عاصفة آل سعود في اليمن
الثورة المضادة بلون الدم
سعدالدين منصوري
توصيف الواقع السياسي في اليمن ضروري لفهم ردود الفعل
المحلية والخارجية (الإقليمية والدولية).
في مارس 2011 اندلعت ثورة شعبية في اليمن في سياق الربيع
العربي الذي اجتاح عدداً من البلدان العربية، بدأت من
تونس في نهاية 2010 ثم انتقلت الى مصر ولاحقاً ليبيا واليمن
والبحرين وسوريا.
في المقابل، بدأت السعودية، وخصوصاً بعد سقوط حسني
مبارك في مصر، في التخطيط لثورة مضادة، تعيد عقارب الساعة
الى الوراء في البلدان التي أطيح فيها برؤوس حليفة للرياض.
وكانت اليمن من بين البلدان التي واجهت مؤامرة خارجية
عبر ما عرف بـ “المبادرة الخليجية”، والتي تستهدف بدرجة
أساسية الحفاظ على المعادلة التي تبقي النفوذ السعودي
في اليمن، عبر مجرد تبديل الوجوه، أي بإزاحة علي عبد الله
صالح، وتعيين عبد ربه منصور هادي، وبذلك تكون الرياض قد
حافظت على نفوذها بتغيير حليف مكان آخر.
وكان يمكن أن تسير الأمور على هذا النحو، ويحقق النظام
السعودي هدفه في العودة الى اليمن عبر صناديق الاقتراع.
ولكن وعي وحيوية الشعب اليمني وقواه السياسية الثورية
حالت دون ذلك، فكانت ثورة الحادي والعشرين من سبتمبر 2014
في عملية تصحيحية لثورة مارس 2011، والتي أرغمت نظام عبد
ربه منصور هادي على الدخول في حوار وطني واسع، أنجب اتفاق
السلم والشراكة، وأطاح بالمبادرة الخليجية.
ولكن بنود الاتفاق ومخرجات الحوار الوطني، لم تكن تسير
كما أرادها الشعب اليمني، في ظل تدخلات خارجية، مع إصرار
هادي على التواصل مع السفارات، وخصوصاً السفارتين السعودية
والأميركية، الأمر الذي عطّل مسيرة الانتقال الديمقراطي
على أساس اتفاق السلم والشراكة ومخرجات الحوار الوطني.
تشكلت حكومة شراكة وطنية، وما لبث أن استقالت كجزء
من الضغط على الثورة لتحقيق مآرب خارجية بدرجة أساسية،
ثم هدّد هادي بالاستقالة، وفي اليوم الذي وصل فيه المبعوث
الدولي جمال بن عمر الى صنعاء، أعلن هادي استقالته فعلياً.
سعى اآل سعود الى الالتفاف على ثورة الشعب اليمني،
فكان لا بد من فعل ثوري يوقف العربدة الخارجية الاقليمية
والدولية، فقرر الثوار أن يمسكوا بزمام المبادرة، وتشكيل
نظام انتقالي يمهّد لدولة شراكة وطنية في مرحلة لاحقة.
وهنا بدأت الرياض تخطط للتدخل العسكري مع واشنطن قبل
شهور بحسب السفير السعودي في الولايات المتحدة عادل الجبير.
شكّلت السعودية تحالفاً من عشر دول عربية وإسلامية
وبغطاء أميركي أوروبي.
دلالات التحالف باتت معروفة:
- تعويض الشرعية الرسمية العربية والدولية المفقودة.
- طول أمد الحرب، إذ لو كانت مجرد حرب خاطفة أو
جوية لما كان يستدعي الأمر لتشكيل تحالف.
- عدم الثقة في الانتصار.
لم يكتف النظام السعودي بإعلان الحرب على اليمن، بل
أراد أن يسبغ عليها طابعاً طائفياً، لأسباب متعلّقة بمبررات
العدوان، وضعف الحجة التي تستند اليها عائلة آل سعود في
حربها ضد اليمن. فقد لحظنا كيف تبدّلت أهداف الحرب في
غضون أقل من إسبوع من اعلانها:
- إعادة الشرعية الممثلة في الرئيس المستقيل عبد
ربه منصور هادي.
- حماية حكومة عدن.
- القضاء على الجماعة الحوثية، ثم إضعاف القدرات
العسكرية للجماعة، وتقويض مصادر التهديد التي تشكلها
الجماعة على الأمن العربي!
- درء الحرب الأهلية عن اليمن.
- تقويض النفوذ الايراني في اليمن وفي المنطقة عموماً.
هناك إضطراب وإرباك واضح في توصيف الواقع اليمني، وبالتالي
تحديد الخيارات أو بالأحرى تبريرها.
وفي حقيقة الأمر فإن الحرب في جوهرها تستهدف:
أولاً/ إخضاع اليمنيين وإعادة اليمن الى بيت الطاعة
السعودي.
ثانياً/ إنقاذ “القاعدة” بعد أن فقدت قدرتها على تهديد
اليمنيين، حيث تساقطت مواقعها الواحدة تلو الأخرى بفعل
تقدّم الجيش اليمني، وبمساعدة اللجان الثورية اليمنية.
الكلام حول الموقف الداخلي في المملكة السعودية إزاء
الحرب يدور حول قسمين:
- العائلة المالكة، وهناك كلام حول خلاف بين
الأجنحة حول هذه الحرب، وتتحدث مصادر عن رفض لها من
قبل بعض الأمراء، من بينهم وزير الحرس الوطني متعب
بن عبد الله، والوليد بن طلال.
- جمهور السلطة، وهم الأقلية الممسكة بأدوات
التعبئة والتحريض، وخصوصاً المؤسستان الاعلامية والدينية؛
وهذا الجمهور بطبعه منقاداً نحو خيارات السلطة وليس
خياراته هو.
- الأغلبية المهمّشة من الشعب، وهي غير معنيّة
بحروب السلطة، خصوصاً وأنها عانت كثيراً من أشكال
الحرمان الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وبالتالي
فإن الحدّ الأدنى من موقفها هو الصمت، والأقصى هو
تمنّي هزيمة آل سعود، لعل ذلك يحمل بشارة تغيّر سوء
حالها، بحسن حال المستقبل المأمول.
نعم، تتعرض الأغلبية المهمّشة الى حملة تهويل متواصلة
ومتصاعدة حيال الصمت وعدم الاكتراث لهذه الحرب، وربط الوطنية
بالمواقف المؤيدة للعدوان، وتوصيم كل من لا يؤيده بالخيانة،
بحيث أصبحت الوطنية مقتصرة على تأييد العدوان، والا فالخيانة
شهادة جاهزة يمنحها جمهور السلطة لأفراد الأغلبية المهمشة..
وهي على أية حال، حرب نفسية كانت دائماً تُشنّ على الأغلبية
في كل مغامرة عسكرية أو سياسية تقوم بها السلطة السعودية.
الملك سلمان يدعو اليمنيين الى الحوار، ولكن الحوار
بين من ومن، وأين؟، وكيف لحوار أن ينجح أو حتى ينعقد بدون
حرية؟، ولا حرية بدون تحرر المتحاورين من كل القيود، بما
في ذلك قيد المكان. وعليه فإن إصرار ال سعود على أن تكون
الرياض مكان الحوار بين الفصائل اليمنية، يفقده مسمى الحوار،
ويحيله الى مكان للإملاء، لأن الرياض منطقة منحازة، بل
هي طرف في الأزمة اليمنية. وبعد انخراطها في الحرب على
اليمن، أصبح خيار الرياض مستحيلاً، لأنه يصبح استسلاماً
بالمعنى السياسي والعسكري للكلمة.
في الخلفية السعودية مدفوعة الى العدوان بهواجسها،
وعقلها الوصائي والاستعلائي، الذي يرى في اليمنيين مجرد
مخلوقات من درجة أدنى، تجعل هذه النظرة الدونية التعاطي
مع اليمن بوصفه قاصراً، وعليه قبل أن يقوم بثورة، أن يطلب
الإذن من الرياض ـ كما قال أحدهم.
حين تجتمع العقيدة المعلولة، بأن اليمن امتياز سعودي،
مع تضخم هاجس النفوذ الإيراني، يصبح العقل المدبّر في
المملكة السعودية محثوثاً بهواجسه وهلوساته. وعليه، فإن
السعودية ليست بحاجة لمن يقنعها بجدارة حربها، ولكن التاريخ
تكفّل بإيصالها الى قناعة تامة، بأن الهزيمة مؤكّدة، فتجربة
المواجهات مع حركة أنصار الله اليمنية في 2009، ألزمت
القيادة العسكرية قبل السياسية، بتأجيل قدر الاستطاعة
مرحلة الحرب البريّة، لأن ثمة مقاتلون في المقلب الآخر
لا يعرفون سوى السير للأمام في الأرض التي يحاربون عليها..
تكتيكات الحروب التقليدية لا تعنيهم، طالما أن سواعدهم
قادرة على حمل السلاح، وبعض الزاد الذي يبقيهم على قيد
الحياة.
لقد أدبر الزمن الذي تقود فيه السعودية حرباً منفردة،
فشحنات السلاح بأشكاله المتنوعة والحديثة لا تصنع بطولة،
وكما يقول الزعيم جمال عبد الناصر: لا يمكنك أن تقاتل
بيد ترتعش، فكيف تصنع بها نصراً؟ لم يتشرّب الجنود السعوديون
عقيدة قتالية جديرة بالتضحية والفداء، وإن حلول الشخص
مكان الوطن والأمّة، يخلق فرصة لصنع صنمٍ، ولكن ليس جيشاً
باسلاً!
في الخلفية ثمة ما يستحق الذكر لفهم دوافع آل سعود
في العدوان على اليمن. في العشرين من كانون الثاني الماضي،
أي قبل ثلاثة أيام من موت الملك عبد الله، زار وفد من
حركة “أنصار الله” الحوثية الرياض والتقى بمسؤولين في
الحكومة السعودية. كانت رسالة الوفد واضحة وتتلخص في طمأنة
المملكة السعودية ودول الجوار كافة حيال الثورة اليمنية،
وأنها تتمسك بمبادىء حسن الجوار والتعاون المشترك من أجل
خير الجميع.
كان الجواب السعودي محدّداً وحاسماً:
ـ قطع العلاقة مع ايران.
ـ تسليم السلاح للدولة الممثلة في رئيسها المستقيل
عبد ربه منصور هادي.
نسخة طبق الأصل للمطالب السعودية في لبنان وغزّة كما
يعبّر عنه حلفاؤها في 14 آذار أو حكومة رام الله أو إسرائيل
أو حتى الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي عموماً.
على أية حال، عاد وفد أنصار الله الى اليمن بانتظار
ترجمة الموقف السعودي على الأرض، وهذا ما حصل. بدأت بنقل
السفارة السعودية من صنعاء الى عدن، وتبعته بقية السفارات
الخليجية، متزامناً مع تحركات دوليّة متوالية، بما في
ذلك الدور المنحاز بالمطلق للمبعوث الدولي السابق جمال
بن عمر، الذي بدت مبادرته ذات طابع بهلواني، وعلى وجه
الخصوص إبلاغه مجلس الأمن عن مفاوضات بين الفصائل اليمنية
في الدوحة يعقبها توقيع الإتفاق في الرياض.
كان الجواب السعودي لرفض القوى الثورية اليمنية مقترح
بن عمر إجرامياً، فكانت الجمعة الدامية في مسجدي بدر والحشحوش.
مصادر “أنصار الله” تتحدث عن أصابع سعودية واضحة في العمليتين
الارهابيتين، لا سيما بعد نفي “القاعدة” في اليمن صلتها
بهما، بل حتى بيان “داعش” الذي وضع على مواقع التواصل
الاجتماعي جرى إهماله من قبل الحركة، لأن المعطيات المتوافرة
لديها تشير الى السعودية حصرياً.
ظهر العقل التسووي كما لو أنه من تركة العهود السابقة،
ومنذ بدء الربيع العربي أواخر عام 2010، بدت السعودية
محكومة بغرائزية منفلتة، تعبّر عن نفسها في التيه التام
في تشخيص المشكلة، وفي تحديد الخيارات بل وتبريرها.
قطعت الرياض الطريق على الحوار بين اليمنيين، حين أجبرت
بعض القوى بوسائل الاقناع المألوفة سعودياً (دبلوماسية
الشنطة)، ووضعت الجميع أمام خيار واحد: أن يعود اليمن
الى بيت الطاعة السعودي، وإلا فالحرب. وبالفعل كانت.
ولكن الحرب التي يشّنها آل سعود ذات أهداف مجهولة.
الارباك كان لافتاً، فقد تمّ تصوير الحرب على أنها ضد
حركة “أنصار الله”، فيما أصبحت كل المراكز الحيوية في
اليمن ضمن بنك الأهداف العسكرية السعودية وتحالفها العشري.
القواعد العسكرية ومخازن الصواريخ، والمجمّعات السكنية
التابعة للجيش، وحتى بيوت عمّال النظافة بالقرب من مطار
صنعاء، وهي ليست تابعة للحوثيين.
وفي النتائج، حقّق العدوان هدفاً عكسياً، فقد توحّد
اليمنيون في الشمال والجنوب في مواجهة آل سعود، وفجّر
مخزون الغضب الشعبي في اليمن حيال السياسات السعودية القائمة
على امتهان الذات اليمنية، والنظرة الاستعلائية حيال الشعب
اليمني منذ عقود. في الأثر، حتى أولئك الذين يختلفون مع
حركة “أنصار الله” الحوثية يحدوهم الدافع الوطني لمواجهة
العدوان السعودي الأميركي. فبعد أن كانت الرياض تواجه
حركة وجماعة، أصبحت تواجه شعباً بأسره.
ما يجب على الرياض تعلّمه من درس أولي، أن الرد اليمني
حتمي، وثمة هبّة شعبية منتظرة بناء على توجيهات زعيم “أنصار
الله” في خطابه بعد يومين من بدء العدوان السعودي، وكذلك
مواقف القوى الثورية في الشمال والجنوب. فلسفة رد العدوان
تقوم على الردع المستقبلي، لأن الصمت وعدم الرد يعني انتصاراً
استراتيجياً للتحالف العشري وللسعودية على وجه الخصوص.
سيكولوجية الشعب اليمني تعد عاملاً مضاداً للإنكسار
العسكري، فالاحتقان الشعبي الطويل والمتوارث ضد الامتهان
السعودي للكرامة اليمنية، ينزع نحو تحويل العدوان الى
منازلة تاريخية أو تصفية حساب. في حقيقة الأمر، لقد منحت
السعودية بعدوانها فرصة لشيطنتها أكثر مما مضى.. ومع تساقط
المزيد من الضحايا، ومن المدنيين على وجه خاص، في هجمات
جوية من قبل طيارين حربيين غالبيتهم من أمراء آل سعود
(3 من أصل 5 طيارين حربيين هم من أمراء آل سعود)، فإن
المهمة العسكرية الآن والسياسية ستكون أكثر تعقيداً، ولن
تخرج السعودية من هذه الحرب بنصر من أي نوع، لأن العدوان
لا يقتصر على فئة أو حركة أو منطقة، بل يستهدف اليمن بشعبه
وأرضه ومقدراته وثورته.
في الخلاصة، العدوان السعودي على اليمن في جوهره هو
ثورة مضادة ولكن بلون الدم، وتحوّل الى عدوان سافر وعشري
على الشعب اليمني بكل فئاته وفي كل مناطقه ومحافظاته ومديرياته.
|