الدولة المنبوذة
بالعربي الفصيح: يدرك حكّام المملكة السعودية بأنهم
غير مرحّب بهم في كثير من بلدان العالم، ولولا المال الذي
يجري بين أيديهم مثل «الرز» على رواية عبفتاح السيسي،
لضاقت بهم الأرض بما رحبت، ولكان باطنها أولى لهم بظهرها..
منذ اعتلاء سلمان العرش في 23 يناير 2016 والبلاد تسير
كمركب متهالج في أمواج مضطربة في يوم عاصف. لم تهدأ غريزة
الانخراط في الحروب لدى أهل الحكم في مملكة الفتن، فما
إن تقترب محنة من نهايتها حتى توقد فتنة أخرى..وبين صراعات
الأمراء المحتدمة خلف الكواليس على العرش، وتلزيم محمد
بن سلمان، الصبي المدّلل أمور البلاد والعباد، وبين ملك
ترك حبل الحكم على غاربه في يد من بات قرار الحرب والسلم
طوع أمره..وبين هذا وذاك باتت الجماعات المسلّحة التي
تحمل الوهابية راية وعقيدة، تجوب قارات العالم فتقتل،
وتختطف، وتسرق، وتنتحر باسمها حتى باتت الوهابية إيديولوجية
منبوذة في العالم، وقد حمّل الاسلام تبعات هذه العقيدة
القائلة على انتهاك حرمة الآخر مسلماً كان أم غير ذلك..وبين
ذلك كله وأكثر منه جاء مؤتمر غروزني..
لم يكن مستغرباً أن يتم تجاهل الوهابية من المشاركة
في مؤتمر غروزني حول «أهل السنّة» ليس فقط لأن القيادة
الشيشانية متمثلة في رمضان قديروف هي على خصومة عقدية
وسياسية مع الوهابية كرد فعل على جرائم المقاتلين الشيشانيين
المنتمين لها، ولكن أيضاً، وهذا مهم للغاية، أن المشاركين
في المؤتمر من بلدان إسلامية عديدة ولا سيما مصر، ارتأوا
إعادة النصاب لأهله، وتثبيت الأزهر مرجعية حقيقية لأهل
السنّة. ولكن ما هو أكثر أهمية، من وجهة نظر كثير من المسلمين،
أن المؤتمر أعاد تصويب البوصلة، في وقت تعرّض فيه الإسلام
لعملية تشويه ممنهجة نتيجة اختطاف الوهابية له وتحميله
مسؤولية الهجمات الإرهابية التي قام بها عناصر يعتنقون
هذه العقيدة وينفّذون تعاليمها..سطوة الصورة المشوّهة
إعلامياً وسياسياً أذهلت العالم شعوباً وحكومات عن التفكير
في نموذج آخر للإسلام غير الذي يجدونه تفجيراً وتفخيخاً
وانتحاراً وسفكاً للدماء البريئة..
في واقع الأمر، أن مؤتمر غروزني كشف عن الأزمة البنيوية
التي تعاني منها ليس العقيدة الوهابية فحسب بل والدولة
السعودية معها، لافتقارها القدرة على التعايش مع من تختلف
معه. في الأدبيات الوهابية ما يكفي من الأدلة على النبذ
والإقصاء والرفض للآخر. إن توظيف الخصومة مع ايران أو
حزب الله في لبنان أو حتى العراق لتبرير خصوماتها الأيديولوجية
والسياسية فقد مفعوله، وأعطى مؤتمر غروزني دليلاً عملياً
على أن الوهابية تأسست على أن تكون «وحيدة» و»منفردة»
ومآلاً «معزولة».
الدعم الذي وفّرته السعودية وأيديولوجيتها الوهابية
لعشرات الجماعات المسلّحة التي تقاتل في أكثر من قارة
وبلد، وبقدر ما وهبها بعض النفوذ، إلا أنه تحوّل وبالاً
عليها، وفي الوقت نفسه وبالاً على الإسلام والمسلمين في
أقطار العالم قاطبة.
ذهب الخيال الوهابي بعيداً، ومعه أصحاب نظرية المؤامرة
الى حد الزعم بأن ثمة من يتربّص بالعقيدة الصحيحة وبالدولة
السعودية. قلة من توقّف وتأمل في الأسباب وراء استبعاد
مشايخ الوهابية من مؤتمر غروزني. صحيح أن المشاركة الوازنة
لمصر في المؤتمر لها دلالة، ولا يمكن أن تتم بدون موافقة
القيادة المصرية الممثلة في عبد الفتاح السيسي، وقد نذهب
الى حد القول بأن تنسيقاً مصرياً روسياً حول الموضوع من
أجل تعميم نموذج من الإسلام المعتدل المنسجم مع تراث الشيشان
وداغستان وتركمنستان وكازخاستان وغيرها..وليس النموذج
الوهابي الطارىء على هذه المناطق والذي جاء عقب تفكّك
الاتحاد السوفيياتي مستغلاً أوضاع الحرب الباردة وصراع
القطبين الدوليين.
في كل الأحوال، فإن تثبيت الأزهر مرجعية للسنّة في
العالم يطيح بمرجعية الوهابية التي عملت السعودية على
تمريرها وتثبيتها بطريقة خادعة، لا سيما بعد سقوط حسني
مبارك، وبدأ العالم يرقب كيف بدأ مشايخ الوهابية يدلفون
جمعاً وأشتاتاً الى مصر بهدف وضع اليد على الأزهر بطريقة
مخاتلة، عبر تقديم الهبات تارة، وإثارة الغرائزية المذهبية
تارة، وهناك من استجاب لهم لبعض الوقت ولكن ما لبث أن
استعاد الأزهر مكانته المحورية ودوره التوجيهي الريادي..
غياب أي من قيادات «الإخوان المسلمين» لم يكن مقصوداً
لذاته، وليس لخلاف عقدي بين المشاركين أو حتى الراعي معهم،
ولكن السبب سياسي محض. وإن تعمّد وضع الوهابية والإخوان
المسلمين في مصنّف واحد في بكائية «الاستبعاد» ليس سوى
التحرر من عقدة «العزلة» و»الانفراد».
كل تعليقات وردود الفعل من مشايخ الوهابية كان طريفاً،
ويعكس الألم الذي كبّدوه الآخرين حين كانوا يمارسون ليس
فعل الإقصاء فحسب، بل وفعل التكفير والنبذ بالمعنى الديني
للكلمة وما يترتب عليه من استباحة للدماء وهتك للأعراض
عبر السبي وسرقة الممتلكات..جاء اليوم الذي يشعر فيه هؤلاء
ماذا يعني «الاقصاء». مواقف محمد السعيدي ومحمد البراك
وإبراهيم الفارس وعوض القرني ومحسن العواجي ومن لفّ لفهم
كفيلة بأن تكشفهم أمام أنفسهم قبل العالم، فهؤلاء كانوا
يتفنون في تكفير المخالفين وإقصائهم، ولا تبرئة لعشرات
من مشايخ الوهابية بمن فيهم أعضاء في هيئة كبار العلماء
الذين أمطروا مذاهب المسلمين بفتاوى التكفير والتبديع،
ونصّبوا أنفسهم حرّاس فضيلة، وناطقين باسم الإسلام..
ساء مشايخ الوهابية الحضور الكثيف لعلماء الأزهر، وطالب
بعضهم بالاقتصاص من مصر والسيسي لأنه «عضّ اليد التي امتدت
له» بالمساعدة السخيّة منذ 30 يونيو 2013 وحتى اليوم.
هم يريدوا مصر الضعيفة، التابعة، الخانعة، ولذلك ذهب الكاتب
المقرّب من الداخلية محمد آل الشيخ في تغريدة له على تويتر
الى حد المطالبة بتغيير تعامل بلاده مع مصر، بل ذهب بانفعاله
للقول: «وطننا أهم ولتذهب مصر السيسي الى الخراب..كنا
معه لأن الاخونج والسلفيين المتأخونين أعداء له ولنا...أمّا
وقد أدار لنا ظهر المجن في غروزني وقابلنا بالنكران فليواجه
مصيره منفرداً».
بصرف النظر عن خلفيات المؤتمر في الشيشان والتحفظات
على سياسة الاقصاء ومن أي جهة كانت لا سيما حين يتعلق
الأمر بحرية المعتقد، فإن المؤتمر هو نتيجة طبيعية لممارسات
منحرفة أساءت الى الإسلام وأن تصحيحها واصلاح الإعوجاج
بات مسؤولية المسلمين أو الممثلين عن غالبيتهم وهذا ما
فعله الأزهر، وفعله معهم كثير من علماء المسلمين في بلدان
كثيرة من العالم..وأما الوهابية فقد عادت الى حجمها الطبيعي،
ويجب أن تبقى كذلك، عقيدة فئة قليلة ومنبوذة.
|