دولة الصمت
كل الشهور في مملكة آل سعود عجب، وكل أحوالها عجائب
وغرائب.. تجتمع فيها الأضداد ولا ضير، وتحتشد فيها الأغيار
ولا ضير، وتتعايش على أرضها المتناقضات وأيضاً لا ضير..
ولكن ما هو ضير ونصف، هو قبول حد الموت المتضررين والذين
لا خيار لهم إلا الصراخ، إلا إطلاق حناجرهم للعنان لكي
تخرج منها كلمة: لا.
يجوعون ويصمتون، ثم يموتون بصمت.
يسجنون ويصمتون، ثم يموتون بصمت.
يحاكمون في محاكمة سرية وصورية ويصمتون، ثم يعدمون
ويدفنون بصمت.
يفقرون ويحرمون ويعرون ثم يموتون بصمت.
وبصمت من اختار الصمت خياراً، أصبح الحاكم وحده الواهب
والمنعم والرازق والمانع، وحده يقرر كيف يعيش الرعايا
ومتى يموتون والكيفية التي يموتون عليها، والصمت لا يزال
خيار المستقيلين طوعاً من الحياة، إذ لا إكراه في الحياة..
في ثقافة المقهورين وسائل شتى للإحتجاج إن شاؤوا ذلك،
وبقدر ما يملك القاهرون وسائل في قهر الناس، فإنهم أيضاً
قادرون على ابتكار وسائل في مقاومة القهر، وأفضل ما يبشّر
به المقهورون أنهم منصورون لا محالة مهما طال أمد القهر.
تلك سنة الله في تاريخ البشرية منذ خلق آدم.
وحين تزداد وتيرة القهر سرعة وقوة، بات على المقهورين
أن يضاعفوا من شحن طاقة الممانعة لديهم من أجل كسر موجة
القهر، وليس الاستسلام لها.. فالاستسلام يجعلها واقعاً
ثم ثقافة وفلسفة وتاريخاً، ولكن الحل يكمن في ابتكار وسائل
مقاومة جديدة.
في المملكة السعودية هناك تصاعد لموجة القهر وبأشكاله
المتعددة، ويبدأ من المساس بالحاجات الأساسية للمواطن،
وتهديده في مصدر رزقه، ومروراً بأشكال ضغط اجتماعي وأمني
واقتصادي وثقافي، وانتهاءاً بسياسة الترويع عبر الاعتقال
لمدد طويلة أو حتى الاعدام لأسباب تافهة.
وفي حال تواصل الصمت، سوف يواصل القاهرون ابتكار وسائل
في القهر قد تفوق قدرة الناس على التحول في حال استمرأوا
القهر، وقبول الخنوع جواباً على التدابير القمعية التي
يتعبها أهل الحكم..
ولكن.. هناك من اختار المقاومة المدنية مساراً في مواجهة
القهر السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي، وهو قهر
تديره الفئة الحاكمة. وقد شهدت المملكة خلال الشهر الفائت
ظاهرة تمزيق الشهادات الجامعية في رد فعل احتجاجي سلمي
على الحرمان من الوظيفة. فقد تداول مغرّدون على موقع التواصل
الاجتماعي «تويتر»، مقطعاً مصوّراً عرضت خلاله المواطنة
الحاصلة على الماجستير عدداً من شهاداتها المتنوعة، بداية
من شهادتها الجامعية التربوية، ثم خبرة 4 سنوات بالكويت،
إضافة إلى دكتوراه، وامتياز كفاءات وقدرات (91%)، وعدد
كبير جدا من شهادات الخبرة والتميز.
هي بالتأكيد ليست الوحيدة، لأن 78 بالمئة من الجامعيات
السعوديات عاطلات عن العمل ومن بينهن حملة شهادات الماجستير
والدكتوراه.
ثمة من يطالب بالانتصار لهذه المواطنة، ويرمي بالكره
في ملعب الآخرين، ولكن القضية لم تعد «مواطنة مجهولة الهوية»،
فهي اليوم قضية اجتاحت البيوت عامة، حتى بات في كل بيت
جامعية عاطلة عن العمل..فطلب العون ليس الخيار المطلوب،
لأنه تنصّل من المسؤولية أولاً وأخيراً، وإن الحل هو الاحساس
الجمعي بالمسؤولية والتحرّك الجمعي في الشارع.. ولذلك،
فإن ما قاله الصحافي تركي الشلهوب عين الصواب (الوقاحة
هي أن تنسى فعلك وتحاسبني على ردة فعلي، لذلك قبل أن تلوموا
#ماجستيريه_تمزق_شهاداتها، لوموا مَن تركها عاطلة).
وأضاف الشلهوب في تغريدة أخرى: (وسيأتيك من يجعل من هذه
المسكينة خائنة ومثيرة للفتنة، ويطبل للمفسد الذي ضيع
حقها في التوظيف).
خطوة المواطنة في تمزيق شهادتها وتصويرها للعملية قد
حرّكت المياه الراكدة، وفتحت ملفاً مثقلاً بكل صور المعاناة
ولكن لا يريد أحد فتحه خوفاً، خصوصاً من جانب المقهورين
الذين أنسوا للصمت، طلباً للسلامة الوهمية، فبدلاً من
أن يموتوا دفعة واحدة فإنهم اختاروا الموت البطيء عبر
تلقي الضربة تلو الضربة، والمصيبة تلو المصيبة، حتى تصاب
أجسادهم بالانهاك التام، وصولاً الى الاعاقة الكاملة..
الكاتب والباحث التربوي محمد بن صالح كشف عن أن هناك
سعوديين مهندسي بترول عاطلون عن العمل (أو يعملون حراس
أمن أو بائعين للخضار! هذا المستقبل الباهر).
لابد أن تكون خطوة الماجستيرية قد استجابت لخطوة طبيب
الاسنان مهنا سعود الذي أقدم في وقت سابق على حرق شهادته
الجامعية كوسيلة للتعبير عن عدم استجابة وزارة الخدمة
المدنية له بتعيينه، ونشر فيديو له أثناء إقدامه على تلك
الخطوة، ما أثار ضجة على مواقع التواصل الاجتماعي. ما
يجدر التنبيه اليه أن الطبيب الذي كان عاطلاً عن العمل
استطاع أن يحصل على وظيفه بعد موقفه الاحتجاجي، وإن نشره
لصورة له من داخل المستوصفات الخاصة بطب الاسنان بحفر
الباطن وحديثه عن الاستعجال لا يغير من حقيقة أنه كان
عاطلاً وحصل على وظيفة بفعل خطوته الاعتراضية.
هناك كثر من حملة الشهادات الجامعية من مختلف المراحل
ومن الإناث والذكور، ولكنهم أسرى لخيار التسليم والاستقالة
والقبول بالأمر بالواقع، بانتظار الفرج الذي لن يأتي الا
على أيدي حملة الشهادات أنفسهم، عن طريق إيصال الصوت،
الصراخ بـ (لا).. فالمطلوب ابتكار وسائل في مقاومة القهر..
لأن الصمت موت هادىء.
|