تفتت النواة الصلبة للنظام.. إنباءٌ عن المستقبل!
محمد قستي
الإجماع الداخلي في المملكة المُسعودة غير موجود في
كل القضايا المهمّة والضاغطة والتي تشكل تحدياً للدولة.
لا يوجد إجماعٌ داخلي ـ شعبي او رسمي، او بين النخبة
الحاكمة، او بين العائلة المالكة، أو حتى بين النخب المثقفة
والمتعلمة والتكنوقراطية ـ لا بشأن حروب النظام الخارجية
وسياساته الإقليمية، ولا بشأن القضايا الداخلية مثل: البطالة
وأزمة السكن والحريات العامة، وبيع أرامكو، ورؤية ابن
سلمان .. لتصل الى عمق التحولات في السلطة وانتقالها بين
أفراد العائلة المالكة.
الفكرة العامة التي راودت آل سعود ـ تحديداً الملك
سلمان وإبنه ـ هي أن خلق جبهات صراع خارجية، وربما حروب،
ستؤدي تلقائياً الى دفع الشارع للإلتحام مع العائلة المالكة،
وتوحيد الجبهة الداخلية لمواجهة تحديات الداخل.
كانت حرب اليمن العدوانية الذروة لاختبار ما سمي بالتلاحم
بين القيادة والشعب.
كان صوت المدافع الرسمية قوياً في بداية اعلانها، بحيث
حجب كل الأصوات الرافضة للحرب، ولكن مع فشلها وتصاعد خسائرها،
انكشف الأمر على حقيقته وكيف أنها لا تحوز رضا المواطنين،
ولا تحوز اجماعاً داخل العائلة المالكة، بل أنها أصبحت
عامل هدم وتشرذم للجبهة الداخلية.
الخسائر الخارجية على الجبهة السورية والعراقية؛ والفشل
الذريع على الجبهة الداخلية: اقتصاداً وأمناً وسياسة،
أصاب النظام السعودي بالتوتر الشديد، فزادت حدة القمع
للمختلفين، الى حد تدمير بلدات بأكملها في غرب المملكة
كما في شرقها، والى اعتقال المئات، بل الآلاف، وتشديد
أحكام الإعدام، وتنفيذ الكثير منها.
في بداية الثمانينيات الميلادية، كتب نداف سفران، بأن
النفط يمثل العامل الأساس في تعزيز (لحمة المجتمع السعودي)
من زاوية ان ايرادات النفط ليس فقط تقوم بتقوية مركز السلطة
وترفده بالرّيع الكافي لتقوية اجهزته القمعية، ولرشوة
المجتمع وتأخير الاصلاحات السياسية فحسب. بل كان ذلك الريع
الأساس في الحفاظ على الانسجام بين القمة والقاعدة، وعامل
تسكين وتهدئة للشارع، وتالياً كان الريع يمثل العمود الفقري
في تشكيل المظهر الوحدوي الداخلي، القائم في الإساس على
مقدار ما تنفقه السلطات من ريع النفط.
هذا الأمر تغير دراماتيكياً، فبين ليلة وضحاها، أصبحت
الدولة الريعية، دولة ضرائبية.
وقبلها، تراكمت ازمة البطالة لتقلص حجم الطبقة الوسطى،
صمام الأمان والاستقرار، ولتقذف بالكثير من أفرادها الى
ادنى القائمة (على مرتبة الفقر).
وزاد عدد الفقراء ليصبح نحو نصف الشعب يعيش الفقر ودون
مستوى الكفاف.
زاد حجم السخط، وانكشفت مساوئ النظام.
ما كان متحملا من قمع، اصبح واضحاً مكشوفاً للعيان.
كلما زادت خسائر النظام الخارجية، تنمّر النظام في الداخل
ليثبت قوته.
اليوم هناك انشقاق واضح في المجتمع.. وهناك نفور كبير
بين الشعب والحكم الممثل في آل سعود.
لكن الأهم هو الإنشقاق في النواة الصلبة للنظام، ففي
الأزمات تعتمد الأنظمة السياسية على الدائرة الضيقة الموالية
والمحافظة والمدافعة عن النظام.
حتى هذه النواة، أصابها العطب والتشقق بل والتشرذم.
اليوم لا تستطيع أن تخفي الانشقاق داخل العائلة المالكة،
فعدد من الامراء اعدموا بعد اختطافهم من الخارج، وعدد
آخر في الإقامة الجبرية وفي مقدمتهم ولي العهد السابق
محمد بن نايف، وبعض آخر في السجون وبينهم عبدالعزيز بن
فهد، وآخرين.
والى جانب هؤلاء هناك العشرات من الضباط الكبار في
الجهاز الأمني لازالوا معتقلين وممنوعين من السفر، بعد
ان فصلوا من وظائفهم لقربهم من محمد بن نايف.
الإنشقاق داخل دائرة الحكم تستطيع ان تتلمّسه أيضاً
بين ما تعارف بتسميته: جناحي السلطة (العلماء/ المشايخ؛
والأمراء/ آل سعود). حيث ينفر كل جناح من الآخر، وحيث
تعدي الأمراء على ما يعتبره مشايخ الوهابية من صلاحياتهم،
وحيث ماكنة ابن سلمان تعمل بطاقتها لما اعتبره البعض (علمنة
الدولة)؛ وإشاعة الفساد فيها من خلال (هيئة الترفيه) التي
بدت وكأنها البديل لـ (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر).
الاعتقالات في التيار السلفي الوهابي دليل هي الآخر
على انفصام (نواة الحكم) حيث اعتقل وطُرد امام الحرم المدني
حسين آل الشيخ، واعتقل دعاة وهابيون كانوا أداة النظام
في حروبه الطائفية الخارجية وهمزة الوصل مع القاعدة (عصام
العويد)؛ كما اعتقل العديد من القضاة العاملين ـ يا لسخرية
القدر ـ في جهاز وزارة الداخلية ويأتمرون بأمرها في وضع
احكام تقررها الوزارة.
ومن دلائل تفتت النواة الداخلية الاعتقالات والقمع
الذي شمل محسوبين من أعمدة النظام الاعلامية وربما الاستخباراتية،
مثل جمال خاشقجي، الذي مُنع حتى من التغريد والكتابة،
لنحو عشرة اشهر، ثم سمح له بالسفر والكتابة، فقرر الإقامة
في امريكا، ومُنع نهائياً من الكتابة في جريدة الحياة.
وسبقه اعتقال الباحث والكاتب طراد العمري، في نوفمبر 2016
حتى الآن، وهكذا.
هذه الأمثلة توضح بما لا يدع مجالاً للشك، بأن وحدة
النظام الداخلية تميل الى التفتت.
وما يُنذر بالشؤوم، أنه من الصعب بناء نواة جديدة،
او حتى إعادة تأهيل النواة القائمة، فذلك يستغرق وقتاً
طويلاً، ويحتاج الى مناخ سياسي وأمني ملائم غير متوفر
في الوقت الحالي.
ماذا يعني تفتت نواة النظام الصلبة، او نواة الحكم
الداخلية، أو حتى تقلص حجمها والمشاركين فيها؟.
انها تعني انحساراً في حجم المشاركين والمنتفعين من
السلطة، وبالتالي انحساراً في المساهمين في الحفاظ على
سلطة آل سعود، حتى من بين الأمراء أنفسهم. هذا يمثل نتيجة
طبيعية لما سماه ابن خلدون بـ (الانفراد بالمجد)، اي الانفراد
بالسلطة من قبل أقلية او جناح داخل العائلة المالكة.
يأتي هذا ووضع النظام اليوم ليس مريحاً البتة، فهو
في صراع مع الجمهور، ومع معظم فئات المجتمع تقريباً، فضلاً
عن صراعاته التي لا تنتهي مع اعداء الخارج كما يزعم. كما
ويأتي في ظروف اقتصادية تزداد صعوبة، وفي ظل انتكاسات
سياسية وعسكرية كثيرة.
أيضاً، فإن آثار التفتت في بنية النظام الصلبة واضحة
المعالم، ولها تأثيراتها السلبية الحتمية المستقبلية على
استقرار الوضع السياسي والأمني.
التشرذم في نواة النظام يجعله مشغولاً على الدوام،
متوترا على الدوام، خائفا متهما لكل من حوله.. وهذه مرحلة
تبلغها الأنظمة التي شارفت على نهايتها، حيث لا تميز بين
الصديق والعدو، وتصفع باليمين والشمال، ولا تهتم بعواقب
السياسات.
تفسخ اللحمة الداخلية للنظام لها آثارها السلبية الشديدة
على مصادر شرعيته، حيث النضوب الكبير والسريع لها، سواء
كانت الشرعية الدينية/ الوهابية في محيطه الاجتماعي النجدي
الخاص.. او شرعية الإنجاز، حيث لا انجازات مادية ولا معنوية،
في ظل سياسة التقشف وفرض المزيد من الضرائب لتغطية العجز،
وفي ظل تعطيل المشاريع الحكومية.
لضعف الشرعية انعكاس سلبي على حجم الولاء لآل سعود
في الشارع. بل اكثر من ذلك: تضعضع شرعية النظام، تفسح
المجال لزيادة محاولات الخروج والاعتراض عليه.
هناك آثار لتفتت اللحمة الأساسية في بنية النظام، على
سلوك رموز النظام (الملك وابنه تحديدا) حيث يشتدّ الميل
نحو العدوانية والقسوة، وتعويض النقص والضعف باظهار القوة
والمزيد من البطش لأتفه الأسباب.
وقد لحظنا آثار التوتر على النظام، بسبب الشعور بالعزلة
والضعف، ومن بينها (الرعونة والعناد) اللتان نراهما عند
ولي العهد محمد بن سلمان، حيث السمة العامة لسياساته الداخلية
والخارجية صدامية وترفض المراجعة او التراجع حتى في تلك
القضايا التي ثبت بالدليل القاطع انها خاطئة ولا تخدم
البلاد ولا النظام السياسي نفسه.
السبب في هذا العناد والإصرار على السياسات الخطأ،
هو أن الملك وابنه لا يريدان ان ينظر اليهما بأنهما تراجعا
عن ضعف او خطأ في التقدير والتحليل، بما يفتح المجال لمزيد
من النقد لسياساتهما التي جرت الوبال على البلاد وسمعتها
وامكاناتها الاقتصادية.
بمعنى آخر، حين يمر النظام بمرحله متقدمة من المرض،
قد تطول أو تقصر، يصبح أقل مرونة في مواجهة الصعاب، وهذه
نقطة ضعف كبرى، حيث يتيبّس النظام ويصيبه الجمود، فيضحي
بلا قدرة على التكيف مع المعطيات المستجدة السياسية والاقتصادية
والنفسية، فتتقلص أمامه مساحة المناورة، بسبب تضييقه على
نفسه ابتداءً.
اذا كان النظام لا يتمتع بالمرونة وغير قادر على تغيير
سياساته ولا مراجعتها، فإن ذلك يفسر سبب افتعاله المشاكل
اقليمياً ومحلياً، لتجاوز الأزمات التي تعترضه. فكلما
جاءت أزمة، خلق النظام أزمة اخرى تُنسي الأولى (ازمة قطر
تلاها ازمة اقالة ولي العهد، ثم تدمير العوامية، ثم موجة
الاعتقالات، وهكذا). أي ان النظام يرتكب المزيد من الأخطاء
والمغامرات اظهارا للقوة والبطش وعدم الاعتناء بما يقال
من نصح او نقد، فيكون ما يرتكبه من سياسة القفز الى الأمام
حافزاً لارتكاب المزيد منها لتغطية فشل المغامرات والهزائم
السابقة، فيزداد ارتكاساً. اي انه يعالج مشاكله الحاضرة،
بزيادة المشاكل لنفسه ولمن حوله.
في النتيجة، إن النظام الممثل في شخص الملك سلمان وابنه،
يفتتان اللحمة الداخلية والنواة الرئيسية الحافظة للحكم
نفسه، وذلك في سياق السيطرة على العرش وتوريثه للأبناء
ضمن سلالته. هذه السياسة ستجرهما الى ارتكاب المزيد من
الأخطاء واحداث الكثير من الزوابع، بما يفجر الاستقرار
الأمني والسياسي.
اليوم نحن امام نظام مجنون، لا صديق له، والجميع في
دائرة الاستهداف.
|