضرما أربعة
رجال ومن أهل ثادق رجل واحد وأسر من الوهابيين نحو مائتين
وعشرين، ولما عاد عبد العزيز الى محمد بن عبد الوهاب بادره
بالآية (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين...الخ
الآيات). ص 94.
في المقابل، فإن القائد العسكري النجراني ومن معه رحلوا
وقصدوا الدرعية فنزلوا بالباطن عند قصر الغذوانة فخرج
عليه أهل القصر وكاد أن يسيطر النجراني حتى أن دهّام بن
دواس وزيد بن زام وفيصل بن صويط رئيس عربان الظفير أثنوا
عليه وهنوه بالنصر وقالوا له: إن أخذت هؤلاء واستأصلتهم
حصل الملك لك، وكنت الرئيس على الجميع، فهسّ النجراني
لقولهم ص 95. وخاف محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود من
غلبة النجراني عليهم فلجأوا الى الهدنة.
وأرسل محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود الى فيصل بن
شهيل بن صويط وأرسلوه الى صاحب نجران وصالحهم وأطلقوا
له الأسرى الذي عندهم من العجمان، وأطلق النجراني «أسرى
المسلمين»، ورحل الى وطنه ص 95.
وفي حوادث سنة 1179 تأتي وفاة محمد بن سعود، وتولي
من بعده ابنه عبد العزيز، ويصفه ابن بشر: «فكان إماماً
للمسلمين وحامي ثغور الموحّدين، فبايعه الخاص والعام وتتابع
على البيعة الحضر والبدو والشيخ ـ محمد بن عبد الوهاب
ـ هو رأس تلك البيعة ففتح الله الفتوح على يديه وملأ قلوب
العدا هيبة، وسارت بفتوحه الركبان في الأمصار وملأت هيبته
قلوب ملوك الأقطار» ص 99 ـ 100
ـ من معاركه: في عام 1179 سار عبد العزيز بـ «جنود
المسلمين»، وقصد الرياض، ولكنّه هزم بعد أن جاءت عربان
سبيع ووقع في صفوفه عدة رجال من القتلى.. ثم قاد أخوه
عبد الله بن محمد بن سعود «جنود المسلمين» وقصد فرقاناً
من سبيع كثيرة من آل شوية وغيرهم وهم نازلون بالعرمة،
فشن عليهم الغارة بالصباح، فأخذهم وأخذ منهم أموالاً كثيرة.ص100.
وتكررت الهجمات على الرياض.
ويذكر في حوادث سنة 1180 وقعة الصحن، وهو موضع معروف
خارج بلد ثرمدا، حيث سار عبد العزيز غازياً فلما وصل جعل
له كميناً وأغار على البلد وأخذ أغنامهم واستاقها فخرجوا
عليه، فلما التحم القتال خرج عليهم الكمين، فانهزم أهل
البلد وقتل منهم نحواً من عشرين رجلاً.
ونذكّر هنا مجدداً، بأن المعارك تندلع وتشن الغارات
وكأن لا دعوة توحيد ولا رسالة دينية من ورائها، فهي تقع
دون مقدمات ولا رسائل لوجوه أهل البلد الذي يراد غزوه
وكأن الأصل هو الغزو والنهب والسلب والقتل.
ويذكر ابن بشر في حوادث سنة 1181، غزوه هذلول بن فيصل،
وكان أمير الغزو، ومعه سعود بن عبد العزيز وهي أول غزوة
غزاها سعود وهو صغير، وقصدوا بلد العودة المعروفة في سدير..واستلحقهم
منصور بن عبد الله ابن حماد وأناس معه في العودة ليبطشوا
بابن سعدون ومن تبعه. وفي هذا العام بايع أهل أشيقر ومن
تبعهم من أهل الوشم، عبد العزيز بن محمد بن سعود على دين
الله ورسوله والسمع والطاعة، وكذلك أهل سدير بايعوا عبد
العزيز، وأعطاه رئيس جلاجل سويد بن محمد خمساً من الخيل
نكالاً، وأهل بلد العطار ثلثمائة أحمر نكالاً» ص 103.
والأحمر هو عملة نقدية كان يتعامل بها أهل نجد في ذلك
الزمن.
وكما يظهر فإن البيعة كانت دائمة مرتبطة بتقديم المال،
أي بتسوية مالية يحفظ فيها الطرف المتضرر بعض حقه قبل
أن يفقدها بصورة كاملة في حال الغزو..ولذلك، فإن البيعة
والسمع والطاعة ليست بالضرورة عن قناعة من المبايع، وانما
هو ما يطلبه القوي على الضعيف ما يجعل البيعة غير دينية
بالضرورة..فالبيعة تعني التنازل عن بعض أملاكك للغازي
بعنوان «النكال»، أي العقوبة.
فالجماعة الوهابية السعودية لم تكن سوى جزء من المشهد
القتالي الدائر في نجد ولم تكن جماعة دعوية رسالية، فهي
تقاتل كما الجماعات الأخرى من أجل القتل والسلب والنهب
ولكن أضافت الى نفسها مبررا آخر للقتال..
ويواصل ابن بشر سرد وقائع سنوات القتال، وفي هذا العام
1181 غزا عبد العزيز بن محمد الرياض ونزل المشيقيق، وهي
بئر معروفة فخرج إليه أهل الرياض ووقع بينهم قتل وقتل
فيه من أهلها ستة رجال، وقتل من الغزو رجال..ص 104. وكرّر
الغزوة على الرياض في وقعة باب الثميري وقتل فيها من الفريقين
رجال ونزل عبد العزيز قصر الغذوانة وأقام أياماً يغير
على الرياض ص 104.
ما يلحظ في هذه السنة أنها أول القحظ المعروف بسوقه،
وغارت فيه الآبار وغلت فيه الأسعار، ومات كثير من الناس
جوعاً ومرضاً وجلى أكثر الناس في هذه السنة والتي تليها
الى الزبير والبصرة والكويت وغيرها..ص105.
وفي سنة 1182 غزا سعود بن عبد العزيز بـ «جنود المسلمين»
الى الزلفى وأغار عليهم وقتل منهم ثلاثة رجال وهذه أول
غزوة قاد الجيوش فيها الى القتال ص 105. وفيها سار عبد
العزيز وقصد سبيع وهم على الحاير المعروف فسبقه النذير
إليهم واستعدوا للملاقات فالتحم بينهم القتال.. فانهزمت
سبيع وتزيّنوا قصر الحاير، وكان أهله قد نقضوا العهد،
فأخذ عليهم عبد العزيز إبلاً كثيرة وأغناماً وأمتعة.ص105.
وفيها أيضاً سار سعود غازياً بـ «المسلمين»، وقصد عربان
آل مرّة وغيرهم وهم نازلون على الماء المعروفة بقنا في
ناحية الجنوب، فلما التحم القتال وهزم جيش سعود وقتل منه
عشرة رجال.. وفيها سار سعود بـ «جنود المسلمين» وقصد ناحية
القصيم بهدف نصرة رئيس بلد بريدة فنزل بباب شارخ من عنيزة
والتحم القتال وقتل من أهل عنيزة ثمانية رجال وقتل من
الغزو رجل واحد. ص 106
وفي حوادث سنة 1183، سار عبد العزيز بجيشه الى بلد
المجمعة في ناحية سدير واستنقر أهل سدير مشاة ووقع القتال
بينهم وقتل منهم رجال، ثم رحل منها وسار الى القصيم ونازل
أهل بلد الهلالية المعروفة فأخذها عنوة وقتل منهم عدّة
رجال، ثم أعطاهم الأمان وبايعوه على دين الله ورسوله والسمع
والطاعة، وبايعه غالب أهل القصيم. وفي هذه السنة وقع وباء
عظيم، وفيها سار عبد العزيز الى الرياض ووافق خيلاً لدهّام
بن دواس قد أخذت إبلاً من عربان سبيع فوقع بينهم قتال
قتل فيه من قوم دهام أربعة رجال. وفيها سار عسكر من بغداد
سيّره وزيره عمر باشا مع بكر بيك من عربان المنتفق فأوقعوا
بهم، وقتل عبد الله بيك وجلى عبد الله بن محمد بن مانع..
وفي سنة 1184 سار عبد العزيز بجنود المسلمين على عربان
المحمرة من آل ظفير وحصل بينهم بعض القتال وأخذ عليهم
أدباشاً، وقتل منهم رجالاً. وفيها سار عبد العزيز غازياً
الى الحاير المعروف بحاير سبيع وقطع بعض نخيله، ثم أذعنوا
وبايعوا على دين الله ورسوله والسمع والطاعة (ص 115).
وفي سنة 1185 سار عبد العزيز الى الرياض فلما بلغ بلد
عرقة، وافق دهّام ابن دواس عادياً عليها بخيل وركاب، فلما
رأوه انهزموا، فحث السير في أثرهم، فعثرت فرس دواس بن
دهام في صفات الظهرة التي بين عرقة والفوارة فأمسكه المسلمون،
وقتله عبد العزيز. ص 116.
وقد تعرّضت الرياض لسلسلة غارات في هذا العام وفتح
الباب أمام انكسارات أخرى في جبهات خصومهم، وخصوصاً جبهة
العجمان الذين سدّدوا بالتعاون مع أهل نجران ضربة قاصمة
للقوات السعودية الوهابية في وقت سابق. ففي سنة 1186 سار
عبد العزيز بـ “جنود المسلمين” وقصد آل حبيش من العجمان
وهم في صبحا المعروفة قرب سدير، فأغار عليهم وأخذ عليهم
إبلاً كثيرة وقتل من الأعراب عدة رجال. وفي العام نفسه
سار سعود بن عبد العزيز الى الرياض فأخذ سارحة أغنام وفزع
أهل البلد وحصل بينهم قتال، فوقعت عليهم هزيمة قتل من
أهلها سبعة رجال..ص 118. وفي وقت لاحق غزا عبد العزيز
بن محمد الرياض فخرج عليه أهلها وحصل بينهم قتال، وقتل
من أهلها عدة رجال..ص 118.
ولم تتوقف الغارات على الرياض، بل تواصلت في العام
التالي، 1187، وبوتيرة أشد عنفاً وشراسة إذ سار عبد العزيز
الى الرياض بـ “جنود المسلمين”، ونازل أهلها أياماً عديدة،
وضيق عليهم، واستولى على بعض بروجهم وهدم أكثرها، وهدم
المرقب، وحصل بينهم قتال، قتل من أهل البلد عدّة رجال..وهرب
منها رؤوساؤها حتى أن ابن دوّاس خرج من الرياض هارباً
بنسائه وعياله وأعوانه اتقاء لشر الحرب وفر أهل الرياض
في ساقته يقول ابن بشر “ففر أهل الرياض في ساقته الرجال
والنساء، هربوا على وجوههم الى البر وقصدوا الخرج وهلك
منهم خلق كثير عطشاً وجوعاً” ويضيف “ذكر لي أن الرجل من
أهل الرياض يأخذ الغرب (أي الدلو الكبير)، يجعل فيه ماءً
ويحمله على ظهره، والغرب لا يمسك الماء، والإبل عنده لا
يركبها، وتركوها خاوية على عروشها، الطعام واللحم في القدور،
والسواني في المناحي والأبواب لم تغلق، وفي البلد من الأموال
ما يعجز عنه الحصر..وحاز عبد العزيز ما فيها من أموال
الهاربين، من السلاح والطعام والأمتعة وغير ذلك، ومات
ممن تبع دهّام في هزيمته نحو من أربعمائة..وقد أقام هذا
الحرب سبع وعشرين سنة، وذكر لي أن القتلى بينهم في هذه
المدة نحو من أربعة آلاف رجل من أهل الرياض ألفان وثلثمائة،
ومن المسلمين ألف وسبعمائة”. ص 120
وتصاعدت وتيرة المعارك في السنوات اللاحقة، وما يذكر
في حوادث سنة 1188، أن سعود بن عبد العزيز سار بـ “المسلمين”
غازياً الى بلد الدلم في ناحية الخرج فأناخ عليها ليلاً
وكمن لهم وفي الصباح أغار عليها وأخذ الغنم وخرج أهل البلد
فناوشهم القتال وقتل منهم نحو عشرة رجال..ص 122 ـ123.
ثم سار الى الزلفي واستعمل عليهم أميراً عدامة بن سويري
من بني حسين فوافقوا غزواً لأهل الزلفي خارجاً من البلد،
فقاتلهم، فظفر بهم وقتلهم أجمعين، وفيها وفد أهل بلد حرمة
على الشيخ وعبد العزيز، وبايعوه على دين الله ورسوله والسمع
والطاعة، وطلبوا منه عدم المطالبة بالجهاد حتى تركد بلادهم،
فأجابهم الى ذلك (ص123).
وفي العام التالي، 1189، غزا عبد العزيز ناحية الخرج
وأغار على أهل الضبيعة القرية المعروفة في الخرج وأخذ
عليهم السارحة، ثم حاصر أهلها وقتل من أهلها إثنى عشر
رجلاً وقطع عليهم بعض النخيل وقتل من المسلمين ثمانية
رجال..ص124. وفي سنة 1190 وفد أهل الزلفي وأهل منيخ على
الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعبد العزيز بن محمد بن سعود
ومعهم سليمان بن عبد الوهاب. وكان الأخير قد انهكته الحروب
والهرب من ويلاتها فقرر أخوه استمالته اليه وقضاء بقية
حياته تحت نظره ورعايته، فـ“استقدمه وأسكنه هو وأهله في
الدرعية وقام بجميع ما ينوبه ويعتازه من النفقة حتى توفاه
الله (توفي سنة 1208هـ) أي بعد وفاة أخيه الشيخ محمد بستنين”.
ولكن لم يصدر عنه ما يفيد بتراجعه عن موقف العقدي من أخيه.
وفي سنة 1191، سار سعود بن عبد العزيز بغزوان المسلمين
وقصد الخرج يريد اليمامة فصادف غزوا لهم بالسهباء المعروفة
عند اليمامة، فتقاتلوا أشد القتال، وقتل عدة رجال، وانصرف
كل الى وطنه ص 131. ولكن عبد العزيز أعلن النفير وسط رعاياه
في كل المناطق من أجل الهجوم على الخرج، فاجتمعوا عنده
في الدرعية ومعهم غزو أهل بلد حرمة، فأمر عبد العزيز بالمسير
مع أسفل الوادي الى ناحية الخرج، فصعد عثمان بن عبد الله
أمير حرمة الى الشيخ وعبد العزيز وقال: كيف تسيرون الى
أهل الخرج وبلدنا حرمة قد ظهرت منها إمارات الردّة، ونقض
العهد وأنا لا أقدر آمر فيهم بمعروف، ولا أن استقر عندهم
على هذه الحال، إلإ أن ضعضعتموهم، وأمسكتم منهم رهاين
تجعلونهم عندكم في الدرعية حتى يركد جأشي، وأصدع بالدين
في البلد، وآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، ولا أحاذر،
فلم يزل بعبد العزيز حتى نكس الجيش معه الى ناحية منيخ.
يقول ابن بشر “فثوّر المسلمين، وسار بهم عبد الله بن محمد
بن سعود، فأدلجوا بالليل والنهار وصار مسيرهم على الحيسية
مع الحمادة، لتعمى عنهم الأخبار حتى يبغتونهم في بلادهم،
فوصلوا بلد حرمة بالليل وهم هاجعون، ففرق عبد الله رجالاً
في بروج البلد والبروج التي على السور وعلى الدور وعلى
بيبان القلعة والجموع في متارسها، فلما انبلج الصبح ونادى
آذان الفجر حي على الصلاة، أمر كل صاحب بندق يثور ما في
بطنها فثوّروا البنادق دفعة واحدة، فارتجت البلد بأهلها
وأسقط شيء من الحوامل، ففزعوا فإذا البلاد قد ضبطت عليهم،
وليس لها قدرة ولا مخرج..ص 131 ـ132. وبعد ما رجع عبد
الله الى الدرعية من هذه الغزوة سار بـ “المسلمين” الى
ناحية الخرج مجدداً فأوقع بهم وقتل منهم ستة رجال، وعقر
عليهم إبلاً وأغناماً ص 133.
وتوالت الغزوات على الخرج، إذ سار عبد العزيز في سنة
1191، غازياً إلى الخرج، ونازل بلد الدلم، ودخلت الجنود
في نواحي حلة البلد، وضيّق على أهلها وطلب بعضهم الأمان
وكان رئيسها غائباً ثم رجع واقتتلوا مع عبد العزيز قتالآ
شديداً ووقع خمسون قتيلاً من رجال الدلم ولما أحسّ الذين
في البلد بالوقعة خرجوا منها ودخل زيد وقومه بلد الدلم،
فرحل عبد العزيز بجنوده، وقصد بلد نعجان وقطع فيه نخيلاً
ودمر زروعاً وقتل رجالاً ص 136.
|