قراءة في شريط المحيا
ع ز هـ 314) لوحة ذات دلالة دينية وتاريخية ثبّتت على السيارة التي
انطلقت من معسكر البتار السري للتدريب العسكري عشية الثامن من نوفمبر
الماضي وقد امتطاها إثنان من (الجهاديين!) لتنفيذ عملية إنتحارية في
مجمع سكني تزعم المجموعة المنفّذة بأنه وكر جاسوسي يديره الأميركيون
والبريطانيون في جزيرة العرب. وقد أظهرت التقاريرالرسمية صورا من مشاهد
الدمار والقتل الذي نجم عن التفجير الانتحاري والذي طال حسب ما بثه التلفزيون
السعودي أكثر من 20 شخصاً معظمهم من النساء والاطفال من جنسيات عربية واسلامية، ولم ترد أي تقارير أخرى من مصادر محايدة أو ردود فعل من المجموعة
المنفّذة ما يفيد خلاف ما بثته التقرير المصّور في التلفزيون السعودي.
قد كشف الشريط الذي بثّته قناة (الجزيرة) في السادس من فبراير عن
معلومات هامة حول المجموعة المخطّطة لانفجار المحيا، وعن مراحل إعداد
العملية، ووصايا المنفّذين، وهكذا الحالة الاحتفالية التي كانت عليها
المجموعة وهي تودّع الانتحاريين، اللذين بدا وكأنهما يزفّان الى عروسيهما.
ولا ريب أن هناك دلالات غاية في الاهمية لمحتويات هذا الشريط، وما تعكسه
من انطباعات لدى المشاهد، وربما هذا ما تنبّهت له السلطات السعودية التي
أبدت انزعاجاً شديداً حيال بث الشريط كونه يعكس وجهة النظر المخالفة
للتقارير الرسمية ويمنح المجموعة المنفّذة فرصة تبرير عملياتها وايصال
رسالة محددة للمتعاطفين معها.
للوهلة الأولى تظهر المجموعة ـ كما عكسته مشاهد من الشريط ـ وكأنها
في حالة حرب عصابات ضد الحكومة المركزية، تستعيد بذلك صور الثوّار في
أميركا اللاتينية وهم يندسون في مخابىء خاصة في الادغال والجبال الشاهقة
للتخطيط لعمليات انتحارية ضمن برنامج زمني محدد سلفا. وكما الحال بالنسبة
لكثير من الجماعات الثورية العقائدية، فإن هذه المجموعة تبدو أشد إصراراً
على تحقيق أهدافها بما يتطلب من تدجيج عسكري وروح معنوية ونضالية متقدمة،
واستعداد لخوض معارك شرسة ضد الخصم، وهذا ما يعكسه نوع الاسلحة التي
يحملها أفراد المجموعة، والابتهاجية الفريدة من نوعها لدى المقاتلين،
الى جانب الغطاء الديني المضفى على مشروعها الجهادي.
لاريب أن البرنامج كان له أثر نفسي ما على المشاهدين وبخاصة في المناطق
التي تنتمي اليها المجموعة أو المجتمع الذي خرجوا منه، ويمكن القول بأن
الشريط بدا وكأنه مادة تحريضية خصوصاً وأن محتويات الشريط تشتمل على
بعد بطولي ذي إيحاءات دينية وقبلية معينة، وفي حال أفراد هذه المجموعة
فإن مقاومة نظام قام على أساس قبلي ودعوى دينية تصبح الدلالة شديدة القوة،
وهذا يعطي معنى خاصاً لأولئك الذين أخضعوا بفعل هذا السلاح المزدوج:
الدين والقبيلة، وقد يبعث لدى الخاضعين له شعوراً من نوع ما وثأراً قديماً
ظل مدفوناً لعقود طويلة. إن هذا الثأر الذي جرى احتواؤه بفعل عامل الهيمنة،
قد يجري إحياؤه في مثل هذه المشاهد التي تكسر حواجز نفسية لدى البعض،
وقد تنبه أولئك الذين ظلت مشاعر الغبن والعزل المنظم تلاحقهم لفترات
طويلة، ولربما تتفجر بطريقة تلقائية حين تتضاءل هيبة وهيمنة الدولة،
أو تتراخى قبضة حكامها على من أخضعتهم بالأمس تحت قوة السلاح والثروة
والدعوى الدينية، وهي عناصر فقدت كثيراً من تأثيرها في السنوات الأخيرة.
يظهر الشريط أيضاً قوة الشهادات التي أدلى به منفذو العملية قبل الحادث
والتي نفوا فيها مزاعم الحكومة بكونهم جماعة إرهابية تستهدف المصالح
الوطنية و تهدّد حياة المواطنين، بينماا أكد المنفذان لعملية المحيا
بأنهما والجماعة التي ينتميان اليها تحصر نشاطها الجهادي في حدود (الكفار)
الاجانب اي الاميركيين والبريطانيين، وهذا من شأنه إضعاف الموقف الرسمي،
وفي المقابل إعلاء الرسالة الاحتجاجية لدى التيار العنفي، وبخاصة في
محيط شديد التوتر ضد الاجانب وتحديداً الاميركيين والبريطانيين. واذا
ما وضعت صورة الاحتلال الاميركي للعراق، فإن مزاعم المجموعة الانتحارية
تبدو أكثر قبولاً لدى المتعاطفين معهم، وقد يمنحها ذلك مصداقية أقوى
فيما تقوم به من أعمال. ويبقى الامتحان الأصعب أمام هذه المجموعة هو
دخولها في مواجهة مباشرة مع الامراء أو المصالح الوطنية فحينئذ تكون
الحكومة قد خرجت من مأزق الاحراج الشديد الذي تواجهه حيال هذه المجموعة،
وكونها أي الحكومة ممالئة للكفار!
يظهر الشريط أيضاً بأن لدى المجموعة تصميماً على تنفيذ أجندة معدّة
بإحكام، وأنها واثقة بقدرتها على تحقيق أهدافها، وعلاوة على ذلك أنها
على استعداد للتضحية في أقصى أشكالها. إن واحدة من أهم المعلومات التي
كشف عنها الشريط أن المجموعة تلقت تدريبها في داخل المملكة، وأنها أقامت
معسكرات تدريب عرّف من بينها معسكر البتار للتدريب العسكري، إضافة الى
التسلح المتقدم لدى أفراد المجموعة حيث بدد ما كان يقال عن أن هذه الجماعات
تفتقد التأهيل العسكري الذي يمنحها قدرة على القيام بعمليات معقّدة،
رغم أن تقارير سابقة كشفت عن أن طرق اعداد المتفجرات وكميات الاسلحة
التي بحوزة هذه الجماعات كبيرة ومعقّدة بما ينبىء عن استعدادها لخوض
معركة ضارية وطويلة المدى. لقد نفت المصادر الرسمية سابقاً أن تكون هذه
الجماعة تمتلك أسلحة متطورة، ولكن الشريط يظهر أنواعاً مختلفة من الاسلحة
بما فيها صواريخ سام 7 أرض جو المحمول على الكتف والذي يستعمل ضد الطائرات،
وهذا يمثل رسالة شديدة الخطورة للحكومة، ليس لكون المجموعة تملك هذا
النوع من الاسلحة بل وكيفية استعماله، والهدف الذي أريد من امتلاكه.
ومن اللافت في هذا الشريط الحالة المعنوية التي كانت عليها المجموعة
في اللحظات الأخيرة قبل بدء تنفيذ العملية، حيث بدا منفذا العملية على
درجة كبيرة من الثقة وهما يودّعان الحياة، وقد عقد زملاؤهما عرساً رمزياً
لهما إستعداداً لنيل الشهادة حيث يسقطان في أحضان الحور العين في الجنة
بحسب الرواية الدينية. كان الحفل التوديعي معبّراً هو الآخر فقد تخللته
مقاطع من الاناشيد الدينية ذات المضمون التحريضي على الجهاد والاستشهاد.
|