الخداع الكبير.. وهم الإصلاح!
عبدالحميد قدس
تعيش المملكة السعودية مرحلة غير مسبوقة في تاريخها
السياسي، بل هي مرحلة لا نظير لها في تجارب التغيير والانتقال
السياسي للانظمة في العالم الحديث.
فتحت شعارات التطوير، ومحاربة الفساد، والتجديد الاجتماعي
والاقتصادي، تجري اكبر عملية فساد واحتكار للسلطة.
وفي ظل شعارات ضرب مراكز القوى، واضعاف هيئة كبار العلماء،
واجهزتها القمعية المسماة «هيئة الامر بالمعروف والنهي
عن المنكر».. يجري تكريس نظام دكتاتوري قمعي، يمارس الاستبداد
والتعذيب، وانتهاك الاعراف الاجتماعية والقانونية.
انها مرحلة ماكارثية سوداء، يمارس فيها النظام اسوأ
اساليب السلطة الغاشمة، اذ يقوم بتوجيه الاتهامات من كل
نوع، بدءا من الفساد الى الرشوة، وتبييض الاموال، والخيانة
والتآمر، دون اي معايير او أدلة، ويوزعها على طيف واسع
من المتهمين، يشمل امراء معروفين ومغمورين، ورجال دين
ـ متشددين ومعتدلين ـ وكتابا وصحافيين، وناشطين سياسيين
وحقوقيين، اضافة الى اعداد كبيرة من التجار واصحاب الرساميل
ومالكي وسائل الاعلام.
رجل واحد فقط في طول البلاد وعرضها لا تطاله الشبهات..
ورجل واحد فقط تتجمع لديه كل سلطات، ليس باعتباره ملكا
يرأس النظام السياسي فحسب، بل هو المسؤول الوحيد والمباشر
عن السلطات الاجرائية والتنفيذية والامنية والقضائية وهيئة
الادعاء والتحقيق.
فالامير محمد بن سلمان، اضافة الى كونه وليا للعهد،
احتكر لنفسه تدريجيا كل مفاتيح الديوان الملكي، والشؤون
السياسية والعسكرية والامنية والاقتصادية والمالية والسياحية
والتعليمية والقضائية، وارامكو ومشتقاتها، وهيئات التخطيط.
وفي حملته الاخيرة، لم يكتف بالسيطرة على وسائل الاعلام
المملوكة للدولة او شبه الرسمية، التي ترتبط بشكل مباشر
بأجهزة وزارة الداخلية والحرس الوطني ووزارة الدفاع، بل
عمل على استتباع ثلاث امبراطوريات اعلامية، عبر اعتقال
اصحابها، واتهامهم بالفساد، وتبييض الاموال، وتجارة المخدرات،
وهم: الأمير الوليد بن طلال مالك قنوات (روتانا)، ووليد
الإبراهيم صاحب شبكة MBC، وصالح كامل مالك محطاتART.
وهو اذ يصادر اموال الشخصيات التي يعتقلها، فإنه اصدر
اوامره بالتحفظ على اكثر من الفي حساب بنكي لكبار رجال
المال والاعمال في المملكة، ومن بينهم وزراء حاليون وسابقون،
واشخاص لمعت اسماؤهم من بين مؤسسي اقتصاد المملكة وبناة
امبراطوريتها النفطية والمالية.. وكان اخرهم أحمد زكي
اليماني، أحد ابرز وزراء النفط في المملكة السعودية.
فهل هذه الاجراءات تصب في خدمة الاصلاح ومحاربة الفساد
في المملكة؟ وهل هي بعيدة عن التسييس والانتقام؟، ثم هل
تخدم مشاريع اعادة تكييف الاقتصاد وتنويع مصادر الدخل،
بعيدا عن التبعية لتصدير النفط، بحسب ما جاء في رؤية 2030؟
إفساد وليس محاربة الفساد
لا يشك احد في ان النظام السعودي هو احد اكثر الانظمة
فسادا في العالم!، ولا جدال في ان ثروة البلاد الهائلة
جرى نهبها بشكل منظم وعلني، وتحت سمع وبصر العالم، واجهزة
الدولة كافة.
وكان من الطبيعي في المملكة السعودية، وفي عهود كل
ملوكها دون استثناء، ان تجري الصفقات والسمسرات، وتعطى
التلزيمات والتعهدات بالمشاريع، باعتبارها هبات ملكية
للمحاسيب والاعوان، دون حسيب او رقيب، وباستنسابية مطلقة،
ودون اي معايير قانونية.
وفي العهود السعودية كلها منذ أن تأسست الدولة السعودية،
جرى الاستيلاء على الاراضي الشاسعة، والشواطئ، وعقود الصفقات
الخارجية من قبل عدد من الامراء المعروفين، او افراد من
النخبة النجدية وشيوخ القبائل، دون ان يكون ذلك مثارا
للريبة، بل جزء من اسلوب الحكم وتوزيع الثروة او نهبها.
بل ان المداخيل الشهرية، والامتيازات التي يحصل عليها
الاف الامراء من العائلة المالكة، والصفقات التي كان يتباهى
بها بعضهم علنا على شاشات التلفزيون.. لا تترك مجالا للشك
او الجدل، حول نظام الفساد والرشوات وتجارة المخدرات،
والذي تمارسه الاغلبية الساحقة من ابناء العائلة المالكة،
وعشرات الالاف من الاتباع، ومشايخ الوهابية، والتجار،
والاعلاميون والمحظوظون من ابناء النخبة النجدية.
الا ان السؤال الذي يبرز في تقييم حملة الامير محمد
بن سلمان هو: هل فعلا هو يستهدف الفاسدين؟ وهل هؤلاء هم
الفاسدون فقط؟ وماذا عن الباقين وهم بعشرات الالاف؟ بل
ماذا عن الاموال والشركات التي يعبث بها الامير نفسه واخوته
وكيف وصلت اليهم؟
لا شك ان الحديث عن الفساد بالمدلول الصحيح، وبمعناه
العلمي او السياسي المتداول، لا ينطبق على ما يقوم به
ولي العهد السعودي.. بل انه باعتقاله احد عشر اميرا، واتهامهم
بالفساد وتبييض الاموال، انما يبرئ ساحة الاف الامراء
الاخرين الذين حصلوا على ثرواتهم، وهي بالمليارات ايضا،
بالطريقة ذاتها!!
فاعتقال جزء من الفاسدين: تضليل وعملية خداع، تستهدف
اقناع الرأي العام، بأنهم المسؤولون عن ضياع الثروة، وسرقة
المشاريع، وانتشار البطالة، وخصوصا في صفوف المتعلمين،
ذوي الاختصاصات العالية والنادرة، وازمة السكن التي تطال
اكثر من 75% من المواطنين، وانتشار الفقر لدى نسبة كبيرة
من سكان احياء التنك في المدن، وفي الارياف.
ان ما يفعله الامير محمد بن سلمان، هو عملية افساد
في جوهرها باسم محاربة الفساد، لانها تخادع الجمهور ليسكت
عن الاف الفاسدين الذين ارتضوا ان يدينوا للحاكم الجديد
بالطاعة.
بل ان محاربة الفساد تتطلب قانونا يجري الاحتكام اليه،
ولوائح تفصيلية بما يعتبر تهمة في هذا المجال.. امام اعتبار
الفرد مرجعية للحكم على الاخرين فهو جزء من الفساد.
ومحاربة الفساد تتطلب محاكم مستقلة، واجهزة قضاء عادلة
تعمل بقوانين مكتوبة، ولا يمكن الركون الى عدالة معينة
من قبل الحاكم، وتقضي بمزاج القضاة واجتهاداتهم، او بأوامر
من السلطة السياسية.
ومحاكمة الفساد تقتضي وجود اجهزة للضبط والتحري، واجراءات
قضائية سريعة تؤمن حقوق المتهمين، وامكانية الدفاع في
المحاكم عبر محامين يختارونهم بانفسهم.
وكل ذلك غير متوفر في هذه الحملة ولا في هذه المملكة،
بل ان هيئة عينها الملك في الصباح اصدرت احكامها ونفذتها
في المساء، ولم توجه للمتهمين اتهامات مكتوبة حتى يتمكنوا
من اعداد دفاعهم عن انفسهم، بل تولت اجهزة الاعلام المملوكة
للدولة، تسريب الاتهامات، ومحاكمة المتهمين الذين تحولوا
الى مدانين ومجرمين فور اعتقالهم.
اعتقالات سياسية
ويكاد يجمع المراقبون على ان هذه الحملة التي يروج
لها اعلام النظام، لا صلة لها بالفساد، بل هي جزء من معركة
الامير محمد بن سلمان للوصول الى العرش.. فهي تأتي في
خضم الازمة السياسية المتدرجة التي يشهدها النظام السعودي،
تحت عنوان انتقال العرش الى الجيل الثالث، وما شهدته هذه
الولادة من صعوبات، ومخاض عسير لم يكتمل بعد. الا ان الشكوك
لا تزال كبيرة، والاخطار محدقة، فربع الساعة الاخير قد
يكون الاكثر دراماتيكية في المسرحية كلها.
فإلى جانب هذه الصورة الدرامية للقرارات الجريئة التي
يتخذها الملك وابنه، باقصاء رجل النظام القوي الامير محمد
بن نايف، في الجولة الاولى، ثم الامير متعب بن عبد الله،
في الجولة الثانية، اضافة الى تجاوز الضربة الاطار الضيق
للامراء الملتصقين بالنظام والمتطلعين الى السلطة، لتشمل
دائرة اوسع من الامراء والشخصيات الذين يمتلكون ادوات
التأثير المادي والاعلامي والسياسي.. الى جانب كل ذلك
جرى تفكيك العلاقة بين النظام السياسي العائلي للمملكة
الذي بات مختزلا بالملك سلمان وابنه وحسب، والمؤسسة الدينية
الوهابية التي شكل التحالف معها الاساس الذي اقيمت عليه
المملكة السعودية بنسختها الاخيرة.
واكثر من ذلك يقوم الامير محمد بن سلمان بضرب الحاضنة
الاجتماعية والاقتصادية للنظام، عبر اعتقال ومصاردة اموال
عشرات رجال الاعمال والرأسماليين السعوديين، مع التحفظ
على اكثر من 1700 حساب بنكي لمسؤولين وشخصيات من الوسط
الاقتصادي والمالي السعودي.
الا ان مشكلة الامير محمد بن سلمان الاساسية، هي ان
لا احد في العالم يتعامل مع مشروعه الاصلاحي بجدية، والضجة
التي يثيرها هو واعلامه الداخلي، لا تصل الى اسماع المراقبين،
الا باعتبارها غبارا يغطي زحفه المستمر للسيطرة على السلطة،
واعادة تشكيل النخبة المتحلقة حول رأس النظام، والاستحواذ
على الثروة لتمويل المغامرات السياسية، بعد تدني دخل النفط
وتبذير القسم الاعظم من بيع الثروة النفطية، لارضاء جشع
الحليف الاميركي، والانفاق على الحروب المتعددة التي ينخرط
فيها النظام.
ذلك ان القناعة الراسخة تقول بان الموجود مجرد دولة
يحكمها نظام عائلي مغلق، يعتبر اهلها رعايا لا مواطنين
بالمعنى الحديث للمواطنة.. ولا تخضع لاي قانون مكتوب،
او دستور يمكن التعرف عليه، بل هي دولة الاوامر الملكية
والهبات والظفرات، وهي هبات يستحق عليها ولي الامر الشكر،
وليست حقوقا يحاسب من لا يؤمنها او لا يوفرها لاصحابها..
وان الثروة هي ملك للعائلة الحاكمة، وكذلك الارض والمقدرات
جميعا، لا تُسأل عما تأخذه، ولا عما تعطيه، ولا كيف تنفقه!
والموازنات العامة لا قيمة لها على الاطلاق الا من باب
توزيع النزر اليسير من الثروة الوطنية على عامة الناس،
لتسيير الحياة العامة، وتأمين الحد الادنى من الحياة للرعايا.
ان دولة كهذه ليس فيها قضاء مستقل، ولا قانون محاكمات
ومرافعات، مما تعارفت عليه الامم والشعوب كافة، بحيث تعرف
الاحكام في صحافتها، وتسريبات جواسيسها، قبل ان ينطق بها
القضاة، المعينون اصلا حسب قواعد غير قانونية، بل بحسب
الولاء ومن ضمن جهاز المذهب الديني المتشدد الذي يحكم
البلاد، بصرف النظر عن الدرجات العلمية او الكفاءة او
التجربة!!
ان مثل هذه الدولة تتستر خلف خصوصيتها القبلية والاجتماعية،
لتهرب من الالتزام بنصوص القانون الدولي، والاعراف والمواثيق
الدولية حول حقوق الانسان واجراءات المحاكمة، والتي تستخدم
الدين اسوأ استخدام لتبرير تجاوزات القانون، والاجحاف
في الاحكام، والتضليل في توصيف الاتهامات، وتصنيف المتهمين،
بناء لمعايير وتسميات غير ثابتة وغير موحدة، بحيث يمكن
للحكم ان يتغير في الحالة الواحدة من قاض الى اخر، وبحسب
توصيف التهمة لا بحسب وقائعها.
ان هذه الدولة التي تعادي الحريات الشخصية والعامة،
عداء لا هوادة فيه، وتعتبرها من موجبات الكفر والزندقة
والالحاد، وتزج بالمطالبين بها في السجون، وهم لا يزالون
في السجون، وتعتبر المطالبة بالمملكة الدستورية من الكبائر
التي توجب الاحكام المغلظة، وترى في النقد والجهر بالالم
والشكوى، تشكيكا بالوطنية، وتهديدا للامن العام، وانكارا
لعدل ولي الامر وملك البلاد..
ان دولة تحاسب على تغريدة بالسجن عشر سنوات واكثر،
وتحكم على متظاهر سلمي بالاعدام، وتمنع الصوت المختلف
حتى لو كان همسا، وتطارد المعارضين في انحاء الارض، بالقمع
والاغتيال واشكال من المضايقات، ولا تعترف اصلا بوجود
المعارضة، لانها تشكيك بالبيعة، وبعدالة الحاكم..
ان دولة مثل هذه، يصبح الحديث عن محاربة الفساد فيها
هراء، في غياب الدستور والقوانين والانتخابات والتمثيل
الشعبي الذي يراقب اداء السلطات التنفيذية.
وهذا ما اشارت اليه الصحافة الغربية، موضحة ان ما يقوم
به محمد بن سلمان لا يتناقض مع قواعد وبديهيات الاصلاح
ومحاربة الفساد وحسب، بل هو يسير بعكس الاتجاه الذي يتحدث
عنه في دعايته الاعلامية.
ففي تقرير لها بتاريخ 14 نوفمبر 2017، قالت صحيفة نيويورك
تايمز ان حملة الاعتقالات الاخيرة اثارت قلق المستثمرين
الاجانب الذين يراقبون المحاكمات خارج القانون، والاستيلاء
على الثروات الفردية دون سند قانوني، وعبر اتهامات تصدرها
هيئات سياسية.
كما ان هناك موجة من القلق في اوساط اصحاب الرساميل
السعوديين، الذين بدأوا بالنزوح بكثافة من المملكة، وهم
يسعون الى تهريب اموالهم بمختلف الطرق الى خارج الممملكة،
خوفا من مصادرتها، وهم يرون كيف يستخدم الامير محمد بن
سلمان ادواته القمعية لمصادر الاموال والضغط على المعتقلين
وغيرهم لتسليم الأصول.
ويناقش المحللون في الخارج ما إذا كان الاندفاع المتهور
لولي العهد السعودي قد يدفعه لمزيد من الرغبة في توطيد
السلطة قبل ان تؤول اليه خلافة عرش المملكة المحتملة قريبا،
حيث يقع اليوم تحت تأثير عالمين ضاغطين عليه بشكل كبير:
اليأس من امتلاك القدرات المالية الكافية لتنفيذ خططه،
والطموح الجامح الذي لم يسبق له مثيل لتكريس نفسه زعيما
على الشرق الأوسط الأوسع.
وعلى الرغم من حماسة الرئيس الامريكى دونالد ترامب
لدعم سياسات الامير الشاب، الا ان الكثيرين في وزارة الخارجية
والبنتاغون ووكالات الاستخبارات يقولون انهم يخشون ان
يتسبب اندفاعه المتهور لتحقيق اهدافه الخاصة في زعزعة
استقرار المنطقة.
وقال فيليب جوردون، منسق سياسات البيت الأبيض في الشرق
الأوسط تحت قيادة الرئيس باراك أوباما، ان الامير محمد
بن سلمان قرر أنه لا يفعل أي شيء بحذر. واضاف انه «إذا
كان ولي العهد يبعد الكثير من الأمراء وأركان النظام الاخرين،
ويغوص في صراعات إقليمية مكلفة، ويخيف المستثمرين الأجانب،
فإنه يمكن أن يقوض آفاق الإصلاحات ذاتها التي يحاول تنفيذها».
وقال المحللون ان الاعتقالات خارج نطاق القضاء قد جعلت
المستثمرين يتراجعون بما فيه الكفاية عن التعامل مع خطط
الأمير لطرح أسهم شركة أرامكو في البورصات العالمية، في
نيويورك أو لندن العام المقبل. وهذه المسألة هي حجر الزاوية
في برنامجه الإصلاحي.
الواقع اننا نشهد ميلاد مملكة الاستبداد امام اعيننا
يوما بيوم، حيث تنتقل السلطة من دكتاتورية العائلة المنفلشة
والواسعة، الى دكتاتورية مركزة بشخص واحد، يمتلك كل الصلاحيات،
ومعها رعونة واندفاع يجعلانه خطرا على كل من حوله.
|