مملكة على صفيح «المغامرات»
محمد قستي
بدأ عصر المغامرات بمجيء الملك سلمان الى الحكم في
25 يناير 2015.
بإمكان الباحثين والمتابعين ان يتحدثوا عن مغامرات
هذا العصر الكثيرة، وتصنيفها في شتى المجالات.
كل مغامرة كبرى أقدم عليها الملك سلمان، ومن ثمّ ابنه،
يمكن ان تكون قاصمة الظهر؛ وما يسمى مغامرة في (أمرٍ هيّن)
لا يعدّ مغامرة في الأساس؛ وإنما المغامرة في القضايا
الكبيرة التي تحدّد مسار الحكم، ومستقبل المملكة وشعبها.
أول المغامرات، إن أردنا
تحديدها، هي تعيين سلمان ابنه ولياً للعهد، وتغيير نمط
انتقال وراثة الحكم الأفقي من الأخ الى أخيه، الى الخيار
العمودي، أي من الإب الى ابنه.
هذا التعيين استدعى الإطاحة بإثنين من ولاة العهد في
عامين: (مقرن، ومحمد بن نايف)، اولهما عبر المال والضغط،
والثاني بالقوة والإقامة الجبرية.
واستدعى التعيين ـ بشكل حتمي ـ تفكيك وحدة العائلة
المالكة، وهذه مغامرة أخرى. فتعيين محمد بن سلمان ولياً
للعهد مغامرة، استدعت مغامرة ثانية هي الاطاحة بمحمد بن
نايف، وخلقت مغامرة ثالثة وهي التضحية بالعائلة المالكة
وعدم الاعتناء بانشقاقها، بما له من تداعيات قد تصل الى
حد المقامرة بحرب أهلية (نجدية) على غرار ما حدث لأبناء
فيصل بن تركي في القرن التاسع عشر الميلادي.
ثاني المغامرات المهمة، حرب
اليمن العدوانية.
البدء بالحرب كان مغامرة كبرى، مغامرة بالأمن السعودي
نفسه، وبالنفوذ السعودي المهيمن في اليمن، وكذلك فالحرب
مغامرة بالإقتصاد السعودي، وبسمعة السعودية.
الفشل في تحقيق نصر، والإصرار على مواصلة العدوان،
ورفض الحلول السياسية، مغامرات متراكمة. فقد تحولت الحرب
الى استنزاف متعدد الجوانب، والقبول بأنصاف الحلول مغامرة
أخرى، لأنها تعني الفشل بما له من ارتدادات على وضع الحكم
الداخلي. فلا أخطر من انعكاسات الهزيمة العسكرية على المزاج
الشعبي، واحياناً على القوات المسلحة نفسها، والتي قادت
في بلدان عربية اخرى الى انقلابات متكررة، كما في سوريا
والعراق ومصر.
ثالث المغامرات الكبيرة،
هي رؤية محمد بن سلمان الاقتصادية 2030، فقد لاحظ المحللون
الاقتصاديون أنها رؤية عمياء بمجرد أن قرأوا تفاصيلها.
عنصر المغامرة في هذه الرؤية لا علاقة له بالنهب والفساد
ـ إن تمدد وزاد من عدمه؛ وإنما في أمرٍ أكثر خطورة بما
لا يقاس، وهو: تحويل الاقتصاد الريعي، الى اقتصاد ضرائبي،
وهو أحد أهم أعمدة الرؤية.
الرؤية غير المدروسة لها علاقة مباشرة بانحطاط شرعية
الحكم، التي تعتمد على الريع، اي على ما تقدمه الدولة
من خدمات؛ وإن تحويل الاقتصاد الى أعباء ضريبية على المواطنين،
يعني تحولاً في مصادر شرعية النظام الذي لم يفتح منافذ
سياسية تغطّي سياسة التحول الاقتصادي. أي أنه لم يقم بفتح
نافذة التمثيل السياسي، وكأنه يعيش عهد الريع والدولة
الريعية!
السياسة الضرائبية التي شملت كل شيء تقريباً، زادت
من اعباء المواطن. وزادت من البطالة بسبب توقف العقود
الحكومية ضمن سياسة (التقشف)؛ حيث أفلست مئات الشركات،
ولفظت موظفيها المحليين والأجانب.
في تفاصيل الرؤية العمياء 2030 التي يقال ان هناك الآن
مراجعة لها.. توجد مغامرات مثيرة لا تقل أهمية، من بينها:
مغامرة بيع شركة أرامكو،
وهو أمرٌ يكاد يصيب المحللين المحليين بالانفجار من شدّة
الغضب. إذ كيف تبيع البطة الوحيدة التي تمتلكها والتي
تبيض ذهباً وتوفر معظم مداخيل الدولة؟
مغامرة أخرى، تتعلق بصندوق الاستثمار
الحكومي (او هيئة الاستثمار)، الذي يستثمر اموال
الدولة وما يتم خصخصته من شركاتها الكبيرة، بما فيها التعليم
والصحة والمطارات والطرق والبلديات وغيرها.. يستثمر معظمها
في حقل النفط والطاقة نفسه. لماذا تبيع أرامكو إذن؟
ثم إن غياب الشفافية والمحاسبة فيه مخاطرة بكل شيء
تقريباً، والأسئلة كثيرة: من يدير جهاز الاستثمار، ما
هو حجم ممتلكات الدولة واستثماراتها؟، اين هي التقارير
عن أداء هذا الجهاز او الصندوق؟ في أي مجال يجري الاستثمار
وفي أي دول؟ ما مدى الحماية المتوفرة؟ ما هي الجدوى الاقتصادية
لبرامج الاستثمار؟
باختصار هناك مغامرة برأس المال، وليس بالإيرادات النفطية
فقط، بل وهناك مغامرة بأملاك الدولة من الأراضي، وبإيرادات
التخصيص لأرامكو وللأجهزة والمؤسسات الأخرى.
لم يحدث في تاريخ البلد ان خاضت مغامرة كهذه، خاصة
وأنها تأتي ضمن مغامرات أخرى كثيرة في نفس الوقت، ولا
يوجد دليل على أن أحدها يمكن أن ينجح!
ومن المغامرات في السياسة الخارجية:
الصراع مع قطر. وهذه تشمل مغامرة بمستقبل مجلس
التعاون الخليجي الذي تعد فيه السعودية المستفيد الأكبر،
فهو أداتها للسيطرة على دول الخليج الأخرى.
وهذه المغامرة على مستوى النفوذ والأمن القومي، قابلة
للتكرار، سواء مع سلطنة عمان او مع الكويت، وهي مغامرة
قد يستتبعها زيادة المخاطر بحساب الامن القومي السعودي،
تأتي من ايران وتركيا.
الآن نحن أمام مغامرة اكبر من مغامرة السعودية في سوريا
او العراق من حيث الارتدادات المباشرة على الداخل السعودي.
فقطر هي الدولة الوحيدة التي تمتلك قوة ونفوذا كبيراً
داخل السعودية: باعتبارها دولة وهابية فلها شبكة علاقات
واسعة مع مشايخ النظام الرسميين، ومع الصحويين (اعتقل
رموزهم مؤخراً). وقطر هي جزء من البناء الخليجي، ومعاقبتها
اشبه ما يكون بمعاقبة الذات.
ثم ان النظام السعودي دخل في مغامرة كسر عظم على الطريقة
اليمنية: لا انصاف حلول، ولا بد من اسقاط النظام في قطر.
هذا قاده الى استخدام المؤامرات العسكرية، وحاول شق آل
ثاني، واستخدم القبيلة في أقبح صورها. ولأن قطر ليست سوريا
او العراق، فإنها تستطيع القيام او الرد بالمثل: اعلاما
وسياسة وتمويلا، وهنا مكمن الخطر. وما تتعرض له قطر من
صعوبات اقتصادية، تنعكس على السعودية والإمارات ايضاً.
وهكذا فإن المغامرة السعودية غير محسوبة لا في الأدوات
ولا في النتائج، وهي كما مغامرة اليمن، مفتوحة بلا أفق
حل، واستمرارها ضارّ بالسعودية كما بقطر.
بقيت مغامرة أكبر من كل المغامرات
السابقة، التي اقترفها العهد السلماني في سنوات
حكمه التي لم تكمل عامها الثالث، ألا وهي: تغيير أيديولوجية
الدولة (الوهابية)، او التحوّل عنها، او تخفيض دورها.
ومع ان هذه المغامرة تلقى ترحيباً كبيراً في أوساط
مختلفة بما فيها الوسط النجدي الحامل للدولة والحاكم السيد
فيها (رغم أقلّويته)؛ الا ان الاجراءات بحدّ ذاتها جاءت
كمغامرة ناتجة عن مغامرات سابقة.
كأننا ازاء مغامرة تلد أخرى، كما هي: حرب تلد أخرى.
الدولة السعودية قامت بثنائية نجدية (آل سعود ومشايخ
الوهابية)؛ والآن لأول مرة ليس فقط يتم اخضاع المشايخ
لآل سعود، فقد كانوا خاضعين دوماً، وبقيت لهم مكانتهم
كمانح للشرعية في الوسط الوهابي النجدي، ولقدرتهم على
حشد الولاء للنظام.. هذه المرّة هناك (تهميش) لدور الوهابية
في ادارة الدولة وفي صياغة المجتمع.
لم تعد الدولة ثنائية الرأس، كما يتوهم، وأحيانا كما
يجادل المشايخ أنفسهم (ولاة الأمر هم العلماء والأمراء)!
ولم تعد السلطة بيد العائلة المالكة، بل بيد الملك
وابنه، ولم يحدث في تاريخ السعودية منذ وفاة مؤسسها في
نوفمبر 1953، ان نال ملك سعودي من السلطة ما ناله الملك
سلمان، او لنقل الملك غير المتوج محمد بن سلمان. لا توجد
شراكة داخل العائلة المالكة في الحكم.
احتكار السلطة والقرار السياسي والاقتصادي والاستثماري
والأمني والعسكري والترفيهي وغيره بيد محمد بن سلمان،
كان مقدمة لاتخاذ قرارات لا يستطيع اتخاذها في حال وجود
مراكز قوى عديدة، سواء داخل العائلة المالكة او في المجتمع
النجدي عامة.
وبسبب الحاجة الاقتصادية التي سببتها مغامرة سعودية
سلمانية اخرى: (اغراق أسواق النفط) وما تبعها من هبوط
الأسعار، كان لا بد من مغامرة هيكلة الاقتصاد وتغيير مساره.
وتغيير مسار الاقتصاد (الى الضرائب) قاد الى مغامرة فتح
الأبواب للسياحة المحلية، كتنفيس اجتماعي ليتقبل القرارات
الاقتصادية، ولدفع المواطنين لانفاق اموالهم داخلياً.
هذا لا يأتي الا بمغامرة: تخفيض دور هيئة المنكر الى حد
الحاقها بوزارة الشؤون الاسلامية، وربما الغائها في المستقبل؛
وتأسيس هيئة الترفيه لتطلق العنان للحفلات الغنائية والراقصة؛
وليتوج الأمر بالسماح لقيادة المرأة بالسيارة، وفتح دور
السينما، واعادة النظر في وسائل الترفيه.
كل هذا لم يكن ليتم دون ان تتم المغامرة
الكبرى: اضعاف المؤسسة الدينية، ووضع الحركيين
الوهابيين (الصحويين وغيرهم) في السجون، حتى لا يكون هناك
اعتراض، حيث تشتد حملة قمع الأنفاس.
التغيير في ايديولوجيا الدولة ليس مستحيلا او صعباً
بالنسبة لمعظم الدول، لكنه في السعودية اكثر صعوبة، بل
اكثر خطورة.
اولاً، لأن الدولة في اساسها
نجدية وهابية، وكان للمشايخ دور في تأسيسها وادارتها،
اي انهم ليسوا طارئين على الدولة بل مؤسسون لها. ورغم
اقلوية المذهب الوهابي، الا انه صار دين الدولة الرسمي.
وإن ازاحة الدور التاريخي للوهابية، يضعف النظام في شرعيته
وفي محيطه النجدي. وبالتالي لا بد له من أن يجد مصادر
أخرى للشرعية، وأن يتحمل تبعات هذا القرار، لأنه قد يفجر
عنفاً وهابياً داعشياً كامناً، اذ لا يخفى الانشقاق داخل
الحاضنة النجدية نفسها، كما داخل المؤسسة الدينية، كما
داخل النخبة التكنوقراطية النجدية التي تدير الدولة.
وثانياً، لأن العائلة المالكة
لطالما اعتبرت نفسها نجدية التكوين والادارة، وبالتالي
لم تنفتح على الأكثرية الشعبية في المناطق الأخرى، بل
عادتها وقمعتها في مصالحها وفي هويتها، وبضرب المؤسسة
الدينية يضعف حكم نجد، حكم العائلة المالكة، ما لم يقدم
على الانفتاح على تلك المناطق الاربع: الحجاز، الشمال/
تبوك والجوف، الشرقية/ الاحساء والقطيف، والجنوب المهمش
هو الآخر/ جيزان ونجران وعسير. بدون هذا، تضيق الدائرة
على النظام ويصبح بدون دعم شعبي.
لكن هذا الانفتاح على المناطق الأخرى، يعني اعادة حصحصة
المناصب الحكومية المحتكرة اصلاً لنجد الأقلوية. كما يعني
اعادة توزيع الثروة بالعدل.
ولكن هل يقدم محمد بن سلمان على ذلك، فيجعل من الابتعاد
عن الوهابية المتطرفة، وسيلة لتأسيس معنى حقيقي للدمج
الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لمكونات الشعب؟
نشك في ذلك.
وتبقى مغامرات العهد السلماني كثيرة ومتعددة، وكل مغامرة
منها لم تحسم حتى الآن، كما لا يُعلم على وجه الدقة نتائجها
سلباً أو ايجاباً، وان كان التقييم العام يفترض ان زوابع
عديدة تنتظر الحكم السعودي بسبب الفشل شبه الحتمي لـ (معظم)
إن لم يكن (كل) تلك المغامرات.
|