المجتمع النجدي.. الحاضنة الموتورة
2 من 2
سعد الشريف
من أولى الحقائق التي يجدر التأسيس عليها في أي مناظرة
سياسية، أن معادلة المركز والأطراف لا تستقيم وجوداً الا
في ظل اختلال ميزان القوى. وعليه، فإن القوة وحدها هي
العامل الحاسم في المعادلة. وفي النتائج، فإن أصل نشأة
علاقة المركز والأطراف تعود الى سيطرة الأقلية على السلطة،
وبالتالي فإن الدولة التي تكون ثنائية المركز والأطراف
أس العلاقة فيها وسمتها هي دولة تسلّطية حكماً، وعلى العكس
تماماً حين تكون الأغلبية هي الممثلة في السلطة فلا مكان،
حينئذ، فيها لتلك الثنائية، فإنها بالتالي دولة وطنية..
علاقة المركز بالإطراف لا تقتصر على مجرد المخرج السياسي
الناشيء عن اختلال العلاقة، بل تستوعب أبعاداً عدّة سياسية
وثقافية ونفسية واجتماعية واقتصادية، وإن طغى الجانب السياسي
على بقية الأبعاد، أو كان سابقاً عليها.
في النظرة العامة، فإن عقل المركز مؤسس على حسابات
السلطة وأرباحها، بينما عقل الإطراف مرغم على التفكير
ملياً في درء مفاسدها، ولجم انفلاتاتها حين يراد للمركز
إعادة ترسيخ تفوقه..
في اللاوعي الجمعي لدى أبناء المركز ثمة جبّلة على
الشعور المتعاظم بالتفوق، والتميّز، والواحدية، لتتمظهر
سلوكياً في نزعة الاقصاء، والإلغاء، والتفرّد بالسلطة
بكل أشكالها، والحقيقة بكل أوجّهها..
العلاقة بين المركز والأطراف تبدو ذات إتجاه واحد،
هو يحدّد المسافة بينهما، ووحده يختار للأطراف دورها،
وتمثيلها، وحاجاتها، وهو يحكم بإيمانها وكفرها، وهو يقسم
لها حصتها من الثروة والسلطة. وفي المقابل، والأخطر، أنه
هو من يصوغ هويتها، وانتماءها، وثقافتها الوطنية، ويحدّد
لها نوع الولاء المطلوب منها. وليس للأطراف أن تختار،
ولا أن تقرّر، ولا أن تعارض ، ولا أن تفكّر خارج الصندوق
الذي أراد المركز خنق الأطراف فيه...
الذي أضفى على النجدي شعوراً بالتفوق هو سيطرته العسكرية
ابتداءً، وهذا الشعور سوف يرافقه كيما يشرعن سيطرته. ولا
يقف الأمر عند هذا الحد، لأن تلك السيطرة ولّدت تصوّرات
ومزاعم عن الذات تجعل النجدي، إبن المركز، يسوّغ احتكاره
للسيطرة. فتارة تأخذ المزاعم طابعاً عقدياً (إيمان وكفر)،
وتارة أخرى طابعاً عنصرياً (قبلي وغير قبلي)، وتارة ثالثة
تأخذ طابعاً مناطقياً (نجدي، حجازي، شروق، 07 وغيرها).
تلك النزعة المتعالية في بعدها الشوفيني تحيل من المركز
سيّداً أبديّاً، وتجعل الأطراف عبيداً..وما تلبث أن تترجم
تلك النزعة نفسها في هيئة سياسات، ومواقف، ومسلكيات، في
شكلها النظري تكفير وفي شكلها العملياتي تفجير..
حين عجز المركز عن قلب سكّان المناطق الأخرى كيما يكونوا
نسخاً ضوئية منه دون أن تحظى بنفس المكتسبات والامتيازات،
قرّر أن يمارس سطوته تعبيراً عن إرادته السلطوية والقهرية،
في سياق مشروع «تنجيد» شاملة للدولة والمجتمع، وعلى أبناء
الأطراف حينئذ أن يختاروا بين الإنصهار في المركز بمعنى
الخضوع والتلاشي وليس القبول الحر وتالياً تقاسم السلطة
والثروة أو انتظار الموت الذي يتربّص بهم بفعل فتاوى التحريض
التي أخرجتهم من دائرة المركز وأبقتهم أهدافاً مشروعة
في الأطراف..
يصدر المركز في تسويغ افتئاته على الأطراف، ومصادرة
حقوقها، عن رؤية خاصة تشتمل على كل ما هو سلبي. على سبيل
المثال، إن توزيع الاتهامات للأطراف تارة بالارتباط بالخارج،
أو عدم الأصالة التاريخية أو انقطاع الجذور، أو حتى الحط
من شأن أعراق الأطراف وعناصرها، تستهدف شرعنة الهيمنة
واقتراف كل ما يعتقده المركز حقّاً حصرياً له دون الأطراف..
ولذلك، فإن الإحساس المتضخّم بالتمايز، والاستعلاء،
والتفوّق على الآخر، يتوسل مبررات دينية تارة وسياسية
أخرى وعنصرية ثالثة..فتكفير المركز للأطراف لا يقصد به
الجانب الديني المحض، بل لابد من النظر في تداعيات ما
بعد التكفير والآثار المترتبة عليه، أي أن التكفير أول
ما يومىء اليه هو شعور صاحبه بالتفوق في البعد الايماني
ولكن في جوهره وجذوره النفسية والثقافية والاجتماعية هو
رسوخ الاعتقاد بالتفوق النوعي الذي يبيح السيطرة على الأطراف.
في البعد النفسي الاجتماعي للإحساس بالتفوق النوعي، تتصدّر
النظرة المتعالية على الأطراف، حين يصبح أبناء الأطراف
في مستوى أدنى من أبناء المركز، وتأخذ تعبيرات النظرة
صوراً متعدّدة تارة في القطيعة المادية، أي عدم اختلاط
أبناء المركز بنظرائهم في الأطراف، وتارة في هيئة مسلكيات
ذات طبيعة ازدرائية كالتهكم على اللهجة، وطريقة اللبس،
وحتى نوع الأكل، والعادات..لا يخفي بعض أبناء المركز مشاعرهم
إزاء الأطراف وإن افتعلوا الحرص، ولطالما خرجت تلك المشاعر
بأشكال مختلفة، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالبعد المناطقي
(حجازي/نجدي)، أو بالبعد الطائفي (شيعي/وهابي)، فأبناء
المركز لا يتردّدون عن إفراغ كل مشاعرهم إزاء الطرفي المناطقي
أو الطرفي المذهبي..
وقد تأخذ النظرة الإزدرائية شكلاً ثقافياً وهوياتياً
من خلال إنكار تاريخ الأطراف وموروثاتها الاجتماعية، وتراثها
الثقافي، وإرثها الأدبي والسياسي، وتسييد تاريخ المركز،
وفرض منظومته الثقافية والأدبية والإجتماعية، وتعميم ذلك
عبر كل وسائل النشر والتوجيه (الكتاب، الصحيفة، الاذاعة،
التلفزيون، المدرسة، الجامعة، الجامع...الخ)، حتى بات
بعض الأطراف مضطراً للتموضع مركزياً لناحية مسايرة المركز
طلباً للحصول على مكسب مادي أو نفسي أو درءاً لتهمة وقد
يكون استسلاماً لهجمة عاتية.
ولأن المركز يتميّز بالقوة المجرّدة والغلبة دون سواها،
فيما يتميّز الأطراف بكل عوامل القوة والقدرة المادية
والاقتصادية التي تجعله في حال المكنة مستقلاً وقادراً
على العيش بكرامة، فإن المركز الفقير مادياً، وتاريخياً،
وثقافياً حين يفقد القوة والغلبة يصبح هملاً، ولذلك هو
يبقي على تلك القوة حاضرة، فاعلة، مؤثّرة كيما تبقيه غالباً
متغلباً..فاختلال القوة بين المركز والاطراف يعني بدء
تصدّع المركز بما يحمل تهديداً في حال استمرار الاختلال
في القوة بينهما بزوال سلطة المركز بصورة كاملة ونهائية..
مثقفو المركز مجبولون في الغالب على التفكير بعقل السلطة،
فهم يتقنون لاشعورياً لغة المركز. يجترحون طرق تفكير مصمّمة
لاستلاب هوية، وعقل، وإرادة الأطراف، ويغضبون حين يتمرّد
الأخيرون على تلك الطرق، لينالهم ألوان العقاب التي تبدأ
بعدم الولاء وضعف الانتماء وصولاً الى الخيانة والتكفير..
من نافلة التكفير، فإن سكّان الأطراف هم كفّار ابتداءً
(صوفية، وشيعة، واسماعيلية..الخ)، وحتى الحنابلة من غير
الاتجّاه الوهابي ليسوا سواء مع الحنابلة الوهابيين..
ولا يختلف المركزيون (متديّنون أو علمانيون) في نزع التمركز
على الذات النجدية، فالنظرة إزاء الأطراف تتوحد بنفي المساواة،
والمماثلة، والتكافؤ..هم في النفي سواء ولكن كل على طريقته..
من المركز يبدأ الوعي وإليه ينتهي، هكذا أريد للأطراف
أن تعي وتفهم وعلى أساسه تبني. قادة الفكر، ورموز الثقافة
والتحديث والليبرالية يتناسلون من المركز، وعلى الأطراف
هضم نتاجاتهم وضبط إيقاعهم وأداءهم وفق ما يبشّرون به
من أفكار وتوجيهات مركزية..
ولأن المركز يحتكر وسائل النشر والتوجيه: الصحيفة،
المطبعة، الجامعة، الجامع، الإذاعة، التلفزيون، الكتاب،
وحتى الأندية الأدبية والرياضية..فإنه يكتب التاريخ الذي
يشاء، ويشيع الوعي الذي يرغب. وعليه، فإن الأسماء اللامعة
في الصحافة، والادب، والثقافة، والدين فضلاً عن السياسة
هم من أبناء المركز. أما الأطراف فلا حظ لها الا عبر التمرّد
وكسر احتكار المركز، ولذلك فإن من يبرز في الأطراف كتاّباً
وأدباء ومثقفين إنما جاءوا في الغالب من خلفية اعتراضية
على واقع احتكاري، فهم معارضون أولاً ثم يدلفون الى مجالات
اختصاصهم..
ولأن المركز يبطن كل خصائص الاحتكار، فإنه ينسب له
كل فضيلة، وحق، وحقيقة، ومنجز، ويرمي الأطراف بكل رذيلة،
ومنقصة، وعيب. وفق هذه الرؤية النرجسية والعنصرية في آن
تولد رابطة الاستتباع والإلحاق، وبها تتم شرعنة الهيمنة..
أبناء المركز يتباهون بأن منهم المثقف، والأديب، وحتى
الليبرالي والملحد، فهم يحتكرون الإيمان والكفر، على قاعدة
التمايز العنصري المشتق من معادلة المركز ـ الأطراف..وهنا
تبدو سخرية المركز، فالإلحاد في عرفه ذروة وعي (عبد الله
القصيمي مثالاً)، أما الإيمان بشكل آخر في الأطراف يغدو
هرطقة (السيد محمد علوي المالكي في الحجاز، والشيخ عبد
الله الخنيزي في الشرقية).
يتحوّل المركز الى مصدر امتنان الأطراف، وعليها أن
تحمد الله في العشي والإبكار على أن رزقها مركزاً يجود
عليها مما حرمت منه عنوة بفعل وضع المركز يده على ثروات
الأرض.
ولكي يحصل أبناء الأطراف على شهادة براءة ذمة وطنية،
وبعض المال، وبعض الجاه، فليختاروا طريقاً سالكاً الى
المركز. الاستقلال في فهم المركز ترف، وممارسة مشبوهة.
وحده قانون «إما معنا أو ضدنا» ساري المفعول في العلاقة
بين المركز والأطراف. كل الذين نأوا بأنفسهم عن الوقوع
تحت وطأة ابتزاز المركز وابتذاله تحوّلوا الى أيقونات
في مجتمعاتهم الطرفية، وإن نالهم من المركز وابل من الاتهامات
الهابطة المحمولة على لغة عنصرية وطائفية..
لا يدعو للدهشة نزوع أبناء المركز على فرض ثقافتهم،
وأنماط عيشهم، وحتى سلوكهم الخاص على الأطراف، وذلك أحد
استباطانات الهيمنة. ويلحظ أحمد بن صالح بن عبد الله السلطان
أن المجتمع العربي (النجدي بشكل خاص) يبالغ في فرض أنماط
محددة من السلوك بما فيها أساليب الكلام والمظهر العام..الخ
الى درجة أن الانسان الذي يخشى النقد أو يرغب العيش بسلام
يلتزم بشكل صارم بهذه الأنماط (راجع قائمة الواجبات في
فصل تقدير الذات) من كتاب (أحمد بن صالح بن عبد الله السلطان،
تحريك الساكن..تأملات في الإيمان والإنسان، مكتبة العبيكان،
الطبعة الأولى، الرياض، 2014، ص 163).
وهنا تبدو لفتة على درجة كبيرة من الأهمية، أن محاولات
فرض تلك الأنماط لا تصدر عن رؤية دينية، فقد لحظ أحمد
السلطان في دراسته للمجتمع النجدي بأن سلطة المجتمع أقوى
من سلطة الدين في فرض محدّدات السلوك.
ولذلك، فإن رسالة المركز الى الأطراف تبدو واضحة وموحّدة
سواء صدرت من الديني أو اللاديني أو حتى الملحد: لا خيار
الا بالتماهي مع المركز سياسياً وثقافياً ونفسياً. ولابد
من التذكير مجدّداً أن الخضوع والقبول بالدونية والإلحاق
لا يهب الأطراف امتيازاً، ولا يمنحها حصّة زائدة من اعطيات
المركز، وإن أقصى ما تحصل عليه هو الحياة الآمنة ولكن
بلا كرامة، وعلى العكس الأطراف التي تثأر لكرامتها على
احتكار المركز واستبدادها ومصادرته لإرادتها، فإنها تحصل
على الحياة الكريمة وإن فقدت مؤقتاً الأمن والآمان من
المركز الذي يمكنها استعادته لاحقاً..
بالتأكيد، لا يمكن الحديث عن مركز منسجم ومتجانس مئة
بالمئة، فبرغم من كونه مجالاً منعزلاً ومغلقاً ولا يدخل
فيه الا من يتقاسم مع بقية أفراد المركز مشتركات (النجدّية،
الوهابية، القبلية المتحالفة مع العائلة المالكة..)، إلا
أن التنافس يحتدم بداخله على قاعدة البلدة (بريدة ـ عنيزة)،
والقبيلة (الحليفة وغير الحليفة لآل سعود)، والمنطقة (الرياض
ـ القصيم). هو تنافس لا يرى أبناء المركز غيرهم معنياً
به، ولا يجوز للأطراف حتى مجرد الإطلاع عليه، فهذا شأن
لهم وحدهم، وامتياز خاص بهم. في حقيقة الأمر، إن تطفّل
الأطراف بالاقتراب من تنافس أبناء المركز أو صراعهم على
المناصب والمغانم يبدو مستهجناً، وتعسفيّاً، وفي نظرهم
مشبوهاً، إذ كيف من لا حق له تاريخي أو ديني أو مناطقي
أو قبلي أن يدسَّ أنفه فيما لا يعنيه..
نشرت صحيفة (الوئام) في 10 يناير 2011 طرفاً من مقالة
أكاديمي عرف نفسه بـ «أ.د. زاهد بن مسلم بن عبد الرحيم
الحدادي أستاذ الدراسات العليا بكلية العلوم الاجتماعية
بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية» وصف فيها جامعة
الإمام محمد بن سعود الإسلامية بأنها «مناطقية» ويقودها
أبناء محافظة واحدة جميعهم من «بلديات» مدير الجامعة.
الحدادي الذي نشر مقالته في مجموعة الاعلامي عبد العزيز
قاسم قال أن «الوظائف القيادية في الجامعة من عمداء ووكلاء
عمادات ورؤساء أقسام هم من الحمولة والجماعة والبكيرية
«بلدياتي» كما يقول اخواننا المصريين». وسرد الحدادي 18
إسماً لعمداء وعميدات ووكلاء ووكيلات عمادات، بأنهم جميعاً
ينتمون لنفس المحافظة التي خرج منها مدير الجامعة من بينهم
إسم مدير حرم الجامعة كمشرفة على الخدمات الطبية.
وكشف الحدادي عن وجود تجاوزات مالية في بعض المشاريع
«معهد البكيرية العلمي ذلك المبنى الرائع ذو الطراز الحديث
الذي يضم بين جنباته ما لا يزيد عن مائة وخمسين طالباً
يرصد له من ميزانية الجامعة قرابة ستة ملايين ريال لأجل
إقامة قاعة مدرجة في وقت تفتقد معاهد علمية في جنوب المملكة
وشمالها وغربها وشرقها المباني المؤهلة لتدريس أبناء الوطن».
ليس أبناء الأطراف معنيين بالرد ولا بالتظلّم، فتلك
قضية خارج نطاق شؤونهم وخصوصياتهم، وكأنها واقعة في بلد
آخر، لا ينتمون إليه، ولا الأموال التي تنفق على المعهد
والمدرج ليست من أموالهم، ولا حتى «المحسوبية» الفاضحة
مشكلة في بلدهم..وليس هنا مجال تقويم أداء الجامعة الاسلامية
ومخرجاتها، والدور الذي تلعبه في تعزيز معادلة المركز
ـ الأطراف من خلفية ورؤية دينية..وهي تفعل ذلك على كل
حال..فكل الذين تخرّجوا من هذه الجامعة اعتنقوا خطاباً
تكفيرياً اقصائياً للأطراف. وإن كثيراً من الدعاة، وأئمة
الجوامع والقضاة في المحاكم الشرعية، ومدرّسي المواد الدينية
تخرّجوا في هذه الجامعة، أو مروّا عليها، وأفشوا ثقافة
الـ «نحن» والـ «هم» على قاعدة دينية، أي «مؤمنين» و»كفّار».
الرواية الوهابية حول نجد المشركة والمبتدعة، كما تصفها،
أريد تعميمها على بقية المناطق. فثمة رؤية نمطية حول الآخر
ـ كل الآخر تبرر غزوه، احتلال أرضه، مصادرة إرادته، وقهره،
وحرمانه..وعليه كانت المصادمة بين الوهابية وبقية المذاهب
ليس على قاعدة فقهية، لأنها ليست مدرسة فقهية، بل كانت
دعوة عقدية بمضمون سياسي، ولذلك قالت الوهابية بانتشار
الشرك والبدع في نجد وأن أهلها عبدوا الأشجار والأحجار،
لتسويغ قتالهم ونهب ممتلكاتهم، والسيطرة على أرضهم. ولذلك،
لم يكن بن غنام غافلاً في استخدامه مصطلح «المسلمين» على
أهل نجد من أتباع الوهابية، و»الكفار والمشركين» على سكّان
بقية المناطق..
في التكتيكات المعتمدة لدى المركز كيما تبقيه متفوقاً
وغالباً أن تكفيره للأطراف وكل الآثار المترتبة عليه ليست
لمرة واحدة، وحتى لو قبلت الأطراف الانضواء تحت لواء المركز
عقيدة وسياسة وحتى إجتماعاً لو أمكن ذلك، فسوف يبقى المركز
يدندن تكفيرياً وعنصرياً، لأن تميّزه، ونزوعه السلطوي
مؤسس على كون الأطراف تقع في مرتبة تجعلها أهلاً لأن تكون
خاضعة، وأن يكون المركز مهيمناً، وحين تنتفي هذه العلاقة
المؤسسة دينياً وعنصرياً على التمايز ينتفي وجود مركز
وأطراف، وحينئذ يصبح للطرفين حقوق وواجبات متساوية..
من أبناء المركز، أول الناس في العلم، والجهاد، والحكم
ولإدارة..منهم أول وزير، وأول من حصل على شهادة الدكتوراه،
وأول سفير، وأول قائد عسكري، وأول قاضي، حتى بات المركز
حاضنة الأوائل..
المركز محتكراً
اختلال العلاقة بين المركز والاطراف ينعكس في مجالات
عدّة: التوزيع غير المتكافىء للسلطة والثروة، والتهميش
الاقتصادي، والتنمية غير المتوازنة، والاهمال العمراني
المتعمّد، والتفاوت الحاد في توزيع الخدمات. على سبيل
المثال، فإن الفارق في المستوى المعيشي بين سكّان منطقة
جيزان الجنوبية مع من يقابلهم في المقلب الآخر في اليمن
لا يتجاوز 5 بالمئة، مع أن جيزان تقع تحت سيادة أغنى دولة
نفطية في العالم. وهناك قرى في المملكة السعودية لا تزال
تعاني من تردّي الخدمات إن لم يكن انعدامها مثل الكهرباء،
والماء، والشوارع المعبّدة، والمدارس، والمراكز الصحية.
وهناك مناطق خارج المركز يعيش سكانها بلا كهرباء وبلا
ماء منذ عشرات السنوات. على سبيل المثال، هناك 10 آلاف
منزل في حي الحرّازات وهو وجه مدينة جدّة ويقطنه 50 ألف
نسمة يعيشون بلا كهرباء منذ 30 عاماً.. وفيما يتكدّس سكان
جدة في الكورنيش الشمالي لوجود الخدمات، فإن الكورنيش
الجنوبي وعلى امتداد 40 كيلو متراً لا يزال بلا اضاءه
وكهرباء، وهو مجرد شارع إسفلت وأرصفه..
أزمة الخدمات شاملة في كل أرجاء الأطراف، وبعض المركز،
وذلك أمر مفهوم بسبب تفشي الفساد في جسد الدولة، ولكن
حين نتأمل في الشكاوى من انعدام الخدمات (ماء كهرباء صرف
صحي، مستشفى، مدرسة..الخ) أو تردّيها لا نجدها تصدر في
الغالب الا من الأطراف. أما المركز، المنتصر، الحاكم،
المتفوّق، المتميّز فمكفول من الأطراف. ماؤه المحلّى يأتي
إليه عبر أنابيب ممدودة من الشرقية، وكذا كهرباؤه الموزّعة
على الأطراف الغنيّة بالثروات الطبيعية المحرومة من مواردها،
خصوصاً في الشرق والغرب، وللنفط وموارده أن تعين المركز
على قضاء حوائجه في إثرائه، وإعمار أرضه، وتنمية موارده..
في دراسته المتميّزة بعنوان (النخب السعودية: دراسة
في التحولات والإخفاقات) الصادرة عن مركز دراسات الوحدة
العربية في بيروت يفرد محمد بن صنيتان مساحة واسعة للإختلال
الكبير في توزيع السلطة. ويرى بن صنيتان بأن الأساس في
تعيين الوزراء هو الولاء والثقة، وليس الكفاءة دوماً،
وأن الهاجس الأمني، وولاء المرشح، مقدمان على أي شيء،
وأن من يصل الى مرتبة وظيفية معيّنة، يفتح له ملف للرجوع
إليه عند الحاجة..
وتوصل بن صنيتان الى أن الوزراء في المملكة السعودية
يتميّزون عن غيرهم في بلدان أخرى: الفردية في العملية،
حيث إن كل وزير ينقض ما بناه سلفه بصرف النظر عن صحّته
من سقمه، وطول مدة البقاء في المنصب. يقول بن صنيتان أنه
خلال فترة زمنية واحدة سُمي في الأردن (500) وزير، وفي
مصر(400) وزير، بينما العدد في السعودية لا يتجاوز(105)
وزراء فقط! علماً أن هذه الدراسة التي يكتب عنها بن صنيتان
تتوقف عند أوائل عام 1420/1999. وبالرغم من صدور أمر ملكي
عام 1414/1993 بتحديد مدة عضوية مجلس لوزراء بأربع سنوات
قابلة للتجديد، وبناء على هذا القرار تألف مجلس عام (1416/1995)،
وكان التجديد فيه بنسبة (14%)، وفي عام (1420) دخل المجلس
ثلاثة وزراء جدد فقط؛ وهو تجديد ضئيل، وفي عام (1424/2003)
دخل المجلس خمسة وزراء جدد، وخرج سبعة، وألغيت وزارتان؛
بينما عدّل مسمى ثمان وزارات. وفي عام (1428/2007)، وهي
المرة الأولى التي يصادف وقت التأليف الوزاري عهد الملك
عبد الله- لم يتغير شيء في المجلس، وهو ذات الأمر الذي
حدث خلال عام (1432/2011). في الشكل يمكن القول بأن التغيير
الوزاري يرتبط بتوازنات داخل منطقة نجد حصراً، وأما التفسيرات
الأخرى من قبيل أن إبقاء الوزارة دون تغيير هو كي لا يعتاد
الشعب على التغيير ويترقبه، فهذا تفسير يخفي حقائق أخرى
ومنها أن الوزارة تقام وفق اعتبارات وحسابات خاصة، مناطقية
وطائفية وقبلية، وتكون نجد محوراً في العملية برمتها..
وإذا عرفنا أن كل الوزراء يتم اختيارهم بالتعيين وليس
الانتخاب، فإن المعايير المتبّعة في عملية التعيين تكون
وفق رغبة الطبقة الحاكمة النجدية. ووفق دراسة بن صنيتان
فإن نسب التمثيل في الجهاز البيروقراطي للدولة على النحو
التالي: النجدي يسيطر على 78% من المناصب الوزارية، فيما
يتمثّل الحجازي بنسبة 17% وتتقاسم بقية المناطق نسبة 5%.
وفي مجلس الشورى حصلت نجد على 50% من الأعضاء، وحصل الجنوب
على 7% والشرقية 10% والحجاز 29%.
وعلى المستوى الاقتصادي، يلحظ الباحث والناشط السياسي
د. حمزة الحسن أن المنطقة الجنوبية تشكّل 30% من سكان
البلاد، في حين تحظى بأقل من 10% وفق بعض التقديرات من
إنفاق الدولة.(أنظر: د. حمزة الحسن، الوطنية..هواجس الوحدة
والانفصال في السعودية، مؤسسة التاريخ العربي، د.ت، ص
99).
وعلى أفق واسع، توصّل الباحث الحسن الى أن نجد (عام
2005) تتمتع بحصة الأسد في مجموع المستشارين للملك وولي
عهد (68%)، والموظفين الكبار في الديوان الملكي وديوان
ولي العهد (100%)، والوزارات (69%)، وحاملي مرتبة وزير
من خارج إطار مجلس الوزراء (84%)، ومن إمارات المناطق
ونيابتها (90,9%)، ومجالس المناطق التي يفترض أن يديرها
أبناء المناطق أنفسهم يستحوذ النجديون على 66.6% على مجلس
المنطقة الشرقية.
وفي المجال الديني، فإن كل المفتين هم من نجد، وأن
88% من أعضاء هيئة كبار العلماء نجديون، وكل أعضاء مجلس
القضاء الأعلى من نجد. وكل وزراء الأوقاف والشؤون الاسلامية
والعدل منذ نشأتها حتى اليوم هم من نجد.
وتنسحب الهيمنة النجدية الى الجامعات، والبنوك، وصناعة
النفط، والشركات التجارية، وحتى النوادي، والمؤسسات الاعلامية،
والقنوات التفلزيونية، وشركات القطاع الخاص، والمصانع
والاسواق التجارية الكبرى..الخ
تجدر الاشارة الى أنه حين يأتي الكلام عن آل سعود في
معادلة المركز والأطراف نصبح أمام مجال آخر للحديث. لأن
تلك المعادلة تقع خارج نطاق سلطة آل سعود. فهم النخبة
المتميّزة التي تعلو فوق القانون والمسائلة، ولا تخضع
لمعايير التمثيل والشراكة..وحدهم يقرّرون مايجب وما لا
يجوز، ووحدهم أيضاً يملون على من سواهم سواء كان نجدياً
أو حجازياً أو من أي منطقة وطائفة وقبيلة كان. فقرارات
التعيين، والموازنة، والتنمية، وسياسات النفط، والخارجية،
والداخلية، وصفقات السلاح، وتوزيع المناصب مصدرها العائلة
المالكة بحسب التراتبية المعمول بها وفق قوانينها وأعرافها
وتقاليدها..فلذلك، يغدو صحيحاً تماماً القول بأن الوزراء
هم مجرّد موظفين عاديين، لا يستقلّون برأي، ولا يصوغون
سياسة من أي نوع، بل يتلقون أوامرهم من الملك أو من يمثّله
أو يفوّضه..فلا وزير المال يصدر قراراً بصرف أو إنفاق
دون العودة الى رأس السلطة، ولا وزير النفط يقرّر خفض
الإنتاج ورفع الأسعار أو غير ذلك دون قرار من الأعلى ولا
وزير الخارجية له حرية التصريح أو إطلاق مواقف دون طلب
من الملك أو من مندوبه، وكذلك الحال بالنسبة لبقية الوزراء..
يلفت صنيتان الى دور المجلس العائلي وهم مؤلف وفق تقاليد
العائلة المالكة من كبار الأمراء من أبناء عبد العزيز
ومن الوزراء من آل سعود، ويضم مع الملك نائبيه، ووزراء
الداخلية والدفاع، والحرس والخارجية، ويعود لهؤلاء تعيين
(97%) من النخبة الوزارية؛ بحسب استبيان بن صنيتان.
ولذلك، فإن الفكاك من أسر معادلة المركز والاطراف يتطلب
عملاً جبّاراً ودؤوباً وورشة عمل على امتداد البلاد من
أجل تغيير البنية التحتية الثقافية والنفسية والعقدية
لدى المركز والبدء بعملية ادماج واسعة النطاق للأطراف..أي
بكلمات أخرى، لابد من تفكيك «نجدنة» الدولة بكامل حمولتها،
والانتقال من الدولة ـ السلطة (الدولة التسلّطية)، الى
الدولة ـ الوطن (الدولة الوطنية).
|