دولة التيه
في نفثة الألم المزفور من شعره يقول مظفر النواب: فالوطن الآن على
مفترق الطرقات..ورغم أنه كان يطلق تنبيهاً مبكراً قبل أن يضيع الوطن
العربي الكبير، الا أن أجزاء هذا الوطن بعد كل تلك السنوات باتت عرضة
لكي تنشطر على نفسها، فقد عدنا نتشرذم حتى في الخوف على ضياع الاجزاء،
وبدلاً من أن نضع رهاننا بين حدي الوحدة العربية أو الانقسام: فأما وطن
واحد أو وطن أشلاء كما يقول مظفر فإذا بنا نتحدث عن أوطان أصبحت داخل
الوطن الكبير، ولكنها الاخرى باتت قابلة للقسمة على عدد المنقسمين بداخل
هذه الاوطان الصغيرة.
فدولتنا التي توحّدت أجزاؤها على زمجرة القوة وسلاح القهر دخلت منذ
سنوات في تيه بعد أن فقدت القيادة خارطة الطريق، ولم تعد تملك من أدوات
الاستقرار والتوحد ما يكفي للبقاء..فقد كنا نعقد آمالاً على عنصر (البركة)
الغيبي في أن يجلب للدولة ما عجزت قيادتها عن توفيره، ولكن هذا العنصر
لم يكن أكثر من أمل خادع، فقد ارتطمت سفينة الدولة بصخور أزمات أغفل
الربّان خطورتها بل وتمادى في تبرير ما أصاب السفينة من تصدّعات في بنيتها،
ثم لما أزفت ساعة الحقيقة بدأ الربّان يستعيد مقولات كان قد رفضها قبل
الارتطام..فبدأ يتحدث عن ضرورة التمسك بالوحدة الوطنية بعد أن كان شعاره
الدائم بأن (الملك لله ولابن سعود) وأن (كل ما على هذه الارض هو ملك
لآل سعود). فهاهو يطلب من ضحاياه أن يقفلوا جراحهم وأن يكبروا عليها
من أجل صيانة الوحدة..أليس هذا ما يطلبه الربان الآن؟.
حسناً، أليس ذلك يتطلب تغييراً في سلوك الربّان وفي طريقة سيره، كيما
يقنع من على ظهر السفينة بأنه يستحق كل التضحية والتعاون من الركّاب
من أجل سلامة المركب؟، فلماذا يبقى الربّان محتفظاً بنفس السلوك القديم،
ويبقى ملتزماً بخط سيره القديم الذي جرف السفينة عن الجادة وحطّم أجزاءها
على صخور يعلم مواقعها، ثم يطلب من الركاب التمسك بوحدة السفينة والالتفاف
حول القيادة؟
لقد أظهر عموم المواطنين في هذه البلاد روحاً وطنية عالية تفوق روح
قيادتها السياسية، حين عبّروا في عرائضهم وكتاباتهم ومنتدياتهم عن تمسكهم
بالوحدة الوطنية واستعدادهم للدفاع عنها، وعارضوا بشدة التدخل الاجنبي
في شؤون بلادهم الداخلية، ولكن في المقابل أبدت العائلة المالكة وجهاً
عبوساً في مقابل دعوات الاصلاح السياسي وقابلت حسن صنيع مواطنيها في
الدفاع عن الوحدة الوطنية بأن قبلت منهم تعضيد السلطة ونبذت بغلظة مطالبتهم
باصلاح الجهاز الاداري للدولة من أجل تعزيز أسس الوحدة الوطنية..
وما يثير السخرية والدهشة في آن مطالبة العائلة المالكة ضحاياها بأن
يعربوا للعالم تمسكهم بأواصر الوحدة الوطنية والتفافهم حول القيادة السياسية،
على أن لا ينبسوا ببنت شفة حين يأتي الحديث عن الاصلاح السياسي، وليدعوا
ما لا شأن لهم فيه، أي أمور السياسة، فهم مطالبون بأن يجعلوا من أجسادهم
صخوراً تسند بناء الدولة وليس عليهم أن يسألوا عن شكل البناء ودورهم
فيه أو نصيبهم منه..ولكن أي عاقل يقبل بأن يناضل من أجل قضية يربح فيها
آخرون ويخرج منها خاسراً بل وبغباوة مهينة، كيف وأن هوية وسلوك وأغراض
الرابحين معروفة سلفاً فهنا يصبح الغباء مركّباً.
والسؤال هنا: الى متى التيه؟ مع العلم بأن ليس هناك إجماع على قضية
في هذا البلد بين القيادة والشعب كما هو حاصل في الاعتراف بوجود أزمة
شاملة تعيشها الدولة في أبعاد مختلفة، ومع ذلك هناك صمت مطبق لدى القيادة
يخفي تيه السفينة، وأن رسائل الطمأنة التي تطلقها مقصورة القيادة بين
الفينة والأخرى كتلك النداءات التي يطلقها الربّان لركاب السفينة بالتزام
الهدوء من أجل طمأنتهم رغم أنه يعلم بأن الركاب قد بلغتهم نداءات عملية
تطلقها ارتجافات السفينة وانجرافاتها، وربما تخلخل بعض اجزاءها.
فتصريحات النخبة الحاكمة حول الاصلاح السياسي وأنه قادم ولا مجال
لوقف عجلته ليست اكثر من رسائل طمأنة، تريد منها هذه النخبة الاحتفاظ
بموقع القيادة وليس من أجل إعلان بدء خطة فعلية للاصلاح الشامل، فقد
مرّ عام على وعود القيادة على إصلاح سفينة الدولة التائهة، وقد تلتها
وعود وتصريحات ولكن لم يتغير سوى بعض الطلاء الذي كان يكسوا ظهر السفينة
وبقيت ذات المحركات الهالكة وطريقة القيادة على حالها..
لقد سأم الركاب الانتظار الطويل من أجل العثور على دليل ينجيهم من
تيه الدولة، فقد حرقت تصريحات ووعود الربّان آمال الركّاب، ويخشى أن
يلجأ بعضهم الى قوارب النجاة من أجل الهرب من السفينة التائهة لعلهم
يصلون الى شاطىء يعصمهم من الغرق والتيه. فقد أمّل الناس كثيراً على
أن يظهر من مقصورة القيادة من يقطع الخلاف داخلها وأن يوصل رسالة بليغة
حاسمة اليهم بأنه سيفعل ما من شأنه إنقاذ البلاد والعباد، ولكن حتى هذا
الأمل بدأ يذوي خلف سراب الوعود المعسولة..
إن الخوف من تحوّل الوطن الى أشلاء سيظل قائماً لأن وحدة قامت على
القوة سيذهب بها الضعف، خصوصاً وأن تعويضات الضعف لم تتحقق من قبيل إحداث
اصلاحات جوهرية في جهاز السلطة وادماج المجتمع في العملية السياسية والاقتصادية
كيما يقضي على مبررات الانقسام والانفصال..لقد تمسكت العائلة المالكة
بمجمل مصادر الثروة والسلطة حتى في اللحظة التي كانت بحاجة لأن تنقل
بعض هذه المصادر الى من هي بحاجة اليهم للوقوف معها في وقت الأزمات،
بل بدلاً من ذلك تطاحن أفرادها على ما تبقى من مصادر الثروة وذهلوا عن
حاجتهم لما يؤمّن بقاء العائلة المالكة على رأس السلطة فضلاً عن المصادر
التي تحت أيديهم، وبفعلهم هذا جرفوا سفينة الدولة الى متاهة أخرى داخل
تيه كبير قد يؤدي الى تمزق السفينة الى أشلاء فحينئذ لا سفينة ولا ربّان
ولا ركّاب.
|