تنعقد القمة ..أم لا تنعقد
مبادرة الاصلاح السياسي معوّقاً
منذ فشل قمة تونس في نهاية مارس الماضي، تكشّفت صورة التناقضات الحادة
في النظام العربي، وبدا وكأن المصالح السياسية بين الحكومات العربية
بلغت مستوى من التباين الحاد بحيث يصعب معه التئام القمة ما لم تقع معجزة
غير متوقّعة.. لم تكن القضية الفلسطينية، ولا أحداث العراق، ولا العلاقات
العربية ـ العربية، ولا العلاقات العربية ـ الاوروبية والاميركية، ولا
الاوضاع الاقتصادية والامنية في العالم العربي ولا غيرها من الملفات
الأخرى الأقل والأشد حساسية سبباً في فشل القمة الأولى كما لم تكن السبب
وراء الاستنفار الملحوظ لدى قيادات عربية من أجل تطويق الخلاف العربي
العربي ومحاولة ردم الفجوة بصورة عاجلة لعقد قمة عربية تضع حداً للجدل
والشكوك حول قدرة الجامعة العربية على أن تضطلع بدور فاعل في السياسة
العربية.. فقد كان الملف الخلافي بصورة محددة وواضحة هو الاصلاح السياسي،
أو بكلمات أخرى المبادرة الاميركية الخاصة بالشرق الاوسط الكبير، والتي
تقضي بامتثال الحكومات العربية لخطة اصلاحية شاملة. هذا منشأ النزاع
الخفي بين الحكومات العربية، وقد زاد في خطورته الجدل حول طبيعة ووتيرة
الاصلاح السياسي المطلوب، فبينما تصرّ الولايات المتحدة وعدد من الدول
العربية على تطبيق المبادرة الاميركية (والتي جرى تعريبها في الاسكندرية
فخرجت على هيئة وثيقة)، أبدت السعودية وسوريا تحفّظاً على المبادرة،
وأصرّتا على إيكال مهمة الاصلاح لكل دولة على حدة طبقاً لرؤيتها الخاصة
وشروطها الداخلية.
وفيما تصرّ الجامعة العربية على تدعيم موقفها كناظم للسياسة العربية
وتأكيد محوريتها كمطبخ للاجماع السياسي العربي، فإن دولاً عربية ترى
بأن تمرير المبادرة الاميركية عبر الجامعة العربية يفقد هذه الدول حرية
إختيار الطريقة المناسبة لتطبيق الاصلاحات.. وكانت دول عربية مثل السعودية
وسوريا قد شعرت بأن الولايات المتحدة حاولت قبل انعقاد القمة العربية
في تونس الشهر الفائت تشجيع حكومتها من أجل فرض المبادرة الاميركية وتحويلها
الى أمر واقع مادفع بدول عربية محورية الى عقد مشاورات عاجلة من أجل
افشال ما وصفه البعض بـ (مخطط أميركي)، يستهدف املاء اجندة اصلاحية من
الخارج، ويجعلها مورد الزام للحكومات العربية.
السعودية من جانبها تشعر بأنها أكثر الدول تضرراً من أي مبادرة إصلاحية،
لأسباب داخلية وخارجية، إذ فقدت العائلة المالكة في الداخل رصيدها الشعبي
ومصداقيتها في ادارة الدولة وتواجه ضغوطات مستمرة من اجل الاصلاح من
قبل التيار الاصلاحي المتنامي، وفي الخارج خسرت العائلة المالكة شبكة
واسعة من التحالفات الدولية التي كانت توفّر لها الحماية والسمعة المطلوبة
في المحافل الدولية. ولهذا السبب يمكن القول بأن خيار العائلة المالكة
لمواجهة الضغط من أجل الاصلاح السياسي بات عربياً صرفاً، فهي تعوّل على
قدرتها في تشكيل جبهة عربية قوية مؤلفة بدرجة أساسية من مصر وسوريا وباسناد
من دول أخرى مثل لبنان والمغرب وغيرهما. وكان مجلس الوزراء السعودي قد
دعا في الخامس من أبريل الى (تكاتف العمل العربي المشترك) وهي دعوة قد
تبدو جزءاً من الخطاب العربي الكلاسيكي، الا أنها تلمح بقوة الى خط السير
السياسي الذي تسلكه الحكومة السعودية منذ فقدانها شبكة حلفاء محليين
وعرب ودوليين. وأن التحديات التي تريد السعودية مواجهتها من خلال جبهة
عربية مشتركة تتصل بدرجة أساسية بموضوع القمة العربية ومحاولة معالجة
الاسباب التي حالت دون انعقاد قمة تونس. وحين نضع التحركات السياسية
السعودية في سياقها الفعلي والحقيقي تصبح مهمة العمل العربي المشترك
منحصرة في التوصل الى اتفاق بشأن موضوع الاصلاح السياسي او بالاحرى المبادرة
الاميركية الخاصة بالاصلاح السياسي في الشرق الاوسط.
ولايمكن تهيئة مناخ مناسب لانعقاد القمة العربية بحسب التصوّرات السعودية
ما لم تحقق جولة الرئيس المصري الاوروبية والاميركية أهدافها المنشودة،
والتي يمكن من خلالها تدعيم الاطروحة العربية في الاصلاح السياسي عن
طريق إقناع بعض الاطراف الاوروبية الفاعلة والادارة الاميركية بالصيغة
التي تم التوصل اليها من قبل السعودية وسوريا الى جانب مصر في شرم الشيخ
قبل سفر الرئيس مبارك الى لندن والولايات المتحدة. نشير هنا الى زيارة
ولي العهد السعودي الى النمسا والتي تلعب دوراً رئيسياً في الاتحاد الاوروبي،
وهذه الزيارة تأتي في سياق مهمة الرئيس المصري مبارك، التي كان الهدف
منها نقل وجهة نظر ثلاثية سورية مصرية سعودية في قضية الاصلاح السياسي.
ولأن هذه الدول باتت تشعر بأن خيارات عدد من الدول العربية الاخرى
باتت في جزء أساسي منها غير قابلة للتبديل أو التوجيه ما لم يتم إقناع
الولايات المتحدة صاحبة النفوذ على هذه الدول بمبادرة الاسكندرية، فقد
كرّست مصر والسعودية جهودهما الدبلوماسية من أجل الحصول على تأييد دولي
قبل حشد الاصوات المؤيدة للمبادرة في الداخل العربي.
فحين انضمت مصر وسوريا الى السعودية في شهر مارس الماضي لاقتراح منظومة
اصلاحات الى القمة العربية المضطربة، كان الاعتقاد لدى هذه الدول بأن
أفكارهم ستحضى بقبول منقطع النظير وأن الدول العربية الاخرى ستتبناها
على وجه السرعة. ولكن ما حصل في واقع الأمر غير ذلك، فقد واجهت هذه الاطراف
رفضاً عنيداً من قبل الدول العربية الصغيرة، والتي كانت مستبعدة من لعب
أي دور بارز في الاجهزة التي أنشأتها الجامعة العربية المستصلحة.
فقد قادت حكومتا كل قطر وعمان المعارضة ضد وثيقة الثلاثة الكبار،
بالتقليل من شأن واضعاف كل مادة وردت في الوثيقة. وبحسب دبلوماسي عربي
فإن عمان وقطر لعبتا دوراً في إحالة الوثيقة الى أشلاء. ويشير هذا الخلاف
الى تشكّل تيار جديد في السياسة العربية، يقوم على اندفاع البلدان الصغيرة
للوقوف في وجه اللاعبين السياسيين الكبار في المنطقة. وقد بدأ هذا الاتجاه
قبل فترة بقيادة قطر، التي حسمت خيار علاقاتها السياسية مع الولايات
المتحدة مع أجندة اصلاحية داخلية مشفوعة بحس إنتقامي من مصر والسعودية،
على حد ادوارد والكر، مدير معهد الشرق الاوسط بواشنطن. فقد أفادت قطر
من ذلك من أجل إرساء قوة مضاهية الى جانب الدول العربية الصغيرة بسبب
أن هذه الدول عانت كثيراً تحت ظل الكبار.
وفيما يلفت والكر الانتباه الى قوة دول عربية مثل مصر والسعودية والتي
ليس من السهل تحدي سلطتها، لا أقل بسبب الدور المحوري الذي تلعبه الرياض
في منظمة الدول المصدر للنفط (أوبك)، ولكن في الوقت نفسه يقول والكر
بأن الولايات المتحدة شجّعت الدول الصغيرة على هذا السلوك الجديد. فمن
خلال التمسّك بأجندة إصلاحية، فإن الولايات المتحدة أضفت قوة على الدول
الصغيرة ومنحتها الشجاعة للوقوف في وجه الدول الكبيرة في المنطقة.
فقد أبدى أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني في الجلسة الافتتاحية
لمؤتمر حول الديمقراطية والتجارة الحرة في الدوحة الشهر الماضي صراحة
غير معهودة في تأييد المبادرة الاميركية وأكد بأن على العالم العربي
النظر في مشاريع التغيير المقدمة من الخارج. وقال الشيخ حمد إن ما يطلق
عليه الغضب النابع من المنطقة لم يظهر بسبب القضية الفلسطينية فقط، بل
إنه نتاج لمشاكل خلقها العالم العربي نفسه ولا علاقة لها بالعالم الخارجي
ـ على حد قوله.
وبحسب كثير من المحللين فإن هذه الدعوة تأتي استجابة لخطة أمريكية
لتحقيق الديموقراطية واقرار حقوق الانسان المعروفة باسم مبادرة الشرق
الأوسط الكبير. وقد رفضت مصر والمملكة العربة السعودية هذه المبادرة
لاعتبارها محاولة لفرض أفكار وتقاليد أجنبية على المنطقة.
وكان الرئيس الأمريكي جورج بوش قد أدان مؤخرا ما وصفه (بقصور الديمقراطية)
في الشرق الأوسط.
ودعا بوش إلى إحلال الديمقراطية في الشرق الأوسط ، وتحدث عن مهمة
الولايات المتحدة لتحقيق ذلك في المنطقة.
ومنذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر، فإن الولايات المتحدة ألقت باللائمة
على النزعة الشمولية التسلطية والتطرف الديني في العالم العربي في تفريخ
ظاهرة الارهاب. ومن المعروف فإن العلاقات الاميركية مع السعودية قد تدهورت
كما تعرضت مصر لانتقادات واسعة بسبب فشلها في الاضطلاع بدور قيادي في
مجال الاصلاحات السياسية. في غضون ذلك، فإن سوريا المصنّفة باعتبارها
الأكثر تشدداً في العالم العربي تتعرض لضغط اميركي متزايد منذ سقوط نظام
صدام حسين في العراق حيث كانت تطالب واشنطن دمشق بوقف دعمها للجماعات
الراديكالية والتخلص من أسلحة الدمار الشامل.
في المقابل، فإن دولاً خليجية صغيرة مثل قطر والبحرين قد حظيت بمباركة
وتأييد أميركي بفعل أخذ هذه الدول بخطوات كبيرة تجاه فتح الانظمة السياسية.
لقد قرّرت واشنطن إنشاء مكتب لتطوير الاصلاحات يكون مقره تونس بدلاً
من القاهرة، المركز التقليدي للسياسة العربية. هذا على الرغم من أن سجل
تونس في مجلس حقوق الانسان لا يقارن مع نظيره في مصر، حيث تحتفظ منظمات
حقوق الانسان الدولية بتقارير عن انتهاكات كبيرة لحقوق الانسان في تونس.
إن قرار الولايات المتحدة نقل قواتها من السعودية العام الماضي، وبناء
قاعدة عسكرية جديدة في قطر منح الدولة الخليجية الصغيرة والمشاكسة مظلة
امنية أميركية، حيث تلتقي الحماية الى جانب كونها الاعلى دخلاً في المنطقة
لتعطيها استقلالية أكبر. نشير هنا أيضاً الى أن القوات الاميركية نجحت
في تشكيل روابط قوية مع كل من تونس والمغرب والجزائر.
ويقول المحللون بأن السعودية لعبت وبصورة مؤثرة دوراً قيادياً في
المنطقة حين كان الخليج مهدداً من قبل العراق وايران. ولكن مع وجود الولايات
المتحدة في العراق وتضاءل الخطر المتوقّع من ايران، فإن الدول الخليجية
الصغيرة لا تشعر منذ الآن بالحاجة الى المظلة السعودية. فهذه الدول تحاول
تسجيل نقاط مع الولايات المتحدة على حساب السعودية كما يقول جمال خاشقجي،
المستشار الاعلامي للسفير السعودي في لندن. ولذلك فإن الدول الصغيرة
ليست بحاجة الى الاخ العربي الكبير بسبب روابطها مع الولايات المتحدة،
حسب باحث في مركز الدراسات الاستراتيجية بالجامعة الاردنية.
فما هو الجديد الآن هو غياب قائد عربي موثوق قادر على الدفع بثقله
وسحب الشارع العربي اليه، كما ليس هناك نظام عربي قادر على تحقيق اصطفاف
رسمي في مواجهة الضغوط والتحديات الخارجية. فلدى بعض البلدان علاقات
مستقله مع الغرب أقوى من علاقاتها مع البلدان العربية الاخرى، وهذا مصدر
القلق الفعلي.
ولكن المحللين السعوديين والمصريين يحذرون من المبالغة في تحوّل السياسة
العربية. فحين يصبح الحديث عن القرارات الهامة بما في ذلك إضفاء الشرعية
على وجود القوات الاميركية في العراق والتأثير على الفلسطينيين في الصراع
مع اسرائيل، فإن الولايات المتحدة بحاجة للرجوع الى السعودية ومصر في
موضوعات من هذا القبيل.
ومن المعروف فإن زيارة الرئيس المصري حسني مبارك الى واشنطن والتي
أطلق عليها الحوار الاستراتيجي المصري ـ الاميركي جاءت لتسويق مبادرة
الاسكندرية للاصلاح. فقد جرت المحادثات بين الرئيس مبارك والرئيس بوش
في الثاني عشر من ابريل بولاية تكساس من أجل اطلاع واقناع الرئيس الاميركي
بالصيغة التي توصلت اليها قيادات كل من السعودية وسوريا ومصر والتي تطمح
لأن تحظى هذه الصيغة بدعم من الادارة الاميركية من أجل حسم موضوع انعقاد
القمة العربية.
وتزعم اطراف في الحكومة المصرية بأن وثيقة مؤتمر الاصلاح العربي الذي
نظّمته مكتبة الاسكندرية لقيت اهتماماً لدى النخب السياسية الاميركية،
وقالت بأن بعض الافكار الواردة في وثيقة الاسكندرية قد تتبناها قمة الدول
الثماني الكبرى في مؤتمرها القادم خلال شهر يونيو المقبل، بوصفها أفكاراً
حول الاصلاح من داخل المنطقة.
|