إنها نكبة (آل سعود) وليس (القدس)!
محمد قستي
معركة خاسرة أخرى يخوضها محمد بن سلمان ووالده، ووجهتها
هذه المرّة: فلسطين.
فبعد اليمن وقطر ولبنان وقبلهما العراق وسوريا وغيرها،
جاء الدور على فلسطين، لتكون الهدية او الثمن الذي يدفعه
ابن سلمان لترامب واللوبي الصهيوني مقابل صعوده بسلاسة
الى العرش.
كان المراقبون يعتقدون جازمين بأن الثمن سيكون في النهاية:
إقامة علاقات سعودية مع إسرائيل؛ وان التمهيد الذي جرى
في الأشهر الماضية، خاصة الأسابيع الماضية، من لقاءات
سعودية اسرائيلية علنية، وتصريحات صهيونية عن علاقات قديمة
بدأ استعلانها، وحملات إعلامية على مواقع التواصل الاجتماعي
توجه بوصلة العداء لإيران بدلا من إسرائيل.. كان كل هذا
بغرض تمهيد الرأي العام المحلي بالذات لقبول التطبيع السعودي
الصهيوني المرتقب.
قبل أسابيع قليلة، وبدون مناسبة، جاءت التوجيهات الرسمية
العليا بشن حملة ضد فلسطين (القضية والشعب)، وإيجاد المبررات
لإعلان الإنفكاك السعودي عنها، بالقول ان (الرياض أهم
من فلسطين)، وأن (الفلسطينيين هم من باع قضيتهم)، وأن
(الأولوية لبناء السعودية وليس للحرب مع إسرائيل)، والزعم
بأن (الحقائق التاريخية تقول ان فلسطين يهودية، وان المعتدي
هم العرب والفلسطينيون)، وان (الفلسطيني يعيش سعادة تحت
الاحتلال)، وأنه ايضاً (ناكر للمعروف السعودي، وحاقد على
السعودية)، وأن من الضروري فتح سفارة لإسرائيل في الرياض،
مكان السفارة الإيرانية، كما قال الصحفي الرسمي دحّام
العنزي، وأنه يجب مواجهة الخطر الإيراني بالتعاون مع إسرائيل،
وأن (المملكة ستتقدم حضارياً بإقامة علاقات مع إسرائيل،
وستسود الدولتان المنطقة).
حينها.. توقع الكثيرون حدوث نقلة نوعية في العلاقة
بين آل سعود وآل صهيون!
جاء ذلك مترافقاً أيضاً، مع استدعاء السعودية لمحمد
عباس، الذي قدم الى الرياض، وقُدّم له مشروع تنازل عن
فلسطين، تحت وطأة التهديد بقطع المعونات المالية والسياسية،
والإنخراط في مشروع أكبر خطط له الصهاينة ونقله زوج ايفانكا
جارد كوشنر ممثلا للرؤية الأمريكية الجديدة!
التمهيد السعودي بالهجوم على كل ما هو فلسطيني، بانت
نتيجته الأولية في المخطط، وهو اعلان ترامب عن نقله سفارة
واشنطن الى القدس، واعتبار الأخيرة عاصمة أبدية للكيان
المحتل.
الرياض التي تعلم بالخطوة الأميركية مسبقاً، ومتواطئة
معها، حسب كل المعطيات، بَنَت حساباتها بأن (العرب ظاهرة
صوتية) كما يروج كتاب آل سعود؛ وبأن الغضب العربي والإسلامي
سيكون عمره أيام وبالكثير أسبوع أو أسبوعان. لهذا، لم
تعلق الرياض على عزم ترامب اعلان موقفه من القدس قبل إعلانه
الرسمي. فقد صمت الاعلام السعودي، الى ما قبل اربع وعشرين
ساعة من الإعلان، لتعلن الرياض موقفاً سخيفاً بأن نقل
السفارة يضر بعملية السلام! وذلك بغرض ابعاد آل سعود عن
الاستهداف بالغضب العربي والإسلامي.
أما وقد أعلن ترامب عزمه نقل سفارة بلاده الى القدس
المحتلة، فإن اللافت في رد الفعل السعودي فيما بعد ذلك
يستحق التأمّل، وهو موقف أقل ما يقال فيه أنه (خياني)
بكل ما تعني الكلمة.
أولاً ـ تميّز الرد السعودي بمواصلة الحملة الإعلامية
السابقة ضد فلسطين وضد من يدعم فلسطين، واستمرت كتابات
التخذيل والسخرية والاتهام لكل المقاومين الفلسطينيين،
ومن وراءهم. وكان هناك ولازال تأكيد على الأولوية لبناء
السعودية، وكأن أحداً منعهم من بنائها وتنميتها!، وكذلك
كان هناك تأكيد في الاعلام السعودي على مصادمة مشاعر الأمتين
العربية والإسلامية، فظهر الاعلام السعودي وحيداً في معركة،
يدافع فيها عن إسرائيل، ولم يقبل حتى بدور الصامت عن الحق
أخرسا.
ثانياً ـ وتميّز الرد السعودي بتأكيد (عبرية القدس
وصهيونيتها) واستدعاء الدعاية الإسرائيلية القديمة الجديدة،
بأنها ملك أجدادهم. أي ان الجدل القديم بين العرب والصهاينة
حول مشروعية الاحتلال الصهيوني للأراضي العربية، يُعاد
طرحه اليوم بلسان سعودي غير مُبين.
ثالثاً ـ الصوت السعودي المعارض لقرار ترامب وللكيان
المحتل، كان (الأضعف) شعبياً واعلامياً على مستوى العالم
العربي؛ كما كان (الأقوى) في مصادمة المشاعر الإسلامية.
بل ان موقف المؤسسة الدينية الوهابية السعودية، سواء ما
صدر عن هيئة كبار العلماء، او خطباء المسجد الحرام والمسجد
النبوي والجوامع، هو أدنى ـ بمراحل ـ مما قاله الأزهر
والمؤسسات الدينية في كل العالم العربي. بل ان المفتي
السعودي نفسه لم يقل كلمة. وموقف المشايخ الوهابيين من
قضية القدس متماهٍ مع موقف السلطة بشكل غير عادي وملخصه:
(مع ولي الأمر في كل ما يراه مصلحة؛ المملكة لم تقصّر
في دعم فلسطين؛ علينا ان ننظر لأهمية القدس في حال تمت
«معالجتها»..).
بهذه المواصفات يمكن القول ان السعودية، ليس فقط انحازت
بشكل كامل للرؤية الصهيونية العقدية، وللرؤية السياسية
الترامبية لتصفية القضية، بل أنها أصبحت رأس الحربة للطرفين
الصهيوني ـ الأمريكي في مواجهة مشاعر الغضب العربية والإسلامية.
فإذا اضفنا هذا الى حقيقة التنسيق المسبق بين ترامب
وآل سعود ونتنياهو، قبل نقل السفارة وبعده، أُمكن القول
بكل وضوح ان آل سعود متآمرون.
هذا الاستنتاج انعكس واضحاً في مواقف فلسطينيي الداخل
والخارج، وفي المواقف العربية والإسلامية، حيث الاتهام
المباشر لآل سعود ولإعلامهم ومشايخهم؛ وهو ما استفزّ ماكنة
الإعلام السعودي لترد بمزيد من الشتم لفلسطين وشعبها ولكل
من يؤيدهما!
لكن.. وكما خسر آل سعود كل معاركهم السياسية والعسكرية
في السنوات الأخيرة، في اليمن وقطر ولبنان والعراق وسوريا..
فإنهم سيخسرونها في فلسطين أيضاً.
ولعلّ اعلان ترامب بنقل السفارة الى القدس، يعيد تأكيد
خسارة آل سعود رهانهم مجدداً على كوشنر وترامب ونتنياهو،
في وقت قياسي أيضاً.
الذي حدث خلال الأسابيع الماضية أشبه ما يكون عملية
عزل جمعي عربي واسلامي.. للسعودية، وكأنها بلد خارج الاجماع
العربي والإسلامي، بل لا تمتّ له بصلة، وظهرت ليست فقط
عاجزة، وانما متآمرة أيضاً، ومصرّة اكثر على مواصلة طريق
التآمر.
والذي حدث أيضاً، انكشاف غير عادي، للخطاب الإسلامي
السعودي الممتلئ نفاقا، بسبب الموقف من فلسطين، ولم يعد
هناك تعويل على السعودية، ولا على دورها المستقبلي في
الدفاع عن مقدسات المسلمين.
هذا يمكن ترجمته على نحو مختلف: اضعاف لزعامة سعودية
مُدّعاة يجري تكرارها بالقول أنها قائدة العالمين العربي
والإسلامي، في حين انها غير قادرة على تغيير الرأي العام
بكذب المدّعى.
اضعاف السعودية على المستوى القيادي يعطي مصداقية لخصومها
ومنافسيها الإقليميين الذين غضبت لاحتضانهم قضية فلسطين.
كما يُضعف استخدام السعودية للورقة الطائفية، ويعيد البوصلة
ليس الى حرب ايران، كما ترغب السعودية، ولكن الى القدس
ومحاربة الصهاينة، باعتبارها قضية الأمة المركزية التي
غابت بسبب الحروب والفتن التي اشعلت المنطقة بها.
زد على ذلك، فإن جزءً من شرعية النظام داخلياً قائمة
على احتضانه الأماكن المقدسة، ودفاعه عن المسلمين، ومقدساتهم
في الخارج. ولا نظن هنا ان الموقف السعودي المتبجّح الذي
شهدنا فصولاً طويلة منه على وسائل الاعلام ومواقع التواصل
الاجتماعي، إلا عامل نقض لشرعية آل سعود التي تتآكل على
أكثر من صعيد.
تخلّي الرياض عن فلسطين وأهلها، ليس هو القضية.
القضية هي الزحف يميناً اكثر، والعمل على انهاء القضية
من أساسها، حتى لا تستطيع ايران استخدامها، كما يزعمون
علناً!
لكن هناك سبباً أكثر أهمية، وهو ان الموقف السعودي
من القدس والقضية برمتها، إنما يمثل جزءً من ثمن يجب ان
يدفعه محمد بن سلمان مقابل وصوله الى العرش. وقد ذكرنا
هذا الأمر مراراً في أعداد سابقة.
لعل ما فعله ترامب مفيد للغاية، في إحياء قضية فلسطين
والمقدسات، وفي كشف التآمر والمتآمرين. وبهذا تكون قضية
فلسطين (عنصر إحياء) لهذه الأمة المنكوبة، اذ لولاها لربما
أُهيل عليها التراب. بقاء القضية الفلسطينية هو ما أبقى
الحياة في هذا العالم العربي المنكوب بالنفاق السياسي
والديني.
واذا كانت قضية فلسطين قد شرعنت الأنظمة العربية، او
من يزعم النضال من اجلها، فإنها أيضاً قادرة ليس فقط على
حجب المشروعية عمّن يبيعها ويتآمر عليها، بل ستكون عامل
تجريد للأنظمة وللجماعات والأفراد من المشروعية؛ مثلما
هي عامل تنقية وتصفية للذات العربية والإسلامية المترهلة
بأمراء وحكام وأنظمة مفسدة ومدمرة للقضية.
من المؤكد أن قضية القدس، ستكون هذه المرة عامل نكبة
لآل سعود الآن والمستقبل.
لن تتحول الى بضاعة بيد محمد بن سلمان يبيع ويشتري
بها ثمناً لتسلطه.
ولن تعود كما في السابق ميداناً لاضفاء شرعية على آل
سعود، وغطاءً لنفاقهم الديني.
قضية فلسطين والقدس لن تخبو سريعاً كما يعتقد آل سعود
وترامب ونتنياهو.
لن تكون قوى الأمة الحية المدافعة عنها مجرد (ظاهرة
صوتية) تريد الرياض خنقها. بل نعتقد بأن مجرى التاريخ
العكسي للكيان المحتل ومن يؤيده قد بدأ.
وسنرى!
|