بعد اعتقال الاصلاحيين
هذه وزارة الداخلية التي نعرفها
وزارة تعيش خارج الزمان.. ليس فيها ما يدّل على الجدّة
الا بنائها المتميز.. فمازالت الوجوه العابسة المتجهمة
تملأ المكان، وتشيع في المحيط العام رهبة بائتة ولكنها
في الوقت نفسه باهتة، فلم يدرك طاقم جهاز القمع بأن العصا
التي رفعها في الماضي ضد الاحرار والشرفاء من خيرة أبناء
الوطن قد نخرتها دابة الأرض، وبدت كما لو أن عوامل الطبيعة
قد أزالت معالمها، وألغت وظيفتها، ولم يبق منها سوى ما
يصلح بالكاد للتلويح في ظروف مناخية مستقرّة، أما وقد
رفعت الآن وفي ظل أوضاع حالكة فإن تكسّرها بات حتمياً
ووشيكاً، فالتحوّلات الداخلية والاقليمية والدولية تسير
بالبلاد عكس تيار الأمن ووزير الداخلية..إن اعتقالات دعاة
الاصلاح تمثل المحاولة اليائسة والبائسة التي كان الإقدام
على تنفيذها يعد مجازفة غير محسوبة العواقب، فالاحساس
المتفجّر لدى العائلة المالكة بضياع هيبة ملك تقلبوا فيه
وأثروا منه قاد ويقود الى اقتراف حماقات من هذا النوع.
إن وزير الداخلية الذي راعه إنطلاق نداءات التغيير
في كل زوايا الوطن، قرر أن يخوض المعركة ضد الاصلاح وأهله،
وهذا دليل آخر على أنه لم يكن في يوم ما يفكّر في الاصلاح
فضلاً عن أن يسبق زمانه في السير نحوه، كما أوهمنا بعض
الحالمين.. لقد قالها سراً وعلانية بأنه يكره (الاصلاح)
لأن ذلك يبطن اقراراً بالفساد..فها هو يلجأ الى تنظيف
الاسلحة القديمة، ويطلق النذير بقرب ساعة صفر المواجهة
مع خصمه الحقيقي ـ الاصلاح السياسي الشامل..
حين اجتمع مع دعاة الاصلاح بعد رفع عريضة (الاصلاح
الدستوري أولاً) لم يعقد مناظرة في الاصلاح، ولم يناقش
بنود البرنامج الاصلاحي مع من طلب لقاءهم، كما لم يعرض
وجهة نظره في العملية الاصلاحية الافتراضية، وإنما ارتدى
البزّة الأصلية، وقدّم نفسه كوزير للقمع وجسّد الشخصية
القاطبة لرجل الأمن، وظهر كما لو أنه مناهض تكويني للاصلاح
وبأي شكل كان. وبدلاً من أن تسود اللقاء لغة العقل والحوار
الراشد، قرر وزير الداخلية أن يحيل منه لقاء لابلاغ رسالة
تهديد شفهية، عائداً الى السيكلوبيدياً الأمنية، والتي
استخرج منها ما ينمّ عن عقيدته المتقدمة للغاية في الاصلاح،
ولكن بإنقلاب الصورة، فقد تطابق لديه الاصلاح بمعنى التغيير
الشامل والعام والاصلاحية كما تستعمل في سجن الأفراد المراد
إعادة تأهيلهم نفسياً ومهنياً واجتماعياً..
وزير الداخلية لم يكن اصلاحياً ولن يكون، لا لأن مهمته
وموقعه في مؤسسة قمعية تملي عليه أن يرتدي لباساً شديد
الخشونة، فالرجل لا يختلف مظهره ومخبره مهما قلّبته على
أوجه عدة.. يتقن لغة واحدة، وهي في علانيتها الجافة تعبّر
عن النسخة الأكثر تطويراً للغة الجلاد داخل سجن عليشه،
فهو في المؤتمرات الصحافية رجل أمن، وأمام الرأي العام
رجل أمن، تماماً كما هو كذلك في وزارته وأجهزة مباحثه،
وسجونه..
إن إعتقاله لمجموعة من الاصلاحيين الشرفاء لم يكن خلاف
سليقته ولا رد فعل انفعالي على حدث عابر، فقد كان اعتقالاً
مخططاً ومبيّتاً منذ زمن، وكان أفراد المجموعة على علم
بذلك، لسببين: كونهم يدركون بأن النشاط الاصلاحي خلاف
ما عليه العائلة المالكة ذات الطبيعة الساكنة النابذة
للتغيير والاصلاح، وبالتالي فإن ذراعها الباطش، الأمير
نايف لابد أن يقوم بما يجب عليه لوقف تمدد النشاط الاصلاحي
على المستوى الشعبي، وثانياً لأن وزير الداخلية قد لوّح
مراراً باعتقالهم، وكانت المجموعة قد أعدّت نفسها لهذا
المستوى من المواجهة، فتعاقدت على التعاضد الجماعي والوفاء
بما التزمت به من مبادىء في الاصلاح.
إذن فإن الدور الذي يلعبه وزير الداخليه في إعادة عقارب
الساعة الى الوراء لم يكن مغفولاً عنه، فالاصلاحيون على
وعي تام بأن وزير الداخلية هو المعوّق الرئيسي لمسيرة
الاصلاح، وقد أطلق رجاله لملاحقة نشاطات التيار الاصلاحي
الوطني، وتعهد بتكسيره، كيما يسترد بعضاً من ماض غير قابل
للتكرار..
إن ما اعتقده وزير الداخلية انتصاراً بعد سلسلة التجارب
الفاشلة التي مُني بها وزير الداخلية في إخماد ظواهر التمرد
الشعبي في الشمال، من خلال إيقاف إستثنائي لدورة العنف
عبر الامساك برؤوس التيار الديني المتشدد، والقبض على
بعض أفراد الشبكة المسؤولة التي تقف وراء انفجارات الرياض،
قد جرّه الى الاقدام على اعلان المواجهة الشاملة ضد التيار
الاصلاحي، طمعاً في إثبات أن القبضة الحديدية هي الخيار
الأمثل لاستعادة النظام..
بيد أن ما يلحّ وزير الداخلية على التغافل عنه هو أن
القمع ليس حلاّ لدولة قد بلغ فيها سوء حالها الى حد لم
يعد السكوت عليه تخييرياً..فقد طمت الأزمة الشاملة حتى
غاصت الركب، وليس هناك ما يكف الأصوات الغاضبة من الانطلاق،
فالسجن الذي كان يخيف به المعارضين بات مصنعاً للرموز
الوطنية، وهناك من يتمنى الدخول اليه كي يتحرر من البقايا
العالقة من الولاء لنظام يأسف كثيرون اليوم على ما خطّته
أقلامهم أو نطقته أسلنتهم في الدفاع عنه..
وزير الداخلية بصفاقة معهودة قلب باعتقال دعاة الاصلاح
الموازين رأساً على عقب، فقد تساقطت شعارات الاصلاح والحوار
والتسامح واحترام الرأي الآخر، وأثبت عملياً بأن اللجان
الاهلية التي انطلقت بسوء رعاية منه ليست سوى مؤسسات حكومية
إضافية، أي أنها لم تكن سوى غثاً على غث..ولو كان صادقاً
في دعواه الاصلاحية لما راعه نشوء لجان أهلية حقيقية يقودها
رجال مشهود لهم بالاخلاص والكفاءة وحب الوطن ولكن ليس
على طريقة وزير الداخلية الذي يريد تحويل اللجان الى مجرد
واجهات خفيّة لتبييض وجه الحكومة والمصادقة على ما يصدر
عنها، أو الدفاع عن مواقفها في المحافل الدولية ومؤتمرات
حقوق الانسان كما فعل وكيل وزارة الخارجية في مؤتمر جنيف
مؤخراً.
سنقولها مكرراً، إن وزارة الداخلية بكل قباحاتها المتراكمة
هي التي نعرفها، ولن تتغير صورتها طالما ظلت محكومة لرجل
مازال يرى الوطن وقفاً عائلياً، وأنه المسؤول عن حمايته،
وليس وطناً ينعم فيه أبناؤه البررة، ومن بينهم من يقبعون
داخل سجن عليشة.
|