الدولة المجنونة
كتب الاعلامي ومسؤول صفحة مقالات الرأي في صحيفة (السفير)
البيروتية نصري الصايغ في 10 نوفمبر الجاري تعليقاً على
محاولات السعودية الضغط على قمر عرب سات من أجل إيقاف
بث قناة (الميادين) بما نصّه: (احذروا المملكة. لم تعد
دولة الصمت. صارت تتكلّم بلغة الأمر. لكنة عسكرية في لهجتها.
أمراؤها جنرالات. «الحكمة» التي أغدقت عليها كقيمة سياسية
عليا، فضحَها سفور المواجهة).
ويضيف: (إما ان تكون مع السعودية، حذو القتل بالقتل،
وحذو القول بالقول. أو لا تكون بالمرة. عليك أن تردّد
أو أن تخرس، تماماً، كما هي حال الأنظمة العسكريتارية
والأساليب الديكتاتورية. ومن لم يعرف أفق المعارك الدائرة،
عليه ان يدرك هواجس المملكة. فهي لا تقاتل من أجل وحدة
اليمن، أو من أجل نظام ديموقراطي، ولا تقاتل بالواسطة
في سوريا، من أجل ثلاثية «الحرية والعدالة والكرامة».
ولا تتدخل، بكل ما أوتيت من مال وعتاد ودعم وايديولوجية،
من أجل هدف لا يخصها... السعودية في حروبها، تدافع عن
السعودية. انها حرب وجودها، مملكة العائلة، ومملكة النفط،
ومملكة «الحكمة المالية»، وهي من أبلغ الحكماء «إقناعاً».
وفي هذا المجال، تتمتع المملكة بقوة خارقة لا تُجارى(.
حقاً هي كذلك، فقد اختار سلمان أن يكون عنوان عهده
المواجهة المفتوحة مع الخصوم جميعاً، وإن تطلّب اشعال
الجبهات كافة في وقت واحد. لا يلتفت الى عواقب أي موقف
مهما كان، ولا يكترث للنتائج مهما بلغت. يتصرف بملء رصيده
المالي، وإن نضب سريعاً، وبات على استعداد لأن يخوض معارك
في كل مكان، في تعبير عن إحساس بالخطر الوجودي.
يبطش لا عن قوة، ويتصدّى لا عن ثقة، ويصرخ لا عن هيبة.
كل الايحاءات التي يقوم بها تبدو مكشوفة، وصار من يراقب
أداءه يعلم بأنه يفعل ذلك كله لأنه خاسر، ويتصرف على أساس
أن لا خيار له الا الجنون.
في الداخل: صراع على السلطة بين أمراء آل سعود، واستقطاب
حاد بين الأجنحة المهمّشة..
انكماش السلطة وحصرها في ثلاثة: الملك وإبنه الصبي
محمد، وزير الدفاع وولي ولي العهد، ومحمد بن نايف، الثعلب
المذعور، ولي العهد ووزير الداخلية.
ثالوث الأزمة في الداخل يستفرد بالقرار وبالملفات كافة.
وليتخيّل المرء كيف يتسابق المحمدان نحو العرش على
حساب شعب بأكمله، ولو أدى هذا السباق الى اشعال حروب،
ونهب ثروات، وتفجير أزمات. لعبة قذرة يخوضها الطرفان من
أجل إثبات فشل الآخر في إدارة الملف المسؤول عنه.
تضاعف حالات الاعدام بالمقارنة بين العام الماضي وهذا
العام، ما يشي بفشل العقوبة كأداة رادعة، وكوسيلة لاستعادة
الهيبة الضائعة.
رجل امريكا هو من يتولى ملف الأمن، ولا ريب أنها ليست
بمنأى عمّا يجري في هذا البلد، فإما أنها تتعمّد دفع آل
سعود الى حتفهم، لأن مثل هذه الرهانات لا تقود الى سوى
الكارثة، وإما أنها تعلم وتصمت للغاية نفسها..
الاعتقالات العشوائية، وملاحقة الناشطين الحقوقيين،
وإصدار أحكام الاعدام ضد يافعين جريمتهم الوحيدة أنهم
خرجوا في مسيرات سلمية وطالبوا بحقوق مشروعة، وحملات الاستدعاء
ضد الكتّاب، والمغرّدين، والإعلاميين مستمرة.
ارتفاع معدلات البطالة، وتزايد أعداد الفقراء، وأزمة
السكن والخدمات، وانهيار الأمن في مناطق كثيرة (والخير
لقدّام!).
الجمود السياسي الداخلي مستمر وأنهك أسس الدولة، والتمزّق
الاجتماعي يتصاعد على وقع تصاعد الخطاب الطائفي المغطى
من القيادة السياسية.
الحروب الخارجية والهدر المالي المتواصل لتغطية نفقاتها،
وتمويل الجماعات المسلّحة في العراق وسوريا ولبنان وأفغانستان
والشيشان وحتى سيناء، برغم من العلاقات الوديّة، في الظاهر
على الأقل، مع النظام المصري.
مشهد مدجّج بكل الصور المحزنة، وتقديرات المستقبل لا
تبشّر سوى بكوارث يدفع ثمنها الشعب بكل أطيافه..
في أجواء الانزلاق نحو المجهول والكارثي، يأتي من يتحدّث
بخداع مفضوح عن الشخصية الأكثر نفوذاً في العالم العربي،
ويختار بناء على كمية المال المدفوع الملك سلمان لكي يكون
من تنطبق عليه مواصفات تلك الشخصية. الرجل الذي كان للتو
بالإمس مراهقاً في الجسد والعقل، لم يكن له موقف من أي
قضية عربية، ولا سيما قضية فلسطين التي تشهد انتفاضة شعبية
سقط فيها أكثر من ثمانين شهيداً، أو حتى رعاية مؤتمر إسلامي
يدعو اليه قادة العالم العربي من أجل عقد مصالحة عربية
عربية أو المشاركة الفاعلة في أي مشروع ينهي الحروب المتفجّرة
في أكثر من بلد عربي.
صورة المملكة السعودية عربياً وعالمياً ليس كما يريد
الإعلام السعودي تسويقها.. هناك حيث يضع المال السعودي
بصمته السوداء في صفحات التاريخ، ويثبّت في سجل الخزي
مواقف لمحاربة الحرية، ولا سيما حرية الاعلام، ويشنّ عدواناً
على شعب شقيق مسالم مثل الشعب اليمني يدمّر كل أسس الحياة
في هذا البلد، ويقوّض البنى التحتية، ويقتل الأطفال والنساء،
ويشرّد شعبه، ويلتقي أمراؤه مع الصهاينة تنسيقاً وتطبيعاً
وتآمراً على الأمة.
هنا مملكة الصمت حيث يصبح العار وساماً في عرف الاعلام
المهترئة كرامته، ويتباهى المعطوبة ضمائرهم بعاصفة حزم
لم تجد في غير أبناء جلدة العرب مكاناً للفتك، وهي التي
غابت دهراً طويلاً.
إنها المملكة المجنونة التي فلتت من عقالها، وراحت
تعيث دماراً وخراباً في كل مكان.. وقى الله العرب والمسلمين
شرّها.
|