الدولة الكارثة
دخل الشعب مرحلة الحصاد المر، وسنوات العجاف حيث يغاث
الناس ولا من مغيث الا رحمة الله..
وانتهى زمن جني الأرباح، وبات الكل يرصد خسائره على
مستويات شخصية وعائلية وربما وطنية..ليس في الأفق بشارة
من أي نوع، وجيوب المواطنين وحدها رافد تعويض خسائر «رؤية
بن سلمان».
للوهلة الأولى، كان يعتقد المواطنون بأن «مجموعة ماكينزي»
سوف تكون المنقذ من الضياع، وهي من سيكتب على صفحات دراستها
في «التحول الوطني» النهاية السعيدة، والخروج من النفق
المعتم حاملين راية نصر اقتصادي مؤزر، وإذا بالجميع يجدون
أنفسهم أمام مأزق ومنزلق سحيق، فقبل أن يلتئم جرح ضريبة
الكهرباء حتى يفتح جرح ضريبة الاتصالات، وقبل أن يعلن
عن تخفيض البدلات حتى يصدم قرار الاعفاءات الوظيفية الجماعية
والمتوالية، وعليه خروج مئات شركات البناء والتشييد من
السوق ومعها صكوك الإفلاس، ودين تراكمي تجاوز 300 مليار
ريال، وفي النتائج: إصابة أهم قطاع بعد القطاع النفطي
وهو قطاع التشييد والبناء بالشلل بنسبة تربو عن 80 بالمئة..
المشكلة تأخذ مساراً خطيراً، حين لا يكفّ القائمون
على الدولة عن استحلاب المواطنين دون التفكير في حلول
جذرية لمشكلات من صنع الدولة نفسها، أو بالأحرى من صنع
من اختطفوها، واعتقدوا بأن مجرد قرارات حالمة يمكن أن
تغيّر المعادلات..
نحن في أزمة حقيقية، وانقشع سحر «رؤية السعودية 2030»،
فالآلام التي أصابت المواطنين في مرحلة مبكرة أنستهم هلوسات
«المعجزة المؤجلة». هم يبحثون عن علاج عاجل لمشكلات غير
قابلة للترحيل، وليهنأ بن سلمان وفريقه بأحلام اليقظة.
بالنسبة للغالبية المتضررة من قرارات التقشّف القاسية،
يتحوّل أي كلام عن المستقبل مجرد موت بطيء، فاللحظة غمرت
حياة المواطنين وألغت الفواصل الزمنية فلا ماضي ولا مستقبل،
إنها قسوة الحاضر، وبشاعة اللحظة التي يكتوي بها المواطن..مشهد
الإنهيار يطغى، المفردات التي تنهمر أمام عين الناس وتقرع
آذانهم هي الرسوم، والغرامات، والأقساط، وتخفيض الرواتب،
والغاء البدلات.. ذهول اللحظة يغلق أبواب الزمن وبإحكام،
وإن أسوأ ما في هذه الإنزلاقات الاقتصادية الحادّة هي
استتار الآتي، وسيادة الارتياب من كل شيء، والأخطر بينها
هو الارتياب من القادم. في علم النفس يصبح انسداد أفق
المستقبل والاحساس بالهوان وانعدام القيمة لكل ما هو أبعد
من اللحظة يعد من الأعراض الحادة للإكتئاب والتي تقود
مع سوء الحالة الى الإقدام على الانتحار، حيث تصبح الحياة
برمتها بلا معنى ولا فائدة، ولذلك لا غرابة في ارتفاع
حالات الانتحار بسبب المشكلات الاقتصادية، وقد شهدت المملكة
السعودية ارتفاعاً في معدلات الانتحار في سنوات سابقة
حين تتعرض الأوضاع المعيشية للمواطنين الى انتكاسة مفاجئة.
ولكن ما يظهر حالياً أننا أمام أوضاع بالغة التعقيد وسوف
تترك، دون شك، آثاراً نفسية خطيرة، بسبب عدم تقديم حلول
على المديين القريب والمتوسّط لمشكلات ملايين من المواطنين،
ولأن الأزمة الاقتصادية ليست ذات بعد واحد، وليست قابلة
للتطويق..
مطالعة بانورامية على الصحف المحلية، ولا سيما الأقسام
الاقتصادية فيها، تكفي للإخبار عن الأوضاع المتردّية في
المملكة. فقد تحوّلت الصحف الى ما يشبه جهاز رصد الكوارث،
أو الزلازل الاقتصادية التي تضرب البلاد يومياً، فبين
إعلان الافلاسات المتوالية لشركات كبرى، وبين توقف الخدمات
في مؤسسة حكومية، وبين ارتفاع الرسوم في شركة خدمية، وبين
الاعلان عن اغلاق مستشفى هناك أو الخدمات فيه، أو تسريح
شركة لآلاف العمال بسبب توقف الحكومة عن تلزيم مشاريع
جديدة أو دفع تعويضات عن مشاريع جرى انجازها كلياً أو
جزئياً..
ما يزيد الأمر تعقيداً هو تواري المسؤولين من الملك
الى من دونه من أمراء ووزراء ومسؤولين، وعلى رأسهم محمد
بن سلمان، ولي ولي العهد ورئيس لجنة الشؤون الاقتصادية
والتنمية. ليس منهم من لديه الشجاعة لأن يخاطب الناس مباشرة،
وأن يشرح لهم بالأرقام حقيقة ما يجري، وما هي الخيارات
المتاحة، وما هي الحلول المعتمدة..
حتى الان، ما يصل المواطن من الحكومة هي أوامر تخاطب
جيبه، تستنزفه، تسرق ما فيه. يتصرف الأمراء وكأن لا شيء
قد أصاب البلاد، أو بالأحرى لأن المواطن لا يعنيهم، فهم
يريدونه مجرد خادم في بلاطهم، ولسان يلهج بذكرهم، ويد
تبطش بمخالفيهم، وعقل يفكر في تدجين من يميل الى غير هواهم..ولكن
حتى هذا الخادم يصبح مجرد قطعة لحم زائدة يتخلصوا منها
حين تكون عبئاً عليهم..
اليوم نحن أمام «كارثة إقتصادية» هكذا بكل صراحة ووضوح،
وهذا توصيف الخبراء الاقتصاديين في الداخل، ولابد من التفكير
في حلول. لابد من تعطيل ثورة الغرائز التي جفّفت منابع
الثروة والقدرة لهذا الشعب. إن جنوح أولئك المهووسين بخطابات
الهلاك على طريقة «جمال خاشقجي» و»خالد الدخيل» وأضرابهما
بهدف تحقيق غايات نتنة على حساب ملايين من المواطنين الذين
يدفعون أثمان أشكال من الطيش والعبث الماجن لا لشيء سوى
لأن معتوهاً في دولة ما أو في مكان ما في العالم حرّك
جينات الشر في دواخل هؤلاء المسكونين بالبطولات الفارغة..
لقد حان الآوان كي يعي المواطنون بأن مصيرهم ملك يمينهم
ويجب أن يكون بأيديهم وألا يسمحوا للعابثين والمسكونين
في ذواتهم أن يصادروا قرارهم أو يلعبوا بمصائر شعب وربما
شعوب كثيرة..وليلعموا أن الخروج من الكارثة يتوقف على
إرادة الشعب أولاً.
|