مؤرّخو الوهابية.. عثمان بن بشر
الغزو أساس المُلك - 5
فيصل.. الإمام الجبان الذليل
سعد الشريف
يجسّد منصب القاضي في تراث الإمارات الاسلامية عبر
التاريخ رمزية النظام وهيبته. وأن فرض القانون وبسط سلطان
الدولة يتحقّقان عبر دور القاضي الذي يطبق الأحكام، ويفصل
في الخصومات، وبذلك تترسخ سلطة الدولة. وقد عمل آل سعود
منذ البداية على تعزيز سلطة القاضي بكونها أحد أهم تمثّلات
السلطة واستقرارها وديناميتها ومشروعيتها أيضاً.
يذكر ابن بشر في حوادث سنة 1250 هجرية أن فيصل بن تركي
نجح في حسم النزاع مع الأمير مشاري وأعوانه، ودخل القصر،
وكاتب رؤوساء قضاته، وقدم اليه الشيخ علي بن حسين بن الشيخ
محمد بن عبد الوهاب، وكان حينذاك قاضي حوطة بني تميم،
وأخوه الشيخ عبد الرحمن بن حسين بن الشيخ محمد بن عبد
الوهاب، وكان قاضي بلدان الخرج، كما قدم اليه الشيخ عبد
الله بن عبد الرحمن أبا بطين، وكان قاضي الوشم، فألزمه
بالجلوس عنده، حتى فرغ من غزوة الدمام. كما قدم إليه الشيخ
محمد بن مقرن، قاضي بلدان اللهزوم، فحضروا عنده مع قاضي
قضاة المسلمين الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد
بن عبد الوهاب فهنأوه. قرّب فيصل المشايخ، ودعاهم الى
مجلسه، وأقام القضاة سالفو الذكر عنده أكثر من شهر «فأظهر
إعزازهم وإكرامهم وتوقيرهم واحترامهم..» حسب ابن بشر،ج2
ص130.
وفي سياق إعادة إنشاء السلطة وترتيب علاقاتها ومستوياتها،
وفد على الامير فيصل بن تركي، أمراء البلدان ورؤساء العربان
من كل جهة، فهنأوه وبايعوه فأقرّهم وأعطاهم، وحباهم، وكساهم،
وأقرّ القضاة على أعمالهم في بلدانهم: الشيخ عبد الرحمن
بن حسين بن الشيخ محمد على بلدان الخرج، وأخوه عبد الملك
في حوطة بني تميم، وابن أخيهم حسين بن حمد في الحريق،
والشيخ محمد بن مقرن على بلدان المحمل، والشيخ عثمان بن
منصور على سدير، والشيخ عبد العزيز بن عثمان بن عبد الجبار
على منيخ، وكذلك الباقون، ثم أمر على العمال يخرجون مع
الرؤساء لقبض زكاة عربانهم، فركب مع رئيس كل قبيلة عاملة.
وفي مسعى لترتيب أمور السلطة، اختار فيصل بن تركي رؤساء
القبائل ليكونوا جزءاً من مشروع دولته، فقرّبهم واختار
لهم عمّالاً ليقبضوا منهم الزكاة، كما اختار من القضاة
أولئك المنتمين لأكبر القبائل وأقواها.
كان تجربة الدولة السعودية الأولى درساً قاسياً بالنسبة
للأمراء السعوديين من بعد ذلك، خصوصاً بعد أن نقضت قبائل
نجد العهود، ونزعت البيعة، وبايعت المصريين بعد غزوهم
لنجد.
وفي أول سنة من حكمه، واجه فيصل مظاهر تمرّد لدى بعض
القبائل في نجد، ففي حوادث سنة 1250 نزل فيصل بلد الشعرا
المعروفة في نجد، وتقع في عالية نجد قرب بلدة الدوادمي،
وأقام فيها نحواً من أربعين يوماً، وأمر أصحابه أن يجتمعوا
عنده بعد صلاة العصر للدرس والمذاكرة، ثم بعث عماله الى
العربان يقبضون منهم الزكاة، وهو في منزله ذلك، فبلغه
أن ابن الدجما وعربانه من قحطان هربوا عن العمال، وامتنعوا
عن الزكاة، فحشد أصحابه عليهم ودهموهم في مكانهم، وقتل
منهم نحواً من ستين رجلاً، وغنم كثيراً من أموالهم من
الإبل والغنم والأثاث وغير ذلك، ثم رجع الى منزله في بلد
الشعرا، ووفد عليه رؤساء العربان محمد بن فيصل الدويش
رئيس مطير، ومحمد بن قرملة رئيس قحطان وغيرهم، وفي أثناء
هذه الغزوة أقبل وفد أهل وادي الدواسر، والفوا عليه وهو
في منزله في الشعرا، وطلبوا منه العفو والصفح عن ما جرى
منهم، فعفا عنهم وبايعوه على دين الله ورسوله والسمع والطاعة،
وأرسل معهم أميراً.. وكان رفض دفع الزكاة يبطن تمرّداً
على السلطة السياسية ورفضاً لمشروعيتها، ولذلك عدّ فيصل
موقف هؤلاء بأنه خروج على سلطانه.
وفي حوادث سنة 1251هـ كان فيصل لا يزال يقيم في بلد
الشعرا، ولما رجع عماله من عند العربان وقبضوا منهم الزكاة
رحل قافلاً الى وطنه، وأذن لأهل النواحي يرجعون الى بلدانهم..
وفي هذه دلالة على أن تسليم الزكاة ينطوي على الاعتراف
بسلطة وشرعية ابن سعود، وأن تسليمها له يعني اذعاناً له
ورسالة على أن دافع الزكاة لم يعد يشكل خطراً عليه، ولذلك
أمر جنوده المستعدين للقتال بالعودة الى بلدانهم بعد أن
وصلت أموال الزكاة.
ومن الحوادث في هذا المجال، أن فيصل سار بالجنود من
العارض والخرج والفرع والأفلاج ووادي الدواسر والقصيم
والجبل والوشم وسدير وغيرهم، وجميع غزوان العربان، فنزل
روضة التنهات المعروفة عند الدهناء وأقام فيها أكثر من
شهرين، وذلك لأنه بلغه أن بعض العربان فيها امتنع عن الزكاة،
فإذا بخروجه سمعوا وأطاعوه، فوفد عليه رؤساء العربان،
وأرسل اليهم عمّالاً لكل فريق عامله فقبضوا منهم الزكاة،
وألقى عليه أخوه جلوي في أثناء تلك المدة، فقفل راجعاً
الى وطنه، وأذن لأهل النواحي يرجعون إلى أوطانهم.
ومن حوادث سنة 1252هـ، مسير العساكر من مصر، وكان عددهم
نحو ألفين ما بين راجل وفارس، فلما وصلوا الى ينبع البندر
المعروف بين مصر والمدينة، بلغ خبرهم فيصل، فأرسل اليهم
محمد بن ناهض الحربي، رئيس قصر بسام، بهدية لهم ويستفحص
خبرهم، فقدم إليهم ورجع إلى فيصل وأخبره بأنهم رحلوا من
ينبع وقدموا المدينة، ثم رحلوا منها ونزلوا الحناكية المعروفة،
فلما بلغ فيصل مسيرهم استشار رؤساء رعيته للاطمئنان الى
جهوزيتهم وحتى لا يغدروا به، وقد أشار عليه الشيخ عبد
العزيز بن عثمان بن عبد الجبار ـ وكان أرسله فيصل الى
جبل شمر قاضياً ـ فأشار عليه بالنفير والمسير، وأن يقصد
القصيم ويقيم فيه وينزل، قبل أن يقدم اليهم العساكر، فيجيبون
ويتابعونهم، فيكون نزوله عندهم فيه ثبات لهم، وردة عند
عدوه.
الإمام الجبان
تحوّلت تجربة ابراهيم باشا، وغزوه لنجد، وهدمه الدرعية،
واقتياده أمراء آل سعود وشيوخ الوهابية وحواشيهم الى مصر،
مصفّدين بالأغلال.. الى عقدة متوارثة لا تزال باقية حتى
اليوم.
وفي قصة هرب فيصل بن تركي ما يثير الانتباه. قصة مسير
فيصل لمواجهة العساكر المصرية يرويها ابن بشر في حوادث
سنة 1253هـ، بقدر كيبر من التحفظ والمداورة، وتصويرها
على أنها عمل بطولي، أو في الحد الأدنى تسديد وتوفيق إلهي،
حيث ينقلنا ابن بشر الى سياق آخر غير السياق الذي تكشف
عنه الرسائل المتبادلة بين فيصل والمصريين. يقول ابن بشر
إن فيصل لما دخل البلد، رأى منهم ما يريبه، وجاهر منه
رجال بالعداوة، فأخذ فيصل يهيء ما في القصر من سلاح وأمتاع
وفرش ودراهم وغيرها، فدخل عليه رجال من أهل الرياض، وحدث
عليه منهم ما أوقع في قلبه الخوف منهم، ثم ثار عليه أناس
وحصل مجاولات، فلما رأى فيصل ذلك، اقتضى رأيه السديد،
وعمله الرشيد، أن يفتّ في أعضادهم بالعطاء، فبذل الدراهم
لكل من حاذر منه، أو خاف شره أنه خاف منهم أن يمنعوه لا
يخرج بشيء من القصر، ومنهم جاهره بهذا الكلام، فلما بذل
لهم ذلك سكنوا عنه، وتركوه، فأخرج جميع ما كان في القصر
من غالي وحالي، وجعله عند رحائله وخيامه مع غزوان أهل
الجنون، وأكثر من ذلك أخرجه بخفيه. ولما استكمل ما اراد
أخذه من القصر وأراد الخروج منه إلى خيامه، خاف من رجال
منهم على خيله وما معه، فأرسل إلى من عند الخيام من الرجال
يرحلون بجميع ما معهم، ثم خرج من القصر على خيله دفعة
واحدة، ووقف رجال من أعوانه حتى خرج من البلد، فلحق بماله
وأحماله مسروراً سالماً من الشرور، معه من الخيل نحو أربعمائة
عتيق، ومن العمانيات والنجايب وعدد كثير فأنجاه الله وماله
من البغاة، وسلمه خالقه وباريه من الآفات، فلما وصل الخرج
أقام فيه عشرة أيام، واستلحق بعض أهله، وشيء من باقي امتاعه،
ووصلوا اليه بالسلامه، ولحقه عدد من رجال من خدمه وغيرهم.
ويمضي ابن بشر في استكمال قصته فيقول أن فيصل رحل بعدئذ
من الخرج وقصد الأحساء، فلما وصل اليه نزل في الرقيقة
المعروفة، وظهر إليه عمر بن عفيصان ورؤساء أهل الأحساء،
وبايعوه على نصرته، وظهر ابن عفيصان من قصر الكوت المعروف،
ونزل فيه فيصل بعياله وأثقاله، وأقام في الأحساء آخر عاشورا
وصفر وربيع الأول من سنة 1253، ووفد عليه رؤساء العربان
من مطير والعجمان والسهول وسبيع وغيرهم..
ويمضي ابن بشر في استكمال قصته فيقول أن فيصل رحل بعدئذ
من الخرج وقصد الأحساء، فلما وصل اليه نزل في الرقيقة
المعروفة، وظهر إليه عمر بن عفيصان ورؤساء أهل الأحساء،
وبايعوه على نصرته، وظهر ابن عفيصان من قصر الكوت المعروف،
ونزل فيه فيصل بعياله وأثقاله، وأقام في الأحساء آخر عاشورا
وصفر وربيع الأول من سنة 1253، ووفد عليه رؤساء العربان
من مطير والعجمان والسهول وسبيع وغيرهم..
كل ما يذكره ابن بشر ليس سوى قصة هروب الإمام الجبان
الذي ترك رعيته تواجه مصيرها منفردة، فيما جمع ما يملك
أو ما حصل عليه من غنائم وأموال الزكاة وهرب بها مع عائلته
الى الإحساء.
وفي 1253 كانت عساكر الترك في بلد عنيزة، وسقطت بلاد
شمر تحت سيطرة الاتراك، ثم قدموا على الرياض وأطاعت نجد
كلها للأتراك، سوى أهل الخرج والفرع ومن والاهم من أهل
الجنوب. وبعث اسماعيل والأمير خالد بن سعود الموالي للمصريين،
رؤساء أهل الرياض من قبل الاتراك عمالاً من عسكرهم يخرصون
ثمار أهل القصيم، وأما غير أهل القصيم فخرص ثمارهم رجال
من بلدانهم.
وفي السابع من صفر دخل خالد واسماعيل الرياض ومعهم
عساكر الترك، ودخلوا القصر واستوطنوه ووجد فيه كثير من
التمر والبر، ونزل باقي العسكر خارج الرياض، وقدم عليهم
رؤساء البلدان وتابعوهم، ووقعت مناوشات بين خالد واسماعيل
وأتباعهم من القبائل وبعض البلدات التي رفضت الاستجابة
بالخضوع، وبعضهم رفض الاتراك ولكن خضعوا لاحقاً.
وكان الشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ علي بن حسين،
والشيخ عبد الملك بن حسين، والشيخ حسين بن حمد ابن حسين
أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب.. لما أقبلت عساكر الترك
على الرياض هربوا منه وسكنوا بلد الحوطة، وبعضهم عند تركي
الهزاني في الحريق، وقرروا المواجهة مع العساكر الاتراك،
ونزلت بالأخيرين هزيمة كبيرة، وهرب حلفاء الاتراك من النجديين،
وغنمت القبائل مغانم كثيرة.. وهذا ما شجّع فيصل على التفكير
في العودة الى نجد لأنه استشعر بأن هناك قبائل سوف تقاتل
بالنيابة عنه، وهو يريد الحكم ليس الا ولكن على أكتاف
المنتصرين.
فلما وصل فيصل خبر هزيمة العسكر وقتلهم، وهو في الأحساء،
عزم على الظهور الى الرياض ومحاربة عدوه، فقام يجهز الناس
للخروج، وأمر أهل الاحساء بالتحمل معه للغزو، فخرج من
الأحساء بعدده وعدته ورجاله وأعوانه، وكان معه رجال من
عشيرته وخدامه هربوا معه من الرياض، لما ظهر منه، فلما
وصل بلدان الخرج أمر أهلها بالنفير معه، واستلحق أهل الحريق
والحوطة وبلدان الفرع ونفروا معه، وأقبل معهم الشيخ القاضي
عبد الرحمن بن حسن، ثم رحل من الخرج وقصد الرياض، فلما
أقبل على المصانع المعروفة عند الرياض، ظهر عليه خالد
وأهل الرياض وعساكر الترك فحصل قتال شديد بين الفئتين،
وكان فيصل قد جعل أهل النجدة من قومه كميناً، فلما نشب
الحرب بين الفئتين ظهر عليهم الكمين، فولوا منهزمين وجنود
فيصل في ساقتهم، وقتل منهم قتلى كثيرة من العسكر وأهل
الرياض، وانهزم من أهل الرياض في تلك الهزيمة نحواً من
مائتين رجل، ومعهم عدد من عساكر الترك أعجلهم المسلمون
عن دخول الرياض، فدخلوا منفوحة فحصرهم فيصل فيها، وطلبوا
منه الأمان عليهم وعلى أهل بلد منفوحة من عندهم من الترك
فأعطاهم أمان وخرجوا إليه، وأصلح أهل البلد وبايعوه، ونزل
فيصل وجنوده عند الرياض ولازم سورها واستدارت عليها جنوده،
وبنوا محاجيهم قبالة المرابيع والسور، ونزلوا دور النخيل
وأخذوا ما على الركايا من الأخشاب، وذلك أول يوم من جمادى
الآخرة.. حيث فرض حصاراً على الرياض..ووضعت سياسة صارمة
في الدخول والخروج منها، ما أدى الى ارتفاع الأسعار، خصوصاً
مع تزايد الاعداد القادمة من خارج الرياض.
فلما كان في أثناء هذا الحرب ضاقت صدور أهل الرياض
من كثرة ما عندهم من الناس الذين ليس لهم بهم نفع في حربهم
من أهل بلدهم، ففتحوا لهم باب البلد وأخرجوهم منها، واستمر
ذلك فرأى فيصل بعد التشاور مع أهل مشورته تعليق السلالم
على البلد، فأمر أتباعه والجنود من أهل العارض والأفلاج
والفرع من حوطة بني تميم والحريق وغيرها من البلدان الواقعة
جنوب مدينة الرياض، أن يحملوا على السور بالسلالم، فحملوا
عليه وصعدوا الى أعلى السور وصاروا يهدمون فيه، وحصل عليهم
رمي من أهل المرابيع، ثم تراجع أهل الرياض وحصل فيه ضجة
عظيمة، وفزعوا من كل جانب وحصل صريخ وتنادب، وحصل في رأس
السور ضرب بالبنادق والسيوف، فنزلت تلك الجنود عن السور
ورجعوا الى مكانهم، وقتل منهم عدة رجال.
بعد الواقعة أقبل رئيس سبيع فهد الصيفي، ومعه عربانهم
ورؤسائهم، فزعاً لخالد وأتباعه، ومحارباً لفيصل ثم شنّ
الغارة عليه ومعه حشد من قاسي بن عضيب وعربانه من قحطان
يريدون إخراج فيصل من الرياض، فراسلهم فيصل فلم ينجح في
اقناعهم، فلمّا كان آخر الليل ثاني عشر شعبان رحل فيصل
من الرياض ونزل منفوحة، ثم حصل بين خالد وفيصل مراسلة
وصلح.
ثم تم الصلح بينهم، وفي ثاني عشر رمضان ظهر أناس يحطبون
فأغارت عليهم الخيل من عند فيصل، وخرج أهل الرياض ومعهم
خالد والعسكر، وفزع فيصل ومن معه فالتحم القتال بين الفئتين،
ولم تنفك الا عن قتلى بين الفريقين.. وتواصلت المعارك
بين فيصل وسبيع وغيرها.
الإمام الذليل!
يذكر ابن بشر في حوادث سنة 1254هـ، ان نجد عانت من
الغلاء والقحط، وبات حال الناس صعباً، وانعكس حتى على
أحوال الأمراء ووجهاء القوم وزعماء القبائل. وثمة رسالة
بعث بها فيصل بن تركي الى خديوي مصر تنطوي على عبارات
فيها شعور بالمذلة والخنوع، وهي محفوظة في دار الوثائق
المصرية، ومنها رسالة بعث بها فيصل بن تركي آل سعود إلى
سليم باشا أو توزبر قائد موقع الجديدة. جاء فيها:
من: فيصل بن تركي
إلى: سليم باشا أوتوزبر»!»
دولتلّو مرحمتلّو سعادة أفندينا
باشا صاري عسكر الجديدة دام اقباله
بعد تقبيل أياديكم الكرام خلّد
الله عليكم الفضل والانعام، أن من الهجن تعلقنا ـ 12 ـ
اثني عشر هجين ـ فإننا أبقيناهم بطرف محمد أبو علي شيخ
بالحوازم أمانة لاجل المرعى بطرفه، فان معلوم دولتكم يلزم
لهم عليق مؤونة، فان كان موافق رأي دولتكم تأمروا حضرة
درويش أفندي محافظ ينبع لاجل يصرف لهم شيء إلى الهجن المذكورة،
فالنظر في ذلك إلى دولتكم، والامر أمركم وأطال الله بقاكم
أفندم.
في 3 ذي الحجة سنة 1254 هـ
(فيصل بن تركي)
كان لافتاً تذلّل فيصل بن تركي لقائد المدفعية المصرية
سليم باشا أوتوزبر من أجل استجداء (العليق) للإبل، وقد
نقل أوتوزبر الرسالة في في 14 من ذي الحجة سنة 1254هـ،
إلى كتخدا جناب الخديوي جاء فيها:
مولاي صاحب الدولة ولي النعم،
أرسل فيصل بن تركي عريضته هذه من ينبع الهجر إلى مخلصكم
يقول فيها انّه أودع اثنى عشر هجينا له أمانة عند محمد
أبي علي أحد شيوخ قبيلة الحوازم ويلتمس صرف العليق اللازم
لها…
وبما أن المشار إليه قد أرسل إلى القاهرة نرى أن يتوقف
صرف عليق هجنه التي تركها أمانة على صدور أمر له من دولتكم).
وصدرت إرادة الخديوي رقم 5 في 5 محرم سنة 1255 هـ تقول:
(صدر الامر بارسال هجنه إلى مصر إذا كان وجودها هناك عبئاً).
كثرت السرقة وحوادث القتل من أجل الحصول على المال
والطعام والشراب، وعادت عساكر الاتراك لمهاجمة بلدات نجد،
ودخلوا في مواجهة مع جنود فيصل الذين انهزموا عن القصر
وتركوه، وتبعهم عساكر الترك ودخلوه، فأقبل عمر بن عفيصان
امير الأحساء ونواحيه ومعه جنود كثيرة ونزل بلد السلمية
المعروفة في الخرج، وأرسل الى فيصل يخبره بنزوله وواعده
أنهم يسيرون على عساكر الترك ويحملون عليهم، فأمر فيصل
على أهل القريا من أهل الحوطة والحريق والخرج، وجملة من
رجاجيله مع عبد الله بن بتال المطيري، وقصدوا ابن عفيصان
في بلد زميقة وسار الجميع الى خورشيد وجنوده ومن معه من
قبائل نجد، فباغتتهم قوات ابن عفيصان صبيحة الاحد سابع
رمضان، فحصل في العسكر رهق وخوف وجالوا لهزيمة عظيمة،
وحصل قتال شديد.. وتفرقت جنود ابن عفيصان ما ادى الى اضطراب
احوال الناس، فاضطروا الى مكاتبة الباشا طلباً للصالح،
فلما علم فيصل بذلك بعث ابراهيم أبو ظهير الى الباشا وطلب
منه الأمان فأجابه الى كل ما طلب، الا أن يسافر الى محمد
علي في مصر ويجلس عنده مع عشيرته الذين في مصر، فظهر فيصل
من البلد الى الباشا وصالحه على دماء أهل الدلم وأموالهم،
وعلى من تابعهم من أهل العارض وغيرهم.
فدخل فيصل الدلم وقضى حاجاته منها ثم خرج ونزل عندهم
وأقام نحو أربعة أيام، فجهز الباشا حسن اليازجي وعسكر
فرحل فيصل معهم ومعه أخوه جلوي وابن أخيه عبد الله بن
ابراهيم بن عبد الله وأولاوده عبد الله ومحمد، وسار الجميع
من الدلم في آخر رمضان فوصلوا الى المدينة ومنها الى مصر،
وأنزلوه في بيت، وجعلوا عنده حرساً يحفظونه، وصار في مكانه
ذلك في أشبه ما يكون تحت الاقامة الجبرية.
يقول ابن بشر في حديثه عن صفات فيصل بن تركي: «أنه
ما أعطى الدنيّة إلا بعد حروب كثيرة ووقائع فظيعة شهيرة،
وقتل رجال، وأخذ أموال..».
أما ابن عفيصان، فإنه لما بلغه أمر فيصل، رحل من الماء
الذي هو عليه وقصد الاحساء، فلما كان بعد المصالحة وأهل
الخرج بيومين، أرسل الباشا عبد الرحمن الحملي بكتب لعمر
بن عفيصان ورؤساء الأحساء وأعطاهم الأمان وأمرهم بالقدوم
إليه ويحفظون بيت المال، فلما وصلهم الحملي وعرض الخط
على عمر قال: سمعاً وطاعة، وأمر الرؤساء يتجهزون الى الباشا،
وقام يتجهز معهم للذهاب اليه على أعين الناس، وهو يجمع
ما كان له في الأحساء من مال ومتاع وغير ذلك، وما كان
في بيت المال يدفعه الى وكيل الباشا، فلما فرغ من جمع
ما كان له، أمر أهل الاحساء بالركوب فخرج الجميع من الاحساء
قاصدين الباشا، فلما صاروا خارج البلد أخبرهم بمراده،
قال: انتم اقصدوا باشتكم، وخذوا منه الأمان على أنفسكم
وبلدكم، وأما أنا، فأنا خائف على نفسي، ورحل وقصد العقارية
القصر المعروف بقرب العقير، ثم عبر الى البحرين وأقام
عند آل خليفة، ثم عبر الى الكويت ونزل فيه، وركب أهل الاحساء
الى الباشا واعطاهم الأمان، وأذن لهم يرجعون الى بلادهم
وذلك في شهر شوال.
وبعد رحيل اهل الاحساء الى بلادهم أمر الباشا على أحمد
بن محمد السديري بأن يكون أميراً على الاحساء.. وكان أمير
الاحساء من قبل ال سعود عمر بن عفيصان هرب خوفاَ من القوات
التركية، فركب أحمد ومعه عدة رجال من أهل سدير وغيرهم،
ثم أمر الباشا أن يركب معه من العسكر مائة وثلاثون خيالاً،
رئيسهم رجل من المغاربة يقال له: أبو خزام، فسار أحمد
بالجميع وقصد الاحساء، فورد البشير عليهم أن القادم عليكم
أحمد أميراً، ودخل الاحساء ونزل بيت الامارة الذين كان
فيه عمر بن عفيصان في قصر الكوت، وفرق العساكر والرجال
في القصور والثغور، فجعل على قصر صاهود خمسين رجلاً، وفي
قصر ماجد خمسة وعشرين، وفرق باقي العسكر عند البيان وفي
البروج.
وأرسل الى أهل القطيف يقبلون إليه فركب إليه رؤساؤهم
علي ابن عبد الرحيم أمير سيهات، وآل بن غانم سعود وأخوه
وأبا السعود وبايعوه، ورتب الكاشف وعسكر من الترك حفاظ
في القطيف، وأرسل خرشد رجل من عسكره يقال له طاهر وجعله
رئيس في عسكر القطيف، وأرسل أحمد خراريص لثمرة الزرع في
الأحساء والقطيف من العرب فخرصوها.
وأرسل الباشا محمد أفندي الى البحرين وأهل فارس، بعد
مراسلات مع آل خليفة ولا اتفق بينهم حال، وقدم فارس فاشترى
كثيراً من البر والشعير وغير ذلك وأنفذه الى الأحساء،
فلما قدم الأحساء كاتب الباشا فأمره بالرجوع الى البحرين،
فوصل الى آل خليفة وصالحهم، ثم رجع إلى الأحساء وكاتب
الباشا، فكتب إليه الباشا أنه أمير على الأحساء ويكون
أحمد في بيت المال وهذه عادة ولاية الترك.
ولكن الأفندي قتل في أحدى الليالي وهو قادم من عين
نجم المعروفة في الأحساء بين العشائين على يد ثلاثة رجال
مسلّحين، قتلوه هو وخادمه.. وفي اليوم التالي أمر السديري
أمير الاحساء بأن ينادى في الموسم كل يوم من يخبر عن القاتل
فله خمسمائة ريال، فقيل له أن الذين قتلوه فلان وفلان
ثلاثة من العوازم من أعوان آل عريعر، فأرسل اليهم وحبسهم.
ولما بلغ الخبر الباشا بقتل الافندي جزع عليه جزعاً شديداً،
وأمر على أفندي عنده إسمه محمد وجهز معه عسكراً وأرسله
بدله.
وبعد السلطان عبد المجيد بدأ الضعف يظهر على أداء الدولة
العثمانية وهياكلها ومؤسساتها كما تراخت قبضتها في المناطق
الخاضعة تحت هيمنتها ومنها الاحساء ووسط نجد.. وتذكر حوادث
1257هـ وقعة بقعا بين أهل القصيم وأتباعهم من عربان عنزة
وبين عبد الله بن علي بن رشيد وأتباعه من عربان شمر وحرب
وغيرهم. وذلك أنه لما رحل عبد العزيز أمير بريدة وعبد
الله بن رشيد من الرياض وكلّ قصد بلده، أغار غازي بن ضبيان
رئيس عربان الدهامشة على عربان بن طوالة من شمر، وهم نازلون
في الشعيبات الماء المعروف في أرض الجبل، فأخذهم ومعهم
إبل كثيرة لأهل الجبل، وكان غازي من أتباع أهل القصيم،
فركب عبد الله بن رشيد بجنوده وأغار على غازي فأخذهم منهم
إبلا كثيرة، فغضب لهم أمير بريدة وانتدب لحرب ابن رشيد،
وكان أهل القصيم متعاقدين على حرب كل عدو يقصدهم بعداوة،
فأجمعوا على حرب ابن رشيد، فركب يحيى بن سليمان بجنود
كثيرة من عنيزة وأتباعها، وركب عبد العزيز بأهل بريدة
وجميع أهل القصيم، واجتمعوا على بقيعا نحو ستماية مطية
ومعهم غازي بن ضبيان وأتباعه، وقاعد بن مجلاد وأتباعه
من عنزة، وابن صبر من السلاطين والصقور من عنزة، وسار
الجميع من بقيعاء فأغاروا على وجعان الرأس من شمر فأخذوا
منهم أموالاً كثيرة من الإبل والأثاث والأغنام، فلما أخذوا
هؤلاء العربان قال يحيى لعبد العزيز لابد أن نرجع على
هذا النوماس، فحلف أنه ما يرجع حتى يقاتل ابن رشيد في
حايل، فسارت تلك الجنود وقصدوا الجبل ونزلوا بقعا المعروفة
في جبل شمر، فخرج إليه أهلها فأمسكهم عنده، ونزلت عربانه
(ساعده) الماء المعروفة عند بقعا، فلما علم بهم عبد الله
بن رشيد أمر على رجال وفرسان من جنوده، وأمرهم يقصدون
عربان أهل القصيم الذين على ساعده، وجعل قائدهم أخوه عبيد
فساروا إليهم، وشنوا عليهم الغارة قبل طلوع الفجر، فحصل
بينهم قتال عظيم، فمرة يهزمون أهل القصيم ومرة يهزمهم
عبيد وأتباعه.. ثم انقلبت الكفّة لصالح الرشيد، فقتل كثيراً
من أعيان وتجار القصيم «غصبهم عبد العزيز على الخروج معه،
قتل من أهل بريدة أكثر من سبعين رجلاً، منهم إبن لعبد
العزيز وحمد بن عدوان وابن شايع، ومن أهل عنيزة نحو الثمانين،
منهم أحمد بن فهيد الفضيلي ويحيى بن سليمان الأمير وأخوه،
وقيل: إن الذي قتل في هذه الوقعة من أهل القصيم قريب ثلثمائة
رجل، وأخذوا منهم كثيراً من السلاح والركاب وغير ذلك».
ونجح عبدالله الرشيد في السيطرة على نجد وحكم الرياض
وأمر عليها، ولكن لما وصل عبد العزيز حاول ثانية في المسير
الى حايل وجمع المال والرجال في طلب الثأر لهزيمتهم فكتبوا
الى جميع بلدان القصيم: وقالوا: نفير عام على الخاص والعام
خارج بلدانهم..وسار نحو اربعة آلاف رجل فوصلوا الى الكهفة،
ولم يحصلوا على طايل ورجعوا الى بلدهم..
وفي هذه السنة، 1257هـ، هرب عبد الله بن ثنيان بن سعود
عن خالد الى المنتفق في ريف العراق، وذلك أنه لما أراد
خالد يركب الى خرشد وهو في الشنانة أمر على عبد الله يركب
معه، فتعلل بأغراض وأمراض فلم يأذن له، فحين ركب خالد
من الرياض هرب الى المنتفق، فألفى عند عيسى بن محمد رئيس
المنتفق، فلما رجع خالد أرسل اليه وأعطاه أمان بعد أمان
فظهر إلى نجد فقدمها في آخر رجب، فلما أقبل الى الرياض
أرسل أمامه رجلاً من أصحابه يخبره بقدومه، ونزل في البنية
الموضع المعروف خارج بلد الرياض، فلما ظهر عليه الرجل
من عند خالد ركب ركابه مسرعاً وقصد الحاير فألفى عند راشد
بن جفران وكان بينه وبينه مصاهرة فوعده النصرة والقيام
معه، فكتب عبد الله الى أهل الفرع من أهل الحريق وأهل
الحوطة وبلد الحلوة، وذكر لهم أنه قائم على هذه العساكر
وأتباعهم، وكان عندهم الشيخ عبد الرحمن بن حسن وعلي بن
حسين وبنو عمهم من آل الشيخ هربوا من الرياض لما قدمها
اسماعيل وخالد، فكتبوا له ووعدوه النصرة والقيام معه،
فلما علم خالد أنه استقر في الحاير محارباً له، أرسل الى
رؤساء سبيع وقال: إذهبوا اليه وأعطوه الأمان، فلما وصلوه
أبى عليهم، وقال: لا بد من حربه.
وقام عبد الله يدعو الناس ويكاتبهم فقدم عليهم رجل
من آل شامر وغيرهم ومعهم أناس مجتمعين عند الهزاني، فلما
رأى خالد أنه صمّم على حربه كتب الى النواحي من أهل المحمل
وسدير والوشم والعارض وغيره، وأمرهم بالمغزا وتعجيلهم
بالركوب فتثاقل الناس بأمره، فلم يقدم عليه الا أهل الخرج،
وغزو أهل سدير وأناس قليل من أهل المحمل وغيرهم، فلما
قدموا عليه في الرياض أمر بالتجهيز للغزو وأمر أهل الرياض
يركبون معه، ولم يترك منهم أحداً يحاذر منه، واستلحق أمير
منفوحة سليمان ابن سعيد، وخلف أميراً في الرياض حمد بن
عياف وعنده عمر بن محمد بن عفيصان وأبقى عندهم بعض رجاجيله
وجعل أميرهم سد بن دغيثر، وعسكر الترك والمغاربة في القصر،
فخرج من الرياض وقصد الأحساء وذلك في 22 شعبان سنة 1257هـ.
ثم ان عبد الله بن ثنيان تمكن من الاستيلاء على بعض
البلدان في نجد.. ثم صارت وقعات ومقاتلات أياماً، فلما
طال الحصار والقتال ضاقت صدور أناس من الأعراب الذين معه
في منفوحة فتفرق عنه أكثرهم وكتب رؤوساء أهل الرياض مراسلات
الى أهل النواحي يبشرونهم أن ابن ثنيان محصور في منفوحة
وهرب عنه قومه ولم يبق معه الا قليل، ولكنه نجح في إخراج
العساكر المصرية من نجد، وقد استغل فيصل بن تركي هذا التحوّل
الميداني كيما يستعيد ما يعتقده ملك آبائه وأجداده، وكان
فيصل في مصر وقد استغل فرصة التحوّلات السياسية في الدولة
العثمانية وانعكاسها على الدول التابعة لها.
في 4 شوال سنة 1257هـ وبعد أن هرب عن ثنيان بعض عربانه
وكثير من أعوانه خرج اهل الرياض بالعساكر والقبوس فنازلوه
في بلد منفوحة، فحصل عند الجدار قتال في حرب وتنادب وضرب،
واستمر القتال من الصبح الى آخر النهار، وصار قتلى وجرحى
وبدأ ابن ثنيان يخسر ميدانياً كما خسرت العساكر المصرية
والتركية التي انعكست على سلطانهم في الاحساء، فخرج رجالهم
ومن ولوه أمر الاحساء، حتى ان خالد بعث الى رؤساء الاحساء
وطلبهم منهم النصرة والمساعدة فوعده أناس ومنهم ومنوه،
ثم داخله الفشل، فأمر على من بقي من رجاله وعساكر الترك
وقال لهم: نريد أن نعرض ونعمل قوة لحرب فأتوا بخيلكم وركابكم،
ثم خرج بهم من الأحساء وهرب، وترك شيئاً من ثقله وخيله
وقصد الدمام القصر المعروف في بحر القطيف ونزله ومن معه،
ثم هرب عنه أكثر خدامه ورجاله الذين معه، ثم هرب الى الكويت
ومنه الى القصيم ثم إلى مكة.
وفي حوادث سنة 1259 يذكر بن بشر عودة فيصل من مصر،
ففي أول السنة نزل من حبسه بجبال. وهي قلعة في جبل وهرب
منها متدلياً بالحبال هو وأخوه جلوي وابن عمه عبد الله
بن ابراهيم وابنه عبد الله وقد اتفقوا مع أصحاب مراكب
فركبوها في الليل وساروا الى جبل شمر فأرسلوا الى عبد
الله بن علي بن رشيد يخبرونه بمجيئهم فتلقاهم ودخلوا حايل،
فقابلهم بالتكريم والإكرام، وأعظمهم وقال: إبشروا بالمال
والرجال والمسير معكم والقتال، فلما بلغ عبد الله بن ثنيان
الخبر، فأشار عليه أصحابه بما هو متربص به وأن يرسل الى
جميع رعاياه من أقصى مكة وأدناه ويستنفرهم حاضرهم وباديهم،
فخرج من الرياض يوم الجمعة ومعه غزو أهل الرياض وما حوله
من بلدان العارض، وورد عليه في هذه الاثناء مراسلات من
فيصل.
وكان فيصل لما نزل الجبل أرسل رجالاً بمراسلات الى
أمراء النواحي من الأحساء والقطيف الى جميع بلدان نجد،
فأوصلوها خفية إليهم فلما وصلت الى عبد الله بن ثنيان
من فيصل المراسلات، ظهر في قومه التنافس وهرب منهم رجال
الى فيصل، فبعث هو بهدية من الكسوة والدراهم، وأشار عليه
أصحابه أن يدعوه لعله يصير عنده وبين يديه، وكتب الى رعيته
من أهل الرياض يبشرهم بقدومه تسكيناً ويرجوا به تمكيناً،
ولكن فيصل لم يعبأ بالهدية بل جهّز نفسه للخروج إليه،
ورحل ابن ثنيان من الخفس ونزل أرص سدير فوافاه رسل عبد
العزيز بن محمد رئيس بريدة يستدعوه إليه، وأعطاه العهود
والمواثيق أنك تقبل إلينا ونحن لك سامعون ومطيعون، وسبب
ذلك أن بين أهل القصيم وابن رشيد العداوة العظيمة والدم
المنثور.
فتوجه فيصل الى قتال ابن ثنيان وكان يتفادى الأخير
المواجهة، فيما كان فيصل وحلفاؤه يقتربون من قلب نجد،
وتفاجأ ابن ثنيان بوصول فيصل عنيزة حيث سمع أصوات البنادق
في البلد والعرضات، فأيقن انه قد انكسر فعزم ورجع الى
مخيمه وشرد من قومه رجال من رؤساء أهل الجنوب وأهل سدير
وغيرهم، وقصدوا فيصل في عنيزة فلما وصل عبد الله بن ثنيان
بريدة أمر بالرحيل، وذكر لجنوده أنه يريد عنيزة محارباً،
فرحل وقصد بلد المذنب منهزماً الى الرياض، وخاف من جلوي
وأتباعه والدويش وعربانه يغيرون على قومه في طريقهم، فانهزم..فيما
فرض فيصل وحلفاؤه السيطرة على بلدان القصيم.
وقد عرض فيصل على عبد الله بن ثنيان المصالحة وأن يخرج
من الرياض بما عنده من الخيل والركاب والسلاح والأموال
والرجال، وليس له معارض وينزل أي بلد شاء في نجد أو غيرها،
وله مع ذلك من الخراج كل سنة ما يكفيه، فأبى ذلك ولم يرض
الا بالحرب، فشنّ فيصل حرباً عليه ودخل الرياض وكان ابن
ثنيان في القصر فدخله واحتصر فيه وأغلق عليه القصر وأصحابه
ثم بعد ذلك سدّوه بالتراب، ولكن بعد حصار طويل اضطر ابن
ثنيان للاستسلام وجاءوا به لفيصل، فأخذ سلاحه وحبسه وأخذ
القصر منه عنوة، وأخذ جميع أموال ابن ثنيان وخيله وسلاحه،
وصار محبوساً في بيت من بيوت القصر، وجعل عنده حرساً يحفظونه
الى أن مات في الحبس في منتصف جمادى الآخرة من العام نفسه.
وفي هذه السنة، 1259، سار فيصل بجنوده من العارض والوشم
وسدير والقصيم والخرج والفرع والأفلاج ووادي الدواسر،
وسار معه البادي والحاضر وقصد الى جهة القطيف، فأغار على
المناصير وهم عرب رحل وهم أبناء عم لبني هاجر، ويتحدرون
من عمان والبريمي ودبي وقطر ويقطنون هذه المناطق وتصل
منطقة سكانهم الى الربع الخالي. وهؤلاء المناصير الذين
قصدهم فيصل هم من عربان عمان ورئيس تلك العربان ابن نقادان
لأنهم أغاروا على الحاج فأخذهم في الرمل على سيف البحر،
ثم رحل وأغار على شافي بن شعبان وعربانه من بني هاجر،
فهربوا عنه وحقق الغارة عليهم، ثم يقول ابن بشر «وصار
المسلمون في ساقتهم يقتلون ويغنمون، وأخذ كثيراً من أوباشهم
وأثاثهم، وقتل عليهم رجال». (ج2ص226).
وتوجّه فيصل بعد ذلك الى الدمام وفيها عبد الله بن
خليفه وأولاده رؤساء البحرين فحاصره اثنى عشر يوماً، ثم
طلبوا المصالحة فأبى فيصل فأخرجهم منه ومنّ عليهم بدمائهم،
ومافي القصر من سلاح وزهبة وزهاب وأمتاع وغير ذلك لفيصل
ولا لهم فيه شيء فجعله في القصر للمرابطة فيه، فلما أخرجهم
منه أدخل فيه ماية رجل من شجعان رعيته، وأدخل فيه كثيراً
من الزاد مع ما فيه من ذخائر آل خليفة، وكان محاصرته له
بالسفن في البحر وبالرجال في البر، وكان الذي معه في هذه
الغزوة من العلماء الشيخ عبد الله أبا بطين وفد عليه من
القصيم فاستصحبه معه.
وفي حوادث سنة 1260، يذكر ابن بشر غارة العجمان مع
رئيسهم محمد بن جابر الطويل ومعهم أخلاط من سبيع وغيرهم
على محمد بن فيصل الدويش وعربانه من مطير وهو في ديرة
بني خالد، فتزاحمت الجموع وكثر القتال وطال الطراد وبرز
فهاد الدحام للقتال، فقتل سريعاً ووقعت الهزيمة على الدويش
وعربانه وأخذوا بيته ومحله وبيوت الدويشان وأوباشهم وكثيراً
من إبلهم، وقصد محمد بن فيصل الدويش فيصل وهو في الدمام،
وطلبه يرفده ويخرجه في وجهه الى نجد، فأعطاه شيئاً من
الكسوة والدراهم وغير ذلك وظهر بعياله وعربانه من ديرة
بني خالد الى نجد.
ولما فرغ فيصل من أمر الدمام قفل راجعاً ونزل الاحساء
وأقام فيها أربعون يوماً، ووفد عليه كثير من رؤساء العربان
ورؤساء عمان، ووفد عليه ابن صويط رئيس الظفير وأتاه هدايا
كثيرة من الخيل والركاب والسلاح واستعمل في القطيف أميراً
عبد الله بن سعد المداوي، واستعمل في الاحساء أميراً أحمد
بن محمد السديري، ثم رحل من الاحساء الى وطنه، وأذن لغزوانه
يرجعون إلى أوطانهم، ثم إن عبد الله المداوي استلحق على
ابن عبد الله بن غانم الرافضي رئيس القطيف السابق فناوبه
بأشياء ذكرت له، وضربه بالخشب حتى مات، فغضب فيصل وأرسل
اليه غلامه بلال بن سلام الحرق فأشخصه إليه وجلس بلال
مكانه، فلما أتى فيصل ذكر له عذره وموجب ضربه لابن غانم
فقبل منه ورده الى القطيف أميراً، فلما استقر في القطيف
قام في محاربة صاحب البحرين، ثم صار بينه وبين الماير
المعروفين في تلك الناحية محاربة وقتال، وأوقع بهم عدة
وقعات، وقتل فيها من العماير خلق كثير..
الدلالات
1 ـ أن لا شيء ديني يظهر في تلك المعارك الدائرة بين
القبائل، وأن الدعوة الوهابية لم تعدّل في سلوك القبائل،
بل بقي الغزو والغنيمة سمتان رئيسيتان في حياة نجد وقبائلها.
2 ـ ان الوطن بالنسبة لفيصل بن تركي آل سعود وجنوده
هي نجد وأما خارجها فهي مناطق محتلة. وهذا يكشف عن العقلية
التي تحكم الدولة السعودية منذ البداية، فالتمركز النجدي
يجعل من مساواة بقية المناطق الخاضعة تحت سلطان ال سعود
غير ممكن، وهذا في جوهره يعكس بأمانة تامة عقل المحتل.
3 ـ ان فيصل كان يعين ممثلين له في المناطق الخاضعة
لسلطانه بوصفهم جباة ومنفّذين لأوامره وأن يكون من أصحاب
الحظوة في مناطقهم أو قبائلهم.. وعليه، فالعلاقة بين الحاكم
والمناطق الخاضعة لسلطانه هي علاقة استتباع وقهر وليست
علاقة تعاقدية.
في سنة 1261، سار فيصل بجنوده وسار معه جميع غزوان
رعيته من أهل القصيم والوشم وسدير والمحمل والعارض والخرج
والجنوب ووادي الدواسر وغير ذلك فقصد الأفلاج ومعه الشيخ
القاضي محمد بن مقرن وأمير بريدة عبد العزيز بن محمد،
وكان عبد العزيز قد غضب عليه فيصل فأرسل اليه وقيّده بالحديد
وسجنه في بيت وأقام فيه مدة أشهر، ثم شفع فيه رجال من
رؤوساء قبائل نجد في إمارة فيصل، فأطلقه وسار معه في هذه
الغزوة، وكان سبب هذه الغزوة أنه بلغ فيصل اختلاف وقع
بين أهل الأفلاج، فسار اليهم وحبس أهل الخلاف، وأخذ منهم
نكالاً وسلاحاً وغير ذلك وأصلح بينهم، وكان أهل بلد الشبطة
بعيداً عن منزل فيصل وأكثر الخلاف منهم، فأرسل إليهم سرية
مع سلمان بن منديل العمري، وفرحان ابن خير الله، فهدموا
البلد وقطعوا كثيراً من نخيلها، ثم أمر فيصل على سرية
أخرى مع فرحان وأمره يقصد الأفلاج وينظر في أمرهم، ثم
رحل عائداً..
وفي هذه السنة أيضاً، غزا فيصل على آل عمار من الدواسر
وهم قرب الافلاج فسبقه النذير اليهم وليس مع فيصل في تلك
الغزوة الا أهل الرياض، فأمر على خيالته لما بلغه أنهم
انهزموا أن يغيروا على ساقتهم، فأدركوا غنماً فاقتطعوها
وعبد العزيز بن محمد أمير بريدة مع الامام في هذه الغزوة
وكذلك ابن الشيخ عبد العزيز أبا بطين..
وفي هذه السنة وقع اختلاف في بلد أهل سيح آل حامد من
الدواسر وأعرابهم فأمر فيصل بالمغزا فقدم إليه أهل الرياض
غزوان أهل النواحي فأمر أخاه جلوي يركب بالمسلمين حسب
ابن بشر، ثم ألحقه ابن عمه عبد الله بن ابراهيم بسرية،
ونزلوا على بلدهم، وفيها كثير من العربان، فحصل بينهم
قتال شديد قتل فيه عدد من الرجال، ثم طلبوا الصلح وبايعوا
جلوي على دين الله ورسوله والسمع والطاعة، فأرسل الى اخيه
فيصل يخبره بذلك فأذن لهم بالقفول وقتل في هذه الغزوة
ابراهيم بن عبد الله بن ابراهيم أمير حوطة بني تميم..
تحوّل فيصل الى قوة ردع لكل أشكال التمرّد والنزاعات
بين القبائل، ويعد ذلك من أسباب الاضطراب في دولته..لذلك
كمان فض المنازعات بين القبائل التي تقطن تحت سلطانه مسؤولية
عليه لضمان استقرار حكمه..
وفي أواخر سنة 1261 أقبل حاجٌ كثير من الأحساء والبحرين
والقطيف ومن أهل سيف البحر ومعهم عجم كثير، فرصد في الطريق
فلاح بن حثلين رئيس العجمان ومعهم أناس من أعراب سبيع،
وكان حزام بن حثلين مع الحاج، فشنوا عليهم الغارة وشعثوا
من الحاج نحواً من نصفه ولما رأوا الغارة على الحاج إنهزم
أكثرهم، واستنفر فيصل وركب من الرياض ونزل حريملا بانتظار
وصول القبائل المقاتلة الحليفة له، وأرسل فيصل قافلة الى
الاحساء بزهاب وغير ذلك فانسلخ العجمان عن ابن حثلين وهرب
وقصد محمد بن هادي بن قرلمة، فأتى أليه وأهدى اليه فلما
علم فيصل بذلك رحل وقصده فهرب من عند ابن قرلمة فقل فيصل
راجعاً الى وطن وأذن للقبائل بالعودة الى اوطانها..
ثم عاود بن حثلين الكرّة في القتال وجرت مناوشات، ثم
إن رؤساء العجمان طلبوا من فيصل الامان وأنهم يدفعون ما
أخذوا للمسلمين والنكال فأخذ منهم فيصل خمساً وعشرين فرساً.
وفي هذه السنة أرسل فيصل عمّاله لجميع عربان نجد، كل
فريق عامله يقبضون الزكاة من إبلهم وأغنامهم ولأهل النواحي
عمالاً يخرصون الثمار من الزروع والتمر..
وفي سنة 1263 أرسل عبد الله بن رشيد ئيس جبل شمر الى
فيصل يطلب النصرة، وذلك أن بينه وبين عنزة محاربات قديمة،
وأوقع بهم عدة وقائع، وأخذ منهم أموالاً من الخيل والإبل
والغنم وغير ذلك، فسمع بهم ظهروا الى نجد بعدما كانوا
في نقرة الشام ومع رقاقهم، فجهز له فيصل من الرياض مائة
وخمسين مطية عليها رجال من خدامه، وأمر على بلدان سدير
بغزو يتحملون معهم، واستعمل في الجميع أميراً عبد العزيز
بن مشاري بن عياف أمير سدير، وأمر على الشيخ عبد العزيز
بن حمد بن عيبان يركب معه إماما للغزو، فركب ابن عياف
ونزل الصمان، وبلغه أن عبد الله بن رشيد أغار على عدوه
وقضى وطره، وارسل عبد العزيز يخبره بإقباله ومكانه، فأقام
في الصمان نحو أربعة عشر يوماً يرقب رد الكتاب من ابن
رشيد فأبطأ عليه الخبر، فرحل وقصد الكويت يطلب ابن رشيد،
فبلغه أن ابن رشيد رجع الى وطنه فقل راجعاً..
وفي هذه السنة 1264 حصل في عمان اختلاف بسبب تدبير
بعض ولاة الرعية، فلما بلغ فيصل ذلك استلحق من نواحي بلدانه
رجال من كل بلد رجلين وثلاثة، فلما اجتمعوا عنده في الرياض
استعمل فيهم أميراً سعد بن مطلق المطيري، وأمر على عدة
رجال من أهل الرياض يركبون معه، فرحلوا من الرياض وقدموا
الأحساء، ثم رحلوا الى عمان، فلما بلغ الخبر ابن طحنون
وكان هو الذي وقع منه الشر والاختلاف، استلحق جميع نواحيه
واستنفرهم ورصد لهم وأرسل عيونه يماشونهم، فلما علم بذلك
رؤساء عمان مكتوم وسلطان بن صقر، كتبوا الى المطيري يدعونه
يأتي اليهم وينذرونه عدوه وذكروا له يسلك طريقاً يحصل
له الأمن ولا وافقهم، وأرسل عيونه أمامه فأخذهم ابن طحنون
فمالأهم وخانوا في المسلمين فكتموا عليه هذه الشوكة مع
ابن طحنون بل ذكروا لهم أنهم هؤلاء عربان قليلة الرجال
كثيرة الأموال والإبل وغيرها، فأغار عليهم المسلمون فنهض
عليهم ابن طحنون ومن معه من أهل عمان وحصل قتال شديد،
فانهزم المسلمون هزيمة شنيعة وقتل منهم رجال وهلك منهم
رجال ظمأ وقصدوا مكتوم في بلده دبي المعروفة في عمان فأكرمهم
وشجعهم، وأقاموا عنده ثلاثة أيام وقصدوا الشارقة بلد ابن
صقر، فلما وصلوها اجتمع رؤساء أهل عمان سلطان بن صقر ومكتوم
وشوكة المسلمين مع المطيري، وقصدوا ابن طحنون وحاصروه
في قصر البريمي وأخرجوه منه بعدما هلك في القصر أكثر خيله
ورجاله، وقتل في تلك الوقعة إمام أهل ثادق عبد الرحمن
بن عزيز وهو قاضي الغزو وإمامهم..
ثم سار جنود فيصل في تلك الناحية وأخذوا القصور من
ايدي ابن طحنون وأتباعه، وأخذوا منهم جميع ما أخذوه من
المسلمين في وقعة الهزيمة، وسموا هذه الوقعة العانكة باسم
الموضع الذي صار فيه..
تمرّد القصيم
وفي سنة 1265 جرت الحادثة العظيمة من رؤساء أهل القصيم
بالخروج عن طاعة فيصل ومنابذته وخروجهم عن السمع والطاعة
وحوزة الجماعة وذلك أن رؤساء أهل القصيم يحاولون هذا الأمر
فأرادوه بالترك والعساكر المصرية، فكلما استوطنت نجد العسكر
وتفرق أمر المسلمين وسكنوا القصور، وصلحت لهم الأمر حدث
عليهم من أمر الله حادثة إما في نجد من أهلها وإما في
بلدانهم فيقذف الله في قلوبهم الرعب فيرحلون عن نجد ويتركونها
بلا سلطان..وكانت حوادث العساكر على نجد ومسيرهم إليها
على يد صاحب مصر محمد علي باشا، فلما أراد الله موته وهلكه
وضعف أمر ملكه انقطعت أوامر الترك عن نجد، فقام رجال من
رؤساء أهل القصيم يحاولون شريف مكة وهو يومئذ محمد بن
عون بجمع العساكر والخروج على نجد واستيلائه عليها، فتجهز
الشريف بعدده وعدته وجميع أعوانه فظهر الى نجد ونزل القصيم..
فلما رأى الشريف أن نجداً لم تحصل له الا بحرب شديد
وضرب وقتل يبيد، رحل من القصيم وشتمهم ومقتهم وقصد بلدانه
عازماً، وعض على يده خاسراً نادماً، ثم وفد منهم رجال
على فيصل فغفر خطيئتهم ودمج عظيمتهم، ولكن فيصل بقي في
قلبه شيء كثير بسبب مواقف رئيس عنيزة ابراهيم بن سليمان
بن زامل لأن الشريف لم ينزل القصيم الا باذنه، فوفد على
فيصل ناصر بن عبد الرحمن السحيمي من أهل العقيلية المعروفة
في عنيزة، فقال له: أنا وعشيرتي لكم ودّ قديم، وأنا على
محبتكم مستقيم فاجعلني في عنيزة أميراً حتى أكون لكم عويناً
وظهيراً، فاستعمله فيصل فيها وعزل ابراهيم وكتب معه الى
أهل عنيزة: إني استعملته عليكم أميراً فاسمعوا له وأطيعوا،
وحضّهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..وأمره ينزل
القصر، فقدم السحيمي عنيزة وأخرج آل زامل، من القصر وأنزله
وأخاه مطلق الضرير وضبطه برجال معه، واستقام له الأمر
وبايعه أهلها وذلك في سنة أربع وستين..
ثم إن عبد الله وأعوانه أرادوا الفتك بالسحيمي وقتله،
فرصدوا له في طريقه الى بيته، فرموه ثلاث رميات أخطأته
اثنتان ووقعت الثالثة فيه، ولم تكن على مقتل فوصل بيته
سالماً وأغلق بابه، وحين فشل ابن يحيى ومن معه في الدخول
عليه القصر ضاقت بهم البلد وهربوا الى رئيس بريدة عبد
العزيز ودخلوا عليه البلاد، فأرسل الى فيصل بأن هؤلاء
الأولاد وقع منهم ما وقع وأنهم صاروا عنده، ووأرسل السحيمي
الى فيصل يخبره ما جرى وأنهم اعتدوا عليه بلا سبب ولا
جرم، فأرسل فيصل خادمه فرحان ومعه عشرون رجلاً الى رئيس
بريدة وأمره أن يدفع له يحيى وأعوانه مع خادمه، فقام يردد
رسله الى فيصل يعتذر عنهم، وخادمه وربعه عندهم فألزم فيصل
باقبالهم اليه والجلوس بين يديه، فقدموا الرياض ومعه هدية
له فأنزلهم في بيت وأكرمهم وعفا عنهم لما توجّه عليه عبد
العزيز وأخبره بحقيقة عذرهم، وأما رسول السحيمي فرجع إليه
من عند فيصل بخر جميل، وذكر له أن ابن يحيى عندنا وأنت
في بلدك لا بأس عليك، ونحن ننظر في أمركم فيما بعد أن
شاء الله، ثم إن الضرير أخو السحيمي أرسل الى رجل من أعوان
زامل فضربه حتى مات..
وقرّر فيصل الزحف على القصيم فأمر على أهل البلدان
من رعيته بالغزو معه فتجهز غازياً وخرج من الرياض يوم
الخميس في 27 ربيع الثاني 1265 وركب معه أولاده عبد الله
ومحمد ولحقه ابن سعود بغزو أهل الخرج وركب معه أخوه جلوي
وخواص عشيرته، وركب معه الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن
بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب إماماً له وقاضياً وركب
معه أيضاً الشيخ القاضي عبد الله بن جبر إماماً لابنه
عبد الله واستخلف أخاه عبد الله أميراً في الرياض وأمره
أن لا يخرج من القصر، وأمر على الشيخ عبد العزيز بن عيبان
أن يكون عنده إماماً مذكّراً، فسار فيصل بمن معه ونزل
ببان المعروف، ثم رحل منه ونزل الحسي القصر المعروف، فأقام
عليه أياماً واجتمع عليه باقي غزوانه ووصلت إليه أخبار
أهل القصيم وتحالفهم على حربه ونقضهم لعهده. فلما استقر
عنده ذلك الرجل رحل من الحسي ونزل أرض سدير، ثم رحل ونزل
قرب بلد المجمعة، فركب ابن بشر إليه للسلام عليه ..وصلى
معه واجتمع جنده للدرس فجلس وكان بين يديه الشيخ عبد اللطيف
الى جنبه، فأمر القارىء عليه بالقراءة فقرأ عليه في كتاب
التوحيد تأليف الشيخ محمد بن عبد الوهاب..
ولما علم فيصل أن أهل القصيم قد أجمعوا على حربه، وكان
يظن منهم غير ذلك فأمر على محمد السديري ومن معه من غزوان
سدير يرحلون وينزلون العوشريات واستنفر البلدان من الوشم
والمحمل وسدير، فنفر أهل البلدان طائعين، وبهذا النفر
والمسير سامحين..ثم إن فيصل أرسل الى رؤساء أهل القصيم
يدعوهم وذكر لهم أنه لا يستقيم دين الا بجماعة، ولا يكون
الا بالسمع والطاعة، وقال: أنتم نبذتم أمرنا وخرجتم عن
طاعتنا، وأن الحرب نار ووقودها الرجال..» وخاطبهم مطالباً:
«فلا تكن سبباً في إهراق دمائكم، وادخلوا فيما دخلتم فيه
أنتم وآباؤكم..»، فأرسلوا اليه رجلاً من رؤساء أهل بريدة
يقال له مهنا بن صالح فلما جاء الى فيصل ذكر له أنما جاء
لطلب الصلح فلم يزل يتودد اليه ويذكر الأمر الذي عمدوه
عليه، فكتب لهم أنهم يدفعون الزكاة ويركبون معه غزاة ويدخلون
في الجماعة والسمع والطاعة. وقد عيّن فيصل مهنا بن صالح
أميراً لبريدة سنة 1280، ثم عزله ابن فيصل، عبد الله عن
إمارة بريدة ولما كان في سنة 1292 ثار مهنا الصالح المذكور
على آل عليان أمراء بريدة القديمة، واغتصب منهم الإمارة
وأجلاهم الى بلد عنيزة، وتولى إمارة بريدة ولكنه لم يلبت
أن قتل في السنة نفسها (ج2ص 261).
|