ويكيليكس السعودية
صندوق إجرام آل سعود الأسود
محمد قستي
في التاسع عشر من يونيو الماضي، بدأ موقع ويكيليكس
بنشر الدفعة الأولى من وثائق وزارة الخارجية السعودية
التي تم تسريبها بعد السيطرة على سيرفرات وزارة الخارجية
السعودية في مايو ٢٠١٥، وقد اعترفت
الرياض حينها بالاختراق، وأعلن الجيش اليمني الالكتروني
مسؤوليته، وأظهر بعضاً من تلك الوثائق. وقال مدير الموقع
جوليان أسانج (ان الوثائق السعودية ترفع الغطاء عن دكتاتورية
محاطة بالسرية وغير منتظمة على نحو متزايد، والتي لم تحتفل
ببلوغ عدد الرؤوس المقطوعة فيها الى المئة هذه السنة فحسب،
بل أصبحت تشكل خطراً على جيرانها وعلى نفسها). وبرر الموقع
نشر الوثائق في بيان صحفي باللغة العربية بأن (السعودية
عبارة عن دكتاتورية وراثية. وبصرف النظر عن سجلها الشائن
في مجال حقوق الانسان، فهي لا تزال الحليف الأول للولايات
المتحدة الاميركية وبريطانيا).
ماذا يعني تسريب نصف مليون وثيقة من مراسلات وزارة
الخارجية السعودية؟
قد لا يبدو مهماً كثيراً معرفة من هو وراء التسريب،
سواء كان الجيش اليمني الإلكتروني، أو الجيش السوري الإلكتروني،
أو أمريكا، أو إيران، أو جهات استخبارية أخرى. فأعداء
وخصوم ومنافسو آل سعود كثيرون. هناك دولٌ عديدة تدمّرت
بفعل سياسات السعودية، وكلها دولٌ عربية، تعاني اليوم
من حروب أهلية، كان لآل سعود دورٌ أساس في اشعالها وتغذيتها.
لذا فالمهم هو موضوع الوثائق ذاته، وتكمن أهميتها في
أمور عديدة:
أولاً ـ ان هذه الوثائق كشفت بعض الملامح من وجه آل
سعود الحقيقي، في الحقيقة كشفت شيئاً من الوجه البشع لآل
سعود وسياستهم في المنطقة. فالرياض تقدّم نفسها دائماً
على أنها الدولة المؤمنة، المُشفقة على العرب والمسلمين،
والتي تحفظ العهد والذمار، وتراعي الدماء والأعراض، وتتمنّى
الخير للجميع. لكن الوثائق لا تكشف هذا البتة، بل تكشف
التآمر وتمويل القتل، والتجسس على الدول جميعاً، وشراء
الذمم، وملاحقة أي صاحب رأي بالإغراء تارة، او بالتهديد.
ثانياً ـ تكشف الوثائق المسرّبة من وزارة الخارجية
السعودية بعضاً من مخططات النظام السياسية، والإعلامية،
والدينية، والإستخبارية، وكلّها تنفّذ على بعضها في أوانٍ
مستطرقة. لهذا فإن الوثائق لا تكشف مراسلات دبلوماسية
محضة، وإنما عن تواصل وتخطيط ووثائق لمؤسسات ووزارات حكومية،
بينها الديوان الملكي صانع القرار الأساسي، وبينها بعض
مراسلات جهاز الاستخبارات السعودي، ووزارات مثل التعليم،
والعدل، والشؤون الاسلامية، والإعلام، والداخلية، والهيئة
الوطنية لحقوق الانسان الرسمية، وغيرها. كل هذا الجهات
تتفاعل مع بعضها، وترسم وتخطط وتنفذ برامج الحكومة السعودية
في الخارج العربي والاسلامي والدولي. بمعنى آخر، فإن الوثائق
لا تفضح وزارة الخارجية السعودية، بقدر ما تفضح جهاز الدولة
السعودي نفسه.
ثالثاً ـ تكشف وثائق ويكيليكس السعودية، أن الرياض
تخترق وتتحرك في قلب معظم الدول العربية، وهي في أكثرها
حليفة وصديقة وربما شقيقة ـ بتعبيرهم، كدولة الخليج نفسها،
حيث المتابعة والرقابة لإعلامها، ولحركة السياسة فيها.
ما يعني أن دولاً مثل دول الخليج تعيش اختراقات سعودية،
وتدخلات غير مبررة في الشؤون الداخلية لها، وهو أمرٌ يزعم
آل سعود دائماً بأنهم لا يقدمون عليه، وأنهم لا يتدخلون
في شؤون الدول الأخرى. يمكن تفهم التدخل السعودي وملاحقة
تفاصيل ما يتعلق بإيران، لكن المتابعة السعودية أوسع من
هذا بكثير. لعلّ هذا يكشف من جهة حجم التدخل السعودي في
شؤون الاخرين، كما يكشف ايضاً حجم الطموح السعودي في السيطرة
والنفوذ في دول تعتبر من حيث المبدأ صديقة وحليفة وشقيقة.
رابعاً ـ ان الوثائق المسرّبة عبر ويكيليكس، من صندوق
وزارة الخارجية السعودية الأسود، قد كشف اسماء وجهات وشخصيات
سياسية ودينية واعلامية عديدة، تتعاون مع السعودية، وترتزق
منها، وهي أسماء كبيرة في بلدان عديدة، ما يعني ان أثر
نشر وثائق ويكيليكس السعودية، سيمتدّ الى بلدان عربية
واسلامية أخرى، حيث فجّرت بعض الوثائق قنابل سياسية في
لبنان والعراق وغيرهما. زد على ذلك، فإن وثائق الخارجية
السعودية سبّبت وستسبب حرجاً كبيراً لآل سعود خاصة بين
حلفائهم وأصدقائهم، إذ انها ستستخدم ضدهم، باعتبارهم مجرد
دمى لآل سعود. وهناك دول صديقة او غير عدوة ولا تصنف ضمن
الخصوم، استاءت من الوثائق المتعلقة بها، وبنشاط السعودية
الطائفي والسياسي والإختراقات التي تقوم بها، ويفترض ان
تحفّز الوثائق دولاً عديدة على أخذ الحيطة من نشاطات السعودية
عامّة، والطائفية منها بشكل خاص، باعتبارها تبث التشدد
وتغذّي القاعدة وداعش بالفكر المنحرف والإجرامي.
خامساً ـ يقتات النظام السعودي في فرض هيبته على شعبه
من خلال اتباع سياسة الغموض، التي يعتقد النظام انها تبث
الرهبة والخشية، وتضخّم من حجم القوة لأمراء آل سعود.
ومن شأن كشف وثائق الخارجية السعودية ان يضع النظام في
موضعه اللائق به، أدنى مما يظهر نفسه في أكثر الحالات.
ومما لا شك فيه أن وثائق الخارجية السعودية، ستعيد تشكيل
الصورة النمطية عن آل سعود وعن عمل وزاراتهم، سواء للمواطنين
او غيرهم، وسواء كانوا موالين أو معارضين. ان كشف بعض
غسيل آل سعود، يحطّ من شأنهم، ويعرّض بهم، ويجعلهم سخرية
للجمهور، وربما تجاوز فاعتدى عليهم باللفظ والفعل. فقوة
النظام ليست في عضلاته، وإنما في الهالة التي رسمها في
ذهن أتباعه، وهذه الهالة تمّ اختراقها بقوة من خلال الوثائق.
سادساً ـ ما يقوله موقع ويكيليكس في توضيح اهمية الوثائق
السعودية صحيح. قال: (توفر الوثائق السعودية نظرة عن كثب
لطريقة سير العمل في المملكة، ولكيفية ادارة تحالفاتها،
وتعزيز مكانتها كقوة اقليمية عظمى في الشرق الاوسط، وذلك
عبر الرشاوى والمشاركة في اختيار الافراد والمؤسسات الرئيسية).
وأضاف: (وتظهر الوثائق الهيكل البيروقراطي للمملكة ذي
المركزية الشديدة، حيث يتدخل كبار المسؤولين في أصغر وأدقّ
التفاصيل). بمعنى آخر، فإن الوثائق السعودية المسرّبة
عبر ويكيليكس، تعطينا صورة أشمل عن عمل الوزارة، وعن العقلية
التي تدير الدولة السعودية، وعن غاياتها، واهتماماتها،
وطرق عملها، وكيفية ادارتها، والأمور التي تهمها من عدمه،
والوسائل التي تستخدمها، والأشخاص الذين تتابعهم، والأمور
التي تزعجهم، وهكذا. وهذا يعتبر كنزاً لأي باحث ومتابع
للشأن السعودي، خاصة القوى المعارضة التي أيضاً وردت أسماؤها
في الوثائق، وملاحقة النظام لبعضها، حسبما نشر حتى الآن.
ونظراً لأهمية الوثائق التي لم يُنشر منها سوى ٦١ ألفاً
من أصل نصف مليون وثيقة، أصيب آل سعود بالذعر، وبالحرج.
كان صعباً عليهم نفي خبر اختراق سيرفرات وزارة الخارجية،
وكان الأصعب ان ينفوا ان الوثائق غير صحيحة.. والأكثر
صعوبة هو كيف تتعاطى الوسائل الاعلامية والسياسية في تبرير
ما جرى. ماذا سيقول الأمراء للمواطنين؟ وبأي لغة سيبررون؟
وماذا عمّا يُنشر؟ هل هو صحيح أم لا؟ فهناك آلاف الأسماء،
وكل جهات الدولة ضالعة أو حاضرة في الوثائق؟
بشكل بائس، طلبت الخارجية السعودية من (المواطن السعودي
الواعي) تجنب الدخول الى أي موقع بغرض الحصول على وثائق
او معلومات مسربة، قد تكون غير صحيحة بقصد الاضرار بأمن
الوطن. واضافت: (لا تنشر أي وثائق قد تكون مزورة، تساعد
أعداء الوطن في تحقيق غاياتهم).
بمعنى آخر: ايها المواطن لا تستخدم البروكسي في تجاوز
الحجب الرسمي السعودي لموقع ويكيليكس، وتطلع على وثائقه.
لا تقرأ الوثائق، ولا تنشرها، فقد تكون مزوّرة! وقد لا
تكون. فأصل اطلاع المواطن على الوثائق المسربة أمرٌ خطير
بنظر آل سعود، وهو كذلك حقاً.
مواقع تتبع الداخلية حذرت هي ايضاً من نشر الوثائق،
وكأن المواطن هو من ينشرها، وكأن المطلوب ان يطلع عليها
كل العالم عدا المواطن. وحتى هيئة التحقيق والإدعاء التابعة
لوزارة الداخلية ذكرتنا بأن (نشر وثائق أو معلومات سرية
أو إفشائها جريمة تصل عقوبتها الى عشرين سنة سجناً).
للتقليل من شأن التسريب الخطير، لم تقل الحكومة السعودية
انها بصدد اجراء تحقيق او محاسبة او ما أشبه، بل هوّنت
الأمر على لسان رئيس الادارة الاعلامية في وزارة الخارجية
الذي اعترف بأن كمبيوتر الخارجية تعرض لهجمة الكترونية،
ولكنه وصفها بأنها (محدودة)!
نصف مليون وثيقة والهجمة محدودة! الأكثر طرافة انه
زاد على ذلك بالقول ان الاختراق لن يؤثر على شفافية وزارة
الخارجية!
قناة العربية أعدت تقريراً في موقعها، قالت فيه ان
ما وجد في الوثائق المسرّبة لم يحوِ قنابل سياسية، بل
مجرد (مراسلات لم تحرج الحكومة السعودية) لأنها (متماشية
مع خطاب الرياض الرسمي والمعلن).. لتخلص الى فشل المخترقين
والمسرّبين لها، والى ان سياسة المملكة الخارجية واضحة!
الخبير في الحماية الالكترونية عبدالله العلي عبر حسابه
في تويتر من أن ما نشر حتى الآن جزء يسير من الوثائق،
وان القادم أدهى وأمرّ، بل هو كارثة فعلاً. ويضيف: (وثائق
دبلوماسية لأربعين سنة وتحليلات أمنية وأسماء بالآلاف..
يا للهول!)؛ ونصح آل سعود: (بدلاً من إزعاج الناس بمراقبة
الواتساب، ووضع قوانين تجرّم الاختراق، راقبوا شبكاتكم
الحساسة).
ويرى الدكتور الإماراتي عبدالخالق عبدالله، أن الوثائق
(تُظهر تهافت شخصيات سياسية واعلامية عربية على الرياض
طلباً لدعم مالي وسياسي). والاعلامي البحريني عادل مرزوق
يؤكد بأن المثير في الوثائق ليس (اكتشافنا قدرة المال
على استمالة الولاءات فحسب، بل أيضاً اكتشاف كم هي رخيصة
نخبنا ومؤسساتنا أمامه). في حين تساءل الاعلامي جمال خاشقجي:
(ماذا يُستفاد من تسريبات الخارجية؟)، وأجاب أنه يجب (إعادة
النظر في سياسة الشيكات لإعلاميين وساسة عرب، أثبتوا غير
مرة انهم غير مفيدين ويقبضون منّا ومن غيرنا)، معتبراً
التسريبات (محرجة محلياً وخارجياً).
في كل الأحوال، فإن نشر وثائق السعودية بالتتابع على
موقع ويكيليكس سيضيف فضائح جديدة وقد تكون شديدة الإيذاء،
خاصة اذا ما تعلّقت بنشاط السعودية في سوريا واليمن ودورها
في انقلاب مصر، وقمع الثورة في البحرين. فحتى الآن لم
يُنشر الشيء المتوقع.
|