مملكة رهن الإبتزاز!
محمد قستي
مدهش حقاً حال المملكة المُسعودة، التي وصلت قاع القاع،
فأدهش انحطاطها المواطن قبل الأجنبي.
كيف وصل الحال بمملكة مع حليفها الأمريكي، الى حد أن
يطلب الرئيس ترامب من محمد بن سلمان، أثناء لقائه به الشهر
الماضي، نصف ثروة السعودية مقابل الحماية والحرب على إيران؟
هذا لم يحدث حتى في عصور الإستعمار المباشر. وما كان
ترامب ليتجرّأ على طلبه هذا، لولا أن الحكم السعودي بلغ
أدنى تسافله وانحطاطه وضعفه.
كيف لمملكة، تحوي ربع احتياطي العالم من النفط، وتصدّر
ما معدله عشرة ملايين برميل يومياً، ومداخيلها النفطية
وحدها تصل الى تريليونات من الدولارات، غير مداخيل الزكاة
والحج والعمرة والضرائب الأخرى.. كيف لبلد مثل هذا، بشعب
لا يزيد على العشرين مليون نسمة، أن يصل الى حافّة الإفلاس،
ويصبح أكثر من نصف الشعب فقراء، بل تحت خط الفقر؟
كيف لبلد بهذا الغنى، وبه أحد عشر مليون عامل أجنبي،
أن يتواجد بين ظهرانيه أربعة ملايين عاطل عن العمل؟
كيف يحدث في بلد، يقول انه يقدم المعونات الى كل الدنيا،
أن يوجد به عوائل مشردة في الشوارع بلا مأوى، ونساء ورجال
يبحثون عن لقمة العيش في القمامة، وطلاب يبحثون عن قارورة
الدواء عبر مناشدة أعلى السلطات؟ كيف يحدث هذا في بلد
يقولون ان فيه حالة عليا من العطاء، وان الجمعيات الخيرية
تفيض بأموال فاعلي الخير؟
وكم هو مدهش أن الأغلبية العظمى من الشعب المسعود،
لا تمتلك قطعة أرض تبني عليها بيت سكن، في بلد تصل مساحته
الى مليونين وربع المليون كيلومتر مربع. ثمانون بالمائة
وأكثر من المواطنين يعيشون في بيوت مستأجرة، فضلاً عن
ملايين تعيش في بيوت قديمة لا تصلح لسكنى الحيوانات، ولا
نقول البشر. وفوق هذا، كيف يكون والوضع هذا، أن تقوم الحكومة
بتدمير مدن وقرى وتمسحها من الخريطة، كما حدث مع (مقنعة)
و(عمق) بحجة مخالفة القوانين، والتعدي على أراضي حكومية،
فيما لم يترك الأمراء أرضاً ولا حتى صحراء إلا وزرعوا
شباكهم حولها وطوقوها اعلاناً منهم عن تملكها؟!
مالذي أوصل بلداً كان يُنظر اليه على أنه بلد (الإسلام
المعتدل)، الى بلد ينظر اليه العالم أجمع كمصدّر وكمنبع
للطاعون الوهابي الداعشي القاعدي الذي يخشى وباءه كل احد؟
مالذي جعل بلداً كان ينظر اليه كقيادة للعرب، وقاضياً
بين دولهم، وحلاّلاً لمشاكلهم.. الى بلد ثانوي فاشل بلا
أصدقاء حقيقيين، وفي صراع وحروب مع دول عديدة، وكلها تقريباً
صراعات وحروب على المستوى الاقليمي خاسرة؟
كيف لبلد كان بالأمس يبتز حلفاءه الخليجيين سياسياً،
والدول العربية والاسلامية بأمواله، أن يصبح عرضة للإبتزاز
المالي والسياسي من قبل حماته الغربيين، ومن قبل من يزعمون
أنهم اصدقاءه؟
لماذا هذا الإنحطاط كلّه؟ وهل جاء في غفلة من الزمن
دفعة واحدة؟
هل هو نتيجة مؤامرة كما يقول آل سعود؟ أم هو نتيجة
ما صنعته أيديهم السوداء الملوثة بدماء الأبرياء والتآمر
على الأقربين والأبعدين؟
بريطانيا اليوم تبتز آل سعود جيداً؛ وتستخدم اعلام
البي بي سي بين فترة وأخرى لتحصيل عقود بالمليارات، حتى
اصبح من المعتاد ان تجد حملتين سنويتين على السعودية،
يعقبهما سفر رئيس الوزراء او رئيسة الوزراء ـ الآن ـ لقطف
ثمار الإبتزاز السياسي.
وترامب ـ حتى قبل أن يصبح رئيساً ـ وقد كرر ذلك بعد
وصوله الى كرسي الرئاسة، بأنه ليس أمام آل سعود إلا أن
يدفعوا، ليس فقط ثمن الحماية، بل أي أمرٍ تطلبه أمريكا
منهم. وقد فعلها حين اتصل بالملك سلمان، وطلب منه تمويل
المناطق الآمنة في سوريا، ووافق الملك سلمان فوراً. لكن
ترامب لم يتوقف عن التشهير بآل سعود، وكرر قوله، بأنه
اذا طلب من السعوديين فعل شيء فسيفعلونه، وانه ليس لديهم
خيار آخر.
لماذا هذا التهافت السعودي، وهذا الضعف، أمام الأمريكي
والبريطاني، في حين أرانا آل سعود الحمم والنيران على
الجيران في اليمن، وأظهروا لنا رعونة واستعلاء وتكبّراً
ودموية وحدّة منقطعة النظير على جميع العرب والمسلمين
والعالمثالثيين؟
أليس من الطبيعي هذه مواصفاته وسلوكه، أن يبتزه حماته؛
وان يطلب ترامب وبلا تردد من محمد بن سلمان، حينما استدعاه
مؤخراً، أن يطلب منه نصف ثروة البلاد، هكذا اعتباطاً،
ومقابل الحماية والحرب على إيران.
حتى الآن يبدو أن آل سعود مترددون لقبول العرض، فقد
يأخذ ترامب الأموال ولا يفعل شيئاً، ولا يقيم حرباً ضد
ايران؛ فضلاً عن ان ترامب اخذ تعهداً من آل سعود باستقطاع
مائتي مليار دولار بحجة الاستثمار في امريكا؛ فيما رآها
آخرون مجرد دفعة أولى على الحساب، على حساب قانون جاستا.
عرض ترامب ومساومته على نصف ثروة البلاد، ربما شكل
صدمة جعلت الملك سلمان يعود مسرعاً الى الرياض، من رحلته
الآسيوية، دون ان يمرّ على المالديف ويقضي اجازته فيها.
وذلك لملاقاة ابنه وللتعرف على تفاصيل الصدمة التي قدمها
ترامب لحلفائه في الرياض، حيث الإبتزاز في أوضح صوره.
ومع ان التطبيل السعودي لم يتوقف عن تلميع زيارة وزير
الدفاع محمد بن سلمان ولقائه (التاريخي!!) بترامب..
ورغم ان عدم زيارة الملك للمالديف قد تم تبريرها بانتشار
وباء انفلونزا الخنازير هناك، رغم أن حدثاً آخر عجل بعودة
الملك الى دياره، وهو ان الشعب المالديفي كان يرفض زيارة
الملك، على خلفية امرين: رفضه لبيع جزيرة فافو اتول للسعوديين
من اجل الاستثمار، وايضاً رفضه لتصدير الوهابية الى المالديف
المتصوفة، والتي تعاني من دواعش وهابيين تم شحنهم بالفكر
المتطرف، وهاجر نحو 200 منهم للقتال في سوريا.
وما كاد محمد بن سلمان يصل الى الرياض، ويلحق به والده
بعد ساعات، حتى تقدمت ثمانمائة عائلة امريكية الى القضاء،
ضد ال سعود، باعتبارهم وراء تفجيرات ١١ سبتمبر، وباعتبارهم
رعاة ارهاب، وفق قانون جاستا. ما يثبت اولاً فشل زيارة
محمد بن سلمان؛ ويثبت ثانياً أن سيف جاستا سيبقى مصلتاً
على رقاب آل سعود لابتزازهم؛ وليثبت ثالثاً، بأن محمد
بن سلمان الذي قدم اعتماده كملك قادم، لم يكن اثيراً لدى
الامريكيين الذين يفضلون ولي العهد وزير الداخلية محمد
بن نايف.
رغم هذا كله، فإن السؤال المطروح هو: لماذا اصبحت الرياض
عرضة للإبتزاز أكثر من أي وقت مضى، خاصة من حلفائها الذي
استمروا في نهب ثروات البلاد لعقود طويلة؟
لو لم تكن الرياض ضعيفة ويائسة وفي أدنى انحطاطها،
لما وصل الوضع الى هذا الحد؟
ولكن أيضاً.. لماذا وصل الأمراء الحاكمون بالبلاد الى
هذا المستوى من التردّي؟
ربما يمكن اختصار المسألة في حقيقة أن النظام السعودي
ضعيف في الداخل. فهو نظام مستبدّ وفاسد وناهب وطاغ وفاشل
في توفير أدنى حقوق المواطنين المدنية والسياسية. ومثل
هكذا أنظمة فاسدة وطاغية ومستهترة تعتمد على العنف في
بقائها، بحاجة الى حماية خارجية، خاصة وأن نظام آل سعود
قد أهدر ما يتمتع به من مشروعية رغم ضعفها او قلتها. فهم
قد أهدروا مشروعيتهم ابتداءً برفض تطوير النظام السياسي
والبدء بإصلاحات تعطي للشعب رأيا وكلمة، ولو في الحد الأدنى.
وأهدروا مشروعيتهم حين لم يحققوا ـ خاصة في السنوات الأخيرة
ـ منجزاً مادياً مقنعاً، يعوّض الشعب عن الحرمان السياسي.
بل زاد الطين بلّة بفرض الضرائب وانهاك المواطنين اقتصادياً،
في حين ان الأمراء انفسهم لم يتوقفوا عن عبثهم وفسادهم.
وزاد النظام الأمر سوءً أكثر، حين أصرّ على استخدام الدين
كغطاء لجرائمه، وتبيّن ان ايديولوجيته الوهابية هي دين
للأقلية النجدية فحسب، وقام بتأجيج الصراع الطائفي على
المستوى الإقليمي وليس الداخلي فحسب، ما جعل الشرعية الدينية
للنظام محصورة في مشايخ الوهابية التكفيريين، وحتى هذه
الشرعية انتقصت مراراً وفرّخت بين الأقلية النجدية، أقليّة
أخرى داعشية وقاعدية تحارب النظام على خلفية افكار الوهابية
نفسها، وعدم التزام آل سعود بها او استغلالها.
آل سعود يعتقدون بأنهم قادرون على ضبط الوضع الداخلي
بأدوات القمع المتوفرة لديهم حالياً، وتالياً فهم ليسوا
بحاجة الى حماية امريكا والغرب في مواجهة التحديات الداخلية،
فلديهم ما يكفي من قوة لضبط الأمور.
هذا ليس دقيقاً.. فهناك أكثر من 23 فرعاً للمباحث الفيدرالية
الأمريكية والسي آي أيه في السعودية. ونحن نعلم بأن هذه
الأجهزة والفروع المتداخلة مع الأمن السعودي، هي التي
أبطلت محاولات انقلاب عسكرية عديدة في الستينيات والسبعينيات
وحتى منتصف الثمانينيات. كثير من المخاطر الداخلية استطاع
آل سعود التغلب عليها بفعل المعلومات التي تلقوها من الاستخبارات
الغربية؛ تماماً مثلما يحدث اليوم في البحرين، حيث تقوم
الحكومتان البريطانية والامريكية، بتوفير كافة التغطية
الأمنية للحكم الخليفي هناك.
لكن على صعيد الحماية من تحديات الخارج، فهذا ما يشعر
آل سعود بأنهم بحاجة اليه، من عبدالناصر مصر سابقاً، ومن
صدام العراق سابقاً، ومن ايران حالياً. وحتى هذه الدول
الثلاث التي يمكن ان تهدد النظام السعودي، فإن الأخير
انخرط في حرب ضدها، ولم تكن المملكة السعودية تتعرض بالفعل
الى مخاطر حقيقية من تلك الأنظمة، كهجوم او حرب تشن على
مملكتهم.
اذن ما يدفع ال سعود ثمنه ليسوا بحاجة الى دفعه في
الأساس.
كان ولازال بإمكان آل سعود تجميد الحرب الإقليمية التي
أشعلوها. بإمكانهم التوصل الى حل للخلافات مع ايران، وليس
استعداء امريكا واسرائيل لحربها. وبامكانهم عدم التفريط
في سوريا ومشاركة اسرائيل في تدميرها. وكان بامكانهم ولازالوا
ان يوقفوا الحرب على اليمن الذي كان مزرعتهم لوحدهم مدة
خمسين عاماً وأكثر.
إن تهدئة الوضع الإقليمي يجعل من حاجة السعودية للحماية
الخارجية أمراً معدوماً ويبعدها عن الإبتزاز.
وإن تهدئة الوضع الداخلي، بإجراء اصلاحات سياسية، مع
ما تتطلبه من إيقاف للإستبداد وهدر الأموال، كفيل بتصليب
الجبهة الداخلية امام اية اختراقات وابتزاز.
لكن النظام السعودي القلق من تحولات الداخل، ومن خسائره
الاقليمية في الخارج، مضطر بوضعه الحالي ان يدفع اثماناً
وأكلافاً كبيرة لحماته الغربيين، الذين لم يهتموا لأوضاع
البلاد الاقتصادية الصعبة، بل لازالوا يريدون أكثر من
(الجزية) المعتادة التي يدفعها الأمراء سنوياً للدول الثلاث:
امريكا وبريطانيا وفرنسا.
المصالحة الداخلية مفتاح أمان النظام وحكم آل سعود.
لكنها مصالحة لن تأتِ رغم تأخرها. فآل سعود جبلوا على
طأطأة الرأس للأجنبي، وفي نفس الوقت التعالي على شعبهم
وعلى حكومات وشعوب المنطقة. وإن صفات الرعونة والإستبداد
والفساد يصعب اصلاحها لدى عائلة بلغ تعدادها نحو ثلاثين
الف نسمة، تعودت على نمط من العيش وعلى السلوك المخزي
لعقود طويلة.
ترامب طلب نصف ثروة السعودية. لم يقل انه يطلب نصف
ايراداتها. هو يعتبر نفسه صاحب حق في ثروات الشعوب الأخرى،
وقد سبق له ان انتقد عدم السيطرة على النفط العراقي ونهبه
بالكامل!
مثل هكذا عقليات انتهازية مجنونة، تقابلها عقلية الأمراء
الانبطاحية والفاسدة التي جوّعت الشعب ونهبته وقمعته لإرضاء
الحلفاء الغربيين، ومع هذا، لازال هؤلاء الحلفاء جشعين
يريدون أكثر وأكثر.
الانحطاط السعودي بلغ مراحل غير مسبوقة، ولعل الدواء
في النهاية هو الإستئصال لهذه العائلة المالكة المجرمة
الفاسدة التي لا تدين بدين، ولا تلتزم بخلق كريم.
|