حملة شعبية غير مسبوقة احتجاجاً على قرارات محمد بن
سلمان
راح نـفـلـسـكـم!
ناصر عنقاوي
بأوامر رسمية ـ على الأرجح من وزارة الداخلية ـ قررت
شركة الإتصالات السعودية، الغاء عرض النت المفتوح مسبق
الدفع، والذي يعني ايقاف عروض استخدام الانترنت الدائمة
كخدمة مقابل مبلغ مالي محدد، بحيث لا يستطيع المواطن الحصول
على النت ضمن هذا العرض الذي تقدمه شركات أخرى، وفي كل
دول العالم أيضاً.
لم يكن الهدف هو الكسب المادي، ذلك ان الشركة تحججت
بأن قرارها هدفه تخفيف الضغط على شبكة الإنترنت؛ وكان
بإمكانها زيادة رسوم استخدام النت التي هي مرتفعة اصلاً،
دون الغاء هذا العرض الذي يتيح استخدام النت بلا حدود
unlimited access.
الواضح ان القرار له جانب أمني بحت.
فالحكومة السعودية لاحظت، كما لاحظ كل مراقب، ان المواطن
السعودي يصرف وقتاً كثيراً على استخدام النت، والتطبيقات
والبرامج المتعددة ومواقع التواصل الاجتماعي، مثل اليوتيوب
والفيس بوك وتويتر، والسناب تشات، حيث اصبح السعوديون
في مقدمة دول العالم في استخدامها.
هذا الإنفتاح غير المسبوق، أحدث ولازال يُحدث تغييرات
جوهرية ثقافية وسياسية، ترى الحكومة السعودية انها ضارة
بها على المستوى الأمني، وتحديداً على مستوى تغيّر وجهة
نظر المواطنين تجاه الحكم السعودي نفسه، فضلاً عن هذا،
فإن الإنفتاح كشف عن رغبة كبيرة لدى المواطنين في المشاركة
في هذه المواقع، ليس فقط في جانب تلقي المعلومة والخبر
والصورة، بل وإبداء الرأي، واستخدام التصوير عبر الهواتف
الذكية، ورفعها على مواقع التواصل.
مثل هذه المشاركات ضارة من وجهة نظر النظام، وهي تتعدى
ابداء النظر كتابة في الفيس بوك وتويتر، الى استخدام الفيديو
والصورة كوسيلة رقابية على النظام، وكطريقة مثلى في تحشيد
الرأي العام ضد قرارات الحكومة ووزرائها. فضلاً عن تلقي
المواطنين جرعات هائلة من المعلومات، ومن مشاهدة الفيديوهات
التي تتعرض للعائلة المالكة بالتنقيص والتسقيط.
لهذا، كان الإنترنت نفسه مشكلة للحكومة السعودية، ولا
تفيد فيه رقابة، ولا جيش الكتروني، ولا تستطيع السلطة
متابعة كل شخص، ولا التحذير الأمني، ولا التحذير الديني
من قبل مشايخ السلطة والمفتي.
ولأن الأوضاع تتدهور في السعودية سياسيا واقتصاديا،
ولأن المواطنين ـ وبالتجربة ـ عبروا عن آراء غير مسبوقة
تجاه قرارات السلطة في ميادين التقشف والإقتصاد، كما في
ميادين السياسة والحريات، وهي آراء حادة أزعجت النظام،
فعجلت بقرار الغاء عروض الإنترنت المفتوح unlimited access،
بغية تخفيض مدّة الحضور والمشاهدة والمشاركة والتفاعل
على مواقع التواصل الاجتماعي عامة.
مثل هذا القرار الأمني السياسي يختلف عن قرارات سابقة
لشركات الإتصالات السعودية، التي أوقفت استخدام تطبيقات
الهاتف ماسنجر والواتس اب وفيبر وتانغو ولاين إن وغيرها،
حتى يضطر المواطن لدفع مكالماته الهاتفية لتلك الشركات،
بدل ان تكون مجانية عبر التطبيقات.
وللعلم فإن الحكومة تمتلك نحو ٨٥ بالمائة
من أسهم شركة الإتصالات السعودية (اس تي سي)، وهي معنية
بتنظيف جيوب المواطنين لتمويل الفساد والحروب وتغطية العجوزات
في الميزانية.
قرار ايقاف النت المفتوح سبب صدمة جديدة، غير الصدمات
المالية السابقة. وحدث أمرٌ غير مسبوق في السعودية، حيث
اجتمعت كل التيارات والفئات والمناطق المختلفة في هاشتاق
حمل عنوان (راح نفلّسكم) تنديداً به ومقاطعة جزئية لشركة
الإتصالات، وبالتالي إيقاع خسائر بها.
الحملة الشعبية كانت راقية جداً، والاستجابة الشعبية
لها قوية، وحتى لو لم تؤدي اغراضها بإعادة عروضات النت
المفتوح، فإن المواطنين اكتشفوا لأول مرة أن لديهم قدرة
على التغيير، عبر حشد قواهم في مواقع التواصل الاجتماعي.
وبالتالي فإن الرسالة تقول: إن من يستطيع مواجهة الحكومة
في شيء صغير.. يمكنه ان يكرر ذلك في الأمور السياسية.
وهنا مربط الفرس.
ولهذا شنت الحكومة حملة مضادة في تويتر، ولاحقت الفيديوهات
التي شاركت في الحملة، مثل هذا الفيديو الذي وصل الى الترند.
بل ان الحكومة استعانت بالمفتي ليفتي ويحذر المواطنين
من الخروج على ولي الأمر!
ولأن شركات الهاتف الأخرى، التي تزود الخدمة، مثل شركة
موبايلي وشركة زين، مطلوب منهما فعل الشيء ذاته، فهذا
قرار حكومة وليس قرار شركة.. وقد قررتا فعلاً بعد يومين
من معاقبة شركة الاتصالات اس تي سي، المضي في طريقها مرغمة.
حملة المقاطعة تم الإستعداد لها شعبياً وبدأت في الأول
من أكتوبر الجاري؛ بحيث يتوقف المواطن عن استخدام هاتفه
المحمول لثلاث ساعات يوميا؛ وتفعيل وضع الطيران في اعدادات
التلفون، بحيث لا يستقبل ولا يرسل شيئاً.
ويقول المواطنون ان المواطن لن يأخذ حقه بحبّ الخشوم
(أي تقبيل الأنوف) وهو عنوان التذلّل؛ على العكس، لن يأخذ
حقه إلا بـ (دقّ الخشوم) أي يرغم اللصوص والمعتدين على
حقوق الشعب بأن يخضعوا مرغمين.
وقالت الحملة أنها تستطيع تأديب شركات الهاتف (اذا
صملنا/ أي صمدنا). لكن مباحث السلطة ترد على المواطنين:
(اللي ما يربيه الزمان، يربّيه شعب سلمان). مع ان شعب
سلمان انقلب على سلمان وابن سلمان!
ورافق الحملة الشعبية عدم متابعة موقع شركة الاتصالات
اس تي سي على تويتر (انفولو)، واحيانا حجبها (بلوك)؛ وقد
انخفض عدد المتابعين لموقع الشركة. ففي بداية الحملة كان
الموقع يخسر ألف متابع في الدقيقة. كما ان وزير الإتصالات
تعرض هو الآخر لحملة عدم المتابعة وتبليك موقعه في هاشتاقات
تفاعل المواطنون معها.
وامتدت حملة المقاطعة الى معاقبة (هاشتاق السعودية)،
وهو موقع يُظهر الهاشتاقات السعودية على تويتر، ولكن الهاشتاق
تمت السيطرة عليه من قبل المباحث منذ زمن، وصار يخدمها،
ولا يغطي الهاشتاقات التي لا تؤيدها الحكومة وهي كثيرة.
ودعت الحملة الى الغاء المتابعة عن المشاهير المتخاذلين
غير المدافعين عن المواطنين، فمن لا يقف مع الشعب في أزمته،
فهو لا يمثل السعودية، ولا يتشرف المواطنون بمتابعة حسابه.
حملة راح نفلّسكم بدأت بإعداد جيد، وبزخم كبير، وأوقعت
خسائر غير قليلة لشركة الإتصالات السعودية.
الشعور الشعبي بالقوة كان طاغياً تحت شعار: (متحدين
نقف. متفرقين نسقط). ووصف الصحفي خالد العلكمي الحملة
الشعبية ضد شركة الإتصالات بـ (الحراك الراقي) ورأى انه
مؤشر لارتفاع وعي المجتمع. ودعا أحدهم الى أخذ الموضوع
الى جماهير كرة القدم، واستثمار المناسبات الرياضية، ورفع
يافطات؛ وهذا أمرٌ لو حدث قابل للتكرار في قضايا اجتماعية
وسياسية أخرى، وهو نذير خطر وشؤم على العائلة المالكة.
حملة المقاطعة مستمرة حتى كتابة هذه السطور، والمدهش
حقاً، والذي يبين حالة الرعب والهلع لدى الحكومة قبل شركات
الاتصالات، هو أن هيئة السوق المالية تدخّلت وعلّقت تداول
أسهم شركات الإتصالات جميعاً، حتى لا تسقط أسهمها.
الصحفي عبدالله الملحم وجد ان من بركات وسم (راح نفلسكم)
أنه جمع الشعب على قلب رجل واحد، ضد الغلاء والجشع والإستغلال
وسوء الخدمات دون تبادل الإتهامات والتخوين. وعلقت أخرى:
(يا زِيْنْكُمْ وانتم مجتمعون على شيءٍ يفيدنا. لو دايم
نتفق، كان انحلّت كل مشاكلنا. بس المشكلة ننشغل بأشياء
تافهة تفرقنا). وثالثة قالت: (المال يجمعنا، سنّة وشيعة
وحتى ملاحدة). ورابع يقول: (اي موضوع فيه فلوس، فكل الشعب
يتحد سنة وشيعة وليبرالية وجامية وصحونجية، بجميع الفئات.
لله درُّنا)! وخامس عبر عن أمله بالتغيير: (رائع جداً
أن نتفق على التمرد والرفض والمعارضة. لأول مرة أشعر بالإطمئنان
على مستقبلنا. اليوم نتمرد هنا، وغداً نتمرّد هناك).
حقاً.. لم يحدث ان اجتمع الشعب على قلب رجل واحد. وال
سعود كانوا دوماً يستغلون الخلافات المذهبية والمناطقية
والقبلية بحيث لا يتفقون على أمرٍ واحد، إلا أن يكون الإتفاق
على دعم الحكومة وسياساتها أو السكوت عن سياساتها او بعضها.
الداعية عبدالله المقحم قال شعراً تحريضياً لخدمة حملة
مقاطعة شركات الاتصالات:
اقطعوا الإرسالَ حتى يُفلسوا
واحذروا أن تخضعوا واحترسوا
كم أهانونا بأنواع الأذى
وإذا صِحْنا يقولونَ: آخرسوا!
وفي سجال بينه وبين الدكتور الشاعر فواز اللعبون، يقول
المقحم:
أنا هنا في بلاد الله مغتربٌ
والإتصالاتُ يمتصّون أموالي
يقدّمون لنا مهزولَ خدمتهمْ
ولا يحلُّون يا فوّاز إشكالي!
يا صاحبي كلما هاتفتهم قفلوا
في الوجه هاتفهم من دون إهمالِ
كم يعبثونَ بنا والله منتقمٌ
للناس من كيدِ غشّاشٍ ومحتالِ
فيرد فواز اللعبون ناصحاً المقحم:
لا تشتَرِ الخطَّ إلا والعصا معهُ
فالاتصالاتُ فينا ذاتُ أهوالِ
أمورهمْ كلّها فوضى وبلطجةٌ
كأنما أنتَ في دُكّانِ فوّالِ
والداعية الاخر عادل الحوالي يمتدح الوقفة الشعبية،
او الهبة الشعبية التي يمكن ان تتكرر في قضايا أخرى، فيقول:
(المقاطعة وعي، وسلوك حضاري، وتضامنٌ مع ذوي الدخل المحدود.
المقاطعة فيها أجر إذا حَسُنَتْ النيّة).
في الجوهر، فإن حملة مقاطعة شركات الإتصالات تحمل احتجاجاً
على الحكومة، وعلى سياسة محمد بن سلمان ورؤيته. فالموضوع
لا يبتعد عن الأزمة الإقتصادية والمالية وضعف القوة الشرائية
للمواطن؛ كما ان الأمر ليس بعيداً عن حقيقة خشية الحكومة
من انفتاح المواطنين على النت بشكل مستمر واستخدامه في
معركة قادمة كلما تصاعدت الضرائب وتدهور وضع المواطن المعيشي.
والحكومة السعودية تشتغل على كل الموجات. واحدة منها:
التبشير بمستقبل واعد جميل زاهي ولكن بعد ١٥
سنة عجفاء؛ ومنها كتم سورة الغضب والألم التي تلمّ بالمواطن
بحيث لا تصل الى البقية؛ ومنها مواجهة اية تحركات شعبية
متوقعة ضد الحكومة وسياساتها المالية والإقتصادية بالوسائل
الأمنية. لكن التضليل الاعلامي وذي الصفة الدينية يبقى
دائماً هو المفضل.
|