مستقبل الخطاب.. مستقبل الدولة السعودية
الغذّامي.. السلفي الحديث!
(الحلقة الخامسة)
تساؤل برز في عهد الملك سلمان هو: ما طبيعة الخطاب
الذي ينتج في المملكة السعودية؟ من هو المستهدف بالخطاب؟
وما علاقة هذا الخطاب بالهوية وتالياً بمشروع الدولة؟
وهل يعبّر الخطاب عن عموم المكوّنات السكّانية؟ وهل
ينسجم مع متطلبات الدولة الوطنية؟ وما تأثير هذا الخطاب
على مستقبل المملكة؟
خالد شبكشي
|
|
الغذّامي.. التخندق وراء المنطقة والطائفة
|
الغذامي رجع الى كتاب (الوصايا) للشيخ محمد مهدي شمس
الدين لمقاربة ما وصفه (الفخ النّسقي)، بدعوة الشيخ للشيعة
ألا يقعوا في فخ الأقلوية، أي رفض تصنيفهم بكونهم أقلية
مهما حمل هذا التصنيف من الإغراءات «بل سيكونون سببا لإضعاف
البنية الوطنية لكل مجتمع يجتمعون إليه وفي إضعاف وحدة
الأمة». واختار الغذامي فقرة أخرى من وصايا الشيخ شمس
الدين حول خشيته من أي «عمل يزيد من درجة الهواجس والمخاوف
عند المسلمين الآخرين»، حينما يأخذ الشيعة بنظرية الأقلية
وما يستتبعها من وصف للمظالم الواقعة عليهم بأنها بسبب
كونهم شيعة(1).
الغذامي وعلى طريقته الانتقائية في مقاربة هذا الموضوع،
اختار ما يتناسب مع نزوعه الذاتي، وبدلاً من مناقشة العوامل
المسؤولة عن توليد الشعور الاقلوي وتداعياته، عمد الى
محاكمة الشيعة على أساس نزوعهم الأقلوي، وتحميلهم المسؤلية
كاملة عن هذا النزوع، وإخلاء مسؤولية الدولة وسياساتها.
لابد من إلفات الانتباه إلى أن الأقلية المقصودة في
مناقشة الغذامي تنطبق بدرجة أساسية على الشيعة في السعودية.
وعليه، تفترض المناقشة استحضار جملة عناصر ثقافية وسياسية
وتاريخية وفقهية وإجتماعية لفهم جوهر المشكلة من أبعادها
المختلفة. يملي ذلك مناقشة برنامج الاندماج الوطني، ومدى
الجهود المبذولة لناحية استيعاب المكوّنات السكانيّة في
مشروع الدولة. هي دون ريب مسؤولية مشتركة لدى الشيعة والنظام
السياسي. ومن الجدير بالذكر أن الشيعة، في السعودية على
الأٌقل، بذلوا جهوداً كبيرة لجهة تأهيل شروط اندماجهم
الوطني. كتابات كثيرة انتشرت منذ منتصف تسعينيات القرن
الماضي حول «المواطنة» و»التعايش» و»الدولة الوطنية» و»الوحدة
الوطنية» ومفاهيم ذات صلة مثل «التعددية المذهبية» و»التسامح
الديني». ومن المناسب الإشارة الى أن الكتابات هذه صدرت
عن أولئك الذين ربطتهم علاقة وثيقة مع المرحوم الشيخ محمد
مهدي شمس الدين.
في واقع الأمر، أن الطائفة الشيعية في السعودية بوصفها
مكوّناً في المجال الشيعي، تجاوزت إشكالية العلاقة مع
الدولة في عصر الغيبة، وفق التفسير الشيعي الكلاسيكي القديم،
ونجح القادة الشيعة في صوغ اجتهادات رصينة في مجال العلاقة
بين المجتمع والدولة، بما يزيل أكبر عائق ربما أمام انفتاح
الشيعة على الدولة بدرجة أساسية. يبقى السؤال: هل الدولة
نجحت في استيعاب الشيعة وإدماجهم؟
في المبدأ، لا يمكن تصوّر احتماء جماعة بإطار ضيق في
حال كان الإطار الأوسع يمنحها الشعور بالأمان والحماية.
بكلمات أخرى، لا يمكن أن يحتمي الشيعة بالعنوان الأقلوي
في حال وفّرت الدولة عنواناً وطنياً حقيقياً يكفل اندماجهم
واستيعابهم. فهل فعلت الدولة ذلك؟
الجواب لا يكون على طريقة الغذامي بأن الشيعة بحاجة
الى طمأنة الآخرين إزاء هواجسهم، لأن مثل هذا المطلب موجود
لدى الشيعة سواء بسواء وربما بدرجة أكبر. وكان يفترض أن
يلوذ الغذامي بمفاهيم الدولة الوطنية وأن يؤكد على مبدأ
المواطنة، ودولة القانون لكونهما ملاذاً آمناً لكل الأفراد
بصرف النظر عن انتماءاتهم الفرعية (المذهبية أو الإثنية)،
بدلاً من الانحباس في الواقع المعلول والبناء عليه أو
اعتماده مرجعية يلزم الاحتكام إليها..
فكرة الاندماج الوطني لا تتوافق مع فكرة الاقلية، ببساطة
لأن الأولى مصمّمة لإنهاء الثانية كحالة مجتمعية شاذة
تتعارض مع عمل الدولة الوطنية. ما ينقله الغذامي عن الشيخ
شمس الدين يتصّل على وجه الخصوص بالشيعة حصرياً وهذه نصف
المهمة، ولكن الإندماج عملية مشتركة وذات طابع متعدّد
وليس أحادياً. فحتى لو هيّأ مكوّن إجتماعي ما كل الشروط
المطلوبة للإندماج، فإن تحقيق ذلك يتوقف على استجابة الدولة
وقدرتها الاستيعابية. فالدول الشمولية وخصوصاً في مشرقنا
العربي فشلت في سياسات الادماج بفعل نزوع التسلّط لدى
الطبقات الحاكمة على خلفيات مذهبية وقبلية ومناطقية..
يفاجىء الغذامي قارئه بالخلط بين ما هو سياسي وما هو
عقدي، وبين ما هي حقائق سياسية وبين ماهي حرب دعائية.
دهشة تصيب المراقب وهو يقرأ فقرة من مقالة للغذامي يقول
فيها ما نصّه: «فالحوثيون اشتهر عنهم الاستعانة بالسحر
والتمائم يحصن بها الزعيم نفسه لتحميه من الصواريخ ومن
محاولات الاغتيال، وكذا يعد جماعته بالجنة ويضمنها لهم..».
مثل هذا النص تجده في خطب شيوخ الفنتازيا الفضائية من
مثل محمد العريفي، وسعد البريك الذين أسهبوا بتساهل في
رمي الحوثيين بما لا يصدّقه عاقل، ولم يرد في أدبياتهم
ولا تجاربهم ولم يحكه عنهم مصدر محايد.
من الواضح، أن الغذامي خضع لتأثير ما روّج له السعوديون
في حربهم على اليمن في 2009 و2015 وغاية ما تظهر المشاهد
التي تمّ بثها على مواقع الاتصال الاجتماعي أنها مشاهد
تبعث على السخرية، ويراد استخدامها لتبرير هزائم الجيش
السعودي بدعوى أن الحوثيين لجأوا الى استخدام السحر..
فمن يا ترى وقع تحت تأثير الثقافة التلفزيونية؟!
ينقلب الغذامي على تجربة ذاتية له مع ثقافة الصورة
حين استطاع أمين عام حزب الله حسن نصر الله أن يحقق ما
عجز عنه أي من القادة العرب في حرب 2006. تناول تأثير
الصورة وقوتها في تلك الحرب وقال: «إن الصور التي رأيناها
طوال 33 يوماً عبر الفضائيات، أعادت للمواطن العربي والمسلم
الضمير المنتصر، وهذا ما لم تستطع القصائد الحماسية فعله»،
مضيفاً: «في الماضي، خدعتنا الخطابة البلاغية التي انتهت
في عهد الصورة... خلال خمس سنوات لم أشهد خطاباً واحداً
يخلو من البلاغة الرنانة، إلا خطاب الأمين العام لحزب
الله حسن نصرالله، الذي يسير وفق ما تتطلبه المرحلة، التي
لا تعتمد إلا على الفعل قبل القول البليغ»، واصفاً إياه
بـ «خطاب المرحلة بكل المقاييس العلمية، التي تتماشى وثقافة
الصورة، خصوصاً خطابه الأول الذي أعلن فيه عن تدمير البارجة
الإسرائيلية»(2).
حينذاك، لم يكن الغذامي أسير نسق إيديولوجي أو ثقافي
محدّد يتلبّس قراءته، كما عليه الحال الآن حيث تبدو الأشياء
مربكة، مضطرّبة، بلا معنى. وعيه الجديد يملي وبأثر رجعي
قراءة مختلفة، وكأنه ينتقم لما يعتقده الآن «خدعة» وقع
فيها لأنه ناصر ما كان يراه نصراً للأمة، فإذا به، وفق
منظوره الجديد، يقع تحت وطأة خدعة بصرية.
يجنح الغذامي الى وضع فرضيات، في جوهرها منتجات غير
واقعية لمخيال بات موجّهاً نحو الخصومة مع نموذج شيعي
يرسم له صورته، ويضع له خصائصه التي هي ليست أكثر من تصوّره
الخاص إزاء الآخر. فهناك نموذجان للتشيع: نموذج يمثّله
الشيخ الراحل محمد مهدي شمس الدين والنموذج الايراني المرتبط
بولاية الفقيه والإمام المهدي والمسؤول عن إبراز جوانب:
الاقلوية، المظلومية الظالمة ومتوالياتها. من شأن هكذا
تصنيف إختزالي أن يعيد إحياء التصورات الكلاسيكية عن التشيّع،
حين كان يسم التشيع الفارسي بالتطرّف، والغلو والتشيع
العربي بالاعتدال والتسامح، ليتبيّن فيما بعد، أي بعد
دراسات عميقة وجديّة لتاريخ التشيّع أن العكس هو الصحيح
تماماً، ليثبت على حد هاينز هالم بأن الغلو، كما التشيّع،
نشأ على أرض عربية خالصة، وهي العراق، وكان مصدره الكوفة(3).
وسواء كان الغذامي قد خضع تحت تأثير التصوّرات الكلاسيكية
عن التشيّع التاريخي، فإن تلك النمذجة للتشيع سواء على
خلفية قومية (عربي/ فارسي)، أو سواء كانت على خلفيات أخرى
فكرية أو مدرسية أو حتى حزبية، فإن القراءة التي يقدّمها
الغذامي للتشيّع تفتقر الى المواكبة، ولا تغوص عميقاً
في خارطة التحولات التي شهدها التشيع خلال العقود الأربعة
الماضية، وإن ما يعتقده الغذامي تشيّعاً بات من الماضي،
ومن يراه متطرّفاً ربما حجبت العصبية الرؤية عن جوانب
الاعتدال في مواقفه.
ومن المؤكّد، أن لا المرجعية الدينية في ايران ولا
أي من وكلائها وجهّوا الشيعة العرب في أي بلد نحو التمرّد
والقطيعة مع نظرائهم في بلدانهم، وإذا كانت هناك من نصيحة
صدرت عن المرجعية الدينية الشيعية سواء في ايران أو العراق
فهي تلك التي تدعو الى الاندماج والتعايش مع شركائهم في
الوطن. وإن القول بأن إيران تسعى «لفصل الشيعي عن وطنه
وتحويل ولائه كي يتبدى الشيعي خائنا لأرضه وأهله ويستبدل
بهم أهلاً غير الأهل، وداراً موعودة غير وطنه الأم» ،
فهذا كلام مرسل لا دليل عليه، وإنه نتاج الخصومة التي
يجيز فيها كل طرف لنفسه رمي خصمه بما ليس فيه.
ما هو غير واقعي أن يتحدث الغذامي عن تلك «الثنائية
الوطنية» التي ولدت فجأة حسب قوله، وأرجع سبب نشأتها الى
إيران ونموذجها الشيعي، وكأن ما قبل ذلك كان الشيعة والسنة
في حال انسجام تام بوجود الدولة الوطنية. والحال، أن الاستقالة
الشيعية كانت مسؤولة عن الإنسجام المضلل، وحين تحرّر الشيعة
من قيود التاريخ والفقه والتصوّرات الكلاسيكية للمفاهيم
الشيعية مثل الغيبة والتقية وكربلاء والشهادة وبدأوا المطالبة
بحقوقهم أسوة بنظرائهم في الوطن أصبحوا منبوذين، وكأن
مقولة الاسرائيلي عن الفلسطيني بأن الفلسطيني الطيب هو
الفلسطيني الميت تنبعث في رداء مذهبي فيصبح الشيعي الطيب،
وربما الوطني، هو الشيعي المستقيل.
يكرر الغذامي أمثلة لا نصيب لها من الحضور الا في مخيلته
وحده وننقل حرفياً ما كتبه: «ويصبح الناقد ناصبياً وطائفياً،
وهذه من أشد أسلحة الغازي في تدمير خصومه معنوياً، مثلما
أبعد السيد الطفيلي، وتم نفي علي الأمين من لبنان، وتتم
محاصرة السيد السيستاني في العراق لأنه ضد ولاية الفقيه”(4).
وحين نعود الى الواقع، سوف نجد أن الطفيلي لا يزال يعمل
من مسقط رأسه ولا يزال يتهجم على حزب الله ويقذفه بكل
مشينة، ولايزال الأمين في لبنان، ولا يزال المسؤولون الايرانيون
يتردّدون على بيت المرجع السيستاني ويصغون إلى نصائحه
وإرشاداته.
ومع ذلك، فإن الانغماس في وقائع خارج الحدود ينفي إطارية
الدولة والوطن، ويجعل من نفسه معنياً بمناقشة شؤون الآخرين.
بكلمة أخرى، أن ثنائية ايران ـ السعودية في ترجمتها الثقافية
والسياسية هي نقيض الدولة، لأن المسكون بتلك الثنائية
يصبح متحرّراً من مرجعية الدولة، فقد بات فارساً في ساحة
حرب تتوارى فيها الحدود، وتصبح الطائفة والفئة والجماعة
الخاصة وحدها الهوية النهائية وهي تفرض شكل التعبير عنها.
في النتائج، توحي قراءة الغذامي لـ «الآخر» المتمثل
في ايران والتشيع والشيعة بكل أصنافهم وكأنه تحوّل الى
حكواتي موتور، أو بالأحرى حكواتي بنسخّة مطوّرة. فمنذ
تخلى عن اختصاصه في النقد الادبي ودخل الى مجال اختصاص
آخر يتطلب أدوات مختلفة صار مبتدئاً في المجال الجديد،
وإن محاولة توظيف اختصاصه الأدبي في تفسير الوقائع السياسية
لم تكن موفّقة بل كان أشبه بكائن فضائي يمارس ببلاهة مهنة
الغوص في المحيطات.
تنبىء نوعية المعطيات التي يستخدمها الغذامي في مقالاته
حول إيران والتشيّع، أن الرجل هبط من مكان ما في الكون
على آخر نقطة في سياق تاريخي له ما قبله وما يصاحبه ويتفاعل
معه وما يراكمه للمستقبل. على سبيل المثال، إن قراءة الغذامي
للتشيّع ليست تاريخية ولا تبدأ من حيث انتهت حركته، بل
من حيث نقطة الصراع الذي ينغمس فيه هو. ولذلك، تبدو قراءته
بلا مواكبة، وخارج سياق حركة تطوّر التشيّع، بمعنى آخر
إنها قراءة سياسية وأيديولوجية بامتياز وليست قراءة تاريخية
ومعرفية. وفي النتائج، لا السياسي يفيد من قراءة الغذامي
للتشيّع ولا الفكري كذلك، لأنها تخلو من الدقة والمتانة،
وهي أشبه ما تكون بتفسير شخصي شديد الإنغلاق والسذاجة،
وإن أقصى ما تفصح عنه هي أنها تظهر منسوب وعيه بالتشيع
في لحظة تاريخية محدّدة.
في مقالته (نحن وإيران توحش ام واقعية) يذكّر الغذامي
بتنظيرات اسبينوزا في القوة وقوانين الطبيعة المشرعنة
للاستعمار، إذ تصبح هيمنة القوي على الضعيف حقاً طبيعياً
لا مراء فيه، لأن للطبيعة الحق في أن تفعل ما تشاء، وفي
هذه الحال تصبح القوة، وليس أي قيمة أو عنصر آخر، وحده
الفيصل في المعادلة، وهي، أي القوة، من يقرر حقوق الفرد.
الغذامي يعيد إنتاج تلك الفكرة مؤكّداً على «أن الأمم
لا تحجم عن ابتلاع غيرها إلا إذا هي عجزت عن هذا الهدف»
ولا رادع أخلاقي أو قانوني يحول دون تحقيق ذلك.
ما يبعث على الغرابة أن الغذامي يوظّف قانون التدافع
في القرآن الكريم ويفسّره بطريقة تخدم فكرة القوة لشرعنة
عدوان السعودية على اليمن بما نصّه: «أرى أن عاصفة الحزم
ستكون المفتاح العملي لتحقيق قانون التدافع حتى ليشعر
الراغب في التعدي أنه غير قادر على تحقيق خططه، وحينها
يأتي قانون الواقعية»(5). ويزيد الأمر حيرة حين يتكّل
الغذامي على العدوان السعودي على اليمن من أجل الانتقال
بإيران من التوحّش الى الواقعية، في ربط يبدو شديد التعسف
بين العدوان وزحزحة الموقف الايراني الافتراضي.
|
|
الغذامي.. "كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا"!
|
برغم من أن المقالات التي كتبها الغذامي أريد لها أن
تكون في سياق ثقافي موحّد، فإنها تفتقر الى «تاريخ صلاحية»
طويل الأمد. فهي لا تقدّم رؤية استراتيجية بعيدة المدى،
بل تعكس خطاب المرحلة التي يعيش فيها. وبإمكان المرء أن
يعود اليها في أزمنة لاحقة للتعرف على نوع الخطاب الذي
كان ينتج في المملكة السعودية في هذا الوقت. بكلمات أخرى،
أن نوع المقالات التي كتبها الغذامي في هذا السياق السجالي
ذات أجل محدود، وتكون في عهدة التاريخ لحظة خروجها الى
العلن.
يمكن تفسير التحوّل الخطابي لدى الغذامي على هذا النحو:
أن ثمة مدارس فكرية وأدبية تمنح أتباعها فرصة إخراج أجمل
ما لديهم وفق منهج تفكير ترسمه لهم فتعيرهم محاسنها. وعلى
العكس، فإن مدارس أخرى تزرع في أتباعها كل الشرور الكامنة
فيها، فتحيلهم ممثلين عنها لا عن أنفسهم. في ضوء هذا التفسير،
كان الغذامي ناقداً أدبياً ليس لأن نجد والوهابية كعقيدة
نبتت وترعرعت فيها، منحتاه هذه الفرصة، ولكن سفره الى
فرنسا ودراسته مناهج البحث العلمي والنقد الأدبي صقلت
منه شخصية الناقد الأدبي. وحين قرّر العودة الى المنطقة
والمذهب الوهابي، لما يمثلانه من نسق فكري فريد، لا بالمعنى
المكاني والعقدي، انبعثت الصفات الأصلية لكليهما في شخصيته،
وفقد صفته المكتسبه.
لم يكن حال جمع من المثقفين السعوديين الذين قبلوا
بملء إرادتهم الانغماس في منازلة النظام السعودي مع خصمه
الايراني ليخرجوا أسوأ ما في النفس البشرية من قيم فاسدة،
بأفضل من الغذامي فقد بات العقل النمطي مهيمناً.
في مقالة استفزازية بعنوان: (سؤال صريح لسدنة الخطاب
الشيعي في الداخل)، بدا الكاتب والأكاديمي علي سعد الموسى
كما لو أنّه يرضي منتقديه من التيار السلفي بتركيزه على
زلاّتهم فيما يستثني خصومهم الشيعة.
اختار الموسى ساحة الخصومة، وقضاياها، ولغتها، وأخيراً
أحكامها. وكان يوحي لمن لا أدنى معرفة له بمجريات الحوادث
الواقعة، أن الشيعة و»داعش» على خط استواء في الإرهاب
والعنف، هكذا تظهر من نبرة خطابه «لماذا هذا الصمت المطبق
بعد وخلف كل حادثة إجرام أو إرهاب يكون فيها بعض دعاة
الضلال والإرهاب أو بعض قوائم الموت من مذهبكم ضلعاً في
هذه الجرائم؟». لكل من يقرأ هذا المقطع سوف يتولّد لديه
انطباع بأن ثمة عمليات إرهابية متنقلة ينفّذها مقاتلون
شيعة بصورة منتظّمة، وأن هناك رجال دين ودعاة من الطائفة
الشيعية يتولّون مهمة التحريض على تلك العمليات، في صورة
معاكسة تماماً للواقع.
ولأن البيّنات تكشف صدق الدعوى، وبدلاً من إيراد أدلة
من داخل المملكة، فتح الموسى الأفق على مصراعيه، في سياق
الصراع الطائفي المحتدم في العراق والمنطقة كأحد تمثّلات
الصراع الاقليمي بثنائيته السعودي الايراني.
يطلب الموسى من كتّاب ودعاة الشيعة في الداخل إدانة
«جرائم الحشد الشعبي في العراق ومجازر حزب الله في سورية»
في مقابل إدانة كتّاب الصحف المحلية في المملكة للتفجير
الإرهابي في «القديح». تبدو المقايضة مفزعة حين تصدر من
أكاديمي وليبرالي الى حد ما، فنحن أمام حالة غير مسبوقة،
حين يراد منك دفع ثمن دم أبناء وطنك في قضايا تقع خارجه،
فضلاً عن كونها ملتبسة تختلط فيها الحقيقة بالزيف.
في العراق وسوريا الضحايا يتساقطون من أطراف الصراع
كافة، وإن الانحياز المطلق الى أحدها يطيح صدقية الدعوى،
بينما في»الدالوة» و»القديح» و»العنود» و»سيهات» و»المشاهد»
في نجران و»محاسن» الأحساء ليست مواجهة مسلّحة بين طرفين
بل هي عمليات اعتداء موصوفة يرتكبها أشخاص من مذهب معيّن
ضد أتباع مذهب آخر ليس طلباً لثارات قبلية سابقة، ولا
بحثاً عن مغانم مادية محدّدة، بل هو التحريض الطائفي الذي
دفع هؤلاء الانتحاريين للبحث عن جنّة عبر الانغماس في
أجساد الابرياء المصلين في معظمهم.
أبقى الموسى على نبرة خطاب مرتفعة ومضى في توصيفاته
الى ذروتها، فقال عن مدينة العوامية بأنها «كانتون مغلق»
بفعل «دعاة الضلال والإرهاب»، وقال عن خطب الشيخ نمر النمر
النقدية لسياسات التمييز التي يتبعها النظام السعودي ضد
الشيعة بأنها «جرائم»، ولم يثبت الموسى، ومن ورائه القضاء
السعودي، دليلاً واحداً على أن الشيخ النمر دعا الى حمل
السلاح أو حرّض على العنف. وقد ردّ على اتهامات سابقة
للسلطات السعودية بمطالعة مطوّلة بتاريخ 6 رمضان 1429هـ
الموافق 7 سبتمبر 2008 حرّم فيها التعدي على مؤسسات الدولة
وقال: «لا يجوز للمتظاهرين التعدي على الحقوق العامة فضلاً
عن الحقوق الخاصة، وعندما يتعدى بعض المتظاهرين على حق
عام أو حق خاص، فإن الممنوع والمحرم شرعاً هو التعدي على
الحقوق وليس التظاهر»(6).
وقال في خطبة له بتاريخ 5 أكتوبر سنة 2011، أي في ذروة
الحراك الشعبي في المنطقة الشرقية: أن «المنهج العام لحراكنا
في مقارعة الظلم والسلطات الظالمة، يعتمد على زئير الكلمة،
ومنهج السلطات يعتمد على ازيز الرصاص والترهيب والتنكيل
والقتل والسجن»(7).
نقل الموسى عتب وغضب والد أحد الضحايا في منطقة العوامية
والذي لم يسمّه واكتفى بحرفي (م. ش)، وقال بأن أصابع الغدر
قتلته في الشارع العام للعوامية «وهو يقوم بمهمته العسكرية
في حماية خروج طالبات مدرسة ثانوية». وختم هذه القصة «فلم
يأت إلى خيمة العزاء فرد واحد منكم جميعاً أيها الإخوة».
ما يغيب عن الموسى وغيره ممن يطالبون كتّاب ورجال الدين
الشيعة بالإدلاء بمواقف في شؤون محلية، أن المنطقة التي
يقطنها الشيعة كانت مسرحاً لنشاط أمني مكثّف منذ بدء الحراك
السلمي في محافظة القطيف منذ مارس 2011، وسقط على إثره
نحو 30 شهيداً برصاص قوات الأمن السعودية، ولن يتذكّر
الموسى إسم واحد منهم، فضلاً عن أن يستنكر استخدام الرصاص
ضدّهم، وهؤلاء لم يسقطوا في مواجهات مسلّحة بل في مسيرات
سلمية أو في اقتحامات لفرق أمنية على أحياء أو ملاحقات
لأفراد مطلوبين للداخلية لا بسبب ارتكابهم جرائم قتل أو
سرقة بل لأنهم شاركوا في مسيرات رفعوا فيها لافتات تطالب
بالافراج عن المعتقلين من كل المكوّنات السكانية بمن فيهم
المعتقلين من التيار السلفي الذي حرّض على قتلهم وكفّرهم
أو بالحريات السياسية والدينية.
سقط عدد من هؤلاء والكاميرات معلّقة حول رقابهم لأنهم
كانوا يقومون بتوثيق المظاهرات بمن فيهم الشاب علي الفلفل
وكان في طليعة الشهداء الذين سقطوا في الحراك السلمي،
ولحقه آخرون مثل ناصر المحيشي، وعلي قريريص، منيب العدنان،
ومحمد الفلفل، وأكبر الشاخوري ومنير الميداني وغيرهم ممن
سقطوا برصاص مباشر كان يستهدف القتل كما ظهر على أجسادهم.
لا يستحضر الموسى مثل تلك الحوادث، لأن ثمة بقعة عمياء
تحول دون رؤية كامل المشهد، فيما يتكثف حضور الرواية الرسمية
بكل تفاصيلها بما في ذلك البعد الدرامي. بتبنيه الرواية
الرسمية كاملة دون إخضاعها كلياً أو جزئياً للفحص بما
يجعل من العوامية معقل لعصابات إجرامية ويجعل من (م. ش)
ضحية مهمة أخلاقية نبيلة «حماية خروج بنات الثانوية»!
لا يغني ذلك كله عن القول بأن ثمة عناصر غير مسؤولة
ومنفتلة ومدسوسة تستغل أجواء الاحتقان للقيام بأعمال تتناسب
وطبيعتها الإجرامية، ولكن في الوقت نفسه ليس هؤلاء من
يمثّلون أهالي العوامية فضلاً عن المكوّن الشيعي بصورة
عامة في المملكة. لاريب، أن هناك من يتعمّد تضخيم الأمور
بهدف المساواة بين جرائم داعش الارهابية وبين حوادث نادرة
تقع من أفراد لا يمثّلون سوى أنفسهم أو العصابة التي ينتمون
اليها، وليس لها بعد سياسي.
تقسيم المجتمع على طريقة الموسى الى سنّي وشيعي لتحقيق
مبدأ المحاكمة أو بالأحرى المقايضة: إدانة مقابل إدانة،
تؤشّر الى نوع الخطاب الذي ينتج في المملكة السعودية،
من قبل ليس الجاحدين بمبدأ الدولة، بل من المؤمنين بها.
وللمرء أن يتخيّل كيف يكون شكل دولة يتمّ محاكمة مواطنيها،
أو بعضهم، على أساس قضايا تقع خارج حدودها لإثبات وطنيتهم،
فتكون الوطنيّة مصمّمة وفق معايير مذهبية. ولذلك خيّر
الموسى شركاءه في الوطن بين تهمتين: الخوف أو الخيانة
«وهذه ذروة الجرائم الإنسانية»(8).
في النتائج، حين نخرج من فضاء السجال التفصيلي، سوف
نواجه الحقيقة الصادمة المتمثّلة في أن مقالة الموسى تشي
بعدم مرجعية الدولة الوطنية، ولو كانت كذلك لما طالب شركاءه
في الوطن بمواقف من قضايا خارجية، كمن يضع شرطاً لوطنية
البريطاني أو الأميركي من الأزمة المستفحلة بين الهند
وباكستان، أو الحرب الدائرة بين بوكو حرام والحكومة الصومالية.
والأنكى حين يصبح اللاموقف من هذه القضايا ذروة الجرائم
الإنسانية.
من الضروري الإشارة إلى أن التناقض الحاصل بين خطابي
الدولة والطائفية ينصب فخاً خطيراً ليس لمن يرفضون أصل
فكرة الدولة كالتيار السلفي، ولكن لأولئك الذين تشكّل
وعيهم السياسي والتاريخي في سياق الدولة نفسها.
يبدو الكاتب قينان الغامدي الأكثر تسامحاً في مقاربة
المسألة الشيعية في المملكة السعودية لا على سبيل التعاطي
معها كشأن وطني، أو حتى الإنطلاق من رؤية وطنية للحل،
بل إنطلاقاً من تصوّر كون المكوّن الشيعي بات مشكلة يراد
حلّها. وشأن الغالبية الساحقة من الكتّاب المحليين، فإن
الغامدي يؤسس معالجتة على تشخيص مبني في الغالب على الرواية
الرسمية، وإن بدا الى حد ما متوازناً نسبياً. وأول ما
يلفت هو العناوين التي ينتقيها لمقالاته التي تشي بانحياز
الى الرواية الرسمية. في مقالته المعنونة (الشيعة السعوديون
وإرهاب العوامية: اقتراح لولي العهد) ينبعث السؤال حول
مبررات وصف «إرهاب العوامية»؟
إقرار الغامدي بأن الشيعة يعيشون مواطنين من «الدرجة
الثانية»، يتنافى مع حقائق أخرى وردت في مقاله ومن بينها
تحميل الثورة الايرانية فساد العلاقة بين السنة والشيعة،
وكأن ما قبل ذلك التاريخ كان النظام السعودي سواسيّاً
أو أن المؤسسة الدينية الرسمية لم تكفّر الشيعة قبل ذلك،
وأنهم كانوا يمارسون حرياتهم الدينية بصورة كاملة.
في حقيقة الأمر، أن الغامدي كما هو حال كثير من الكتاّب
المحليين الذين قاربوا المسألة الشيعية من خارجها، يصوغ
تصوّراته ومعالجاته من زاوية الصراع الايراني السعودي،
ما يجعل مقاربته خارجية أكثر منها داخلية.
من تلك الزاوية يتم شيطنة العوامية بناء على معطيات
حول طرق تهريب الاسلحة وتخزينها من قبل مجموعة صغيرة من
الأفراد، برغم من أن ذلك لو صح وحدث،فمثله يجري وربما
على نطاق أوسع في مدن أخرى جنوبية وشمالية، والسؤال يبقى:
من أين جاء الارهابيون بالأسلحة والمتفجرات؟
إن المبالغة في تصوير الخطر الذي يواجه المثقفين المحليين
أو القادمين من مناطق أخرى من قبل المتطرّفين تبدو ضرورية
لناحية تأكيد التصوّر النمطي عن منطقة القطيف، بكونها
منتجة للتطرف على غرار التطرّف الوهابي في منطقة نجد.
نقولات الغامدي لافتة، ومن بينها «إن العقلاء والمثقفين
هنا، شبه مضطهدين اجتماعياً وتقريباً مغيبون وخائفون،
لأنهم من الممكن جداً أن يتعرضوا للخطر» من متطرفي الشيعة،
«أو أحد أتباعهم والمتحمسين لهم». ويثير المقطع أسئلة
حول هوية «العقلاء والمثقفين» وكيف هم «مضطهدون اجتماعياً
ومغيبون وخائفون» ومن هم «متطرفو الشيعة» و»أتباعهم والمتحمسين
لهم»؟ أسئلة تتطلب ليس فقط الانتقال من «التعميم» الى
«التخصيص» بل الأهم هو تقديم تعريفات محدّدة واضحة.
ما يلفت أيضاً في نقولات الغامدي قوله بأن «من يتبع
- ولاءً - لولاية الفقيه..لا يتورعون عن ارتكاب أي جريمة،
بل إنهم يكفرون بقية فرق الشيعة الأخرى..». فبعد مرور
أكثر من ثلاثة عقود على قيام الجمهورية الاسلامية الايرانية،
لم يسجّل حادثة قتل أو اعتداء على شخص على خلفية عدم الايمان
بولاية الفقيه. وإن القول بوجود قلة تؤمن بولاية الفقيه
في الوسط الشيعي هو كلام مرسل وغير دقيق أيضاً، لأن المرجعيات
الرئيسة في المنطقة قاطبة (الخامنئي، الشيرازي، السيستاني،
فضل الله، وغيرها) تعتنق مبدأ ولاية الفقيه ولكن تتفاوت
في اطلاقها وتقييدها، والخامنئي والشيرازي مع اطلاقها،
فيما السيستاني وفضل الله من أنصار ولاية الفقيه الواقعية.
لابد من إنصاف الغامدي في دعوته لإحترام حقوق الشيعة،
وبقّية المكوّنات السكانية سواء بسواء، في ممارسة الشعائر
الدينية، والاقرار بحقّهم في «المطالبة بها «سلماً»، ومن
واجب الحكومة تحقيقها، بل وحمايتها..». وإن القبول بمبدأ
المطالبة بالوسائل السلمية يضفي، بالضرورة، مشروعية على
الحراك الشعبي ويبطن إدانة لقوات الأمن لاستخدامها بالرصاص
ضد المتظاهرين بصورة سلمية.
ولكن، استدرك الغامدي على مقالة زميله الموسى المعنونة
«إلى سدنة الخطاب الشيعي» فعادت لعبة «المقايضة»: إدانة
مقابل إدانة. ليست المشكلة في إدانة الفعل الارهابي مهما
كان مصدره، بل في إرغام الآخر (الشيعي هنا) على تبني رواية
خلافية في الحد الأدنى، ما يجعل التسامح في مقدمة الغامدي
إزاء من يصفهم «إخواننا الشيعة» مشروطاً. المطلوب، كما
يراه الغامدي هو إدانة «إرهاب العوامية» هكذا دون نقاش
وضد كل من ينتمي الى هذه البلدة، سواء كان من شباب الحراك
السلمي أو رموزه وعلى رأسهم الشهيد الشيخ نمر النمر.
|
|
علي سعد الموسى: الوطنية بمنظار طائفي! |
تصويب الغامدي لمقالة الموسى بناء على نقص المعلومات
لدى الأخير حول مثقفي الشيعة، ودرءً لمشكلة أخرى قد تنشأ
من مقاربة المسألة الشيعية، ليس أحسن حالاً من مزاعم الموسى.
يستند الغامدي على فرضية خاطئة بأن هناك مثقفين ومثقفات
شيعة يستنكرون «إرهاب العوامية» ويكتبون في الصحف المحلية
«لكن هؤلاء كلهم أو أغلبهم ليسوا مقيمين في المنطقة الشرقية..»
وأن هؤلاء «يتعرضون لمضايقات، وشتائم، وتهديدات من سفهاء
وجهلاء الشيعة أنفسهم..». أمّا المقيمون في الشرقية، بحسب
الغامدي، فهم «لا يستطيعون الجهر بآرائهم لا في «بعض خرافات
مذهبهم»، ولا في «الإرهاب» عندهم، ولذلك يتجنبون الكتابة
عن الإرهاب في المملكة بصفة عامة، حتى لا يتعرضون لانتقاد..
فهم يخافون من جحور «العوامية» ومخابئها، وتطرف بعض أهلها..».
من الواضح أن الغامدي يفرض معايير خاصة كيما يكتسب
شخص ما صفة «المثقف»، وهنا يصبح المتمرّد على ذاته العقدية،
أو المتماهي مع السلطة السياسية، أو المنسلخ من كينونته
وحده المؤهل لنيل شهادة «المثقف». أما المتمسكون بهويتهم
الثقافية وحقهم في الشراكة والتمثيل المتكافىء والتعبير
عن ذواتهم بوسائل سلمية ومشروعة، فهم ليسوا مثقفين. وفي
ظل احتدام الاستقطاب الطائفي يراد تصويرهم في هيئة إرهابيين،
تماماً كما الارهابيين الذي يفجّرون في المساجد والجوامع
والحسينيات.
ما يزيد الأمر غرابة، أن المشروع التنموي الذي يقترحه
الغامدي لا ينطلق من إقرار بالغبن الذي أصاب بلدة العوامية
وبلدات أخرى تعاني لأسباب طائفية محضة من التهميش والحرمان
بل ينطلق من رؤية أمنية خالصة.
يقترح الغامدي توزيع منح أراضي وقروض ميسّرة على الأهالي
وإرغام الحكومة الجميع «الانتقال إلى الموقع الجديد بقوة
النظام، ثم تباشر إعادة تخطيط تلك الأماكن من جديد واجتثاث
منازلها - مع ما تحتها وما حولها من جحور ومخابئ..». الطريف
أن مقترح المشروع مقدّم لوزير الداخلية، وكأنه استشارة
أمنية أكثر من كونه حلاً سياسياً لمشكلة في الأصل سياسية
ولسيت أمنية.. الأطرف من المقترح هو النتيجة المرجوّة،
أي أن إتمام «رشوة» المشروع التنموي لأهالي العوامية سوف
تطمئن إخوته الشيعة ومن ثم سيضطلعون بمهمة الاستنكار «سيتحدثون،
ويكتبون بحرية، ويشاركوننا في الشجب والاستنكار..».
خاتمة المقالة تفشي المخبوء في ثناياها، فهو يستعرض
ما يعتقده «حقيقة «العوامية»، وما تسببه من رعب وقتل وإرهاب
لرجال الأمن، ولبقية المواطنين الذين يعيشون هناك، أو
يزورونها، فالإرهاب لا مذهب له ولا عقل!»(9).
رغم ما يبديه الغامدي من مرونة في مقاربة المسألة الشيعية
في المملكة، وفي بلدة «العوامية» على وجه الخصوص، فإنه
لم يبرح التصوّرات النمطية التي ينطلق منها لجهة تحميل
أهل العوامية مقتل عناصر الأمن وتجاهل جرائم قتل المتظاهرين
السلميين للخروج بنتيجة جائرة: أن الارهاب لا مذهب له.
في عودة لاحقة الى الموضوع ذاته، أظهر قينان الغامدي
لياقة عالية بتراجعه عن بعض الآراء التي ساقها في مقالته
السابقة، وأرجع ذلك الى شح المعلومات وقلتها. واعتذر الغامدي
عن تعميم صفة «الإرهاب» على أهالي بلدة العوامية وقال:
«وهذا خطأ واضح، ولا مناص أمامي إلاّ الإقرار به والاعتذار
عنه، فالفاسدون، المجرمون من أهل العوامية هم قلة، يستنكر
وجودها أهل العوامية أنفسهم، قبلنا وقبل أي أحد». حسناً،
إن إخراج العوامية من كونها حالة فريدة واستثنائية يحبط
شيطنتها، لأنها تصبح كأي بلدة ليس في المملكة بل في كل
أنحاء العالم الذي تحتضن قلة من الأشرار والغالبية الساحقة
من الأخيار. أما تصوير القطيف وكأنها مرتعاً لتهريب السلاح
في سياق تبرئة العوامية من التهمة وتحميلها لمحافظة بأكملها
فهي كمن يريد الخروج من حفرة فيقع في منحدر سحيق. وبناء
على اتساع التهمة يصبح الحل ليس مقتصراً على العوامية
بل يشمل القطيف برمتها، ولذات الأهداف.
تبدو فكرة الحل للمسألة الشيعية في القطيف صحيحة من
الناحية النظرية، أي اعتماد الاندماج الوطني أساساً للحل
لأن الكيانات الفرعية (القبيلة والمنطقة والطائفة والفئة)
لا تزال حاضرة فيما «الوطن ككيان ما زال غائباً». وهذا
مدخل صحيح لفهم المشكلة وتالياً لمعالجتها، ولا ريب أن
«مؤسسات المجتمع المدني» تلعب دوراً محورياً في مشروع
الاندماج الوطني(10). يبقى أن صراحة الغامدي تقصر عن قراءة
الممارسات القمعية لقوات الأمن في اقتحامها للعوامية،
وهناك من الشواهد ما يكفي على اقتحام البيوت بطريقة وحشية
واطلاق الرصاص بصورة عشوائية وسط الاحياء السكنيّة، وهناك
أيضاً من سقط برصاص قوات الأمن لمجرد مصادفته في مكان
يتواجد فيه أحد المطلوبين، الذي لم يكن مسلّحاً، فسقط
هو ومن معه قتلى كما حصل للمطلوب خالد اللباد الذي سقط
شهيداً برصاص الأمن في 26 سبتمبر 2012 وسقط معه الشهيد
محمد حبيب المناسف (16 عاماً)، وجرح بدر اللباد، شقيق
خالد، وعبد الله الربيع والطفل حسن محمد الزاهري، استشهد
لاحقاً بسبب الاهمال الطبي(11). وقد أظهرت صور الرصاص
والحرائق التي اشتعلت في بيت المطلوب عباس المزرع في 29
يوليو سنة 2013 أن ثمة نيّة مبيّتة بارتكاب كل ما من شأنه
الاضرار بالمنزل والمنازل المجاورة وترويع الاهالي، وهذا
ما ظهر في شهادة والدة المزرع وأخواته(12).
في مقالتي الغامدي تتكشف أفضل ما يمكن رؤيته لدى المكوّن
الأقرب إلى السلطة أو في أسوا الحالات الأقدر على التعبير
عن مصالحها. في الشكل لا يرى الغامدي في الطائفة الشيعية
سوى جانب المشكلة، ومن زاوية أمنية محضة، وفي اقتراح الحل
يحصره في الجانب الإجتماعي، على غرار مركز خدمة إجتماعية
وتغافل سياق العلاقة التاريخية بين الشيعة والدولة السعودية
منذ نشأة الأخيرة ومروراً بتداعيات سياسات التهميش الشاملة
الاقتصادية والسياسية والثقافية والدينية والاجتماعية.
وعليه، فإن العلاج الدقيق يستند على تشخيص صحيح وشامل
لأزمة ليست وليدة سنوات الربيع العربي بل هي تطاول أزمة
الدولة نفسها والتي لامسها الغامدي، أي غياب الاندماج
الوطني، ولكن دون الاسهاب في شرح أبعادها وتمظهراتها والحلول
المقترحة لمعالجتها.
وعليه، حين تصبح الحقوق المشروعة للآخر هدفاً مشروعاً
لمن يرى فيها مصدر تهديد نكون أمام حالة لا صلة لها بوطن
أو بدولة وطنية، إذ تنقلنا هذه المنازلة الى سياق آخر،
هو السائد اليوم حيث تحضر كل أدوات الانقسام والتقسيم
(القبيلة، المنطقة، الطائفة) ويختفى الوطن والدولة والامة
تماماً. الأنكى حين تكون الحقوق الأساسية مادة جدل بين
مواطنين وليس بينهم وبين السلطة، المتّهمة ابتداءً بانتهاك
الحقوق وتعطيلها وحرمان المواطنين منها.
في مقالة للصحافي خالد العويجان حول الحوزات الدينية
والحسينيات الشيعية، يعيد تعريف تلك المؤسسات الدينية
الأهلية التي تعود الى قرون، ليجعل لها وظائف جديدة في
سياق الصراع السعودي الإيراني بطابعه المذهبي المفروض(13).
غاية المقالة هو تصعيد ما يسميه «الإرهاب الشيعي» ليكون
مكافئاً الى «الإرهاب السنّي» في عملية متعمّدة لتضييع
أثر «الإرهاب الوهابي» المسؤول الأول عن ظاهرة الارهاب
على مستوى العالم. يتلطى العويجان وراء الشعار ـ الأكذوبة
«الارهاب لادين له» لتمرير أكذوبة أخرى: أن ثمة إرهاباً
شيعياً يوازي الارهاب السني. ولكن سوف يجد العويجان ومن
ينقل عنه من المتماثلين ذهنياً وسياسياً مثل فهد الحارثي
الذي يرى الحشد الشعبي مكافئاً لتنظيم داعش، سوى أن لا
نشاطات إرهابية للحشد في الرياض أو القاهرة أو باريس أو
مالي أو سيناء.
المساواة بين التطرف السني (المقصود الوهابي، والاعلام
السعودي يسعى للتغطية بتوصيفه سنيّاً) والشيعي هي غاية
معروفة لدى كتّاب رسميين في المملكة السعودية، لأنها تمثّل
مصدر حماية ودرءاً للاستهداف العالمي لهم بتهمة الضلوع
الكامل والرعاية المطلقة للإرهاب. بالنسبة للضحايا في
الداخل، فإن نوع الخطابات التي تساوي القاتل والقتيل تحول
دون الوثوق بالدولة ولا مؤسساتها في إنصاف الضحايا، بل
قد تسهم في تبرير القتل ضدهم كما تفعل بعض الجهات الدينية
والاعلامية والسياسية في تحميلها مسؤولية استهدافها من
قبل الارهابيين لأنها مارست حقوقها الدينية المشروعة.
تبدو مقاربة الكاتب الحجازي عبد الله بن يحيى المعلمي،
لموضوعة (الشيعة والولاء) واقعية في منطلقها في الحد الأدنى.
فقد وجّه المعلمي نقداً لأولئك الذين «كلما برزت أزمة
نتيجة أحداث شغب في القطيف أو العوامية أو غيرها ينبري
بعض المتحمسين ليطالبوا إخواننا من الشيعة بإعادة تأكيد
ولائهم لهذه البلاد، أو ليطالبوا «عقلاء» الشيعة أن يردعوا
سفهاءهم..». وبصرف النظر عن تصوّره لتداعيات هذه المقاربة
الخاطئة على الواقع الشيعي، أو ما يحسبه «تأكيد مفهوم
الوصاية الذي تحاول إيران ان تمارسه على الشيعة في كل
مكان»، فإن التأسيس على «ان الشيعة مكون أساسي من مكونات
الوطن وجزء لا يتجزأ من الشعب وأنهم مثل النخلة والصحراء
والواحات قد عاشوا في هذه البلاد مئات السنين ولا يعرفون
لها أو يرتضون عنها بديلاً..» هي الحقيقة التي يلزم الانطلاق
منها في أي مداولة ثقافية أو سياسية حول الملف الشيعي
وبقية الملفات. ويومىء العلمي الى التحريض غير المباشر
على المكوّن الشيعي تحت عنوان الولاء أو الانفصال المعنوي
والنفسي والثقافي عن بقية المكوّنات، وطالب بـ «الابتعاد
عن التشكيك في الولاء»(14).
يمكن للمرء تفهّم الدور المنوط بالمعلمي، كدبلوماسي
وممثل عن الحكومة السعودية في الأمم المتحدة، وتفهم رهانه
السياسي المطلق، مهما كان الاختلاف معه، ولكنّ تشخيصه
للمشكلة جدير بالتأمل والتقدير.
هوامش
(1) عبدالله الغذامي، الإختلاف الساخن ـ9، صحيفة (الوطن)
بتاريخ 17 سبتمبر 2015
(2) منير النمر، «بين موت الكتابة وانتصار الصورة»
محاضرة في «منتدى القطيف الثقافي» . الغذامي : التفاعل
مع الأندية ضعيف ... والشعر الشعبي يحط من القيمة الثقافية
للمجتمع، صحيفة (الحياة) بتاريخ 21 سبتمبر 2006، أنظر
الرابط:
http://goo.gl/j6byya
(3) Heinz Halm, Shi’ism, (Edinburgh, 1991), p.156
(4) عبدالله الغذامي، صورتان للتشيع أيهما نرى هل للظالم
أن ينوب عن العادل؟ ـ 11، صحيفة (الوطن) بتاريخ 4 أكتوبر
2015.
(5) عبدالله الغذامي، نحن وإيران توحش أم واقعية؟ ـ
12، صحيفة (الوطن) بتاريخ 6 أكتوبر 2015
(6) رسالة آية الله النمر للحكومة السعودية ينفي فيها
التهم الموجهة اليه ويصف مظلوميته، موقع الشيخ نمر باقر
آل نمر، بتاريخ 27 حزيران/يونيو 2013
https://www.sknemer.com/web/article/view/240
(7) امام بلدة شيعية سعودية: سننتصر على السلطة بزئير
الكلمة، موقع ميدل إيست أون لاين، 5 أكتوبر 2011، الرابط:
http://www.middle-east-online.com/?id=118474
(8) على سعد الموسى، سؤال صريحة الى سدنة الخطاب الشيعي،
(الوطن) 7 ديسمبر 2015، أنظر الرابط:
http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=28826
(9) قينان الغامدي، الشيعة السعوديون وإرهاب العوامية:
اقتراح لولي العهد، الوطن، 19 ديسمبر 2015 أنظر الرابط:
http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=28964
(10) قينان الغامدي، الشيعة السعوديون والعوامية مرة
أخرى: حلول وأنظمة لانتظام التنفس، الوطن، بتاريخ 24 ديسمبر
2015، أنظر الرابط:
http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleID=29024
(11) معاناة عائلة الربيع واللباد بين المباحث السعودية
وشرطة القطيف، مركز الشرق لحقوق الانسان، بتاريخ 16 أكتوبر
2012، أنظر الرابط:
http://www.alsharqcenter.com/news/local_news/682
(12) عائلة الناشط عباس المزرع تروي تفاصيل اقتحام
السلطات السعودية منزلها، أنظر اليوتيوب على الرابط التالي:
https://www.youtube.com/watch?v=myDN0_TZ-MY
(13) خالد العويجان، الحوزات والحسينيات منصات تنفيذ
أجندة نظام طهران العدائي، صحيفة مكة، 6 ديسمبر 2015،
أنظر:
http://www.makkahnewspaper.com/makkahNews/loacal/151852#.VmXjfel3tjq
(14) عبدالله بن يحيى المعلمي، الشيعة والولاء..أفكار
للحوار، صحيفة المدينة، 11 يناير 2016، أنظر:
http://www.al-madina.com/node/653743
|