دولة الأفول والإنحدار
السعودية.. الدولة ـ المحور
سعدالدين منصوري
لفهم موقف السعودية من الآخر، لابد من فحص ثلاث تصوّرات:
ـ تصوّرها لذاتها.
ـ تصوّر حلفائها لها.
ـ تصوّر أعدائها لها.
تاريخياً، بدأت الدولة السعودية من خلال مشروع توسّعي
انطلق من نجد وتمدّد بالقوة العسكرية الى أقاليم أخرى
داخل الجزيرة العربية وما حولها. وفي عام 1932 أعلن عن
قيام المملكة السعودية بعد اتفاقيات حدودية وتفاهمات تحت
رعاية بريطانيا العظمى التي وضعت حدّاً لمشروع الجهاد
الوهابي، المسؤول عن تمدّد الكيان السعودي.
وبرغم من أن الجغرافيا السياسية للدولة السعودية حسمت
بصورة رسمية ودولية منذ 1932، إلا أن نزعة التوسع جرى
تعويضها بالنفوذ السياسي الذي عادة ما يستخدم فيه النفوذ
المذهبي الوهابي، حيث لم تتوقف صراعات الدولة السعودية
مع الدول الكبرى والاتحادات في المنطقة العربية، كما حصل
في صراع ال سعود مع عبد الناصر كمشروع قومي، والجمهورية
العربية المتحدة كمشروع وحدودي.. ودخلت شريكاً فاعلاً
مباشراً وغير مباشر في الحوادث الكبرى في منطقة الشرق
الأوسط، نذكر منها على سبيل المثال: الحرب الأهلية اليمنية
في 1962، الجهاد الافغاني سنة 1979، الحرب العراقية الايرانية
1980 ـ1988، مبادرة فهد 1981 للسلام، الحرب الأهلية في
لبنان 1975 ثم اتفاق الطائف سنة 1990، ومبادرة الملك عبد
الله للسلام في 2002، وقيادة الثورة المضادة في أغلب بلدان
الربيع العربي، وإعلان الحرب على اليمن في 2015..
وفي الخلاصات: لم تتصرف السعودية قط من موقع الدولة،
بل كانت محثوثة بنزعة المحورية.
يأخذ صراع المحاور تارة شكل (ديني/ إسلامي ـ قومي/
عروبي)، وتارة شكل صراع مذهبي (سني/ وهابي ـ شيعي).. وفي
كل حالة كانت السعودية هي من يبادر الى إضفاء صبغة خاصة
على الصراع، فقد اعتبرت صراعها مع عبد الناصر صراع الإسلام
ضد الكفر (انظر: نقد القومية العربية، للشيخ عبدالعزيز
ابن باز)، وفي الثانية صراع الإسلام وأهل البدع (الرافضة).
ثمة عوامل ساعدت المملكة السعودية على التصرّف من منطلق
كونها دولة محورية، بل قائدة لمحور إقليمي مؤسس على تحالف
دولي، ومن أبرز هذه العوامل:
العوامل الداخلية:
1 ـ النفط: حيث تشكّل مداخيل النفط العالية أداة فاعلة
في النفوذ السياسي والتأثير على قرارات الدول والجماعات
والأشخاص.
2 ـ رعاية الحرمين الشريفين: إن الرمزية المعنوية والروحية
لوجود المسجد الحرام والمسجد النبوي أضفى معنى متعالياً
على العائلة المالكة، على الأقل من وجهة نظر كثير من المسلمين
الذين يتوجّهون في صلواتهم اليومية الى مكة المكرّمة ويتوقون
الى رؤية الكعبة والبيت الحرام..وقد أفاد النظام السعودي
من هذه العلاقة الروحية التي تربط المسلمين بالحرمين الشريفين
لجهة التأثير على الرأي العام الاسلامي..
العوامل الخارجية:
وأهمها: الشراكة الدولية (الولايات المتحدة + أوروبا):
إذ لا يمكن للنظام السعودي التحرّك بصورة منفردة ومستقلة
دون غطاء دولي وأميركي على وجه الخصوص. فالنظام السعودي
يدرك تماماً حجم قدراته العسكرية والسياسية، ومهما بلغت
إمكانياته المالية فإن ثمة متطلبات أخرى لصناعة قوة قادرة
على مواجهة الخصوم ومن بينها بناء تحالف قوي ومتين، والاعتصام
بقوة دولية توفر الحماية والغطاء السياسي في الهيئات الدولية.
المساعدات الخارجية.. صناعة النفوذ
إن أهم أدوات النفوذ السياسي لأي دولة يكمن في ما تقدّمه
من خدمات للآخرين..ومنذ الطفرة النفطية في العام 1975
كانت المساعدات الخارجية أداة مركزية في السياسة الخارجية
السعودية..
وتعد المخصصات المالية لمشاريع الرعاية في الخارج،
وحجم المساعدات التي تقدّمها السعودية لدول ومنظمات وشخصيات
ضخم جداً. وفي عهد الملك عبد الله وبفعل تنامي المداخيل
النفطية فقد شهد نمواً فى المساعدات الخارجية وبناء على
الإحصاءات الرسمية، بنحو 56%؛ أى بمقدار 2.308 مليار ريال،
ليبلغ إجمالى المساعدات6.438 مليار ريال خلال عام 2012،
مقارنة بـ 4.130 مليار ريال خلال عام 2005..
وذكرت صحيفة «الاقتصادية» السعودية فى تقرير لها نشرته
في 24 يناير 2015 أنه بمقارنة البيانات خلال الفترة من
عام 2005 حتى نهاية عام 2012، أي خلال ثمانية أعوام، فقد
سجل إجمالى قيمة المساعدات الخارجية للسعودية نحو 98 مليار
ريال تقريباً، منها 81.6 مليار ريال مساعدات وقروضاً،
وتمثل نحو 60.1 % من إجمالى المساعدات الخارجية منذ 1994.
وفي 17 مايو 2015 نشرت صحيفة (الرياض) تقريراَ لصندوق
النقد الدولي عن اقتصاد السعودية جاء فيه أن الأخيرة من
البلدان التي تقدم مساعدات مالية كبيرة للعديد من الدول،
من خلال رصدها دعماً ضخماً لدول المنطقة، وذكر التقرير
أن المساعدات المالية المباشرة المقدمة للدول العربية
التي رصدتها بلغت 85 مليار ريال (22.7 مليار دولار) خلال
الفترة من يناير 2011 إلى أبريل 2014.
ووفقاً لتقديرات خبراء صندوق النقد الدولي ومؤشرات
التنمية العالمية، تأتي مصر في المرتبة الأولى من الدول
التي تتلقى مساعدات سعودية، حيث بلغ إجمالي المساعدات
المالية السعودية المرصودة لمصر 24.4 مليار ريال (6.5
مليار دولار) خلال الفترة من يناير 2011 إلى أبريل 2014،
واستلمت مصر منها 22.3 مليار ريال (5.9 مليارات دولار)
حتى تاريخه.
وبلغ إجمالي المساعدات المالية السعودية المرصودة للاردن
11.2 مليار ريال (3.0 مليارات دولار) خلال الفترة من يناير
2011 إلى أبريل 2014، واستلمت الأردن منها 7.2 مليارات
ريال (1.9 مليار دولار) حتى تاريخه، وتمثل المساعدات المالية
السعودية المباشرة للاردن نحو 8.1 % من إجمالي الناتج
المحلي الأردني.
ورصدت السعودية 10.7 مليارات ريال (2.8 مليار دولار)
كمساعدة مالية مباشرة للبحرين خلال الفترة من يناير 2011
إلى أبريل 2014، وتمثل المساعدات المالية السعودية المرصودة
للبحرين نحو 8.4% من إجمالي الناتج المحلي للبحرين. وجاءت
بعدها سلطنة عُمان بمساعدات مالية سعودية بلغت 9.4 مليارات
ريال (2.5 مليار دولار) تمثل نحو 3.1% من الناتج المحلي
الإجمالي لسلطنة عُمان.
وبلغت المساعدات المالية السعودية للمغرب 6.1 مليارات
ريال (1.6 مليار دولار) تمثل نحو 1.5% من الناتج المحلي
الإجمالي المغربي، ثم السودان بمبلغ 2.0 مليار ريال (527
مليون دولار) تمثل نحو 0.8% من الناتج المحلي الإجمالي
السوداني، ثم جيبوتي بمبلغ 255 مليون ريال (68 مليون دولار)
تمثل نحو 4.3% من الناتج المحلي الإجمالي الجيبوتي.
وبنظرة إجمالية على البيانات المالية، فقد بلغت قيمة
المساعدات الخارجية المقدمة من قبل السعودية بما فيها
القروض الميسرة عبر القنوات الثنائية، ومن خلال المؤسسات
متعددة الأطراف خلال الفترة من عام 1994 وحتى نهاية عام
2012، أي خلال 19 عاماً، نحو 162.7
مليار ريال (43.3 مليار دولار)، تشكل المساعدات والقروض
منها نحو 85.5%، أي ما مقداره 139.2 مليار ريال (37.12
مليار دولار).
لا بد من الإشارة الى أن الأرقام الواردة
في بيانات وزارة المالية السعودية، وما ينشر في الإعلام
ليس بالضرورة أن يكون بالدقة التي يتم الإعلان عنها، لأن
في حالات كثيرة يتم الاعلان عن مساعدات لهذه الدولة أو
تلك، ولكن لا تصل بالمطلق أو تصل جزئياً، وإن سكوت هذه
الدول والحكومات يعود الى التعويل على «أمل» وصول المساعدات
في لحظة ما.
على أية حال، فإن الأموال التي يقدّمها النظام السعودي
لاتقتصر على المساعدات الخارجية، بل إن هذه الأموال تستخدم
لأغراض أخرى أيضاً. على مستوى تعميم العقيدة الوهابية
في العالم. فقد نشرت مجلة (ميدل ايست مونيترMidEast Monitor
عدد يوليو 2007) دراسة للسفير الأمريكي السابق لدى كوستاريكا
(كورتين وينزر) بعنوان (السعودية والوهابية وانتشار الفاشية)
تشتمل على معطيات ملفتة. فقد أورد وينزر على لسان اليكسي
اليكسيف أثناء جلسة الاستماع أمام لجنة العدل التابعة
لمجلس الشيوخ في 26 يونيو 2003م بأن
«السعودية أنفقت 87 بليون دولار خلال العقدين الماضيين
لنشر الوهابية في العالم»، وأنه يعتقد أن مستوى
التمويل قد ارتفع في العامين الماضيين (2004 ـ 2005) نظرا
لارتفاع أسعار النفط. وأجرى وينزر مقارنة بين هذا المستوى
من الإنفاق بما أنفقه الحزب الشيوعي السوفيياتي لنشر أيديولوجيته
في العالم بين 1921 و1991م حيث لم يتجاوز الـ 7 بليون
دولار.
بصورة إجمالية، فإن الانغماس في الشؤون الداخلية للدول
العربية والاسلامية ينطلق من شعور النظام السعودي بأن
ذلك حق حصري له.. فالنفط منحه قدرة النفوذ المالي والمادي،
ووجود الحرمين الشريفين داخل حدود المملكة السعودية منحه
النفوذ المعنوي، والشراكة الدولية مع الولايات المتحدة
وأوروبا منحته الغطاء السياسي والأمني.
وهكذا تأتي نزعة المحورية لدى النظام السعودي لا بغرض
النفوذ فقط، بل محثوثة بشعور (حماية الامن القومي والاستراتيجي)،
ولذلك فإن السعودية لا تتصرف على أساس كونها دولة فحسب،
بل دولة محورية وقائدة محور، وأنها تخوض حرباً مصيرية
مع كل دولة تكتسب صفة الدولة المحورية، لأنها بذلك تهدّد
أمنها القومي والاستراتيجي وتالياً مصير الدولة السعودية.
بمعنى آخر، فإن الدولة السعودية لا تعيش في إطار الجيوسياسية
الضيقة، بل ترى بأن حفظ وحدتها واستقرارها لا يتحقق الا
من خلال إطار استراتيجي يضمن لها نفوذها في الدول الأخرى،
وحين تكف عن التدخل في شؤون الدول الأخرى تصبح مكشوفة
أمنياً وسياسياً. هكذا ترى الرياض نفسها وموقعها ودورها.
تصوّر حلفاء الرياض لدورها
|
أين حصة المملكة من العراق الممزق؟! |
كانت السعودية وعلى امتداد الحرب الباردة عضواً فاعلاً
ورئيساً في محور أميركي غربي. وتجسّد نظرية العمودين المتساندين
في عهد الرئيس الأميركي ريتشاد نيكسون من أجل تعويض الفراغ
الأمني في الخليج بعد انسحاب بريطانيا منه، رؤية أميركية
لمحورية الدولة السعودية في المنطقة الى جانب إيران الشاه.
وبقيت السعودية في انخراطها في صراعات أميركا في العالم
وفي المنطقة محثوثة بخلفية المحورية في المنطقة والعالم،
حتى أن تركي الفيصل اعترف بمشاركة السعودية في حرب فيتنام
الى جانب امريكا؛ وكانت الرياض تموّل الأحزاب اليمينية
في اوروبا منعاً لتضخم الأحزاب الشيوعية والاشتراكية القوية
في اوروبا الغربية يومها، كالحزبين الشيوعيين في ايطاليا
وفرنسا.
مذكّرة سرية قدّمت الى الرئيس الأميركي بيل كلينتون
في بداية عهده والدوائر ذات العلاقة (وزارة الخارجية،
ولجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ)، جاء فيها:
تعتبر العربية السعودية الحجر الأساس في
سياستنا القومية والدولية. فقد كنا نعتقد دائماً بأن سياسة
حماية إسرائيل وإبقائها قوية يمكن ترسيخهما بوجود النظام
السعودي الذي برز مؤخراً في المشهد العربي كقوة مؤثرة.
كان مشروع الملك فهد للتسوية مع اسرائيل نقطة البداية
التي يمكن الإنطلاق منها لكسر جبهة الرفض العربية وتحقيق
التسوية التي تقترب الآن من مرحلة الاستكمال. فبدون النظام
السعودي والسياسة المصريّة التي يتبناها الرئيس مبارك
في القيام بخطوات عملية، لن يكون من الممكن تدمير العراق
وإزالته من معادلة المنطقة.
وتناولت المذكرة نهج الملك فهد في التأثير على صنع
القرار في الدول بما نصّه:
الملك فهد، ومنذ بروزه كقوة حاكمة في 1974
حين أصبح ولياً للعهد، كان مسرفاً في البذخ في استعماله
المال لتقديم الرشى، وتغيير إتجاهات ردود الفعل، ومنع
صنع القرار في كثير من الدول. وقد امتدّت ذراعه مؤخراً
إلى هيئة الأمم المتحدة حين تم تعيين بطرس بطرس غالي أميناً
عاماً. فقد ملئت الحسابات البنكية الخاصة بالأمين العام
بالملايين من الدولارات عبر السفير السعودي في بلادنا،
السيد بندر بن سلطان. وكان الهدف وراء هذا التدخّل من
جانب الملك تحقيق أمور ثلاثة:
1 ـ تهميش المشكلة البوسنية لاعتقاده بأن
أي إنتصار للمسلمين سيفضي إلى حدوث تداعيات في المنطقة
وخصوصاً في بلاده.
2 ـ إضعاف العراق وتأخير أي مصالحة بين
العراق والمجتمع الدولي. لقد تمكّنا من الحصول على رسالة
شخصية منه إلى الأمين العام ـ بطرس غالي ـ يطلب فيها منه
تمديد العقوبات المفروضة على العراق، كشعب وليس كنظام،
لأنه يخشى من إنتقام الشعب العراقي. ويعتقد بأن العلاقة
الساذجة بينه وبين الأمين العام سترغمنا على فعل ما يريده:
السبب في ذلك أنه، حتى الآن، لا يدرك آلية عمل هيئة الأمم
المتحدة ولا المعاهدات الدولية.
3 ـ إخفاء كل التقارير المتعلّقة بالحوادث
الخطيرة التي تجري داخل مخيم رفحا للاجئين الشيعة العراقيين
على يد ضباط الأمن السعوديين، وكان من بين أهم الحوادث
الواضحة تلك حالات إغتصاب النساء والأطفال على حد سواء.
وتضيف المذكرة:
إن التدخل السعودي في البوسنة كان عاملاً
مسؤولاً عن إحباط سياساتنا الرامية الى تسوية مبكّرة،
ولكن سياساته ـ أي فهد ـ حيال العراق تتوافق مع مصالحنا
ومصالح إسرائيل، رغم تحفّظنا إزاء طرق تفكيره وفرضياته
التي ينطلق منها. وعلى أية حال، فإن موقفه بشأن الجور
الحاصل في مخيم رفحا يقدّم لنا تأكيداً على أن مثل هذا
الظلم هو الأساس في نهج هذا النظام، على مستوى البلد بصورة
عامة، ضد شعبه، وأيضاً ضد المسيحيين العاملين هناك. وهذه
حقيقة بالرغم من أن النظام يزعم بأن مثل هذه الأعمال هي
نتيجة للنشاطات التي تقوم بها جماعات المطاوعة العاملة
خارج السلطة الرسمية.
وتتحدث المذكرة عن دور النظام السعودي على المستوى
العربي وفي مواجهة حركات التحرّر العربي ومقاومة الاحتلال
الاسرائيلي. حيث تقول المذكرة:
كان النظام السعودي، منذ نشأته وبروزه
في بداية القرن (الماضي)، عنصراً هاماً في أيدينا لتحقيق
وبسط مصالحنا السياسية والنفطية في مواجهة النفوذ البريطاني.
وبعد نشأة إسرائيل وبروز تيارات فكرية قومية وراديكالية
في المنطقة، أصبح النظام السعودي على درجة كبيرة من الأهمية
لقمع طموحات هذه القوى لأنها كانت تهدّد أمن ومستقبل إسرائيل.
ولكن النظام السعودي، وتحت تأثير الشخصية المهيمنة للملك
فيصل، دفعتنا للتورّط في نزاعات خطيرة مع الحركة القومية
العربية. ولم تكن هذه الحركة شريرة بصورة كاملة. إن الطموح
الذي كانت تسعى إلى تحقيقه ـ أي الحركة القومية ـ هو إقامة
نظام عربي متماسك ـ وهو أمر لصالحنا، وفي حال حصوله سنتمكّن
من احتواء أي خطر يهدد إسرائيل.
إن الخطأ الذي دفعنا فيصل للتورط فيه أنه كان قادراً
بصورة مباشرة، في وقت لاحق، على الدعوة الى تأسيس ميثاق
غربي ـ إسلامي، الأمر الذي استدعى رد فعل عدائياً من قوى
القومية العربية. ونتيجة ذلك، تفجّر نزاع بين الإتجاهات
الإسلامية والقومية، والذي أفضى لاحقاً إلى مرحلة دموية،
ما يجعل الحركات الإسلامية تتطور في الوقت الراهن. وقد
برزت جميع هذه الحركات تحت رعاية السلطات السعودية وكانت
تموّل من قبلها. وما زال للنظام السعودي روابط بها بصورة
أو أخرى.
وتعود المذكّرة لتسليط الضوء على دور فهد التخريبي
في الخارج العربي:
يتمسّك فهد بأن عدم الإستقرار في البلدان
العربية الرئيسية، مثل مصر والجزائر، يعني كسوفها وحرمانها
من السلطة بخصوص صنع القرار العربي، بما يؤدي الى تعزيز
السلطات السعودية للسيطرة على سير التطورات في المستويين
العربي والدولي. وكما هو دارج في عدم إدراك (إستيعاب =فهم)
أبناء آل سعود، فإن فهد فهم من حديث بينه وبين الرئيس
الأسبق جورج بوش، بأن إقامة علاقات واضحة وقوية مع إسرائيل
سيحقّق الأمن في المنطقة. وقد فسّر فهد أمن المنطقة بأنه
يعني أمنه الشخصي. ولهذا السبب، ذهب بعيداً في إقامة علاقات
إجتماعية مع إسرائيل على المستويين السياسي والعسكري.
وبالرغم من المشاركة السعودية في تمويل الدعم العسكري
لإسرائيل خلال حرب العراق، في سبيل إبقائها خارج مجال
العمل على أمل تفادي أي مواجهات مع الشعب العربي وإفشال
أهداف قوات التحالف، والتي تمّت بناء على إتفاقنا مع الملك
شخصياً، فإنه لا يزال ينظر الى أن ذلك مبدأ أساسي أو قانون
من أجل السيطرة على سير المفاوضات العربية ـ الإسرائيلية.
وتمضي المذكرة:
|
المملكة.. الدولة الوظيفية للغرب |
يتصرف النظام (السعودي) أيضاً بصورة مثيرة
للغرابة تجاه النظام المصري في محاولة لاستعماله أيضاً
خارج الحدود المقررة. كان اهتمام الأطراف كافة منصبّاً
على الحاجة إلى التمسّك بالخط العام وليس إلى الذهاب بعيداً
عنه، ولكن الإفادة من ضعف النظام المصري في مواجهة الأصوليين
الإسلاميين. ويحاول (النظام السعودي) جهده لجهة توريط
مصر في النزاعات الإقليمية العربية والتي لا يقدر النظام
المصري على تحمّلها.
وفيما يرتبط بالوضع في السودان، حاول النظام
السعودي في البداية تبني سياسة التقارب مع النظام الشمولي
الطغياني، الذي يقوده البشير. ولكن حين أدرك فهد بأنه
من غير الممكن دفع النظام الى تبني النمط الاسلامي على
الطريقة السعودية، ساءت العلاقات بين النظامين وأصبحا
خصمين لدودين حيال بعضهما البعض. وبات واضحاً بالنسبة
لنا ـ أي للولايات المتحدة ـ بأن محاولة إغتيال الترابي،
منظّر النظام السوداني، كانت بتخطيط وتمويل السعوديين
وبالتعاون مع جناحين في المعارضة (السودانية). وقد أدى
بذخ فهد في تمويل العملية الى فشل خطتنا في التسوية في
إطار علماني وشبه ـ ديني.
ويعطّل سلوك النظام السعودي حيال شمال
أفريقيا أي حل بالنسبة لمشكلة الصحراء بين الجزائر والمغرب.
كما أن أصابع السعوديين ليست بريئة في دعم تلك المنظمات
الإسلامية التي تشوّه وتمسخ الإسلام كما هو حاصل في مصر.
الحقيقة هي، أن النظام السعودي تراجع عن
وعوده بدعم الإقتصاد العربي في عدد من البلدان العربية،
بما تسبب في مشاكل عديدة خصوصاً حين يفرض النظام ضغوطاً
كبيرة على أنظمة الخليج الأخرى لدفعها الى تبني ممارسات
مشابهة لتلك التي يتبناها السعوديون. ويهدد ذلك بخلق نزاع
بين الأغنياء والفقراء العرب، وهو نزاع سيكون نواة لعودة
الإتجاهات الراديكالية، والتي تأخذ الآن شكلاً قد يكون
على صلة بالإسلام بصورة أو أخرى.
والشيء ذاته صحيح أيضاً بالنسبة للعلاقات
السعودية ـ الإسلامية، أو حتى العلاقات السعودية ـ الدولية
بصورة عامة، بالنظر إلى توسّل النظام بسياسة الإقتراض
كنتيجة لعجزه عن تلبية المتطلبات المالية وأداء كثير من
الإلتزامات الحكومية من الخزانة الأميركية.
وعلى مستوى نظرة الحلفاء أيضاً، فإن الاسرائيلي ينظر
الى السعودية باعتبارها دولة محورية، وأنها المعبر الحتمي
للتطبيع. لقاء مستشار بن غوريون ومستشار عبد العزيز حافظ
وهبة في لندن في ثلاثينات القرن الماضي كان مؤسساً على
قناعة اسرائيلية، بأن مشروع الدولة العبرية في المنطقة
لا يمكن تسويقه الا عبر بوابة الرياض..
وقد كشف ميخائيل كهانوف في كتابه (السعودية والصراع
في فلسطين) عن: «إن اللقاءات السعودية الاسرائيلية بدأت
منذ ثلاثينات القرن الماضي، عندما التقى مستشار الملك
عبد العزيز آل سعود، وسفيره في لندن، حافظ وهبة المصري،
بأول رئيس وزراء للاحتلال دافيد بن غوريون وموشيه شيرتوك
قبل قيام دولة اسرائيل بما يقارب عقدين من الزمن»! وقال
بن غوريون لوهبة «وحدهم ملوك آل سعود القادرون على التأثير
على المصالحة التاريخية بين العرب واليهود في فلسطين».
تطبيقات
التصور السياسي السعودي لسوريا يندرج في سياق صراع
المحاور..
لا تنظر السعودية الى سوريا منفردة أو معزولة عن صراعها
مع ايران وحزب الله أو ما يعرف بـ «معسكر المقاومة». ولذلك،
فإن الموقف السعودي حيال سوريا يأتي ضمن هذا السياق، وأن
إطاحة بشار الأسد هدف يتجاوز سوريا ويستوعب المحور برمته،
كما أن شرط بقائه بالتخلي عن ايران وحزب الله هو أيضاً
يأتي في سياق رؤيته المحورية.
وقد سعت السعودية على مدى سنوات طويلة من أجل عقد صفقة
منفردة مع النظام السوري بقيادة بشار الأسد من أجل وضع
حد لتحالفه مع ايران وحزب الله (حدث ذلك في بداية الأزمة
السورية، وتكرّر في لقاء محمد بن سلمان وعلي مملوك في
يونيو 2015).
بيد أن النظام السوري، ومن خلال تجاربه مع ايران وحزب
الله، لا يغامر بالدخول في أي صفقة مع السعودية أو مع
اي دولة أخرى، والسبب في ذلك الثقة المفقودة في السعودية
والثقة المطلقة في ايران وحزب الله (كلام بشار لقناة المنار
الناطقة باسم حزب الله عن علاقة سوريا بايران وحزب الله
تعبير صادق).
ومن هنا فإن معركة السعودية في سوريا تندرج في سياق
صراع المحاور وليس صراع الدول، ولذلك فإن التسوية في سورية
ليست محلية، بل إقليمية/ دولية.
صحيح أن السعودية تقاربت مع سوريا الدولة في بعض الملفات،
من بينها لبنان، وأفرزت (معادلة سين سين)، والعراق منذ
2003 ـ 2010 لجهة تسهيل دخول المقاتلين عبر سوريا، وشاركت
في التحالف الدولي ضد صدام حسين حين احتل الكويت.. ولكن
حين تنتقل العلاقة الى خارج إطار الدولة، أي الى المحور،
تصبح السعودية وسوريا خصمين لدودين.
ولهذا ايضاً فإن السعودية لا تجد اليوم غضاضة في التعاون
مع اسرائيل لإسقاط النظام السورري، مثما تتعاونان ضمن
محور واحد في مواجهة ايران وحزب الله وحتى حماس والجهاد
الاسلامي في غزة. السعودية ضمن محور غربي امريكي تشكل
اسرائيل عنصراً أساسياً فيه. وإن مشكلة السعودية ليست
مع سوريا بشار الاسد، ولا الدولة السورية، ولا النظام
السوري..المشكلة مع المحور الايراني الذي تمثّل سورية
عضواً فيه. تماماً مثلما كانت السعودية ضد عبدالناصر لأنه
سعى لأن يكون ضمن محاور بعيدة عن محور واشنطن وحلفائها
الغربيين والعرب!
تصوّر خصوم السعودية لموقعها ودورها
لا ايران ولا سوريا ولا عراق ما بعد صدام حسين، دع
عنك حركات المقاومة المنضوية في المحور الايراني، تنظر
الى السعودية كدولة وحسب، بل كانت دائماً ترى فيها رأس
حربة في محور مستقل أطلق عليه منذ حرب تموز (محور الاعتدال).
انخراط السعودية عبر مقاتليها في العراق أو حلفائها
السياسيين في لبنان (14 آذار) أو أيديولوجيتها الدينية
أو مساعداتها الاقتصادية في الدول المتنازع على النفوذ
فيها، يؤكد حقيقة أن السعودية تتصرف على أساس الخلفية
السياسية، أي كونها محوراً بل وقائداً في هذا المحور إقليمياً
التابع لمحور دولي أكبر تتزعمه واشنطن وتشترك فيه اسرائيل.
ما دفع بالسعودية لخوض الحرب في اليمن، ليس مجرد وجود
خطر محتمل يهدّد أمنها القومي، بل ان دافعها الرئيس هو
شعورها بأن اليمن جزء من محورها، ومجال نفوذها.
السعودية خسرت العراق الذي اقترب من محورها اثناء الحرب
العراقية الايرانية، ولكنه لم يكن عنصراً فيه، ومع هذا
غضبت من أمريكا لأنها فتحت الأبواب بزعمها لهيمنة محور
ايران، وكان يفترض أن تقاسم واشنطن الرياض الكعكة العراقية،
وكان هذا هو الاتفاق الضمني الذي كشف عنه منذ سنوات طويلة
بوب وود ورد في كتابه (خطة الهجوم) وأحاديث بندر بن سلطان
مع الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الإبن، وفريقه السياسي
والعسكري.
ويلاحظ أن ردود فعل السعودية في الربيع العربي تؤكد
نزوعها نحو المحورية، إما كرأس حربة لمحور إقليمي، أو
كجزء من محور أكبر له رؤية مختلفة في بعض الأحيان، والأمثلة
كثيرة:
ـ التدخل العسكري المباشر في البحرين في 15 آذار (مارس)
2011.
ـ المبادرة الخليجية في اليمن في 3 نيسان (إبريل) 2011،
وحتى الحرب السعودية على اليمن في آذار (مارس) 2015 تأتي
كرد فعل على خسارة نفوذها في اليمن الذي تنظر اليه بكونه
جزءاً جوهرياً من مجالها الحيوي.
ـ مواقف السعودية الغاضبة من أمريكا بخصوص ثورة 25
يناير المصرية، ثم التخطيط لإنقلاب 30 حزيران (يونيو)
2013.
ـ استضافة الرئيس التونسي زين العابدين بن علي في جدة
بعد الثورة عليه.
ـ المشاركة الفاعلة في الثورة الليبية وتوفير الغطاء
لحرب الناتو.
ـ الرعاية الشاملة للمعارضة السورية المسلّحة، ثم الامساك
الكامل بالملف السوري من قبل بندر بن سلطان في صيف 2012
.
ويبقى..
ان محورية الرياض تضعضعت خلال العقدين الماضيين، والسبب
أن رأس المحور الذي تنتمي اليه قد مُني بهزائم كثيرة أضعفته
في الشرق الأوسط. ولكن الرياض التي ركبت موج المحور الأمريكي
إقليميا (شراكة مع اسرائيل) ورغم خسارتهما لازالا يراهنان
على جر كامل المحور الغربي لمنطقة الشرق الأوسط، الذي
يفكر الأمريكيون التحلّل عن بعض مسؤولياتها. ولهذا، تُرك
للسعودية اللهو في اليمن قصفاً وقتلاً، لتجرب حظّها (بذراعها)
مع تغطية امنية وسياسية وتسليحية وتخطيطية امريكية، ولكن
لا يبدو أن المحور الغربي سيعيد للسعودية محوريتها من
جديد، خاصة وأنها دخلت العديد من المعارك الإقليمية دفعة
واحدة، وهي ليست قادرة على الإيفاء بشروط النصر فيها.
وزيادة على ذلك، فإن الرياض تعاني من مشاكل داخلية غير
مسبوقة، بل تعاني فشلاً داخلياً لا يقل خطورة عن الفشل
الخارجي.
السعودية لم تعد تلك الدولة المحورية القديمة التي
تنتفش على قوة أمريكية طاغية في الشرق الأوسط. على العكس
تماماً، فالرياض تتقزّم وإن كانت لاتزال لاعباً محورياً
تخريبياً في المنطقة.
|