الدولة الطاردة
قبل الدخول في صلب الموضوع، لا بد من مدخل توضيحي حتى
لا يساء فهم المقصودة بـ (الطاردة)، لأن هناك دولاً في
العالم تعد جاذبة اقتصادياً ولكنها طاردة إجتماعياً وسياسياً
وثقافياً، وهذا ينطبق على السعودية الى حد كبير، فالهجرة
إليها والتي تصل نحو 40 بالمائة من إجمالي القاطنين هي
لأسباب اقتصادية صرفة. ولكن لو سئل هؤلاء المهاجرون عمّا
إذا كانوا ينوون البقاء في المملكة السعودية الى الأبد،
فسوف يكون الجواب بكلا قاطعة.
على الضد مثلاً من 6.7 مليون مهاجر الى فرنسا، أو 9.1
ملايين مهاجر في ألمانيا أو حتى 42 مليون مهاجر في الولايات
المتحدة، فإن هؤلاء قد حسموا خياراتهم، وأنهم لا يفكرون
في وطن بديل، رغم الحنين الذي قد يعتري بعضهم إزاء أوطانهم
الأصلية، ولكن لا على سبيل التفكير في العودة النهائية.
بالتأكيد ليس كلامناً عن هذا النوع من الطرد، فنحن
نتحدث عن شكل آخر، وهو ما تمارسه الدول على المستوى السياسي.
فهناك دول قادرة بإمكانيات قليلة أن تصنع صداقات كثيرة،
وهناك دول لديها إمكانيات هائلة، ولكنها في الحصاد لا
تحصل سوى على عدد قليل من الأصدقاء.
تخيّلوا معي المملكة السعودية بدون نفط، وبدون الحرمين
الشريفين، أي بمعنى آخر بدون قوة مالية وقوة روحية، كيف
ستكون النظرة إليها. ومن سيقيم لها وزناً، أم يسبغ عليها
أهمية من أي نوع، أم يكون لها ذكر في المحافل الدولية؟.
ربما يتذكر البعض مزحة الملك عبد الله سنة 2010 رغم سماجتها
حين روى لمن حضر مجلسه ما قاله في مجلس الوزراء ذات يوم:
(قولوا الله يطول في عمره). فتعجّبوا وقالوا الله يطول
عمره ولكن من هو؟ فكرّر قولوا: الله يطول في عمره، فردّدوا
وراءه، ثم قال: (البترول). فضحك الحاضرون، وضحك الملك،
وضحك العباد في كوكب زحل.
على أية حال، فإن المملكة هذه برغم ما حظيت به من إمكانيات
هائلة مادية وروحية، إلا أنها حرمت من قلوب الأفراد والجماعات
والدول. وإذا ما عبّر أي منهم عن حبه لها، فاعلموا بأن
ذلك حباً لمال النفط أو حباً للديار المقدّسة، مكة والمدينة.
في السياسة، دعكم مما ترونه وتسمعونه في العلن، فالحقائق
تختفي تحت الشمس في عالم السياسة. حتى قيل بأن كلما ارتفع
منسوب الإطراء الفاضح، زاد منسوب الكراهية في الواقع.
هل تساءل أحد عن سر زيادة مستوى النفاق السياسي في
المملكة السعودية؟. لماذا يتكاثر المطبّلون لهذا الأمير
أو ذاك، برغم من غياب السبب الوجيه لفعل التطبيل، سوى
طلب المال؟.
هل تساءل آل سعود: لماذا يكرهونهم؟ تماماً كما السؤال
المطروح عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر. الصخب الدعائي
الممجوج لا يزوّدنا بالحقيقة، ولا ربعها، بل قد يكون نقيضها،
فهذه من لوازم النفاق السياسي السائد، تماماً كما هي عادة
التكاذب السائدة بين قادة الدول، وعلى وجه الخصوص قادة
دول مجلس التعاون الخليجي..
الغرور، الكيدية، الفحش السياسي، الفساد الأخلاقي،
الخواء، الجهل، الاستهتار، التكبّر.. كلها صفات الشخصية
الطاردة، التي لا يمكن أن تسري الا على من باع كرامته،
فرداً كان أم جماعة أم دولة.
نظرة عامة على خارطة حلفاء وأصدقاء المملكة السعودية
تكشف عن كونها دولة طاردة، ولا يبقى معها الا من لا يزال
يتلقى مساعدات مطّعمة بالذل.
ربما يتذكر البعض تصريحات ملك الأردن السابق، حسين
بن طلال، حين قرر الانقلاب على دول الخليج إبان أزمة الخليج
الثانية والانحياز الى جانب صدام حسين. كان الملك حسين
يتحدث عن تجربة الذل التي عاشها حين كان يتسوّل المساعدات
من دول الخليج، فكانوا «يمرمطوه» قبل أن يحصل على الدعم
المالي من هذه الدولة وتلك، وهو السبب الرئيس وراء قراره
الوقوف الى جانب صدام حسين في عدوانه على الكويت، بالرغم
من علاقته الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. بل إن انضمام
الاردن الى مجلس التعاون العربي الذي أعلن عن تأسيسه في
فبراير 1989 في بغداد، وضمّ كلا من العراق واليمن الشمالي
ومصر والاردن، يشير الى خصومة مشتركة أو كراهية مشتركة
لدول الخليج عموماً، والسعودية على وجه الخصوص.
أليس عدد أصدقاء المملكة السعودية في تناقص اليوم؟،
وبعد أن كان الدبلوماسيون السعوديون لا يفترون في جولاتهم
شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، يقيمون علاقة جديدة مع
هذه الدولة، ويعززّون العلاقة مع تلك الدولة.. أين هو
الفريق الدبلوماسي اليوم؟، بل أين هو عادل الجبير؟ كان
الرهان على تحالف عربي عشري في حرب اليمن، فتقلّص فجأة
وصار محصوراً في دولتين: السعودية والامارات. ثم أعيد
طرح رهان آخر ولكن ثلاثيني هذه المرة، وتبيّن بعد عام
من تأسيسه أنها فكرة ميتة منذ ولادتها.
اليوم يتحدّث الاعلام السعودي عن «اتحاد دفاعي وعسكري
خليجي»!! وتساءلت ضاحكاً: ماذا كان يعمل مجلس التعاون
الخليجي على مدى ستة وثلاثين عاماً؟ من يتابع الاحتفالية
المفتعلة في استقبال سلمان في عواصم الخليج، لابد أن ينبعث
السؤال الحتمي في ذهنه: ألا يوحي الاستقبال الاستعراضي
عن خلل ما في العلاقة بين المملكة وشقيقاتها الصغيرات؟
هل الحفاوة المبالغة ظاهرة صحيّة حقاً بين دول يفترض أنها
تجاوزت البروتوكولات، وتقاليد الضيافة الرسمية. أليس في
طريقة الاستقبال ما يوحي بأن الضيف جاء فاتحاً وليس زائراً؟
في مجالس شيوخ الخليج، باستثناء عمان التي حسمت بشجاعة
موقفها ورفضت المشاركة في حفلة النفاق السياسي، هناك حديث
مشترك في أبو ظبي والدوحة والمنامة والكويت حول رفض الوحدة،
ولكن لا يجرؤ أحد على البوح به.
البحرين التي عادة ما يرد إسمها بكونها الدولة الأكثر
استعداداً لاتحاد مع السعودية، يشار الى رئيس الوزراء
خليفة بن سلمان بأنه أبرز مناصر لمشروع الاتحاد، قد يكون
نكاية لابن أخيه وانقاذاً لوضعه السياسي المستقبلي.
دون ذلك، ليس هناك من يريد الوحدة، حتى محمد بن زايد
المتصالح ظرفياً مع السعودية نكاية بابن نايف، ورغبة في
السيطرة على بعض الكعكعة السعودية عقب رحيل سلمان وتولي
ابنه محمد الحكم، يكتم جحوده بالاتحاد ريثما يعود سلمان
من حيث أتى.
خلاصة: المملكة السعودية
عجزت عن المحافظة على الاصدقاء والحلفاء برغم ثرواتها
الطائلة، والسبب ببساطة أنها قوة طاردة وليست جاذبة، وحتى
الذين يبقون معها هم مرغمون؛ واذا ما حصلوا على بدائل،
فلن يترددوا في المغادرة والدخول في صداقات جديدة.
|