دولة الحروب
منذ اعتلاء سلمان كرسي الحكم في 23 يناير 2015، دخلت
الدولة في مرحلة جديدة وغير مسبوقة، وباتت تتصرف ليس وفق
التطوّر التاريخي للدول عبر مراحل عدّة، ولكن الحاصل هو
نكوص على الاعقاب، إذ لم تمثل الدولة في الوقت الراهن
الوعي لدى المجتمع، ولا مستوى توقعاته. على العكس، فإن
الدولة تمثّل مصالح الطبقة الحاكمة، التي تتصرّف وفق رؤية
عائلية ضيّقة، وتستدرج وراءها مجموعة من المنتفعين من
رجال دين، وإعلاميين، ومثقفين، وقضاة.
في الداخل، نحن أمام عودة الى دور الدولة الأمنية التي
عاشها الناس في عهود فيصل وفهد وأخيراً سلمان. فثمة مرحلة
قمع مفتوح على أشكال شتى من حملة ترويع متصاعدة في كل
أرجاء السجن الكبير. اعتقالات عشوائية، اعدامات عبثيّة،
واستدعاءات متواصلة للنشطاء على ذمة التحقيق، ومنع من
الخطابة والكتابة والسفر، وحرمان من الحقوق المدنية، وإعادة
محاكمة عشرات المعتقلين، وتشديد العقوبات.
هناك تواطؤ من رجال الدين الوهابيين والصحافة والمثقفين
المتحلقّين بالسلطة. فالصحافة على سبيل المثال، باتت أداة
أمنية في حملة القمع من خلال المساهمة في ترويع الناشطين
والإصلاحيين والمدافعين عن حقوق الانسان. بكلمات أخرى،
بدلاً من مناصرة الحريات تحوّلت الصحافة الى أداة لقمعها،
وتبرير كل فعل تقوم به أجهزة الداخلية. الدور ذاته، يضطلع
به مشايخ السلطة الذين يباركون الاعدامات، وتدابير القمع
من خلفية طائفية وإيديولوجية. أما الخارج، وخصوصاً الخارج
الاميركي والبريطاني والفرنسي، فإننا لم نرجو خيراً منه
في يوم ما؛ هذا الخارج الذي ما برح يغطي الانظمة الشمولية
بكل ما يرسخها ويديم بقاءها. نستثني من ذلك بعض الصحف،
وبعض البرلمانيين، وبعض المنظمات الأهلية في الغرب، إزاء
تمكين النظام السعودي عبر صفقات التسلّح من ارتكاب جرائم
حرب في اليمن وانتهاك حقوق الانسان في بلاده.
في الخارج، يقدّم النظام السعودي نفسه كصانع حروب،
وأنه بات على استعداد لأن يشعل الحروب في كل دول المنطقة.
فالملك المتصابي قد استخرى حروباً متناسلة بدأها في اليمن
وأرادها حرباً تلد أخرى. في حقيقة الأمر، كانت «عاصفة
الحزم» في 26 مارس 2015 فاتحة عهد الحروب المتدحرجة في
المنطقة. تسلّم ابن سلمان دفّة القيادة العسكرية نيابة
عن والده، الملك، كيما يكون قائد الحروب.
لا يبحث آل سعود عن حلول ولا تسويات، بل هي الحرب وإخراج
كل الشرور الكامنة في نفوسهم، وإرغام حلفائهم وأصدقائهم
في الخارج على خوض حروب النيابة عنهم في سوريا والعراق
ولبنان واليمن وغيرها.. إنها الحرب المفتوحة، مهما كلّفت
من ثمن. لا حسابات منطقية ولا رياضية في هذه الحرب، ولا
تخضع لقدرات واقعية أو حتى عملانية. الحرب ثم الطوفان
من بعد ذلك.
الكلام عن تدخّل بري في سوريا يعني أبعد منها جغرافياً.
بل هناك خطة لاشعال المنطقة الممتدة من كراتشي الى دمشق
مروراً بطهران وبغدادا نزولاً الى صنعاء. بكلمات أخرى،
إن خليت الرياض وجنونها سوف تضع المنطقة برمتها في مهب
الإرهاب.
في تجربة العدوان على اليمن ما ينهض دليلاً على جنوح
ال سعود للوصول الى هذه النتيجة. فالمناطق التي خرجت من
سيطرة الجيش واللجان الشعيبة في الجنوب باتت خاضعة تحت
سيطرة تنظيم «القاعدة»، و»داعش». وعليه، بعد أن كانت «القاعدة»
على وشك الانهيار في اليمن، وجدت من يهبها الحياة لأمد
بعيد، وزاد العدوان السعودي عليها حبّة «داعش»، التي لم
تكن سوى إسم لا وجود له في اليمن، وأصبح اليوم منافساً
لجماعة هادي بل مصدر تهديد لحكومته ومشروعيته المتشظيّة.
الأخطر من ذلك كله يكمن في تمدّد «داعش» في مشيخات الخليج،
بما يهدد أمن المنطقة برمتها. فالأهداف التي ترجوها الرياض
تحقّق عكسها تماماً، وإن حربها على داعش تنفعه ولا تضرّه..
في واقع الأمر، أن كل المعارك التي تورّطت فيها الرياض
بدعوى الدفاع عن «أهل السنّة» انتهت لصالح داعش سواء في
العراق، أو سوريا أو اليمن.
مناورات «رعد الشمال» هي جزء من مشروع الحروب السعودية
في الخارج، وهي تتجاوز سوريا، ولا تستثنيها. ولكن مشكلة
ال سعود أن رغباتهم تفوق قدراتهم بكثير، ولذلك هم يحاولون
اشعال الحرب على أمل استدراج الكبار اليها وخصوصاً الولايات
المتحدة. ولم يكن صدفة أن يجمع كتّاب آل سعود من (مثل
جمال خاشقجي، ونواف عبيد) على أن السعودية تنتظر من الولايات
المتحدة أن تحدّد موقفها في حال قررت خوض الحرب البرية
لمنع روسيا وايران من التمدّد. بكلمات أخرى، أن ال سعود
يدركون بأنه ليس لديهم القوة التي تمكنهم من تحقيق النصر،
ولذلك يلجؤون الى التحالفات العسكرية مع الأقوياء مثل
تركيا ومصر وباكستان وغيرها، ولكن هذه الدول لا تجازف
من أجل المغامرة بمصيرها من أجل إرضاء غرور وغطرسة ال
سعود.
خلاصة التحرّكات السعودية تتمحور حول تعميم الفوضى،
في المنطقة بدعوى مواجهة النفوذ الايراني. ولن يتردد ال
سعود في استخدام أقصى ما يملكون من إمكانيات وخيارات في
اشعال الحروب ضد خصومهم في العراق وسوريا ولبنان واليمن،
وإن أغرقوا المنطقة بكاملها في أتون الارهاب والفوضى والدماء.
|