مفاجأة: الجبير في بغداد!
مهمة عاجلة، أم فتح صفحة جديدة!
محمد شمس
بدت الزيارة المفاجئة التي قام بها وزير الخارجية السعودي
عادل الجبير في 24 فبراير الماضي الى بغداد، كما لو أنها
فاتحة للشهية، بحيث أن التحليلات انطلقت بصورة خاطفة لتفسير
أبعاد الزيارة قبل أن يعود الجبير الى موطنه.
تراوحت المقاربات بين:
وضع الزيارة في إطار ترتيب استراتيجي، وفتح صفحة جديدة
في العلاقات بين البلدين، ومحاولة وضع ترتيبات للمنطقة
بعد وصول ترامب، وإعادة بناء النظام الاقليمي.
استيعاب تداعيات التطورات الميدانية في الموصل، مع
مؤشرات على انهيار تنظيم داعش، واحتمال فرار مقاتليه الى
دول الجوار، ومن بينها السعودية. وقد كان رئيس الحكومة
العراقي حيدر العبادي، قد حذر ذات خطاب بأن داعش بعد أن
تخرج من العراق فسوف تنتقل الى دول الخليج، وهذا أمر يثير
قلق الحكام السعوديين. الاردن يتحضّر لمثل هذا الاختراق،
وهناك بيئة مساعدة لعمل التنظيم.
الزيارة المفاجئة وغير المبرمجة قد تأتي للتفاوض على
أمر طارىء حدث في لحظة، ويراد حله بصورة عاجلة، من قبيل
وقوع قيادات عسكرية سعودية في الأسر، أو لمعالجة قضية
مستعجلة تهم البلدين، أو قد يكون فيها العراق قادراً على
لعب دور مؤثّر. وعليه فإن الحديث عن علاقات وترتيبات كبرى،
إنما هو للتغطية على الهدف الحقيقي من الزيارة.
في التحليل، وضع رئيس تحرير موقع (رأي اليوم) الخبري
عبد الباري عطوان، زيارة الجبير، في إطار تحوّل جوهري
في السياسة السعودية. ورصد خمسة أسباب وراء زيارة الجبير
المفاجئة للعراق:
الاول: ميداني باستعادة العراق
لكثير من المناطق التي احتلها داعش منذ العام 2014، وإحراز
تقدّم عسكري في إطار استعادة مدينة الموصل.
الثاني: ميداني/ إقليمي،
تمثّل في قيام الطائرات الحربية العراقية، ولأول مرة،
بتوسيع نطاق عملياتها خارج الجغرافية العراقية، بقصف قواعد
تنظيم «داعش» في مدينة البوكمال الحدودية وداخل الأراضي
السورية. من وجهة نظر عطوان، فإن هذا يمثل تطوّراً لافتاً،
كون المشاركة العراقية في الحرب على «داعش» داخل الاراضي
السورية، لابد أن يكون قد حظي باتفاق قوى إقليمية ودولية،
وقد يمهد الى مشاركة الجيش العراقي في حرب تحرير الرقة
بعد الموصل لاحقاً.
الثالث: هجوم عناصر «داعش»
على مركز طريبيل الحدودي بين العراق والأردن، وقتل ما
يقرب من 16 جندياً عراقياً، وهو معبر قريب من الحدود السعودية،
مشفوعاً بتقارير تفيد بأن عناصر «داعش» باتت نشطة في منطقة
الانبار المحاذية للاراضي السعودية الشمالية.
الرابع: إدراك القيادة السعودية
بأن سياسة «الحرد» كما يصفها عطوان، ومواصلة النزاعات
مع دول الجوار على أسس طائفية هي على درجة كبيرة من الخطورة،
ولا بد من «المرونة» على حد قوله، إذ تبدو الصورة الحالية
على النحو التالي: علاقات سيئة مع سورية، وحرب على اليمن،
وتوتر في العلاقة مع ايران، وعلاقة شبه مقطوعة مع العراق.
وعليه، فلابد من مراجعة لملف العلاقات الخارجية.
الخامس: اقتناع السعودية
بأن العراق وايران سوف يلعبان دوراً إقليمياً في المستقبل
المنظور، وخاصة على صعيد التسوية في سورية، وعليه أدركت
الرياض بأن الحوار مع ايران هو المخرج الوحيد المتاح من
النفق اليمني، وأن العراق قد يلعب دور الوسيط الأمثل في
هذا الملف.
وخلص عطوان للقول بأن زيارة الجبير قد تكون ثمرة مراجعات
سياسية سعودية، ومحاولة لكسر العزلة الاقليمية، واعتراف
بفشل سياسات صدامية على اسس طائفية تبنتها المملكة طوال
السنوات الماضية.
بكلمات أخرى، أن الزيارة تعطي، بحسب عطوان، مؤشراً
على أن صوت العاقل الحكيم في الهرم الحاكم في الرياض بدأ
يجد آذانا صاغية لوجهة نظره، التي تميل الى المرونة والابتعاد
عن الصدامات، وضرورة العودة الى الضوابط والمعايير السياسية
و»الاخلاقية» التي كانت متبعة في المملكة منذ تأسيسها.
في تقديرنا أن مقاربة عطوان لزيارة الجبير، برغم منسوب
التفاؤل المرتفع فيها، تصلح لزيارة من نوع آخر وفي وقت
آخر، تكون مسبوقة بترتيبات بروتوكولية، ومراسلات. وهذه
الزيارة جاءت على عجل، وهي تشبه الى حد كبير زيارة المسؤولين
الأميركيين الى بغداد في مهمة محدّدة ولغاية معروفة. الأمر
الآخر، فإن المعطيات من العراق تفيد بأن زيارة الجبير
رافقها لغط كثير، حتى في اليوم الذي وصل فيه الى بغداد،
حيث كانت الاتصالات مكثفة بين الخارجية العراقية وسفارة
العراق في الرياض حول: أولاً حقيقة الزيارة؛ وثانياً موعدها.
وفي لحظة ما كانت الخارجية العراقية تنفي علمها بالزيارة
وأنها بصدد الاتصال بسفارة العراق في الرياض للتأكّد،
كما ينقل ذلك مصدر مقرّب من الخارجية العراقية.
من جهة أخرى، فإن دوافع الزيارة قد تكون صحيحة، فيما
لو قرّرت بالفعل الرياض مراجعة ملف السياسة الخارجية القائمة
على التأزيم والقطيعة والتوتّر والنزاع المسلح. ولكن مجرد
صحة الدوافع لا يعني أن الرياض بالفعل قامت بالمراجعة،
فلم نسمع عن إرسال سفير جديد الى العراق بدلاً من ثامر
السبهان الذي كان سفيراً كارثياً بكل معنى الكلمة، مع
أنه مثّل بصدق التوجّه السعودي الحقيقي في التعاطي مع
الدول غير الصديقة والحليفة للنظام السعودي.
في كل الأحوال، إن مجرد الزيارة لا يعني تحوّلاً ولا
خروجاً من الماضي، لأن ما بعد الزيارة لم يصدر ما يفيد
بمفاعيل إيجابية لها. أما عن دور الوساطة في الملفين الإيراني
واليمني، فلا أعتقد أن السعودية سوف تلجأ الى العراق من
أجل هذه الغاية، ببساطة لأن آل سعود لا يثقون في النظام
الجديد في بغداد، ولا يعدّونه وسيطاً محايداً في أي خلاف
بينهم وبين ايران واليمن. وأيضاً، فإن السعودية لم تعدم
وسطاء آخرين قد يلعبون هذا الدور ويحظون بثقة الطرفين
السعودي والايراني، والسعودي واليمني، مثل الكويت، ولن
نقول سلطنة عمان، برغم أنها الحاضنة النموذجية للحوارات
الاقليمية والدولية على مدى عقود، ولكن لأن الرياض لم
تعد ترى في مسقط وسيطاً وفق حساباتها الخاصة، وهي التي
رفضت المشاركة في عدوانها على اليمن، فإنها سوف تختار
بلداً آخر لهذه الغاية. في كل الاحوال، لن تكون العراق
خياراً سعودياً في أي وساطة مع ايران أو اليمن أو أي مكان
آخر.
في مقاربة أخرى، كتب الصحافي العراقي علي الموسوي تعليقاً
على الزيارة، وقال بان الجبير جاء الى بغداد لتسليم العبادي
رسالة مهمة. ومن بين الأسباب العديدة التي يعتقد بأنها
وراء «هذه الزيارة التاريخية الى بغداد» والتي قد تكون
حسب وصفه «خارطة الطريق لعودة العراق ضمن التوافق الخليجي
المتحالف مع المنظومة الدولية بقيادة الولايات المتحدة».
ويعتقد الموسوي بأن الزيارة تأتي في سياق التصعيد الأميركي
ضد ايران والذي يترجمه اليوم إنشاء تحالف دولي لتحجيم
ايران «وايقاف حركة نموها الاقتصادي والعسكري والعلمي
المتسارع..»، وإن هناك رغبة أميركية من أجل إدخال العراق
في هذه التحالف الذي يضم الى جانب الولايات المتحدة واسرائيل،
كلاً من تركيا، السعودية، قطر، والاردن.
يزعم الموسوي بأن ما يقوله «ليس تكهناً بل هي معلومات
موثقة ومتابعة سياسية دقيقة لتسلسل الأحداث منذ مجيء دونالد
ترامب». ويذكر شاهداً على ذلك الاتصال بين ترامب والعبادي
في 9 فبراير الماضي، وحديثه عن أن «العراق حليف مهم للولايات
المتحدة وعليه الالتزام بتعهداته اتجاه الولايات المتحدة،
ولا يوجد له خيار ثالث فإما إيران أو التحالف الامريكي»،
وينقل الموسوي رد العبادي على ترامب بأنه «لا يريد أن
يكون طرفا في صراع إقليمي أو دولي يؤدي إلى كوارث على
المنطقة والعراق».
وعليه، وبحسب الموسوي، فقد جاء الجبير لإعادة الرسالة
مجدداً الى العبادي، وأن الجبير جاء موفداً من ترامب وليس
من الملك سلمان لنقل رسالة محدّدة وهي: الانضمام للناتو
العربي، والفكاك عن ايران. وهنا قيل بأن الجبير قد طرح
تصوراً بأن قبول العراق بالمبادرة الأميركية يمثل وحده
المدخل لإنهاء جميع الخلافات السعودية العراقية، وتالياً
الانفتاح السياسي والدبلوماسي الخليجي على العراق، وأيضاً
رفع الأخير من قائمة الدول السبع التي أصدر ترامب بحق
مواطنيها حظر السفر الى الولايات المتحدة. وهناك امتيازات
أخرى سخيّة كثيرة يذكرها الموسوي. والشروط هي كما عرضها
الجبير:
الأول: مناصفة السنة في أي عملية تسوية سياسية عراقية
قادمة.
الثاني: ابتعاد العراق عن روسيا وايران والإعلان عن
موقف صريح من العملية السياسية في سوريا والتخلي عن الدعم
الايراني.
الثالث: حسم وضع الحشد الشعبي ومستقبله السياسي وسحب
جميع فصائله من سوريا.
الرابع: تعهد حكومة العبادي بعدم إجراء أي تغيير في
خارطة الأنبار وبعودة منطقة النخيب التي كانت تابعة لمحافظة
كربلاء ثم أصبحت تابعة لمحافظة الأنبار في عهد النظام
السابق، وتعد النخيب المدينة المحاذية لمدينة عرعر في
الجانب السعودي.
الخامس: تثبيت الحدود البرية والبحرية بين العراق والكويت،
بحسب الاتفاق المرعي من قبل الامم المتحدة بعد انتهاء
غزو الكويت.
السادس: مشاركة الأجهزة الأمنية السعودية الى جانب
العراقية في التحقيقات مع الارهابيين السعوديين المسجونين
لدى العراق وضبط الحدود بين البلدين.
في حقيقة الأمر، إن بعض هذه النقاط أقرب الى المخاوف
المبالغ فيها والمطعّمة ببعد مؤامراتي غير خافٍ. يضع الكاتب
فرضيات شبه مستحيلة مثل مناصفة السنة في بلد محكوم الى
الأحجام السكانية التي تنعكس في العملية الانتخابية وتحسمها
صناديق الاقتراع، وبالتالي فإن الكلام عن مناصفة مجرد
لغو. أما ابتعاد العراق عن روسيا وايران فهذا عرض ليس
ممكناً، في ظل استقطاب سياسي حاد وانفراز الدول ضمن معسكرين.
فالعراق في وضعه الحالي لا يستطيع أن يقرر البقاء أو الخروج،
وهناك قوى تفوق قدرة العبادي أو الجعفري على تغيير المعادلة.
بكلمات أخرى، يلعب الحشد الشعبي اليوم دوراً مركزياً
في صناعة السلم والحرب وسوف يساهم في إقرار وتغيير معادلات
داخلية وإقليمية. وهذا يعني، استطراداً، أن العبادي لا
يملك صلاحية تقرير مصير الحشد الشعبي برغم خضوعه شكلياً
وإدارياً تحت سلطة رئاسة الوزراء.
بالنسبة لتثبيت الحدود بين الكويت والعراق، فذاك أمر
لا دخل للسعودية فيه ويقرر عبر قنواته المعروفة. وبخصوص
مشاركة السعودية في التحقيق مع المتورّطين في عمليات إرهابية،
فهذا أمر لم يقبله العراق في ضعفه، فلماذا يقبله الآن
وهو في موقع قوي، لا سيما بعد بروز قوة عسكرية شعبية ـ
رسمية ممثلة في الحشد الشعبي التي يمكنه الركون اليها
في إحداث توازن إقليمي.
إذاً مالغاية من هذه الزيارة المفاجئة التي لم يكن
البرلمان العراقي على علم مسبق بها، ولا كثير من الوزراء؟
في تعليق لأمين عام عصائب أهل الحق، الشيخ قيس الخزعلي،
على زيارة الجبير إلى بغداد، قال أن سببها هو «التخوف
من دور الحشد المستقبلي». ويوضح قائلاً: «لا أرى وجود
إرادة سعودية مستقلة أو وجود مشروع عربي مستقل، وإن الزيارة
تندرج ضمن مشروع الرئيس الأمريكي، وهو ليس مشروعا مستقلاً».
هذا ليس بعيداً عن الواقع، وقد يكون المتغيّر الميداني
في معركة تحرير الموصل سبباً رئيساً لمثل هذه الزيارة،
بالنظر الى الانجازات العسكرية السريعة التي يحقّقها الجيش
العراقي وفصائل الحشد الشعبي. إن المشاركة الفاعلة التي
تخطّت فيها الفصائل المحظور أميركياً وسعودياً بخصوص المعارك
في الموصل وتلعفر، قد تكون دافعاً أساسياً لدى النظام
السعودي من أجل احتواء تداعيات ما بعد تحرير الموصل. لاشك،
أن الحشد الشعبي يشكّل قلقاً شديداً لدى النظام السعودي،
وقد عبّر عن ذلك صراحة الجبير والسبهان ومن ورائهما الماكينة
الاعلامية السعودية. وإن ما يحققه الحشد من مكاسب ميدانية
يزيد في قلق السعودية لأنه بذلك يثبت معادلة مستقبلية
قد تغيّر موازين القوى الاقليمية. وقد يترافق مع القلق
أسرار مكتومة حول انخراط السعودية في المعارك على الساحتين
العراقية والسورية.
الكلام حول عرض سعودي للعبادي والجعفري بإعادة إدماج
العراق في النظام الاقليمي بقيادة سعودية ورعاية أميركية،
وإن العرض يشمل فتح الحدود البرية، والأجواء أمام الطيران
المدني العراقي، والاستثمار في العراق.. وغيرها، فهذا
لا يعدو أن يكون عرضاً يفوق الشروط المخلّة بسيادة العراق،
وينطوي على تدخّل سافر في شؤونه الداخلية، ومن غير المنطقي
قبول الحكومة العراقية مثل هذا العرض المهين.
|