حملة اعتقالات في صفوف الاصلاحيين
نكسة في مسيرة الاصلاح أم تفجّر صراع الاجنحة
في صبيحة السادس عشر من مارس توجّهت مجموعات من جهاز
المباحث التابعة لوزارة الداخلية الى مقار سكن أو عمل
عدد من رموز وأفراد التيار الاصلاحي وقامت باعتقالهم في
خطوة يمكن وصفّها أكبر إستعراض للقوة من جانب الدولة منذ
بدء النشاط الاصلاحي في يناير من العام الماضي. إن إقدام
وزارة الداخلية على عملية إستفزازية بهذا الحجم واعتماد
أساليب تتسم بالمهانة والاذلال في اعتقال دعاة الاصلاح
قد يفسّر على أنه محاولة لاعادة الاعتبار لجهاز الأمن
وللدولة بصورة عامة منذ تهدّم صورتهما في الخارج ومصداقيتهما
على المستويين المحلي والعالمي. نشير هنا الى ما أسلفنا
ذكره في العدد الماضي حيّن لوّح الأمير نايف باستعمال
سلاح الاعتقال ضد مجموعة من الاصلاحيين الذين طلب الاجتماع
بهم عقب تقديم عريضة (الاصلاح الدستوري أولاً) حيث واجه
الامير نايف رد فعل حازم من جانب المجموعة، ولعل من أبرزها
ما قاله الدكتور متروك الفالح، وهو بين من شملتهم حملة
الاعتقالات الاخيرة، حيث أحبط مفعول التهديد الذي أطلقه
الأمير نايف ومفاده بأن المجموعة ستواجه الاعتقال ما لم
تكف عن تقديم العرائض، فقال له الدكتور الفالح بأننا لم
نأت اليك لنسجن ولكن إن لم يكن لديك سوى هذا الخيار فنحن
على استعداد لتحمل تبعاته. إن مثل هذا الرد لم يكن معهوداً
في بلد يحكم فيه أمراؤه بلغة الاملاء والتهديد، ولذلك
كان وقع الكلام على الأمير نايف ثقيلاً كيف وهو بحسب دوره
يمثل رمز القوة وذراع البطش والقهر في الدولة.
لم تثن المجموعة الاصلاحية تهديدات الأمير نايف، فقد
واصل رموز الاصلاح في البلاد نشاطهم وابلاغ رسالتهم الى
الوالي، فعقدوا الاجتماعات في المدن الكبرى من المملكة
بما في ذلك العاصمة الرياض وفي أماكن علنية وعامة مثل
الفنادق والصالات العمومية لمناقشة الخيارات المطروحة
أمام التيار الاصلاحي الوطني لمواجهة انسداد أفق التواصل
والعلاقة مع الدولة من أجل بدء المسيرة الاصلاحية. وفيما
كانت للدولة أجندتها في التطوير السياسي والاداري سعياً
الى تشويه العملية الاصلاحية من خلال إنشاء لجان تكون
تحت وصايتها وتوجيهها لتفويت الفرصة أمام ظهور جمعيات
وطنية حقيقية تحظى وعلى نحو سريع بالتأييد الشعبي الداخلي
والاعتراف الدولي وبخاصة من قبل منظمات حقوق الانسان الدولية
ومؤسسات المجتمع المدني في أرجاء العالم. في المقابل كان
للتيار الاصلاحي أجندته المستقلة وفي ذات الوقت المقابلة،
والتي تعبّر عن الاغلبية الشعبية في البلاد، حيث تقدّم
دعاة الاصلاح بطلب تشكيل جمعيات أهلية حقوقية وثقافية
دفعاً منه لعجلة الاصلاح وتشييداً لبنى المجتمع المدني.
وهنا يكمن ملتقى التشابك والتصادم بين العائلة المالكة
والتيار الشعبي الاصلاحي، فقد تمسّكت الأولى بعقيدة سابقة
تقوم على وهم القدرة على تقرير مسيرة التحوّل ودرجة سرعته
والمقادير المحددة له سلفاً، وأن ما جرى عام 1992 من تقويض
للتحرّك الشعبي الاصلاحي بطريقة الاعلان عن الانظمة الثلاثة
وإنشاء مجالس مفرغة المحتوى قابل للتكرار هذه المرة أيضاً،
والتي يؤمل منها استيعاب أو تشويه الأهداف والتطلعات الشعبية
الاصلاحية.
والسؤال هنا: لماذا أقدمت الحكومة على قرار إعتقال
رموز التيار الاصلاحي بهذه الطريقة الفجائية والمهينة
وفي هذا الوقت بالتحديد؟
ثمة سيناريوهات متعددة يمكن إيرادها للاجابة عن السؤال،
وقد تسهم مجتمعة في تشكيل صورة الوضع العام في البلاد.
السيناريو الأول: هناك قناعة شبه مؤكدة لدى بعض أمراء
العائلة المالكة بأن خيار كسر التيار الاصلاحي والاصطدام
به هو الخيار الأصوب في التعامل مع الظواهر السياسية الداخلية.
وقد نلحظ في تصريحات العصبة السديرية ما يعزز من قوة هذا
السيناريو، وبخاصة ما ورد منها في لقاءات الأمير نايف
مع دعاة الاصلاح الى جانب عبارات التهديد المبطّنة التي
أطلقها وزير الداخلية خلال مؤتمرات صحافية عقدها والتي
شدّد فيها على أن مواجهة الجماعات السياسية لا يتطلب أكثر
من ساعة حزم من أجل إنهائها، وهي إشارة واضحة الى خيار
إعتقال الاصلاحيين.
هذا السيناريو يستدعي ما جرى على مؤسسي (لجنة الحقوق
الشرعية) عام 1992، ورموز التيار السلفي الناشط سياسياً،
حيث قررت العائلة المالكة اللجوء الى خيار القوة والبطش،
وأقدمت على إعتقال مؤسسي اللجنة ورموز التيار السلفي وأبقتهم
لفترة طويلة داخل المعتقل في سبيل إخماد النشاط السياسي،
وقد حقق الخيار الأمني غايته، فقد تفتت بنية اللجنة، واضطر
مؤسسوها الكبار اعتماد المنفى مكاناً لاستئناف العمل السياسي
الاحتجاجي. أما باقي أفراد اللجنة فقد تعرضوا للاعتقال
والفصل من الوظيفة والملاحقة الأمنية والمراقبة المستمرة.
وقد جرى الحال نفسه على رموز التيار السلفي الذين أدخلوا
السجون وتعرضوا لصنوف التعذيب المختلفة والتهديد والتوقيع
على تعهدات خطيّة بعدم مزاولة أي نشاط سياسي ضد الدولة.
وفي نهاية المطاف، نجحت العائلة المالكة في تطويق أزمتها
الخطيرة مع حليفها الديني وإحتواء الرموز ضمن شبكة تحالفات
فرعية، وكان لوزير الداخلية الدور الأكبر في التخطيط لهذه
العملية.
السيناريو الثاني: أن الدولة فشلت بإمتياز في التوصل
الى بدائل أخرى للرد على تزايد النشاط المطلبي الاصلاحي
في البلاد، ولم يعد أمامها سوى خيار القمع، باعتباره السلاح
الأكثر كفاءة واستعمالاً فعّالاً في الماضي، وخشية من
انفراط عقد الاجماع داخل العائلة المالكة التي وجدت نفسها
محاصرة بتيار شعبي عام يرفض محاولات الكسر والتعطيل. وقد
يكون اعتقال رموز التيار الاصلاحي قد جاء نتيجة اتفاق
ثنائي أو ثلاثي داخل العصبة السديرية، التي كانت ومازالت
ترى بأن ولي العهد الأمير عبد الله والملكي الفعلي الافتراضي
أخفق في ادارة الصراع مع التيار الاصلاحي، ولذلك جاء القرار
مخالفاً للتوجّهات المعلنة للأمير عبد الله في تشجيع الحوار
الوطني، ودعم مسيرة الاصلاح، والشفافية، والتطوير الاداري.
السيناريو الثالث: وهو على الضد من السابق فقد تكون
للدولة أجندة في الاصلاح على وشك التنفيذ، ولكنها بالتأكيد
تتعارض جزئياً أو كلياً مع تطلعات التيار الاصلاحي الوطني،
فمن أجل تمرير الاجندة الرسمية فإن ذلك يتطلب إفشال المشروع
الشعبي، وإخماد الاصوات الاصلاحية الأخرى، ولم يكن سوى
الاعتقال خياراً أمام العائلة المالكة التي فشلت محاولاتها
في الاقناع والابتزاز لانهاء الدور التعويقي الذي يقوم
به التيار الاصلاحي لأجندة الاصلاح المفروضة من قبل العائلة
المالكة. وتلفت تجربة عريضة (الاصلاح الدستوري أولاً)
أن أمراء كباراً وصغاراً تحرّكوا بصورة عاجلة لاقناع بعض
الناشطين الاصلاحيين في قائمة الموقعين على العريضة الاخيرة
للحيلولة دون رفعها الى ولي العهد أو شطب اسمائهم منها،
وتالياً وقف تام للنشاط الاصلاحي، ولكن المحاولات انتهت
الى الفشل، ولذلك لم يبق سوى الاعتقال خياراً قائماً.
السيناريو الرابع: أن قرار إعتقال رموز التيار الاصلاحي
يمثّل إحدى تمظهرات صراع الاجنحة داخل العائلة المالكة،
فهو في الوقت الذي يطيح بكل ما وعد به الأمير عبد الله
ومنهجه الظاهري وصورته الخارجية كرجل إصلاح داخل العائلة
المالكة، فإن العصبة السديرية أرادت استعادة زمام المبادرة
باعتبارها اللاعب الحاسم في صناعة القرار السياسي داخل
البلاد. ولذلك كان ضرورياً السؤال عن الدور المرتقب لولي
العهد الغائب بصورة شبه كاملة في هذه القضية، تماماً كما
إن الانتقادات المتصاعدة المصاحبة لخيبة الأمل في سلطة
الأمير عبد الله كملك قادم تبدو مشروعة وبخاصة من أولئك
الذين عوّلوا كثيراً وطويلاً على ما يمكن أن يقوم به الأمير
عبد الله من أجل بناء وطن الجميع والوحدة الوطنية والاصلاح
الشامل. إن قرار الاعتقال لدعاة الاصلاح يمثل ليس ضربة
للتيار الوطني الاصلاحي فحسب بل يوجّه في حقيقة الأمر
طعنة قوية لجناح الأمير عبد الله ومشروعه في الاصلاح،
إن لم يكن اعتقال رموز التيار الاصلاحي الوطني قد أفضى
الى تعريّة وفضح زيف التوجه الاصلاحي لدى هذا الجناح،
ولربما كشف حجم القوة التي يمكن التعويل عليها في سبيل
خروج مولود الاصلاح من قصر ولي العهد.
ولمناقشة السيناريوهات المطروحة فإن هناك مضادات راهنة
تجعل ـ بحسب السيناريو الأول ـ من التعويل على الخيار
الأمني في التعامل مع الوضع الحالي محفوفاً بالفشل. فأعضاء
اللجنة الشرعية والتيار السلفي عموماً يمثّلون ـ بالرغم
من إمتلاكهم قوة في الشارع لا يستهان بها ـ منطقة معينة
وشريحة إجتماعية محددة. أما بالنسبة للتيار الاصلاحي اليوم
فهو يضم الطيف السياسي والاجتماعي على مستوى الوطن، بحيث
يمكن القول بأنه الأكثر تمثيلاً للشعب بمختلف شرائحه الاجتماعية
وتياراته السياسية وطوائفه المذهبية، وهذا ما لم يتحقق
طيلة تاريخ الدولة السعودية الحديثة، وبالتالي فإن ضرب
التيار الاصلاحي يعني فيما يعني ضرب كافة القوى الاجتماعية
والسياسية، وهذا بحد ذاته ينذر بإحتمال المواجهة المفتوحة
بين المجتمع والسلطة.
ومن جهة ثانية، فإن الظروف الداخلية في الوقت الراهن
بلغت من الخطورة بحيث لم تعد تحتمل تصعيداً أمنياً إضافياً
الى جانب المواجهة المستمرة بين الحكومة وجماعات العنف.
فالهشاشة التي بلغها كيان الدولة وتصدّع مصداقية المؤسسة
السياسية في تسوية مشكلات المواطن اليومية (البطالة، التعليم،
الخدمات العامة، الدين العام..الخ) لم تعد تسمح لاختبارات
اللحظات الأخيرة التي قد تؤدي الى تدمير حدود التجاذب
الداخلي وتحويله الى مواجهة مفتوحة ضد الحكومة التي ستخرج
خاسرة في كل الاحوال. ليست الدولة الآن في وضع يمنحها
هامشاً معقولاً ومضموناً للاصطدام بالتيار الشعبي العام،
مع اقرار القيادة السياسية في الدولة بمشروعية مطالبه
ووسيلته في التعبير عنها. في حقيقة الأمر، إن من الغباء
السياسي أن تلجأ العائلة المالكة الى أساليب غير سلمية
في التعاطي مع حركة إصلاحية سلمية وعلنية، بل الأنكى حين
تظهر في صورة المناوىء للمطلب الاصلاحي في ظل إجماع شعبي
عام على الاصلاح الشامل والفوري.
من جهة ثالثة، إن قرار إعتقال دعاة الاصلاح يتعارض
مع التوجهات الدولية الراهنة والتي قد تفضي الى تشكيل
قوة ضغط شديدة على دول الشرق الأوسط من أجل البدء بتنفيذ
أجندة إصلاحية فاعلة وواسعة. قد يقال بأن الاعتقال كان
يستهدف إثبات العكس، أي بعث رسالة غير مباشرة الى الغرب
والولايات المتحدة بأن مشروع الشرق الأوسط الكبير بإستهدافاته
المعلنة وفي القلب منها دمقرطة دول المنطقة لن يحقق النجاح
لأن الارادة تبقى أولاً وأخيراً لحكومات هذه الدول، ولربما
هناك في العائلة المالكة من يريد أن يبعث رسالة أخرى
مضمونها أن العائلة المالكة مازالت تملك زمام المبادرة
وأنها قادرة على تحقيق استتباب الأمن والاستقرار، وأن
النشاطات الداخلية لا تعدو كونها فورات مؤقتة قابلة للاخماد
والتقويض عبر استعمال وسائل قمعية. وعلى أية حال، فإن
العائلة المالكة التي ترقب بحذر بالغ ما يجري داخل العراق
بانتظار ولادة نظام ديمقراطي تعددي فإنها تحاول إستباق
الأوضاع قبل أن تواجه الحقيقة المرّة لاحقاً.
إن السيناريوهات الواردة أعلاه مهما تباينت فهي تشير
الى أزمة قادمة وحادة، وستصل تأثيراتها الى أبعد من حدود
قضية اعتقال دعاة الاصلاح، بل ستستوعب العائلة المالكة،
وستنتقل الى الشارع الذي سينظر دون ريب الى مثل هذه الخطوة
باعتبارها القشّة التي ستقصم ظهر البعير.. إذ لا يمكن
لحركة اصلاحية راشدة وسلمية أن ينتهي رموزها الى المعتقلات
دونما جرم سوى البوح بمطالب عامة، عادلة، وواضحة متوّسلين
بأساليب سلمية وعلنية. إن مثل هذه التدابير القمعية ستزيد
في قناعة المحبطين من سلوك الدولة، وستعمق الشقة بين المجتمع
والعائلة المالكة، حيث لا أمل مرجو ـ بعد هذا القرار الغاشم
ـ في الدولة. وفي حقيقة الأمر، أن العائلة المالكة استبدّلت
وسائل التواصل والتخاطب مع المجتمع، فبعد أن كانت سلمية
وعلنية وشفافة وعبر عرائض، فإن لجوء وزير الداخلية الى
خيار قمعي فإنه يكون قد إختار بداية الصراع وكيفيته ولكنه
بالتأكيد لن يكون قادراً على اختيار خاتمته بل ولا كيفيته
أيضاً. وفي كل الاحوال فإن الاعتقالات تعد أكبر تحدي لولي
العهد بوصفه الرجل الاصلاحي الافتراضي، وأن الجميع بانتظار
كلمته الفاصلة والحاسمة في هذا الموضوع، وأن مصداقية دعوى
تبنيه للمسيرة الاصلاحية باتت على المحك. وبكلمة، فإن
الشعرة الاخيرة بين التيار الاصلاحي الشعبي الواسع والعائلة
المالكة قد انقطعت بعد إقدام وزير الداخلية على هذا القرار
الخاسر، ولن يلام أحد بعد ذلك بالتوسل بالشيطان من أجل
إنقاذ البلاد من أزمتها المستفحلة.
|