مملكة ثلاثية الأبعاد!
سامي فطاني
لم يخيّب سلمان أحداً من المراقبين لحركة التغييرات
التي بدأها منذ الساعات الأولى لوفاة سلفه عبد الله في
22 يناير الماضي، فقد طبّق خطّته كما توقّعها كثيرون،
دون حاجة الى “مجتهد” ولا لغيره، فمن يراقب أداء الرجل
يدرك تماماً بأن لا شيء يمكن أن يكون مفاجئاً في أوامر
سلمان.
وقد أجهز سلمان على ما تبقى من تركة سلفه عبد الله،
بإعفاء الأمير مقرن بن عبد العزيز من ولاية العهد، بعد
أن كان الضمانة الوحيدة لوصول الأمير متعب بن عبد الله،
وزير الحرس الوطني، الى العرش..وبذلك تصبح المملكة السعودية
خاضعة بالكامل لسلمان ونجله محمد، وزير الدفاع وولي ولي
العهد العهد، ورئيس لجنة الشؤون الاقتصادية والتنمية،
وإبن شقيقه محمد بن نايف، ولي العهد، ووزير الداخلية،
ورئيس لجنة الشؤون السياسية والأمنية.
وفي سابقة في تاريخ الدولة السعودية يتمّ إعفاء ولي
العهد من منصبه، إذ لم يصل الخلاف الذي نشب بين سعود وفيصل
في مطلع الستينيات من القرن الماضي الى حد إعفاء سعود
لأخيه فيصل من منصبه، ولكن سلمان فعل ذلك بالرغم من أن
الأمر الملكي رقم أ/86 الصادر عن الملك عبد الله بتاريخ
28 آذار 2014 ينص في أمر تعيين مقرن في ولاية العهد على:
“لا يجوز بأي حال من الأحوال تعديله، أو تبديله ، بأي
صورة كانت من أي شخص كائناً من كان، أو تسبيب، أو تأويل،
لما جاء في الوثيقة الموقعة منّا ومن أخينا سمو ولي العهد”
أي سلمان. ومن الواضح أن هذه الفقرة كان يراد منها قطع
الطريق على الملك، بعد عبد الله، من أن يقوم بأي إجراء
أو تعديل، إذ لا يمكن تصوّر حصوله في عهد الملك عبد الله.
تجدر الإشارة الى أن من بين الأوامر الملكية الأربعة
والعشرين التي أصدرها سلمان ضمن الموجة الثالثة من تصفية
تركة عبد الله، هناك أربعة أوامر تثير اهتماماً خاصاً
وهي: إعفاء مقرن من ولاية العهد، وسعود الفيصل من وزارة
الخارجية، وتعيين محمد بن نايف ولياً للعهد، ومحمد بن
سلمان ولياً لولي العهد.
ما يلفت في الأمر الملكي الخاص بإعفاء بالأمير مقرن
بن عبد العزيز (رقم أ/90) من ولاية العهد أنّه جاء على
«كتاب» مؤّرخ في (10 رجب 1436هـ الموافق 29 نيسان 2014)
أي في اليوم نفسه الذي صدر فيه أمر الإعفاء، بل بعد ساعات
قليلة من تقديم الكتاب للملك، ما يثير سؤالاً حول السرعة
في الاطّلاع على «طلب الاعفاء» وتنفيذه الفوري، الأمر
الذي يتجاوز الإجراء الشكلي، وأنه يوميء الى صدوره قبل
هذا التاريخ، وأن «كتاب» مقرن مجرد تحصيل حاصل.
في قرار تعيين محمد بن نايف ولياً للعهد ومحمد بن سلمان
ولياً لولي العهد ليس ثمة جديد، ولكن ما يلفت أن تعيين
الأخير في منصبه الجديد جاء على «توصية» من محمد بن نايف
لتفادي «الإحراج» الشكلي وسط العائلة المالكة، ليوحي وكأن
الملك سلمان لم يكن ليختار إبنه لهذا المنصب لولا التوصية
التي رفعها ولي العهد الجديد، وهذه سابقة أيضاً في تاريخ
الدولة السعودية الحديثة. فقد تطلّب تعيين محمد بن سلمان
تقديم «شهادة حسن سيرة وسلوك» إذ أشاد الملك بنجله الشاب
وقال ما نصّه: « نظراً لما يتطلبه ذلك الاختيار من تقديم
المصالح العليا للدولة على أي اعتبار آخر، ولما يتصف به
صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز
من قدرات كبيرة - ولله الحمد - والتي اتضحت للجميع من
خلال كافة الأعمال والمهام التي أنيطت به، وتمكن - بتوفيق
من الله - من أدائها على الوجه الأمثل، ولما يتمتع به
سموه من صفات أهلته لهذا المنصب، وأنه - بحول الله - قادر
على النهوض بالمسؤوليات الجسيمة التي يتطلبها هذا المنصب،
وبناء على ما يقتضيه تحقيق المقاصد الشرعية، بما في ذلك
انتقال السلطة، وسلاسة تداولها على الوجه الشرعي، وبمن
تتوافر فيه الصفات المنصوص عليها في النظام الأساسي للحكم،
فإن سموه يرشح سمو الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز
ليكون ولياً لولي العهد». وأضاف الى تلك الشهادة «تأييد
الأغلبية العظمى من أعضاء هيئة البيعة لاختيار سموه ليكون
ولياً لولي العهد».
التأمل في عبارات الإطراء يظهر أن سلمان يرد على منتقدي
إبنه في الأسرة المالكة بدرجة أساسية في إدارة ملف الحرب
على اليمن، ما اضطره لأن يقدم تلك الشهادة ذات الطبيعة
الدفاعية والإطرائية لناحية تبرير قرار التعيين، خصوصاً
قوله «تقديم المصالح العليا للدولة على أي اعتبار آخر»
لنفي الاعتبار الشخصي.
نشير الى أن التقديمات الاجتماعية في الدفعة الأخيرة
من الأوامر الملكية اقتصرت على العاملين في القطاعين العسكري
والأمني، والغاية واضحة: ترسيخ سلطة محمد بن نايف وزير
الداخلية، ومحمد بن سلمان، وزير الدفاع.
دلالات الأوامر الملكية الجديدة
■ أن ثمة أزمة حكم في البيت
السعودي. فحجم الأوامر الملكية ونوعها ودلالاتها في غضون
ثلاثة شهور منذ تولي سلمان العرش تعبر عن أزمة الدولة
السعودية. تأتي الدفعة الثالثة من الأوامر الملكية (الأولى
كانت في يوم وفاة الملك عبد الله في 22 كانون الثاني،
والثانية في 29 كانون الثاني)، في سياق عملية تقويض ممنهجة
لتركة الملك عبد الله. الدفعات الثلاث لا تقتصر على شكل
السلطة بل تطاول بنية السلطة وجوهرها. وبخلاف دعوى نقل
السلطة الى “جيل الشباب” لتبرير تعيين محمد بن نايف ومحمد
بن سلمان في منصبين سياديين على مقربة من العرش، فإن الأوامر
الملكية تستهدف تركيز السلطة وليس نقلها، إذ باتت الدولة
السعودية بكامل حمولتها في عهدة بيت سلمان بدرجة أساسية،
ومحمد بن نايف، فيما أصبح أبناء الأمراء الكبار سواء في
الجناح السديري (فهد، سلطان، أحمد..) أو أبناء عبد الله
(متعب، تركي، عبد العزيز..)، دع عنك آلاف الأمراء في الأسرة
المالكة خارج معادلة السلطة.
■ على أية حال، فإن إعفاء مقرن
يجعل سلمان الملك المطلق، وهو وحده يدير لعبة السلطة الآن
وفي المستقبل، إذ لن يكون هناك منافسون لا من جناح عبد
الله ولا من أي أجنحة أخرى داخل آل سعود.
■ وضع حد للتباينات داخل العائلة
المالكة حول العدوان على اليمن، بعد ظهور مؤشرات على معارضة
أمراء للمقاربة العسكرية منذ البداية واستفراد محمد بن
سلمان بقرارات الحرب والسلم. مقالة راغدة درغام في صحيفة
(الحياة) لصاحبها الأمير خالد بن سلطان، حول القرار 2216
الخاص باليمن تحت الفصل السابع، في 24 نيسان الجاري تشير،
في الحد الأدنى، إلى تباين المقاربات بين الأمراء، وتلفت
الى الغاية من الانتقال من “عاصفة الحزم” الى “استعادة
الأمل” والتي وصفتها بـ “استراتيجية خروج” وأنها “كانت
ضرورية لتجنّب الانزلاق إلى مستنقع بري في اليمن، لا سيما
بعدما بات واضحاً أن لا مصر ولا باكستان جاهزتان للتورط
بقوات برية في اليمن”. درغام ألمحت الى ما كان يتداوله
أمراء آل سعود في السر عن “الاستعجال” الذي وقع عندما
بدأت “عاصفة الحزم” وأن “العملية لم تجهّز الناحية البرّية
من الحرب في اليمن، ولم تضع خطة «باء» في حال عدم توافر
الجيوش البرية.
فالغارات الجوية وحدها لم يكن لها
أن تنجز المهمة العسكرية مهما كانت مكثفة”. أسهبت درغام
في نقد الاستراتيجية العسكرية السعودية في “عاصفة الحزم”
وأن المسؤول عن قرار الحرب، أي محمد بن سلمان، لم يكن
على دراية كافية بقواعد الحروب وشدّدت على الارباك المبكّر
في بنية التحالف العشري لاسيما “عبر إعلان انتماء باكستان
إلى «التحالف» ليليه رفض باكستان الانخراط فيه”. بدا المقال
كما لو أنه “سرديّة” عسكرية من نوع خاص، إن لم يكن بمثابة
خلاصة لجلسة مكثفة مع خالد بن سلطان وأمراء آخرين لديهم
مقاربة مختلفة عن تلك التي لدى وزير الدفاع محمد بن سلمان..
■ احتواء تداعيات فشل العدوان
على اليمن، الأمر الذي يتطلب “تماسك” الجبهة الداخلية
في حال تقرر وقف الحرب دون تحقيق منجزات ميدانية يمكن
التعويل عليها. صدور أوامر ملكية بهذه الحساسية والخطورة
وفي هذا التوقيت على وجه التحديد يندرج في سياق تأويلي
مختلف. في الأحوال الاعتيادية، تصبح مثل الاعفاءات والتعيينات
تلك مألوفة، ولكن حين تصدر في وقت الحرب تأخذ دون ريب
معنى آخر، وتعكس أزمة داخلية تستدعي مثل هذا الإجراء العاجل.
■ ان الأوامر الملكية أخذت
إلى حد كبير طابعاً شخصياً، وأن سلمان تجاوز الأعراف السائدة
فيما يرتبط بالمناصب السيادية، وفرض معيار الولاء له شخصياً
وليس الولاء للعائلة المالكة. ظهر ذلك بوضوح في الدفعة
الثانية من الأوامر الملكية التي اختار فيها وزراء على
ولاء له ولإبنه محمد بن سلمان، وها هو يؤكّد ذلك في الأوامر
الجديدة. عادل الجبير، وزير الخارجية الجديد، تجاوز، على
سبيل المثال، الآليات المعتمدة في عمل السفراء وصار يرسل
تقاريره الى الملك مباشرة دون الرجوع الى مسؤوله المباشر،
أي سعود الفيصل، ما يعزّز فكرة الولاء الشخصي، من بين
أفكار أخرى ينطوي عليها تعيين الجبير في منصب وزير الخارجية.
التأمل في الأوامر الجديدة يوصل الى نتيجة مفادها أن
سلمان دخل مع الأميركي في ترتيبات السلطة تقوم على انتقاء
أشخاص مقرّبين من واشنطن (مثل وزير الداخلية محمد بن نايف
ووزير الخارجية عادل الجبير) في إطار صفقة تشمل تعيين
محمد بن سلمان في منصب ولي ولي العهد وإعفاء مقرن وتالياً
تهميش جناح عبد الله..
يثبت سلمان بأنه على استعداد على تقديم ما لم يقدّمه
سلفه للأميركيين من أجل إعادة ترميم التحالف الاستراتيجي
بين الرياض وواشنطن، وإن الوجوه الجديدة التي جاء بها
تؤكّد هذا المنحى، فوزير الداخلية محمد بن نايف يحل محل
بندر بن سلطان، ووزير الخارجية الجديد عادل الجبير يتولى
مكان سعود الفيصل، وبالتالي أصبح ملفا الداخلية والخارجية
في العهدة الأميركية..
السيناريوهات المحتملة في المرحلة المقبلة سوف تأتي
في السياق نفسه الذي بدأه سلمان منذ الساعات الأولى لاعتلائه
العرش، وهناك سيناريوهان مطروحان في الوقت الراهن:
الأول: تنحي الملك عن السلطة
وتعيين محمد بن نايف ملكاً ومحمد بن سلمان ولياً للعهد،
على أن يصبح سلمان رئيس مجلس العائلة من أجل ضمان انتقال
سلس وهادىء للسلطة برعايته الشخصية، وبما يحول دون تفجّر
خلافات مستقبلية.. قد يكون هذا الإجراء مخرجاً مثالياً
لإحتواء مبكر لصراعات داخل العائلة يشارك فيها الأمراء
المتضررون من احتكار السلطة من قبل أبناء سلمان ونايف.
الثاني: إلغاء وزارة الحرس
الوطني وإعفاء الأمير متعب من منصبه كوزير للحرس، وإلحاقها
بوزارة الدفاع التي يتولاها محمد بن سلمان، فيما يتولى
متعب منصباً شرفياً..كان الأمر الملكي بنقل الحرس الوطني
الى الحدود مقصوداً، وقد أجابت الأوامر الملكية الجديدة
عن أسئلة رئيسية حول الغرض من هذه الخطوة، ومنها إبعاد
الحرس من مركز السلطة لتفادي أي ردود فعل يمكن أن يقدم
عليها متعب، وأيضاً وهذا الأهم التمهيد لخطوة أكبر يصبح
فيها الحرس الوطني تحت سلطة وزير الدفاع.
رسالة الرئيس الأميركي أوباما الى الأمير متعب ليست
معزولة عن تطوّرات الأمس، بل قد تأتي في سياق احتواء ردود
فعل متوقّعة من قبل جناح وجد نفسه بلا «ريش» في غضون فترة
قياسية.
|