الدولة الفانية
كل الدول تشهد منعطفات تاريخية حادّة، وبعضها يسهم
بارتقاء الدولة فينقلها الى مرحلة متطوّرة، والبعض الآخر
يسوقها الى مآلات مجهولة أو مأساوية..وكل الدول أيضاً
تزاول فيها النخب الحاكمة أدواراً بعضها تاريخي، بمعنى
أنه يرسم سيرتها التنموية والحضارية على مدى قرون والبعض
الآخر كارثي يقودها الى حتفها، فتصبح أثراً بعد عين..
حال المملكة السعودية اليوم لا يحسد عليه، فمن يدير
دفة الحكم لا يبدو أنه مستوعب لحقائق الواقع ولا الزمن
الذي تعيش فيه الدولة..
على مدى ما يربو عن ثلاثة عقود شهّدت المنطقة تحوّلات
كبرى وتركت تأثيراتها المباشرة على بنية الدولة السعودية
وسياساتها واتجاهاتها وأبرزها: الثورة الايرانية في 1979،
والتي فرضت نفسها على السعودية كمعطى سياسي وكنموذج ديني
ثوري في مقابل نموذجها المحافظ، وعملية السلام بين مصر
واسرائيل في العام نفسه والتي مهّدت لتغيرات جوهرية في
الخطاب السياسي العربي عموماً والخطاب السعودي على وجه
الخصوص بدليل تبني الرياض لمبادرتي سلام مع الكيان الاسرائيلي
الاولى في 1981، والتي أطلق عليها مبادرة فهد وطرحت في
قمة فاس بالمغرب في عام 1982، ومبادرة عبد الله في عام
2002، وانتفاضتا الحرم بمكة والمحرم بالمنطقة الشرقية
من المملكة في عام 1979 الاولى بقيادة جهيمان العتيبي
رئيس جماعة السلفية المحتسبة والأخرى بقيادة التيار الديني
الشيعي في المنطقة الشرقية ذات الأغلبية الشيعية، وبالرغم
من قمع النظام للانتفاضتين الا أنهما أرسيا معادلة في
العلاقة بين المجتمع والسلطة، وساهمتا في توليد جماعات
سياسية اعتراضية، والحرب العراقية الايرانية والتي كان
لها أيضاً دور في إنتاج خطاب مذهبي على مدى ثمان سنوات
تقوده السعودية وتنفّذه حكومة صدام حسين الذي لم يكن مرّحباً
به في الرياض ولكنه مثّل في لحظة تاريخية حسّاسة حليف
الضرورة..يضاف الى ذلك كله، الاعلان عن مشروع الجهاد الافغاني
برعاية وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية السي آي
أيه، وبتمويل سعودي لمواجهة ما أطلق عليه الاجتياح السوفيياتي
لأفغانستان..
وبرغم من أن مشروع الجهاد الافغاني ساهم في تعزيز الروابط
بين واشنطن والرياض الا أنه أسس على المدى البعيد واحدة
من نقاط الاشتباك بينهما إذ من رحم الجهاد الافغاني خرج
أولئك السعوديين المشاركين في الهجمات الانتحارية في 9/11
سنة 2001.
قد تكون هذه الوقائع فرصاً للدولة السعودية كيما تثبت
بأنها دولة محورية في المنطقة بدون منازع الا أن التطوّرات
اللاحقة خصوصاً منذ سقوط إمارة طالبان آواخر عام 2001،
وسقوط النظام العراقي في إبريل 2003، وفشل اسرائيل في
حربها في تموز 2006 والتي راهنت السعودية عليها في ضرب
خصومها، ثم تكرّر الفشل في غزة في 2008، و2010 ـ 2011،
وأخيراً في 2014، والاهم من ذلك انفجار الربيع العربي
بدءً من تونس في آواخر 2010 وانتقاله الى مصر واليمن وليبيا
والبحرين وسوريا، وقلق النظام السعودي على المصير نتيجة
التصدعات الخطيرة التي أصابت النظام الرسمي العربي، وأخيراً
الاتفاق النووي الايراني في يوليو 2015 واخفاق السعودية
في حسم الحرب في اليمن، الى جانب الأزمات الاقتصادية والأمنية،
وتوتّر العلاقات بين الرياض وحلفائها الاقليميين وكذلك
الدوليين وعلى رأسهم الولايات المتحدة جعل منها دولة عرضة
للعزلة والانهيار..
نضع ما سبق كله في سياق تطوّرين كبيرين في الشرق الأوسط
كما ذكرت ذلك مجلة فورين بوليسي في 29 يوليو الماضي بعنوان
(الصراع من أجل الحفاظ على التوازن في الشرق الأوسط).
الأول هو التفاهم بين الولايات المتحدة وايران في الملف
النووي، والتفاهم بين الولايات المتحدة وتركيا بالسماح
للأخيرة بتأسيس منطقة آمنة داخل شمال سوريا في مقابل
السماح للولايات المتحدة باستخدام قاعدة انجلريك الجوية..
لجوء واشنطن الى أنقرة وطهران من أجل إجراء تفاهمات
كبرى لها علاقة بأوضاع الشرق الأوسط عموماً، يعني ان السعودية
لم تعد طرفاً توليه واشنطن اهتماماً خاصاً، بل إن الأخيرة
تراهن على هذا النوع من التفاهمات لإحداث توازن بين انقرة
وطهران..
السعودية التي ترفض الدخول في المعادلة برعاية أو بالأحرى
بمشاركة أطراف عدّة تراهن على قدرتها المستقلة في فرض
معادلات أو تغييرها وهذا ما تجمع كل الدولة الاقليمية
والدولة على استحالته، ولكنه الغرور المستبد بالقيادة
السعودية.
السعودية التي كانت ترفض الحلول والتسويات في سوريا
واليمن والبحرين، وجدت نفسها خارج الطاولة، وقد تخسر رهاناتها
جميعاً، بسبب التفاهمات التي تتم خلف الكواليس.. اليوم
وبعد اربعة شهور على حرب عدوانية على اليمن، لا تمانع
السعودية من تقديم تنازلات في سوريا وحتى في البحرين من
أجل الاحتفاظ باليمن، ولكن ليس ذلك على سبيل الجزم بأن
اليمنيين سوف يوافقون على التنازل عن حقوقهم المصبوغة
بالدم..في المقابل، لن يتنازل الاتراك ولا القطريون عن
حصّة وازنة لجماعة الاخوان في سوريا، خصوصاً وأنهم سوف
يخرجون من ملفي اليمن وحتى البحرين بلا أرباح من أي نوع،
وإن كان من المرجح أن تلعب قطر على التناقضات القائمة
بين الحوثيين والسعودية وكذلك الاصلاح بوصفها أحد فروع
جماعة الاخوان الملسمين، وحتى القاعدة التي تتبى مشروع
الوحدة اليمنية وليس تقسيمه وهو ما تعمل السعودية عليه
في حربها على اليمن..
في الاجمالي العام، السعودية تخسر في كل ملفات المنطقة
حالياً، وأن التخبط الذي يسود سياساتها ليس نابعاً من
مجرد ضياع البوصلة، ولكن من إحساس صنّاع القرار بأنهم
أمام تحديات مصيرية على قاعدة: نكون أو لا نكون..
|