سقط الرهان بهزيمة هيلاري!
السعودية في عهد ترامب
خالد شبكشي
في اللحظة التي أعلن فيها فوز المرشّح الجمهوري دونالد
ترامب بسباق الرئاسة الأميركية على منافسته الديمقراطية
هيلادي كلينتون في فجر التاسع من نوفمبر الجاري، بات العالم
أمام مشهد سياسي جديد يفرض نفسه على الراهن والمستقبل.
آمال وهواجس، تفاؤل وإحباط، نصر وهزيمة.
كلٌّ اختار موقفه وموقعه.
حقّق اليمين الشعبوي (populis t) منجزاً جديداً صادماً
بفوز ساحق لدونالد ترامب، مستكملاً منجزات شعبوية مماثلة
في أوروبا، وعلى وجه الخصوص في النمسا وألمانيا والمجر
وفي طريقه لاجتياح فرنسا وبريطانيا.
خيبة، وصدمة، وهلع انتابت الخاسرين، وتسرّبت من معسكر
هيلاري كلينتون الى المراهنين عليها في أرجاء العالم،
ولاسيما في منطقة الخليج.
كان الرهان كبيراً، وكبيراً جداً، لجهة التعويض عن
كل الإحباطات التي أصابت السعودية وحلفاءها، بدءً من الملف
النووي الإيراني، ومروراً بالحرب على سورية، ووصولاً الى
التحالف الاستراتيجي بين أمريكا والسعودية. وزد على ذلك،
رهان لطالما انتظر الملك سلمان لحظته المناسبة كيما يترجمه
في «أمر ملكي»، استناداً على تفاهم مع كلينتون، الفائزة
زعماً، أي بتتويج إبنه محمد ملكاً قادماً.
في كل الصولات والجولات الماضية، كان لسان حال وزير
الخارجية عادل الجبير «موعدناً ما بعد الانتخابات»، تأسيساً
على نتيجة مزعومة محسومة بأن كلينتون هي القادمة الى البيت
الأبيض. كل الحسابات السياسية السعودية كانت مرهونة لنتائج
الإنتخابات الرئاسة الاميركية، وبالتعويل على فوز كلينتون
على وجه التحديد، كيما تقرع طبول الحرب على سوريا وإيران،
وإزالة الانسداد في الحرب على اليمن.
سقط الرهان، وبات على الرياض قراءة تصريحات ترامب منذ
الأيام الأولى لحملته الانتخابية، وماذا كان يقول عنهم.
سخر كثيراً من معادلة النفط مقابل الحماية بتفصيح جوهرها،
فقد طالب في 18 أغسطس 2015 بتدفيع السعودية ثمن الحماية
الأميركية، وقال بأن السعودية «دولة ثرية» وعليها أن «تدفع
المال» لأمريكا لقاء ما تحصل عليه منها سياسياً وأمنياً.
وأضاف قائلاً، في مقابلة مع قناة إن بي سي: «سواء أحببنا
ذلك أم لم نحببه، لدينا أشخاص دعموا السعودية.. أنا لا
أمانع بذلك، ولكنّنا تكبدنا الكثير من المصاريف دون أن
نحصل على شيء بالمقابل. عليهم أن يدفعوا لنا.”
وقلّل ترامب من أهمية النفط السعودي للإقتصاد الأميركي،
وقال بأن «السبب الرئيسي لدعمنا للسعودية هو حاجتنا للنفط،
ولكننا الآن لا نحتاج كثيراً إلى نفطهم، وبحال تغيّر الحكم
بأمريكا، فقد لا نحتاج نفطهم على الإطلاق، ويمكننا ترك
الآخرين يتصارعون حوله.”
هو لم يطالب بالتخلي عن العلاقة مع السعودية، ولكنه
يدعو لوضع شروط جديدة في العلاقة، وبالتالي تغيير الأسس
التي قام عليها التحالف الاستراتيجي بين واشنطن والرياض،
وربط مصير حُكم آل سعود بالدعم الأميركي. وقال ترامب بأن
السعودية «قد تجد نفسها قريباً هدفاً أساسياً لتنظيم داعش،
إلى جانب الأوضاع التي تواجهها في اليمن»، مضيفاً: «السعودية
ستكون في ورطة كبيرة قريباً، وستحتاج لمساعدتنا.. لولانا
لما وجدت، وما كان لها أن تبقى.”
الفقرة الأخيرة من تصريحه كانت استفزازية لكثير من
مناصري النظام السعودي، الذين لم ينفوا هذه الحقيقة، ولكن
لم يتقبلوها لطريقة التعبير عنها، فلم يخضعوها للفحص،
ولكن نعتوها بـ»الوقحة»، فيما راح يعدّد آخرون «فضائح»
ترامب، ومغامراته النسائية.
على أية حال، إن «الحقيقة الوقحة» التي كشف عنها ترامب
زاد عليها في تصريحات أخرى في 2 سبتمبر 2015 بوصفه السعودية
بـ»البقرة الحلوب» التي تدر ذهباً ودولارات بحسب الطلب
الأميركي، مطالباً النظام السعودي بدفع ثلاثة أرباع ثروته
مقابل الحماية التي تقدمها القوات الامريكية لآل سعود
داخلياً وخارجياً. وربط ترامب أهمية آل سعود بالنفط الذي
بحوزتهم، وقال بأنه «متى ما جفّ ضرع هذه البقرة، ولم يعد
يعطي الدولارات والذهب، عند ذلك نأمر بذبحها، أو نطلب
من غيرنا بذبحها، أو نساعد مجموعة أخرى على ذبحها، وهذه
حقيقة يعرفها أصدقاء أمريكا وأعدائها، وعلى رأسهم آل سعود».
الأشد في تصريح ترامب خطابه للنظام السعودي: «لا تعتقدوا
أن مجموعات الوهابية التي خلقتموها في بلدان العالم، وطلبتم
منها نشر الظلام، والوحشية، وذبح الإنسان، وتدمير الحياة،
ستقف إلى جانبكم وتحميكم، فهذه المجموعات لا مكان لها
في كل مكان من الأرض إلا في حضنكم، وتحت ظلّ حكمكم. لهذا
سيأتون إليكم من كل مكان، وسينقلبون عليكم، ويومها يقومون
بأكلكم».
في حقيقة الأمر، إن منسوب المكاشفة المرتفع في تصريحات
ترامب حول العلاقة مع السعودية، والأسس التي تستند اليها،
بقدر ما كان صادماً، فإنه يعكس الأجواء السائدة في الدوائر
السياسية الأميركية. لم يعترض عليه أحد، ولم يناقشه أحد
في الداخل والخارج، فكل ما قاله هو ما يجري تداوله في
الغرف المغلقة. إنها سردية أميركية مكتومة حان وقت تظهيرها،
وهي تعكس بأمانة عالية اللحظة التاريخية التي تعيشها الولايات
المتحدة بشروطها وتحوّلاتها.
لم تكن زلّة لسان تلك التصريحات اللاهبة التي أطلقها
ترامب ضد النظام السعودي، فقد عاد وأكّدها بعد عام من
صدورها، وقبل شهر ونصف من بدء الانتخابات الرئاسية. في
27 سبتمبر الماضي عاد ترامب الى إثارة مطلب «الخوّة» من
السعودية لقاء الحماية الأميركية، وقال «ندافع عن اليابان،
وندافع عن ألمانيا، وندافع عن كوريا الجنوبية، وندافع
عن السعودية، ندافع عن عدد من الدول. ولا يدفعون لنا ـ
مقابل ذلك ـ شيئاً، ولكن ينبغي عليهم أن يدفعوا لنا، لأننا
نوفر لهم خدمة هائلة ونخسر ثروات».
ينطلق ترامب في تصريحه من إدراكه للأزمة الاقتصادية
التي تعاني منها الولايات المتحدة، وأن جزءً من هذه الأزمة
عائد الى ما توفّره من حماية لعدد من الدول من بينها السعودية.
ولذلك، يطالب ترامب من هذه الدول بمساعدة امريكا لمعالجة
الدين العام الذي بلغ 20 تريليون دولار. وكرّر حديثه عن
السعودية بأن عليها أن تدفع لقاء ما تقدّمه الولايات المتحدة
من حماية، وتعامل معها من منطلق تجاري محض، وقال: «عليك
أن تكون قادراً على التفاوض، مع اليابان ومع السعودية.
هل تتخيلون أننا ندافع عن السعودية؟ بكل الأموال التي
لديها، نحن ندافع عنها، وهم لا يدفعون لنا شيئاً؟”.
حين يوضع هذا التصريح جنباً الى جنب مع قانون جاستا،
وما ينطوي عليه من تهديد بامتصاص الثروات المالية في المملكة
السعودية، سواء كان استثمارات في الأسواق المالية الاميركية
أو في الخزانة الأمريكية، أو من خلال بيع النفط، فإننا
أمام رئيس أميركي سوف يشكّل كابوساً لآل سعود.
في التقييم العام، لا يحمل فوز ترامب أية بشارة للسعودية،
سوى أنه وعد بمحاربة داعش، وألمح الى اصطفاف ما معها في
الملف اليمني، في مقابل ما يعتبره التهديد الايراني، والذي
يشمل أيضاً الملف النووي الايراني الذي عارض بعض بنوده.
في المقابل، يقدّم ترامب مقاربة في العلاقات السعودية
الاميركية تعد استفزازية، وتختزلها الى مجرد «صفقة تجارية»،
وليس كما كان التوصيف التقليدي السائد على مدى عقود، أي
«تحالف استراتيجي». وهذا يرفع من منسوب القلق لدى النظام
السعودي الذي كان ينتظر «منقذاً» للعلاقة المتصدّعة بين
واشنطن والرياض.
وكما يبدو، فإن هذه العلاقة دخلت طوراً جديداً من التدهور،
وأن شقّة الخلاف بين الدولتين تتسع بمرور الوقت. قد يكون
أصدق مؤشر على رد الفعل السلبي على فوز ترامب، هو سوق
الأسهم الذي شهد في التاسع من نوفمبر تراجعاً ملحوظاً
في أكثر من دولة خليجية.
لدى حكّام السعودية من مبررات القلق ما يكفي، ليس لأن
ترامب لم يكن في أي لحظة خياراً مفضّلاً بالنسبة اليهم،
وقد عبّر عن ذلك بكل صراحة الوليد بن طلال في تغريدة له
هاجم فيها ترامب وطالبه بالانسحاب من السباق الرئاسي لأنه
لن يفوز. أمّا وقد فاز، فقد أسقط كل خيارات السعودية،
وبات عليها التعامل مع رئيس يمثل مزاج الشارع، واهتمامات
الناخب في الولايات المتحدة.
بطبيعة الحال، من المبكّر جداً الحكم على السياسة الترامبية
في الملفات الخارجية، في ظل مؤشرات على التخفيف من وطأة
الحضور الأميركي الكثيف في المناطق الساخنة، ولا سيما
الشرق الأوسط.
فوز ترامب زاد من مخاوف السعودية وخفّض من سقف توقعاتها،
وعليه فهي اليوم محكومة بالخوف وليس بالطموح. ولكن ما
يضفي المزيد من التعقيد على الموقف السعودي هو:
* غياب استراتيجية واضحة لدى السعودية. فهي دولة لا
تعلم ما تريد، وقد أضاعت بوصلة توجّهاتها السياسية، وتعيش
على اللحظة التي أفقدتها القدرة على رؤية المستقبل. بكلمات
أخرى، أن إدارة الدولة ليست قائمة على تصوّرات عميقة وواضحة
حول ملفات الراهن والمستقبل. ودليل ذلك، أنها لا تملك
حلولاً لمشكلات داخلية اقتصادية وسياسية واجتماعية؛ ولا
حلولاً لمشكلات خارجية وعلى رأسها اليمن، التي يمضى عليها
أكثر من عام ونصف دون تحقيق أي من الأهداف المعلنة، سوى
المزيد من الدماء والدمار. وينسحب ذلك على علاقاتها الاقليمية
والدولية، التي تفتقر الى الجدوائية، وانما قائمة على
مصالح قصيرة المدى.
* غياب الخبرة لدى الطاقم المسؤول عن الملفات السياسية
والاقتصادية والعسكرية. ففي السياسة الخارجية هناك ما
يشبه الطفولة السياسية، كما يظهر في سلوك المسؤولين عن
ملفات اليمن والعراق وسوريا... لم يكن أداء ثامر السبهان
في العراق، وعلي العسيري في لبنان، وأحمد القطان في مصر،
سوى تمثّلات لوزير الخارجية عادل الجبير، الذي أظهر هزال
المؤسسة وعوارها.
في ظل تبدّل الخيارات الاستراتيجية الاميركية، وتخصيص
جزء جوهري من الاهتمام في منطقة أوراسيا، لمواجهة المارد
الصيني ومن بعده الهندي، فإن السعودية ومنطقة الخليج عموماً
ستحظى بأهمية أقل، أي لن تكون بالقدر الذي كانت عليه،
وهذه الأهمية تعود الى كون المنطقة معبراً إلزامياً الى
أوراسيا والواصلة بين القارات.
بالنسبة للولايات المتحدة، فإن استقرار منطقة الشرق
الأوسط غير ذات أهمية سوى ما يسهّل مهمة واشنطن في أوراسيا.
هي تريد استقراراً نسبياً في المنطقة بأن يكون مرحلة وسطية
بين الفوضى والاستقرار، لأن الفوضى مكلفة هي الأخرى، وإن
اضعاف الدول الإقليمية يبقي حاجتها للدعم الأميركي.
لابد من الإشارة الى أن السعودية لم تعد حاجة أميركية
مقلقة، ولكن لا تزال حاجة. أكثر من ذلك، فإن السعودية
خسرت كثيراً من قوتها، ونفوذها، وإن المشاغبة التي تقوم
بها بين فترة وأخرى ليس سوى «لفت انتباه»، وفي أحسن الأحوال
«تسجيل حضور» بكونها لاتزال قادرة على الفعل الفارق.
في التطبيق، السعودية لم تعد اليوم لاعباً أساسيّاً
في الميدان السوري، بالمقارنة مع تركيا التي بدأت تطرح
مشروعاً إمبراطورياً، لاريب أنه يتناقض مع المشروع السعودي،
بل يبعث مخاوفه، كما يحرجه في الإطار العربي، لكون هذا
المشروع ينطوي على تعدي على أراضي دولتين عضوين في الجامعة
العربية وهما سوريا والعراق.
في مواجهة الضعف الشديد الذي تعاني منه، والانهيارات
المتلاحقة في علاقاتها العربية والاسلامية، من المرجح
للغاية ذهاب السعودية في العلاقة مع «اسرائيل» الى ما
لا نهاية، بعد أن خسرت حلفاء لها في المنطقة وباتت محاطة
بدول مصنّفة بالمعادية.
السعودية تبحث عن تحالف استراتيجي لم يتوفر حتى الآن
شروط نجاحه، الأمر الذي يدفع بها للجنوح نحو الاسرائيلي
وبناء تحالف استراتيجي يخدمها في المنطقة، كما يخدمها
في الولايات المتحدة والغرب، لتبني مواقف مشتركة، تهدف
الى تحصين كيانيهما إزاء التحديات الاقليمية والدولية.
|