بعد اعتراف المشايخ الثلاثة
هل ينحسر تيار التكفير
في تطوّر جديد خاص بملف جماعات العنف أو تيار الفكر التكفيري الجهادي
في المملكة، تم القبض على مجموعة من العناصر المتورطة في هذا التيار،
وبحوزتهم كميات من الاسلحة والمتفجرات كانوا قد أعدّوها لتنفيذ عمليات
في مناطق مختلفة من أرجاء المملكة بما في ذلك مدينة الرياض التي شهدت
انفجارات صغيرة في الشهر الماضي. المجموعة التي تم القبض عليها مؤخراً
ثم عرضها على شاشة التلفزيون (مع حجب وجوه أصحابها) كشفوا لأول مرة عن
عمليات تدريب عسكرية تمت دخل المملكة، وعن مصادر الاسلحة والمخابىء.
وهذا يدحض بعض إدعاءات وزارة الداخلية والأمير نايف شخصياً الذي كان
ينفي وجود معسكرات للجماعات الارهابية داخل المملكة وأن هذه الجماعات
تلقّت تدريبها في الخارج وتحديداً في أفغانستان.
وبالرغم من أن الاعترافات التلفزيونية كانت محاولة لاستعادة الهيبة
المتصدعة للجهاز الأمني الذي تعرض لضربات متواصلة في الصميم خلال السنة
الماضية بفعل تزايد عمليات العنف وبوجه خاص في مدينة الرياض، اضافة الى
عدد كبير من المواجهات المسلحة التي امتدت الى مكة المكرمة، الا أن ما
كشفت عنه الاعترافات تشي بأن ثمة ثغرات أمنية عديدة أفادت منها جماعات
العنف من أجل تنفيذ مخططها. وبحسب ما ورد من معلومات على لسان من ظهروا
على شاشة التلفزيون وبالرغم من تدابير الحيطة والحذر التي اتخذتها السلطات
الأمنية مع هؤلاء في أن لا يكشفوا عن أسرار تتعلق بعمل الاجهزة الأمنية
في ملاحقة المطلوبين الا أن ما ظهر يلفت الى أن أعمال التدريب وتهريب
الاسلحة ونقلها الى مواقع مختلفة داخل المملكة كانت تتم دون تعقيد كبير
أو احتياطات أمنية مشددة يتخذها أفراد جماعات العنف، الأمر الذي سهّل
مهمة اختراق الجهاز الأمني نفسه وإفشال محاولاته في القبض عليهم، وهذا
ما يفسر سقوط عدد كبير من الضحايا من بين أفراد الأمن في السنة الماضية.
في المقابل، وفيما يبدو فإن إعتقال ثلاثة من رؤوس التيار الفكر التكفيري
وإظهارهم على شاشة التلفزيون في ما يشبه جلسة توبة وحلقة تراجع عن متبنيات
عقدية سابقة، الى جانب الطريقة التي ظهر بها هؤلاء الرموز وهم يلتمسون
الصفح عن أخطاء ارتكبوها وأفكار روّجوا لها، قد تسببت في إحداث خلخلة
نفسية وذهنية لدى كثير من المتعاطفين مع هذه الجماعات مما أدى الى تراجع
عدد منهم. فقد بدا واضحاً تراجع النشاط العنفي منذ اعتقال الشيخ علي
الخضير والشيخ ناصر الفهد واخيراً الشيخ الخالدي، ثم ما أعقب ذلك من
روايات تحدثت عن انهيارات نفسية لدى هؤلاء الى حد طلب بعضهم من المشايخ
المقربين من الدولة بالتوسط من أجل الافراج عنهم في مقابل تعهدهم بالعودة
عن كل ما قالوه في الدولة تكفيراً وحرّضوا بالخروج عليها.
ولاشك أن اللقاءات التلفزيونية التي أدارها الشيخ عايض القرني، بأسلوبه
الحاذق، مع رموز التيار التكفيري قد أتت ثمارها سريعاً، حيث تراجعت وتيرة
العنف، وبدأ عدد من أفراد هذه الجماعات يندسون في أماكن بعيدة أو يسلّمون
أنفسهم للأجهزة الأمنية أو يوسّطوا قريباً او شيخاً بينهم وبين الدولة
طلباً للنجاة والصفح. غير أن وصف هؤلاء الرموز على حد الشيخ القرني بأنهم
(كانوا يشكلون مرجعية لهؤلاء الشباب) يدعو للتأمل، وخصوصاً ونحن نتحدث
عن مشايخ كانوا مطلقي اليد واللسان، فيما كانت مجموعات كبيرة من الشباب
تلتقي بهم في منتديات عامة وخاصة دون أن تكون للدولة رقابة عليها وعلى
الافكار التي يتم التروّيج لها في أوساط هذه الجماعات، وكان يفترض أن
يثير رواج أفكار التكفير كالتي حملها واعترف بخطأها المشايخ الثلاثة
قلقاً وانتباهاً لدى السلطات الأمنية، كونها تستبطن دعوات لممارسة العنف
وحمل السلاح بما يهدد أمن الوطن وسلامة المجتمع.
وبالرغم من الشكوك التي تحيط بالكيفية التي إنتهت اليها عملية اعلان
التوبة والتراجع من قبل المشايخ الثلاثة، وهل كانت بالفعل توبة طوعية
أم ناشئة عن ضغوطات نفسية خضعوا لها داخل السجن، فإن اللقاءات التلفزيونية
كانت معدّة سلفاً بحسب الشيخ القرني، ولكن اختيارهم للتوبة العلنية يظل
مشكوكاً، خصوصاً وأن هذا الظهور التلفزيوني يحقق مطلب ورغبة الجهاز الأمني
وحده الذي أراد من هذا الظهور كسر ارادة الاتباع والمشايعين للفكر التكفيري،
ولا شك أن هذا النوع من الاعترافات من شأنه إحراق شخصية المشايخ وإسقاط
مصداقيتهم، بصرف النظر عن كونهم خضعوا لوجبات تعذيب قاسية أدت الى توبتهم،
فهؤلاء، في وعي انصارهم، قدوات لا يصح استسلامهم لسياط التعذيب مهما
بلغت شراستها. وهنا يأتي عامل الابتزاز الذي يصعب استبعاده، بسبب التجربة
السياسية المتواضعة لدى هؤلاء المشايخ الذين خاضوا معركة المواجهة دون
خبرة في العمل السياسي، ولذلك تمكن اصطيادهم بسهولة في لحظة المداولة
السياسية التي تتطلب ذكاءً وإستعداداً ذهنياً كافياً، وهو كما يبدو يفتقر
اليه المشايخ الثلاثة.
لقد أفادت السعودية من تجارب الدول المجاورة، وبصورة خاصة ايران في
العهدين البهلوي والثوري الديني، حيث كانت الحكومة تقدّم معارضيها من
رجال دين وغيرهم على شاشة التلفزيون بهيئات تثير الشفقة وهم يقرّون بأقوال
وأعمال قد يكونوا تفوهوا بها أو اقترفوها، وهذه الطريقة بدورها كانت
تمنح الحكومة قوة معنوية ومصداقية أمام شعبها، فيما يكون نصيب سيء الحظ
أحكام الاعدام أو السجن المؤبد. ومنذ انفجار العليا عام 1995 لجأت الحكومة
السعودية الى تقديم المتهمين على شاشة التلفزيون من أجل الاعتراف بالجرم،
ثم قامت بعد ذلك بقطع رؤوسهم واحداً تلو الآخر، بالرغم من أن شكوكاً
أثارها بعض المعارضين في التيار السلفي السياسي بأن من أعدم في حادثة
العليا لم يكونوا المتورطين الحقيقيين في الحادث.
وتعد إعترافات المشايخ وعدد من انصارهم على شاشة التلفزيون خطوة أخرى
مسبوقة، حيث يظهر ولأول مرة شيخ بهيئته ولحيته الطويلة وهو يدلي باعترافات
تمس العقيدة والموقف من الدولة، وأن تكون الاعترافات تلك في تضاد مع
متبنيات قطاع كبير من الناس الذي تشربوا أفكاراً روّج لها هؤلاء وضمّتها
الكتب والنشرات الشعبية العامة.
|