من ورقة بحث مقدمة لمركز الإمارات للدراسات الإستراتيجية في نوفمبر
الماضي:
دول الخليج والحرب على العراق
كيف تحسب دول الخليج مواقفها ومصالحها؟
د. مي يماني
أدت حرب العراق الى إحداث إنقسام في المنطقة، تارة خوفاً، وتارة غضباً،
ولكن يبقى الارباك مسيطراً بصورة دائمة حيال ما يمكن القيام به.
وفيما
يبدو فإن المتشددون وحدهم واثقون إزاء المستقبل وهكذا الاعمال التي يقومون
بها.
وينتظر الجميع (المتشددون، الحكومات، عامة الناس على السواء) لرؤية
ما سيحدث في العراق، وما اذا كان سينجح الأميركيون أو يفشلون في خلق
نموذج جديد للمجتمع العربي. ليس ثمة شيء يتحرك في منطقة العراق سوى الريح
عبر الصحراء والنسور التي تحوم في السماء. فمن ستكون الفريسة، أو الضحايا؟
ومن سيكون المفترسين، المنتصرين؟
لقد تركت حرب العراق تأثيرات على كل دولة من دول مجلس التعاون الخليجي
في مستويات عدة:
ـ إختلال توازن القوة الاقليمي بين بلدان دول مجلس التعاون الخليجي.
ـ تحسّن علاقات بين القوّة المحتّلة أو قوة التحرير المفترضة أي الولايات
المتحدة مع بعض الدول فيما تسممت مع دول أخرى في المنطقة.
ـ خضوع الاساس الديني والايديولوجي لكل دولة والضغوطات المتواصلة
من أجل الاصلاحات السياسية على محك المسائلة والانسيابية.
ـ أصبحت التداعيات الاقتصادية لحرب العراق على كل دول الخليج دون
ريب معقدة.
سياستها وسياساتها قد تعرضت للاهتزاز في الصميم. فقد شهدت السعودية
انتكاسة نسبية بوصفها الدولة الرائدة والقائدة في دول مجلس التعاون الخليجي.
وفيما تشعر بعدم الثبات في تصوّرها لذاتها، فإن السعودية لم تعد تحتل
موقع الدولة القائدة أو السيد الاقليمي، فهناك دول خليجية اخرى لم تعد
بحاجة لحماية السعودية وأمنها، إذ لم تعد تنظر الى الرياض كقائدة. وهناك سبب واحد يجعل دول مجلس التعاون الخليجي تصرف النظر عن السعوديين وهو
أن السياسة الاميركية في المنطقة قد تبدّلت، وتم احلال دول الخليج الصغيرة
مكان السعودية بوصفها المفضّلة أميركياً، وخصوصاً كنقطة تمسرح لقواعدها
العسكرية. وفي واقع الأمر، فإن الولايات المتحدة قد تخلّت عن السعودية
كسيد في المنطقة.
من جهة أخرى، فإن دول مجلس التعاون الخليجي لم تعد تتعامل مع العالم
الخارجي عبر السعودية، فقد أصبحت لديها الآن علاقات مستقلة وخصوصاً مع
الولايات المتحدة. ولكن التحرر الكبير في المناورة الدبلوماسية يعكس
حقيقة أن بلدان مجلس التعاون الخليجي أصبحت فعلياً حليفة للولايات المتحدة
بما يشتمل ذلك التحالف على حماية. وهكذا فإن الاستقلال عن السعودية قد
أصبح ـ يعني ـ الاعتماد على الولايات المتحدة.
لقد تعرضت العلاقات السعودية مع الولايات المتحدة للاهتزاز بسبب ترددّ
السعودية في السماح لأميركا باستعمال قواعدها العسكرية. وأن الاحتلال
الأميركي بأجندته لدمقرطة سياسية يهدد بصورة مباشرة الاساس التاريخي
للسعودية: التحالف الوهابي السعودي.
ويخشى الحكام السعوديون بأن يقود نجاح أميركا في العراق الى مطالب
تقوّض الاساس الجوهري للنظام والذي لا يمكن للمملكة أن تعيش في أي شيء
كما هي عليه في هيئتها الراهنة. ولكن اذا بقيت أميركا في حال تأزم في
العراق، فإن توازن القوى من المحتمل أن يتبدل مرة أخرى. وعلى أية حال،
فإن شلل اميركا في المنطقة سيؤدي الى مزيد من الاضطراب وسيخلق فوضى عارمة.
ففي ظروف كهذه، الى من سيلجأ الحكام السعوديون والخليجيون؟
تقول اميركا بأنها تريد الديمقراطية في المنطقة، ولكن ماذا لو أنجبت
الديمقراطية حكومة مناهضة لأميركا في العراق؟. إن تنامي الشعور المناهض
للولايات المتحدة في الشارع واعتماد الحكام المتزايد على أميركا قد يؤدي
الى زيادة غضب المحكومين ضد حكامهم. وهنا حيث يجد إبن لادن فرصاً جديدة
لادارة الاضطراب واكتساب أتباع جدد.
ولكن التهديد ليس محصوراً في إبن لادن أو الجهاديين الآخرين، فالسخط
المتفجر لفترة طويلة قد أصبح مشاعاً، فعودة ظهور الشيعة كقوة سياسية
في عراق ما بعد صدام يهدد عقيدة الدولة السعودية: الوهابية المتشددة
التي تعتبر الشيعة كشكل من أشكال التمرد على الاسلام. ويدرك الوهابيون
بأن رد فعلهم صادر إزاء انبعاث الشيعة لجهة التشديد على بروزهم بصورة
أكبر، وهذا يشكل تهديداً لحكم آل سعود.
ولأنهم يدركون بأن أميركا تمارس ضغطاً على آل سعود من أجل الاصلاح،
فإن الاعضاء الوهابيين في حكومة التحالف الحاكم في السعودية قد تشددوا
في سلوكهم ضد التغيير بأي شكل كان، بما يضيف مزيداً من الضغوطات المتنامية
على آل سعود. فقد ضاعف الصراع في العراق من التوترات السياسية في السعودية
من خلال تعميق الفجوة بين المحكومين والحاكمين. إن الانقسام الداخلي
المتنامي يضاعف من الصراع مع الولايات المتحدة كما يؤدي الى إحباط لدى
الاطياف الأكثر ليبرالية في الشعب السعودي. فقد أدت الحرب في العراق
الى إضعاف وربما بصورة قاتلة الاساس الايديولوجي للنظام، مهدداً بذلك
شرعية الدولة.
فانبعاث العراق كقوة إقليمية واستعادة قدرته النفطية التصديرية في
المدى الطويل سيفرض دون ريب تهديداً كبيراً للصادرات النفطية السعودية
وهكذا لعلاقاتها مع الولايات المتحدة. وهذا سيفضي الى تهميش متزايد للسعودية
وهكذا انخفاض نسبي ولكن بدرجة مزعجة للوضع المالي والاقتصادي الذي يعيش
حالة خلخلة. ففي كل يوم تشحن أرامكو السعودية كميات كبيرة من النفط الخام
للولايات المتحدة، ولكن تأثير ذلك ضئيل في سياق تحسين الوضع المتوتر
بين البلدين، وفي حقيقة الأمر فإن التوترات تتواصل في حدتها. فقد بدا
الأميركيون أكثر وضوحاً كونهم يريدون تخفيض اعتمادهم على نفط السعودية.
وبالرغم من أن ادارة بوش تنفي ذلك، يقول كثيرون بأن الحرب على العراق
كانت محثوثة جزئياً بالرغبة في تخفيض قوة السعودية. بكلمات اخرى، فمهما
تقدّم السعودية أملاً في إسترضاء الولايات المتحدة عبر سياسات أوبك النفطية
المتوافقة مع الولايات المتحدة، ومهما يبلغ المقابل السياسي والأمني
الذي تدفعه اميركا فسيبقى كل ذلك بصورة مؤقتة. إن تعامل الولايات المتحدة
مع السعودية يتجاوز حدود النفط، فالمتطوعون من الجهاديين السلفيين السعوديين
والذين يغادرون السعودية نحو العراق ويستهدفون الكفار الأميركيين قد
يكون لهم نتائج وخيمة.
ومنذ تفجير الثاني عشر من مايو في الرياض، فإن هيئة التحقيق الفيدرالية
إف بي آي قد حلّت على السعودية بأعداد كبيرة لمراقبة تصفية القاعدة.
إن الحكومة السعودية غير قادرة على ملاحقة وتطويق هذا الوحش لأنه برؤوس
عدة. إن الجهاديين السلفيين ليسوا بالضرورة كلهم أعضاء في تنظيم القاعدة،
ولكنهم على اية حال أخوة ايديولوجيون لهم. فالمناوشات العديدة ومحاولات
الاعتقال الفاشلة ضد هؤلاء الجهاديين يشي بأنهم مصممون، ومنظّمون وأنهم
متأهبون بقوة تفوق قوات الأمن والشرطة في السعودية، وقد يكون ذلك صحيحا
في العراق أيضاً.
إن القبض على المسلحين بمساعدة الاف بي آي يحقق غايتين مزدوجتين،
اي الخلايا الارهابية وتمويلاتها التي تنتقل من السعودية الى العراق.
ولكن هل تستطيع الحكومة السعودية مراقبة أو وقف الزحف؟ وهل تريد ذلك؟
كما يظهر، فإن آل سعود ليسوا مصممين على منع تصدير جهاديي البلاد. ولكن
في الايام الخوالي كانت تلك بالدقة هي سياسة السعودية: تصدير التشدد
والمعارضة وبذلك تبقي هذه القوى المشاغبة داخل السعودية. ولكن السياسة
المنافقة الآن أصبحت مفضوحة الى حد بات يراها العالم بأسره، وأصبحت أشد
إيلاماً للنظام مع الولايات المتحدة التي تضيق الخناق عليه.
إن الحرب المالية على الارهاب قد نجحت الى حد ما حيث بدأت الحكومة
السعودية بفرض رقابة صارمة على الجمعيات الخيرية وبخاصة اغلاق مؤسسة
الحرمين. وعلى اية حال، فهناك دلالات خطيرة لمثل هذا العمل بالنسبة للدولة
السعودية والسبب في ذلك أنها تمثل خطوة إجمالية منفصلة ازاء نظام الجمعيات
الخيرية والتي تنظّم الشؤون الاجتماعية فيما يتم تجاهل النظام الضريبي
حتى الآن. لماذا؟ لأن التغيير في هذا النظام سيؤدي الى المحاسبة الشديدة،
وهو ما يخشى منه آل سعود أكثر من خشيتهم من الديمقراطية نفسها. إن تغييراً
كهذا سيمزّق النسيج الاجتماعي والنهج الذي تسير عليه البلاد.
ومنذ الحرب على العراق، فإن الضغط من أجل الاصلاح في السعودية قد
أدى الى أن تدخل مؤسسات قوية في مواجهة مع بعضها. خذ اليك مثالا على
ذلك الصراع المحلي حول الاصلاح الاقتصادي، فقانون الاسواق المالية الجديد
في السعودية قد جرى تعطيله من قبل وزارة التجارة بأمر من وزارة الداخلية،
وأن الاجانب الذي يرغبون في إفتتاح فروع جديدة ملزمون بتعيين سعودي في
منصب المدير، وقد اعتبر ذلك معوّقاً لتطوير مجالات تجارية جديدة في السعودية.
إن المبرر المقدّم يندرج في كونه قضية أمنية حساسة، ولكن هذا يدحض الجهود
الاصلاحية لتشجيع تدفق الاستثمارات الاجنبية. وقد وصف أحد دعاة الاصلاح
السعوديين بأن الاصلاح المعطّل كما لو أنه (خطوة للأمام، وخطوتان للخلف).
إن حكام الرياض المشوّشين، المربكين، غير قادرين على رؤية الطريق
أمامهم فهم يستعلمون مطرقة ثقيلة من أجل كسر حبة فول سوداني. إن العامل
الأمني يؤثر على الاقتصاد، وأن الخوف من افساح الطريق امام العالم كيما
يفد الى محيطها هو الذي حرم اقتصاد السعودية الوحيد بين إقتصاديات دول
مجلس التعاون الخليج من أن يصبح عضواً في منظمة التجارة العالمية. فالانقسامات
داخل النظام الحاكم قد ضاعف من تلك المخاوف وأصبحت ـ اي الانقسامات ـ
معوّقات للاصلاح.
إن إستئناف وظيفة الانابيب الممتدة من تبوك الى العراق والتي توقّفت
عام 1991 بعد حرب الخليج، كما يطالب بذلك الأميركيون سيؤدي الى تدفق
النفط العراقي على حساب السعودية. وإن الاخيرة تشعر دون ريب بحجم التأثير
الذي فرضته حرب العراق أكثر من أي دولة أخرى في المنطقة. وهي فوق ذلك
تشعر بأن شرعيتها تخضع للمسائلة. ولكن هذا لا يعني بأن بلدان دول مجلس
التعاون الخليجي الاخرى محصّنة إزاء حرب العراق.
حين جاءت الحرب الى العراق، أدرك الجميع في المنطقة بأن ليس العراق
منفرداً سيتغير للأبد. ولكن بالرغم من أن الجميع يعرف بأن الحرب ستهب
برياح من التغيير عبر المنطقة، فإن حكومات دول مجلس التعاون الخليجي
كانت تبحث ببساطة عن البقاء بعد الرياح العاصفة. وبينما الرياح مازالت
معتدلة فإن البقاء المباشر لم يعد قضية، وإنما البقاء الدائم هو موضع
الاهتمام الرئيسي.
ن تلك الرياح قد زعزعت أسسس الدولة السعودية أكثر من أي دولة اخرى
في مجلس التعاون الخليجي. وفي واقع الأمر فإن الأزمة في العراق قد قوّضت
أساسها الديني والاقتصادي والاستراتيجي، وليس هناك ما يبدو ثابتاً بالنسبة
لآل سعود.
لدى السعودية أكبر قاعدة سلفية جهادية من المجنّدين المصممين على
مواصلة الحرب ضد (الكفار) و(المتعاونين) معهم. وهذا يضع النظام السعودي
في مأزق، والسبب في ذلك أنه ومن أجل الالتزام بقوانين امريكا في (الحرب
على الارهاب) فلا بد من مقارعة السخط والانفجار السكاني المرشح.
كيف تتمكن دول الخليج من إعادة بناء نفسها بعد العاصفة؟ وكيف ستبقى
على قيد الحياة؟ لا يمكنها الاستمرار بالطريقة السابقة، فالنمو الاقتصادي
لن يكون كافياً، ولابد من الاستيعاب، إستيعاب المذاهب التي كانت فيما
مضى خاضعة للاضطهاد، واستيعاب المرأة التي كانت على الدوام مقموعة، واستيعاب
الاقليات الاثنية التي كانت فيما مضى معزولة. فالدفع باتجاه الاستيعاب
يمكن أن ينجح إذا ما تم دعمه بالدمقرطة، أما بالنسبة للمستوعبين وكيما
يشعروا بالاستيعاب فلابد أن يكون لهم صوت في حكومتهم. فكلما كانت الدولة
أكثر ديمقراطية فإنها تكون أقل عرضة للتهديد إزاء أية تغييرات تحدث في
العراق، بصرف النظر عن أهداف أمريكا ودوافعها. إنها الحرية التي تصنعها
رياح التغيير التي تهب الآن، فإذا استطاعت دول مجلس التعاون من استغلال
الفرصة للاصلاح فإن بإمكانها استعادة استقلالها وحريتها وكرامة شعوبها.
|