الاستراتيجية الاميركية في الشرق الأوسط
ترامب... والحروب الطائفية
محمد فلالي
كل شيء يشي بالجنوح نحو خيار الحرب.
قد لا تقع الآن، وربما لن تقع مطلقاً، ولكن سوف تبقى
مناخاً، وثقافة، وسلاحاً سوف يجري التلويح به لأمد غير
معلوم..
ترامب وفريقه، قليل الخبرة بشؤون الشرق الأوسط وبما
يعنيه إشعال حرب أو سلسلة حروب في المنطقة، وهم يجهلون
العواقب. غاية علمهم أن الولايات المتحدة تملك ترسانة
عسكرية متفوّقة على كل دول العالم.
ولكن هل ذلك يكفي؟
بالتأكيد، فان صنّاع قرار الحرب في الولايات المتحدة،
والاستراتيجيين عموماً، سوف يعدّون للمليون قبل أن يؤيّدوا
حرباً في منطقة يصعب التفريق فيها بين الحلفاء والخصوم،
وكذلك خطوط التماس، وخطط المواجهة، وقواعد الاشتباك.
وللمرة الأولى، ربما، يصبح المعلوم يقيناً، هو أول
لحظة من وقوع الحرب ثم يصبح كل شيء شديد الغموض، لأن المجهول
يصبح سمة الحرب.
خرجنا من حقبة الحروب الكلاسيكية، والحروب النظامية
التي تقع بين الدول، ولم يعد توازن القوى يعتمد على كمية
السلاح ونوعيته. في أكثر من حرب إقليمية، ثبت أن دور سلاح
الجو في حسم المعركة مخادع، بل قد يؤدي الى هزيمة صادمة.
من ينظّر لسياسة الولايات المتحدة الشرق الأوسطية في
عهد ترامب يرجّحون عنصر القوة على الدبلوماسية.
قدّم جورج فريدمان في موقعه (جيوبليتيكال فيوتشرز)
في 8 فبراير الجاري عرضاً للسياسة الاميركية في الشرق
الأوسط. وسوف نترجم أهم الفقرات فيه للوقوف على طبيعة
المقاربات التي تقدّم في الوقت الراهن حول السياسة الاميركية
في عهد دونالد ترامب.
يقول جورج فريدمان أن لدى الولايات المتحدة في عهد
ترامب ثلاث خيارات استراتيجية:
الخيار الأول ـ هو انه وبعد
خمس عشرة سنة من القتال غير الفاعل، فإن عليه القبول بالهزيمة
في المنطقة، والانسحاب والسماح للمنطقة بالتطوّر كما سوف
يحصل. ميزة هذه الاستراتيجية، حسب قوله، هي أنها تقبل
حقيقة وتداعيات السنوات الخمس عشرة، وتضع حداً نهائياً
للمقاربة غير الفاعلة. ولكن نقطة ضعف هذه الاستراتيجية
يكمن في قبول تطور المنطقة، إذ أن الولايات المتحدة قد
تواجه عالماً سنيّاً قوياً بصورة متزايدة، وايران الشيعية
القوية. وبعد شعور بالارتياح قد يأتي صداع لا يطاق.
الخيار الثاني: استخدام القوة
الأميركية لسحق داعش وعزل إيران، أو إذا تعذر ذلك، الدخول
بشكل ما في مواجهة عسكرية مع إيران، ربما ضد برنامجها
النووي. الولايات المتحدة ليس لديها قوة عسكرية كبيرة
بما يكفي لشن حرب في وقت واحد من البحر المتوسط إلى إيران،
وأيضا في أفغانستان. وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد
قال في بداية الحرب على العراق، بأنك تحارب بالجيش الذي
لديك. كان عليه أن يضيف أنه إذا كان لديك جيش غير كاف،
سوف تفقد، أو على الأكثر، تواجه مأزقاً لا نهاية له.
الهدف من هذه الاستراتيجية هو سحق ليس فقط المنظمات
الحاليّة التي تحارب من أجل قضايا السنة والشيعة، ولكن
تدمير إرادة العالمين العربي والفارسي لإنشاء منظمات جديدة
للخروج من رماد القديم. إن الولايات المتحدة لم تشن أبداً
حرباً خارجية رئيسية دون ائتلاف قوى. بُعدُها عن ساحة
المعركة الأوراسية يعني أن الدعم من قوى أخرى لجهود اللوجستي
أمر ضروري. لهذا السبب، هناك نقاش حول التحالف مع روسيا.
ولكن روسيا ليس لديها نفس المصالح في إيران مثل الولايات
المتحدة، كما أنها لاتبحث عن نفس النتيجة.
الخيار الثالث: مبني على
حقيقتين.
أولاً، أن الولايات المتحدة
لديها قوات محدودة، حلفاء مترددون أو مخالفون، ولا يمكن
كسب الحرب على هذا النطاق.
ثانياً، ينقسم العالم الإسلامي
بشدة على أسس دينية وعرقية. هناك انقسام ديني بين الشيعة
والسنة. هناك انقسام بين العالم العربي وغير العربي. وبعبارة
أخرى، الإسلام ليس من نسيج واحد، وهذه الانقسامات هي نقطة
الضعف. ان الاستراتيجية الثالثة تتطلب التحالف مع طرف
واحد، وأن تعطيه الشيء الذي يرغب أكثر - هزيمة الآخر.
منذ بداية التاريخ الأميركي، استخدمت الولايات المتحدة
الإنقسامات في العالم لتحقيق أهدافها. الثورة الأميركية
سادت باستخدام التوتر الذي كان قائماً بين بريطانيا وفرنسا
لإقناع الفرنسيين بالتدخل. في الحرب العالمية الثانية،
ولمواجهة ألمانيا النازية والاتحاد السوفييتي الستاليني،
كسبت الولايات المتحدة الحرب من خلال تزويد السوفييت بالمال
الكافي لاستنزاف الجيش الألماني، وفتح الباب أمام الغزو
الأمريكي، مع بريطانيا، واحتلال أوروبا.
وما لم يكن لديك قوة حاسمة وساحقة، فإن الخيارات الوحيدة
هي تخفيض خيار الحرب، وزيادة القوة العسكرية الخاصة بك
بتكلفة مذهلة وزمن قياسي، أو استخدام المصالح المتعارضة
لتجنيد تحالف يتقاسم الهدف الاستراتيجي الخاص بك.
أخلاقياً، سوف يبقى الخيار الثالث إستراتيجية مؤلمة.
وكانت الولايات المتحدة تطلب من الأنظمة الملكية المساعدة
في عزل البريطانيين في يوركتاون بطريقة صفقة مع الشيطان.
وكانت الولايات المتحدة متحالفة مع الاتحاد السوفيتي القاتل
والظالم لهزيمة نظام قاتل وظالم آخر أيضاً، وكانت صفقة
مع الشيطان. جورج واشنطن وفرانكلين روزفلت، على حد سواء،
قاما وبكل سرور بهذه الصفقات، وكلاهما يعرف حقيقة حول
استراتيجية: ما يأتي بعد الحرب يأتي بعد الحرب. أما الآن،
فإن الهدف هو الوصول إلى نهاية الحرب منتصراً.
في حالة الشرق الأوسط، يرى فريدمان بأن الولايات المتحدة
تفتقر إلى القوات أو حتى لاستراتيجية متخيّلة لسحق الصعود
السني أو إيران. فإيران بلد من نحو 80 مليون نسمة محمية
من الغرب بجبال وعرة وإلى الشرق بصحراء قاسية. هذه هي
النقطة التي سوف تدفع شخصاً ما للقول بأن الولايات المتحدة
يجب أن تستخدم القوة الجوية. هذه هي النقطة التي أود أن
أقول أنه كلما أراد الأميركيون كسب الحرب دون دفع الثمن
يحلمون بالقوة الجوية لأنها منخفضة الكلفة ولا تقاوم.
القوة الجوية هو عامل مساعد لحرب على أرض الواقع. ولم
يثبت أبداً أنها يمكن أن تكون بديلاً فعالاً.
فكرة أن الولايات المتحدة سوف تشن في وقت واحد الحروب
في سوريا والعراق وإيران وأفغانستان وتخرج منتصرة هو الخيال.
ما ليس خيالا هو حقيقة كون العالم الإسلامي، على حد سواء
استراتيجيا وتكتيكيا، هو منقسم بصورة عميقة. وعلى الولايات
المتحدة أن تقرر من هو العدو.
"الجميع" هو الجواب المرضي عاطفياً للبعض، ولكن ذلك
سيؤدّي إلى هزيمة. لا يمكن للولايات المتحدة محاربة الكل
من البحر الأبيض المتوسط إلى جبال هندوكوش في أفغانستان.
يمكن أن تشن غارات أو عمليات عسكرية، ولكن لا يمكن أن
تنتصر.
لصياغة استراتيجية فعالة، يجب على الولايات المتحدة
العودة إلى الأسس الاستراتيجية للجمهورية: الاستعداد للتحالف
مع عدو واحد لإنزال هزيمة في آخر. يجب أن يكون الهدف هو
التحالف مع العدو الأضعف، أو عدو مع مصالح أخرى، وبذلك
حتى لا تؤدّي حرب الى حرب أخرى على الفور. في هذه اللحظة،
السنّة هم أضعف من الإيرانيين. ولكن هناك كثير من السنة،
وهم يغطون رقعة واسعة من الأرض، وهم أكثر نشاطاً من ايران.
في الوقت الراهن، إيران أكثر قوة، ولكن أود أن أقول
ـ والكلام لفريدمان ـ أن السنّة هم أكثر خطورة. لذلك،
أقترح التوافق مع الإيرانيين، ليس لكونهم محببين أكثر
(وكذلك شأن ستالين أو لويس السادس عشر)، ولكن لأنه خيار
مناسب.
الإيرانيون يكرهون ويخشون السنّة، حسب قوله، وأي فرصة
لسحق السنة سوف تنال اعجابهم . الإيرانيون أيضاً مثار
سخرية كما كان جورج واشنطن. في رأيي، ما لا يمكن دعمه
هي صراعات متزامنة مع السنة والشيعة والعرب والفرس. ما
تعلّمناه في العراق هو أننا لن ننتصر في نزاع كهذا. إعادة
تكرار محاولة فشل أخرى في العراق على نطاق أوسع لا معنى
لها. تقسيم أعدائك هو مبدأ أساسي في الاستراتيجية. توحيدهم
لا معنى له. ولذلك، فإن شن الحرب على السنة والشيعة في
وقت واحد عمل غير عقلاني. ببساطة الانسحاب من المنطقة
ينطوي على مخاطر كبيرة على المدى البعيد.
في النهاية، أرادت واشنطن إنزال الهزيمة بالبريطانيين،
وروزفلت أراد هزيمة هتلر. وبدون الفرنسيين أو السوفييت،
ضاعت هذه الحروب. في النهاية، تم تدمير البوربون والشيوعيين.
ولم تكن واشنطن وروزفلت على عجلة من أمرهما. هناك دائما
وقت للمنتصر لتحقيق الهدف الذي يريد. ليس هناك وقت للخاسر.
ما سبق كان أهم ما جاء في مقالة جورج فريدمان، والذي
ينزع الى رسم خارطة النزاع الافتراضي الذي سوف تخوضه الولايات
المتحدة في الشرق الأوسط.
من الواضح، أن فريدمان يتجاوز النزاعات القائمة في
الشرق الأوسط، سواء في اليمن حيث بدأت واشنطن تنخرط بصورة
شبه مباشرة في العداون على هذا البلد الى جانب السعودية
وحلفائها.
وفي سوريا حيث بدأ تطوّر دراماتيكي مفاجىء بعد مكالمة
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع نظيره الاميركي ترامب،
حيث أعقب ذلك تطوّرات جديدة: زيارة عادل الجبير، وزير
الخارجية السعودي، بصورة مفاجئة الى أنقره والكلام التركي
حول دعوة دول إقليمية من بينها السعودية لناحية المشاركة
بقوات لتعزيز فكرة المنطقة الآمنة من جرابلس الى إعزاز
في الأراضي السورية، وأيضاً كلام دبلوماسي روسي رفيع المستوى
في 8 فبراير الجاري حول نقاط اختلاف كثيرة بين موسكو وأنقره،
ولا سيما حول المنطقة الآمنة التي ترفضها روسيا، فيما
تحوّلت الى أولوية لدى الجانب التركي..وكذلك الحال في
الحرب الدائرة على تنظيم داعش في العراق، إذ لا يزال موقف
إدارة ترامب متذبذباً إن لم يكن متناقضاً، بين الحرب على
الارهاب، وبين الانحياز مع حلفاء امريكا ضد معسكر ايران،
إذ يصنّف العراق على هذا المعسكر.
حتى الآن تبدو خيارات ترامب كلاسيكية، وتتمثل في تقوية
الحلفاء التقليديين في الشرق الأوسط (السعودية ودول الخليج
زائداً اسرائيل والاردن ومصر وتركيا)، في مواجهة ايران
وحلفائها، وصولاً الى الصين، فيما لايزال الموقف من روسيا
ضبابياً، وإن بدت المؤشرات تميل الى مراجعة المواقف الايجابية
التي أطلقها ترامب في حملته الانتخابية، وبالتالي استئناف
الخصومة مع موسكو..
لناحية السعودية واسرائيل على وجه الخصوص، فإن ترامب
يمثل خياراً مناسباً في مواجهة ايران، وقد يعيدا العرض
السابق الذي طرحاه على جورج بوش الابن وعلى باراك أوباما
في خوض حرب مدفوعة الثمن ضد ايران. نعم، بالنسبة للرياض
قد يبدو خيار الحرب متعارضاً مع رؤية السعودية 2030 التي
يقودها محمد بن سلمان، لأنها رؤية لا يمكن تطبيقها في
أجواء متوتّرة وأوضاع غير مستقرة، ولذلك فإن البديل هو
التلويح بالحرب دون خوضها، بالرغم من الأثمان المطلوبة
لهذا التلويح أيضاً، أي زيادة وتيرة التسلح، وتخريب مناخ
الاستثمار المتوقف على الاستقرار.
بالنسبة لاسرائيل، يبدو خيار الحرب نموذجياً، بالرغم
من أن الوضع الحالي في المنطقة (الحرب في سوريا، والعراق،
واليمن، والفوضى النسبية عموماً في الشرق الأوسط) ضمن
حالة استقرار غير مسبوقة في تاريخ الكيان. ولكن ما ينقص
الأخير هو قبول أطراف أخرى للمشاركة في تحالف الحرب، فلا
أوروبا هي موحّدة خلف ترامب، فضلاً عن خيار الحرب، ولا
الشرق الأوسط أصبح مسرحاً بقياسات منضبطة لحروب محدّدة.
إن خيار توظيف الخطاب الطائفي في الشرق الأوسط لجهة
اشعال حروب من خلفية مذهبية قد يحدث تخريباً شاملاً، ولكن
هذا التخريب لن يقف عند حدود معينة، بل سوف يطاول كل الأطراف..
وسوف يجد الأميركي نفسه الطرف الأكثر خسارة.
إذا كان فريق ترامب وغرف التفكير في واشنطن تخطط للجنوح
نحو الحرب كاستراتيجية في الشرق الأوسط، فإن الخيارات
لن تكون سهلة، وكذلك العواقب.
وإذا كان الجميع يريد الحرب، فإنه ليس بالضرورة قادراً
على خوضها، فضلاً عن ضمان نتائجها.
|