دولة العابثين
التصريح المفجع الذي أطلقه أحمد العسيري، الناطق السابق
باسم التحالف السعودي في الحرب على اليمن، والمستشار الحالي
لوزير الدفاع، باستعداد المملكة لإرسال قوات برية لمواجهة
«داعش»، كان يمكن أن يبقي حبيس أحلام اليقظة. ولكن المفاجأة
أن هناك من كان ينتظر صدوره، لكي يمدّ في أجله، وتاريخ
صلاحيته، ويضفي عليه أبعاداً كونية، على طريقة الاعلامي
الفانتازوي جمال خاشقجي، الذي وضعه في سياق الأمن القومي
السعودي، وأطلق مقولته الفاصلة الحاسمة (اقتربت ساعة الحقيقة).
الموقف الأميركي المرحّب بالجهوزية العالية كان مخيفاً،
لا لجهة إمكانية ترجمته الفورية على الأرض، ولكن لما ينطوي
عليه من استدراج لمواجهة تودي بالنظام السعودي، وتدخل
المنطقة في أتون فوضى لا تبقي ولا تذر. وزير الدفاع الاميركي
آشتون كارتر هلّل مباشرة بتصريح العسيري، ووعد بنقل المقترح
الى حلف الناتو، وأعقبه الرئيس الأميركي بالتهليل. وحدهم
الأوروبيون كانوا حذرين في التعاطي مع الموقف السعودي
المنفلت.
يلفت الانتباه تفاعل بعض الاعلام الاميركي، ومنه قناة
سي إن إن، التي برّزت خبر استعداد السعودية لتدريب 150
ألف جندي، في سياق المواجهة مع داعش، عفواً المحور الايراني
الروسي السوري العراقي.
الطريف والمحزن في آن هي تلك التصريحات التي أعقبت
اعلان العسيري عن غضبة (البعير السعودي)، على وزن غضبة
التنين الصيني، والدب الروسي، والتي كشفت عن غموض ـ أو
بالأحرى عدم تنسيق ـ المسؤولين في الحكومة السعودية لناحية
تحديد الهدف من وراء ارسال قوات برية الى سورية.
مصدر عسكري في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)
صرّح لصحيفة بن سلمان (الشرق الأوسط) في 6 فبراير الجاري
بأن وزير الدفاع آشتون كارتر، يعتزم مناقشة تفاصيل الخطة
العسكرية، والدور الجديد للقوات البرية السعودية في مكافحة
«داعش»، خلال اجتماعه مع نظيره السعودي الأمير محمد بن
سلمان. المتحدث باسم البيت الأبيض جوش أرنست أكّد هو الآخر
على الاجتماع بين كارتر وبن سلمان وبحضور 24 وزير دفاع
في حلف الناتو، من أجل ما وصفوه «تسريع الجهود في مكافحة
«داعش» وتفاصيل هذا الالتزام من جانب السعودية». التزام
الأخيرة بطبيعة الحال يتجاوز حدود ارسال جنود، بل الأهم
هو «تمويل» الحرب البرية في سورية.
الطريف في الأمر، أن الجميع يعلم من يكذب، ومن يكذب
عليه، ومن يستمع للكذب، أن المقصود بالحرب ليس داعش، بل
هو، أي داعش، سيكون جزءً من حرب الناتو ضد روسيا وايران
وحلفائهما. خالد خوجه، رئيس الائتلاف السوري المعارض قالها
صراحة بأن التدخل من قبل الأصدقاء، خاصة العرب، كان ضرورياً
منذ بدأت المواجهات «..أما بعد التدخل الروسي، فقد أصبح
هذا الأمر مصيرياً..».
التقارير الروسية حول حشود تركية على الحدود السورية
استعجلت الاعلان السعودي بارسال قوات برية الى روسيا،
خصوصاً وأن رئيس الاركان التركي كان من ضمن وفد تركي برئاسة
أحمد داود أوغلو، رئيس الحكومة، زار الرياض، وكانت التقارير
تتحدث عن تفاهمات استراتيجية كبيرة، حول ملفات إقليمية،
وعلى رأسها الملف السوري.
كان إفشال مساعي المبعوث الدولي ستيفان دي مستورا جزءً
من تلك التفاهمات، حيث بدا أداء وفدي الرياض وأنقره مصمّماً
لناحية إفشال جنيف 3، وجاء التقدّم الميداني في سوريا
لصالح النظام وحلفائه ليصعد من خيار الميدان، على خيار
الصالون.
النظام السوري فهم الرسالة تماماً، وعبّر عن موقفه
بكل وضوح، كما جاء على لسان وزير الخارجية وليد المعلم،
بأن إرسال قوات برية الى سورية يعتبر انتهاكاً للقانون
الدولي. حلفاء النظام السوري فهموا أيضاً الجهوزية السعودية،
وإن عبّروا عن مواقف تتسم في الغالب بالتهكم، كما جاء
على صفحة ماريا زاخاروفا، المتحدّثة باسم الخارجية الروسية
على الفيسبوك بالقول: (أخاف أن أسأل.. هل غلبتم الجميع
في اليمن؟)؛ في إشارة إلى إخفاق الحرب السعودية على اليمن
في تحقيق أهدافها.
المتحدّث باسم الحرس الثوري الايراني وصف تصريح عسيري
بأنه «نكتة سياسية»، فيما حذّر قائد الحرس السابق محسن
رضائي من مغبة التفكير في مثل هذه الحرب التي سوف تؤدي
الى حرب إقليمية.
الروس الذين يقودون العمليات الجوية في سوريا، أوصلوا
رسالة واضحة الى الأتراك بأن لا يكرّروا الخطأ مرة أخرى،
وألا يمزحوا، كما قال نائب الرئيس الروسي (لا ننصح بالعبث
مع سوخوي 35).
بعيداً عن كل ما سبق، وبعيداً عن كل المزايدات والعنتريات،
فإن التأمل في سيناريوهات حرب من هذا القبيل، يوصل الى
حقيقة أن الوضع سوف يكون كارثياً على الجميع، وإن الخاسر
الأكبر هو الشعوب، وليس لوردات الحرب، الذين سوف ينفذون
بجلودهم مع أول قذيفة تقع بالقرب منهم.
ال سعود على استعداد لتمويل الحرب، وليس في ذلك جديد،
ولكن المصيبة في اليوم التالي، من سيوقف الحرب اذا اشتعلت،
من يعيد إعمار ما سوف تخرّبه الحرب حين لا تبقي ولا تذر
من ثروة وإمكانيات. وإذا كانت أوروبا وجدت من ينقذها عبر
برنامج اعماري مارشالي، فمن سوف ينقذ المنطقة، حين تحترق
بنفطها في الحرب.
أولئك الذين يسكبون الزيوت على الغرائز، ويشحنون مكائن
الحروب تلبية لرغبات طائشة ومجنونة، محبوسون في ذواتهم،
ولا يكترثون لعشرات الملايين الذين ذاقوا ويلات الحروب،
ودفعوا من أرواحهم، وأطفالهم، وسعادتهم أثماناً لحفنة
من المهووسين والمقامرين.
وإذا كان هناك من رسالة يجب أن تصل الى ال سعود اليوم
قبل الغد، فهي: كفّوا شروركم عن عباد الله في كل مكان،
فقد حان الوقت لوقف الموت العبثي، والدمار العبثي، ودولة
العابثين.
|