نخبة السلطة واللغة «الشوارعية»
محمد قستي
تساوى الشارع والنخبة السلطوية في التفكير، واللغة،
والاسفاف، والبذاءة، فلا تكاد تميّز بين ما يلفظه “الشوارعي”
و“النخبوي” من معسكر آل سعود. عشرات بل مئات المقالات
وبرامج تلفزيونية وإذاعية دع عنك مواقع التواصل الاجتماعي
(تويتر) و(فيسبوك) تكشف عن جنوح غير مسبوق وسقوط أخلاقي
يعبّر عن نفسه في لغة مجنونة ومنفلتة، لا يكاد تجد فيها
ما يفيد بفكرة، بل هي حفلة هلوسة غرائزية تطيح بكل القيم
الأخلاقية وأدب الحوار، فضلاً عن العلمية شبه المعدومة.
تصفية حسابات طائفية.. يخرج فريق ال سعود من مثقفين
وإعلاميين ونخبويين الهراء، كل الهراء، المتراكم منذ سنين.
لافرق بين “العربية” و“الاخبارية” وقنوات “إم بي سي” من
جهة وقناتي الفتنة “وصال” و“صفا”، كما لا فرق بين خالد
الدخيل، وتركي الدخيل، وحسين شبكشي، وسعود الريس، وعبد
العزيز قاسم، ومحمد الرطيان، وعشرات أمثالهم.. وبين شيوخ
الفتنة أمثال ابراهيم الفارس، ومحمد البراك وعشرات أمثالهم.
يصدر هؤلاء جميعاً عن رؤية واحدة ترى في كل “مختلف” خصماً،
وكل من ليس مع “عاصفة الحزم” هو عدو حكماً، وينفّذ أجندة
إيرانية.
يفاجؤك التسيّب المطلق في مقاربة الموضوعات السياسية،
الى القدر الذي يجعلك تشكّك في أن أصحابها هم أنفسهم الذين
كانوا فيما مضى يتناولون قضايا أخرى سياسية وثقافية بمنهجية
هادئة وراقية. سقطت الدولة والوطن وعادت السعودية الى
جذورها الطائفية والقبلية والمناطقية، وهو ما يبديه الاعلام
السعودي بكل أدواته.
لم يكن أمير المنطقة الشرقية سعود بن نايف، شقيق ولي
العهد ووزير الداخلية، “مسحوباً من لسانه” كما يقال، حين
أطلق تصريحاً طائفياً هابطاً ووصف سكّان المنطقة التي
يحكمها بأنهم “أتباع عبد الله ابن سبأ الصفوي المتلون”،
ما شجّع أحد جنود آل سعود طلال المطيري لكي يهدّد مواطني
القطيف قائلاً: “والله لو أدخل القطيف لأنحر رضيعكم قبل
كبيركم”. ولم تكن زلّة لسان من الأمير ممدوح بن عبد الرحمن
آل سعود (عضو شرف في نادي النصر الرياضي)، وهو يتداخل
هاتفياً ليصف الاعلامي الرياضي الحجازي عدنان جستنية بـ
“طرش البحر”، وهي العبارة العنصرية التي يستخدمها النجدي
السلطوي لوصف سكّان الحجاز.
مجلة (فرونت بيج) الأميركية نشرت تقريراً في 24 فبراير
2014 بعنوان (السعودية الدولة العنصرية في الشرق الأوسط)
من اعداد دنيال جرينفيلد، جاء فيه: أن ثمة بلداً في الشرق
الأوسط حيث 10% من سكّانه لا يتمتعون بحقوق متساوية بسبب
اللون، حيث أن الرجال ذوي البشرة السوداء غير مسموح لهم
بتولي مناصب حكومية عديدة. وهناك ثلاثة ملايين مواطناً
من أصول أفريقية لا يحصلون على حقوق متساوية، ويمنعون
من العمل في منصب: قاضي، مسؤول أمني، دبلوماسي، رئيس بلدية
وكثير من المواقع الرسمية؛ وأن النساء المواطنات من أصول
أفريقية ممنوعات من الظهور على الكاميرا.
حملة «الإعادات» لقراءة التاريخ القديم والحديث من
قبل فريق المثقفين والاعلاميين والكتّاب تصلح مادة للدراسة
بحد ذاتها، لأنها ظاهرة فريدة نسبياً، إذ يخرج هؤلاء طبائع
لم يكن خروجها سهلاً دون اختبار العدوان على اليمن.
الكاتب والدبلوماسي عبد الله الناصر، كتب سلسلة مقالات
في (الرياض) حول حزب الله وأمينه العام مثل (ناصر الله
و»عاصفة الحزم»: إيران تتحدث)، و(حزب الله.. المعركة الأخيرة)،
و(العرب وأوهام المقاومة.. القابلية للإنخداع!)، و(في
لبنان للباغي صرعة)، و(لماذا تفاجأنا؟)، وكتب غيره على
المنوال نفسه في الصحيفة ذاتها وفي غيرها من الصحف. لنتوقف
عند مقالة الناصر بعنوان (حسن نصر الله.. المعمم العميل)،
ويكفي العنوان دليلاً على محتوى المقالة، التي يحاول فيه
إعادة قراءة حرب تموز 2006 في ضوء نظرية المؤامرة، وقال:
«فقد ظننا أنها حرب بين عدوين حقيقيين، وسرقتنا حبكة اللعبة
وأدهشتنا..». والحال، بحسب اعتقاده، أنها حرب «أعدت إعداداً
مدروساً لأغراض وأهداف محسوبة النتائج وبدقة متناهية الخبث،
وأن لهذه الحرب المفتعلة ما بعدها» وأن الهدف من تلك الحرب
وياللدهشة: هو تمكين إيران من احتلال لبنان.
لم يكن الناصر بحاجة الى إعادة قراءة مثل هذه الحرب،
فـ «الإعادة» ليست مطلوبة لأن القراءة الأولى كانت كذلك
لدى الطيف «المتطيّف» في نجد والوهابية عموماً، وأن صاحب
الاكتشافات المبكّرة الشيخ ناصر العمر كان يردد دائماً
بأنه حذّر قبل عشرين عاماً من أن حزب الله هو حارس حدود
الكيان الإسرائيلي (وكأن المقاومة السلفية لهذا الكيان
لم تتوقف لحظة منذ احتلال فلسطين سنة 1948).
لم يختلف الناصر عن سعود الريس في مقالته (أبو بكر
خامنئي.. للشيعة دواعشهم) المنشور في (الحياة) في 7 مايو
الماضي، والذي أطاح سمعة الصحيفة التي احتسبها المثقفون
العرب «نوعية» و»نخبوية» ولكن كتّابها السعوديين أقحموها
في لعبة غرائزية أحالتها أداة في صراع هابط، فصارت جزءاً
من لعبة «شوراعية» يقودها فريق مدجّج بتعاليم مدرسية أدمنت
الإحساس بالتميّز الوهمي، والوعي المثخن بخيالات العقيدة
التنزيهية.
تلبيد الفضاء الاعلامي بكمية هائلة من المواد الاعلامية
ذات المضمون الطائفي والعنصري لا يعكس سوى أزمة عميقة
تعيشها الدولة السعودية، وإن خلق التوترات الداخلية بين
المكوّنات الاجتماعية تهدف الى صرف النظر عن استحقاقات
الإصلاح السياسي، التي تحاول العائلة المالكة الهروب منها
عبر تعزيز الانقسامات الداخلية..
لا ينفك العدوان السعودي على اليمن عن الحملة الطائفية
المسعورة التي أطلقتها وغطّت كامل المساحة الاعلامية.
هستيريا لا تكاد تستثني زاوية ولا برنامجاً ولا عموداً
يومياً ولا حتى فاصلة إعلامية..وحتى البرامج الرياضية
على قنوات إم بي سي كانت لها مساهمات لافتة في الردح الطائفي،
وبات كل يمارس سقوطه الاخلاقي على طريقته، فثمة طائفية
في شكلها الشفّاف تطفح بذاءة وفحشاً في القول وفجوراً
في الخصومة..
في لحظة ما توحّد مجتمع السلطة، فلا تمايزات فكرية
ولا سياسية ولا اجتماعية، فقد تلاشت الحواجز فجأة، وصار
الجميع يردد لغة شوارعية، هي نفسها التي يتقنها الأمير،
والشيخ، والمثقف، والاعلامي، وصولاً واستواءً مع أي شوارعي
يغرد في تويتر او يتحدث في الكيك.
لا يتطلب اختيار مثال في هستيريا الاعلام السعودي جهدا
من أي نوع، فأين ما تفتح عينك على صحيفة ورقية أو الكترونية،
قناة فضائية أم إذاعة إف إم، أو أرضية، خطبة في الجامع،
أم محاضرة ثقافية واعلامية في الجامعة.. سوف تجد نفسك
أمام حفلات جنون بنغم واحد.
كل من يعارض العدوان السعودي على اليمن يصبح تلقائياً
هدفاً لفريق المتفلّتين في الاعلام الرسمي، تخويناً، وتسقيطاً،
وتشهيراً. إنه تحرر من القيم والثوابت التي يزعم فريق
السلطة أنه يتمسّك بها ويدافع عنها، ويحاكم الآخرين على
أساسها في زمن الرخاء والهيمنة. أما اليوم فلا صوت يعلو
فوق صوت المعركة، فإما أن تكون مع «عاصفة الحزم» وعليه
مع آل سعود ومتوالياتهم، أو أنت إيراني ورافضي وخائن ومجوسي
وصفوي.
ومن أجل تزخيم الشبكة الغرائزية لدى جمهور السلطة،
تتسابق الأقلام الأكثر بذاءة وتبجّحاً في النيل من الآخر.
لا مكان هنا لمبدأ «الاختلاف في الرأي» ولا لمقولة «إختلاف
الرأي لا يفسد للود قضية»، فهنا يصبح الـ «نحن» والـ «هم»
في حالة اشتباك مصيري، يتقرر على ضوئه أين يكون الـ «نحن»
وأين يكون الـ «هم». وعليه، يأخذ الإختلاف مع الآخر شكل
قطيعة تامة تؤسس لمواجهة مسلّحة وعدوانية.
قبل عدوان آل سعود على اليمن، أطلق ناشطون في التيار
السلفي الوهابي حملة على مواقع التواصل الاجتماعي لجهة
إحداث توازن بين توصيم الوهابية بكونها راعية لكل التنظيمات
الإرهابية وفي مقدمها «داعش» الوهابي، فراحوا يلقون باتهامات
على المذاهب الأخرى وخصوصاً الشيعة بكل أطيافهم، وحين
شنّ آل سعود الحرب على اليمن أخذت الحملة طابعاً مذهبياً
صرفاً، فراح فريق السلطة يحاكم معتقدات مواطنيه، وفتحت
الصحف أبوابها لكل من أراد أن ينال من الشيعة، وكذلك القنوات
الفضائية بكل أنواعها، وراح البعض يضع المواطنين أمام
اختبار جدارة أو وطنية أو ولاء: إما أن تكون معنا أو أنت
خائن، فيما يشبه حملة تفتيش نوايا يشارك فيها جميع أفراد
السلطة، وهذا ما يجعلها دولة شوارعية بامتياز.
|