الداعشية السافرة
شيوخ الوهابية.. أميركيون!
محمد قستي
مضى على الثورة/ الأزمة/ الحرب في سوريا أكثر من أربع
سنوات، وشارك فيها مقاتلون من أكثر من ثمانين دولة، وتورّطت
فيها بصورة علنية دول إقليمية وغربية. الولايات المتحدة
كانت طيلة سنوات الثورة/ الأزمة حاضرة في كل تفاصيل الملف
السوري بما في ذلك السلم والحرب. لم نسمع طيلة السنوات
الماضية كلمة واحدة من مشايخ الوهابية حول «التدخل الصليبي
الغربي»، بل على العكس قرأنا مواقف تلوم انسحاب الغرب
من المعركة، خصوصاً بعد قرار أوباما إلغاء فكرة الحرب
في سوريا، وعدّوا ذلك خيانة للشعب السوري!
فجأة صحى مشايخ الوهابية واكتشفوا أن ثمة تدخلاً «صليبياً»
ولكنه بدمغة روسية، مستنهضاً أحلاماً وهواجس وهلوسات سابقة
تمّ استدعاؤها من تجربة أفغانستان البائسة، بما خلّفت
من ظواهر إرهابية، لا زال المسلمون قبل غيرهم يكتوون بها
وبآثارها الكارثية.
بدأت الحملة العسكرية الروسية على مواقع الجماعات المسلّحة
(داعش، النصرة وغيرهما)، وأفصح مشايخ الوهابية عن ميولهم
الأيديولوجية الأصلية، وبدوا في معسكر واحد مع داعش والنصرة،
وكل ذلك باسم «الشعب السوري» الذي أريد (تسليعه) من قبل
المزايدين والمقامرين والمغامرين.
هؤلاء ليسوا دعاة ديمقراطية، ولا عدالة، ولا مساواة،
ولا شراكة من أي نوع.. ببساطة هم يريدونها خلافة على الطريقة
الوهابية، تماماً كما يبشّر بها «داعش»، ويسعى بقوة السلاح
والإرهاب إيصالها الى مرحلة الإمكان الوجودي.
خمسة وخمسون شيخاً وهابياً يتزعّمهم ناصر العمر، وعبد
العزيز بن عبد المحسن التويجري وآخرون من البيانيين، أجمعوا
أمرهم على إطلاق صرخة غير بريئة ولا محايدة للشعب السوري
عبر ممثليه متعددي الجنسيات لتوحيد صفوفه من أجل مقاتلة
«الصليبي الروسي».
عودة اسلوب البيانات تستدعي المواقف المتناقضة لمشايخ
الوهابية بين احتلالين: محاربة الاحتلال الأميركي في العراق
كونه جاء لصالح الشيعة في العراق على حساب السنة، بينما
يتم استدعاء الاحتلال الأميركي لسوريا كونه موجّهاً ضد
نظام بشار. في المثال العراقي جرى التحريض على قتال العراقيين
بحجة محاربة الاحتلال الأميركي، وفي المثال السوري جرى
استدراج الاحتلال الاميركي لمحاربة نظام بشار ومحور ايران.
مشايخ الوهابية ليسوا ضد الروس من حيث المبدأ، ولو
كان الروس يعملون لإسقاط نظام بشار، لنالوا وسام «نصرة
الكافر العادل للمسلم»، تماماً كما برّر ذلك بن باز في
استعانة آل سعود بالقوات الأميركية التي جاءت لحماية شوارب
رجال نجد من تهديدات قوات صدام حسين.. ولكن كما جاء في
البيان أن التدخل الروسي «لم يأت إلا لإنقاذ النظام السوري
من هزيمة محققة».
عيون مشايخ الوهابية لم تكن ترى سوى الدعم الروسي للنظام
السوري طيلة السنوات الماضية، وإغلقت عيونها وآذانها على
الدعم العلني والمباشر والموثّق الأميركي ـ الأوروبي للجماعات
المسلّحة جميعاً المعتدلة والمتطرّفة.
أراد مشايخ الوهابية ان يعيدوا إنتاج التجربة الافغانية
على الأرض السورية، في محاولة لربط الروس بسياق تاريخي
انقطع تماماً، فيما الرابط الحقيقي يكمن في تناسل الجماعات
المسلّحة من التجربة الأفغانية. هم يريدونها حرباً عقائدية
مشدودة الى ماض بأوهام تليدة. يوجد المشايخ أوجه شبه خاصة
بهم حول العلاقة بين سوريا وأفغانستان ويتطلعون لأن تكون
النتائج ذاتها، وهناك في الصحافة الغربية من أغراهم بصنع
رواية متصّلة بين كابول ودمشق. افترضوا ان ما يجري في
سوريا اليوم هو تكرار لتجربة المنازلة الجهادية في أفغانستان
بكل تفاصيلها ومآلاتها، وهناك من أخذه تيار الوهم ناحية
التفكير في احتمال تفكك روسيا عبر سوريا، كما تفكّك الاتحاد
السوفيياتي عبر أفغانستان.
يقول الخمسة والخمسون بيانياً «ما أشبه الليلة بالبارحة!
فقبل ست وثلاثين سنة غزا الاتحاد السوفييتي الشيوعي أفغانستان
المسلمة لينصر الحزب الشيوعي ويحميه من السقوط، وها هي
وريثته روسيا الصليبية الأرثوذكسية تغزو سوريا المسلمة
لنصرة النظام النصيري وحمايته من السقوط، فلتعتبر بمصير
سلفها.»
لم يشأ مشايخ الوهابية إخفاء نزوعهم المذهبي والطائفي
في البيان، فقد وضعوا الحملة العسكرية الروسية في سياق
سني شيعي. ومن أجل إخراج صورة طهرانية عن المقاتلين في
سوريا.. توهّم المشايخ وجود تحالف غربي روسي مع الصفويين
والنصيرية، في خلطة عجيبة لا تجدها سوى في تراث المؤامرات،
أو بالأحرى أوهام المؤامرات. ولكن ما هو أشد أهمية في
هذه المؤامرة الافتراضية بتحالف غربي روسي ايراني سوري
أنها مصمّمة لشن «حرب حقيقية على أهل السنة وبلادهم وهويتهم،
لا تستثني منهم أحداً، والمجاهدون في الشام اليوم يدافعون
عن الأمة جميعها..»، كما يقولون. ويضيفون بأنه في حال
هزيمة «مجاهدي سوريا» فسوف يأتي الدور «على باقي بلاد
السنة واحدة إثر أخرى». إنها نفس المقاربة الوهمية التي
سمعنا عنها بعد سقوط النظام العراقي.. وهي تعكس العقل
المأزوم والقلق الذي يصوّر الأمور من زاوية مؤامرات محتدمة.
لاشك أن هؤلاء النفر الموتور من المشايخ، أصيبوا بخيبة
أمل وهم ينظرون الى وفد آل سعود برئاسة وزير الدفاع وولي
ولي العهد محمد بن سلمان، وهو يزور موسكو بهدف التوصل
الى تسوية، وتفادياً للخروج من المعادلة بدون مكاسب. جاء
ابن سلمان متنازلاً عن عرضه السابق بأن يبقى بشار على
رأس السلطة بشرط التخلي عن التحالف مع ايران وحزب الله.
ولكنّ رفض موسكو للعرض كما بشار، وبدء الحملة العسكرية
الروسية، وما تحقّقه من تغييرات كبرى في الميدان لصالح
النظام السوري.. دفعت آل سعود للإسراع بالقدوم الى موسكو
للتفاهم مع القيادة الروسية، وأن لا التنحي الفوري لبشار
ولا فك الارتباط مع ايران وحزب الله كان شرطاً، بل كل
ما كان يأمله إبن سلمان، ومعه ساعي البريد عادل الجبير،
وزير الخارجية غير مكتمل النمو، هو عدم التعرّض لمقاتلي
الجيش الحر، ومقاتلي جيش الاسلام بقيادة زهران علوش.
إذاً، فإن أولئك البيانيين من مشايخ الوهابية الذين
تحدّثوا عن دور للدول السنيّة المجاورة لسوريا، في إشارة
للسعودية وتركيا، بغرض نصرة الشعب السوري، عليهم أن يتابعوا
جيداً ما يدور في الكواليس، لأن العامل المذهبي ليس حاضراً
في أي من الحروب، كما لن يكون حاضراً في المفاوضات.
يعتب البيانيون على أمريكا والغرب أنهم هم «من منع
الشعب السوري من امتلاك مضادات الطيران ليحمي نفسه، وهم
من عطَّل حظر الطيران، وهم من عرقل المنطقة الآمنة في
الشمال..». ولو حقق الغرب لهم ذلك، لكان الغرب قوة تحرير
وطنية!. مع التذكير بأن أمريكا بدأت منذ الثاني عشر من
اكتوبر الماضي بإسقاط أطنان من العتاد العسكري على الجماعات
المسلّحة المعتدلة! إذن الخلاف مع امريكا ليس إن كان تدخلها
مشروعاً أم غير مشروع، ولكن عدم تدخلها هو المشكلة!
للمشايخ قائمة أعدائهم وهم كما ذكروهم في البيان «النظام
وشبيحته ثم جيشه ثم الجماعات الرافضية الصفوية الإيرانية
والعراقية والأفغانية وغيرها..». هذه الجماعات يراد لها
أن تكون هي أعداء الشعب السوري، بحسب تحديد المشايخ، وليس
بناء على استطلاع أو استفتاء شعبي. ليس من بين هؤلاء أي
عدو آخر من غير جبهة، فلا داعش ولا النصرة ولا أي من مقاتلي
الثمانين دولة هم يشكّلون خصومة من أي نوع للشعب السوري،
ولا حتى اسرائيل التي تدعم المسلحين في درعا.
لا يتذكر المشايخ الا ويلات النظام السوري بقيادة بشار
وحلفائه، ولكن لا ذكر بتاتاً لويلات الجماعات المسلّحة،
وكأنهم أسقطوا عن سابق تصميم وإصرار من لائحة الادعاء،
الأمر الذي يكشف عن حقيقة العداوة الشكلية والظاهرية لداعش
أو أي من الجماعات الارهابية.
تقدّم مشايخ الوهابية الخمسة والخمسون بدعوة الى من
وصفوهم «الكوادر وذوي القدرات والخبرات في كافة المجالات
إلى البقاء وعدم مغادرة الشام، بل المساهمة في البناء
والتحرير، وندعو القادرين منكم إلى الالتحاق بركب الجهاد،
فهذا يومكم، الله الله في إسلامكم ودياركم وأعراضكم، فما
ترك قوم الجهاد إلا ذلوا، أقبلوا على جهاد عدو الله وعدوكم
فالله معكم، والمسلمون خلفكم بكل ما يستطيعون بإذن الله.
وإن فجر النصر قريب.»
تقدم المشايخ بهذه الدعوة، لم يصدر في أي وقت، ولا
في أي أرض سوى حين يتعلق الأمر بخصوم عقائديين، كما في
العراق وسوريا. لم نقرأ بياناً واحداً عن فلسطين وهي تتعرض
اليوم للزوال من الذاكرة، بعد أن أزيلت من الخارطة. حجة
المحاددة سقطت، فقد بات لمناطق خاضعة لمقاتلي النصرة وداعش
حدوداً مع الكيان الاسرائيلي، ولم نسمع عن طلقة طائشة
سقطت داخل أراضي العدو.
يبدو أن بيان مشايخ الوهابية لم يمر بهدوء، فقد أصبح
جزءاً من معارك التيارات المحلية على خلفية إيديولوجية
وسياسية واجتماعية.
صدرت ردود فعل من قبل عدد من المثقفين إزاء البيان
ومشايخ الوهابية الموقّعين عليه، تنطوي على انتقادات غير
مباشرة للنظام السعودي وللملك سلمان شخصياً الذي لعب دوراً
مركزياً في حملات التبرع للجهاد الأفغاني.
وفي تصريحات لعدد من المثقفين السعوديين لموقع «إيلاف
الالكتروني» نشرت في 4 أكتوبر الجاري، طالب منصور النقيدان،
السلفي السابق، بـ «القبض عليهم ومحاكمتهم بجريمة دعم
الإرهاب، واجبارهم على تقديم اعتذار لروسيا، ولكن لماذا
يشعر هؤلاء بالجرأة لإصدار بياناتهم منذ سنوات من دون
حساب او عقاب؟ لأن السعودية مريضة بسبب هذا الفكر العميق
المتجذر، تعليمها ومساجدها ومؤسساتها». وامتدح النقيدان
روسيا وقال: «بصراحة علينا أن نعي جيداً أن روسيا دولة
عظيمة، ومن هذا المنطلق عقدنا معهم نحن المملكة العربية
السعودية اتفاقيات لعقود قادمة، ونحن في حاجة لتوثيق العلاقة
مع روسيا، وكسب صداقتها وصناعة حلف قوي مع مصر والإمارات
ومع روسيا، أن نكسب صداقة روسيا وبوتن كما كسب الإيرانيون
صداقتهم، وعلى العرب أن يستفيدوا من تجربة الروس ومن تجربة
بوتن باني الأمة الروسية الحديثة، الذي انتشل أمته من
الحضيض ومن المهانة التي عاشها الروس لاكثر من عقد بعد
انهيار الاتحاد السوفيتي».
ويذهب النقيدان بعيداً بقوله: «يمكنني أن أثق بالروس
ولا أثق بالأمريكيين، يمكنني أن أثق بالعلويين الذين حكموا
خمسة عقود سوريا، ولا يمكنني أن أثق بشيوخ الإرهاب. على
السنة أن يكونوا حذرين من التلاعب بهم، وان يكفوا عن التفكير
الساذج والطفولي، أن يدركوا أي كارثة اقترفوها في حق انفسهم
وتجاه سوريا. لقد خسرنا الأسد وخسرنا سوريا، وأخشى أن
نخسر صداقة دولة عظيمة مثل روسيا. لقد عادينا الروس لعقود
طويلة، وارتكبنا أكبر أخطائنا حينما قبلنا أن نجعل من
أبنائنا وقوداً لحرب الكبار للمصالح الامريكية، في افغانستان،
من أجل شعب بدائي يقتل بعضه بعضاً. ذهبت كل جهودنا وكل
أموالنا وفلذات أكبادنا في مهب الرياح. الآن علينا ان
لا نضيع الفرصة، ان نشارك في صنع التاريخ ولا نبقى متفرجين.
انا لست قلقا البتة من بقاء بشار الاسد، بل قلق من ان
التاريخ والمنطقة اليوم يعاد خلقها وعلينا ان نحصل على
نصيبنا من الكعكة».
أما الكاتب السعودي الدكتور عبدالرحمن الوابلي فأكد
أن رجل الدين لم يكن يتدخل بالسياسة لولا الحرب الأفغانية
مع الاتحاد السوفيتي في الثمانينات، وطالما دخل رجل الدين
في السياسة فمن الصعب اعادته مرة أخرى إلى مكانه فأنت
أخرجت العفريت من القمقم».
ويؤكد الوابلي أن «موقف رجل الدين في المملكة هو موقف
مبجل ومعصوم وكثير منهم لا يساءلون عما يقولون، ولذا نجد
أن رجال الدين حينما يصدرون مثل هذه البيانات يرون أنه
حق لهم». وحول حديث بعض الوعاظ الموقعين على البيان بأنهم
لم يدعوا للجهاد ذكر الوابلي «أن مثل هذه البيانات لو
كانت موجهة فقط للحكومات دونا عن المواطنين، لما اتهم
أحد هذه البيانات أنها من أسباب النفير والذهاب للقتال
في أرض المعركة»، وأضاف: «إن غالبية الشعوب تنظر لرجل
الدين انه انسان قدوة ولا يكذب، لذا تنطلي عليهم مثل هذه
البيانات والاطروحات».
وعلى موقع تويتر أبدى العديد من الناشطين رأيهم ، فالمحامي
عبدالرحمن اللاحم وصف الموقعين على هذه البيان «بالبصمجية»،
إذ قال: «هؤلاء البصمجية ينتمون الى دولة لها وزير خارجية
يعبر عن سياستها. واعلان الحرب على أي قوة من قبل هؤلاء
البصمجية هو اختطاف لقرار الدولة واحراج لها، اضافة الى
ذلك فإن التوقيع على بيانات جماعية يعد مخالفة قانونية
وفقاً لقرار مجلس الوزراء، واذا لم يوضع حد لهذه التصرفات
واختطاف دور الدولة.. فإن هؤلاء البصمجية سيجرون الدولة
والمجتمع الى مواجهات غير محسوبة».
وتساءل اللاحم قائلاً: «إلى متى ونحن نلدغ من ذات الجحر
عشرات المرات؟ وإلى متى و نحن لا نتعظ من الماضي؟». وذكر
اللاحم أن ماقام به الوعاظ في البيان «ليس تعبيرا عن رأي،
بل هو دعوة لاستهداف دولة وقواتها، يعني اعلان حرب، وهي
سلطة سيادية للدولة فقط، وإدخال الدولة في حرج سياسي».
أما الكاتب محمد آل الشيخ فقد كتب أن المقصود بهذا
البيان ضمنياً «هو تحريض السعوديين»، والمحرضون ضمنياً
على جهاد الروس في سوريا يؤكدون ما كنت اقول: «المتأسلمون
والدواعش منظومة واحدة، المحرضون الجناح الناعم، والدواعش
الجناح الصلب، ويضحكني المنطق المتناقض للمتأسلمين، يصرّون
على تكفير الدواعش وأنها لا تمثل الاسلام، ثم يدعون للجهاد
معها ضد الروس».
أما الكاتب والمؤلف أحمد العيسى فكتب: «كنت أتوقع أننا
تجاوزنا هذه المرحلة وتعلمنا من دروس الماضي. كيف نحارب
داعش والقاعدة في الداخل وندعمهما في الخارج»؟!!
|