ما انتقده علناً ودفع ثمنه من حياته.. صار حقيقة معترفاً
بها
ذكرى إعدام الشيخ النمر
توفيق العباد
في الثاني من يناير 2018 استعاد اهالي القطيف والناشطون
من اجل الحريات والحقوق في الخارج، الذكرى الثانية لاستشهاد
عالم الدين الاصلاحي الشيخ نمر باقر النمر.
وبعد سنتين على جريمة إعدامه، بدت الصورة اكثر وضوحا،
في الصراع بين الدكتاتورية ودعاة الاصلاح، وتكشفت حقيقة
النظام السعودي الذي يسعى بكل امكاناته لارضاء الخارج
على حساب وضعه الداخلي، وتنفيذ مطالب القوى الغربية، وخصوصا
في الولايات المتحدة، ليعمق الهوة بين النخبة الحاكمة،
والاكثرية الشعبية في مختلف مناطق المملكة.
وفي ذكرى استشهاد الشيخ النمر، اقيمت المهرجانات والندوات
في عدد كبير من العواصم والمدن العالمية، لتشكل مرة اخرى
عامل إدانة للنظام السعودي الذي ارتكب جريمة اغتيال الشهيد،
بعد محاكمة صورية باطلة، وتأكيدا على استمرار قمع حرية
التعبير في انحاء المملكة.
وأتت الاحتفالات هذا العام في ظل استمرار آلة القمع
بحصد الارواح وملاحقة الناشطين، في المنطقة الشرقية خصوصا،
وفي مدينة العوامية التي شهدت في الاسابيع الماضية عمليات
اغتيال اخرى، وجرائم قتل بشعة خارج اطار القانون، مثلما
حدث مع احد الناشطين الشهيد سلمان الفرج الذي قتل امام
عائلته واطفاله، ومثله الشهيد عبدالله القلاف، الذي ظنّت
السلطات انه شخص آخر مطلوباً لديها (ميثم القديحي)، وحين
اكتشفت انها قتلت الشاب الخطأ، لفقت له تهمة بعد مقتله،
وقالت انه مطلوب، وانه قام بكذا وكذا!، وهذه احداث تتكرر
طيلة السنوات الماضية.
مرة أخرى يخطئ النظام السعودي في فهم آليات التطور
وسنن التاريخ، مصرا على لغة القتل والتهميش والاستعلاء،
ظنا منه بأن قتل الاحرار يطفئ جذوة الحرية، وان استهداف
الاصلاحيين والمطالبين بالحقوق الطبيعية للشعوب يغنيه
عن الاستجابة لضرورات الاصلاح والعصرنة والتحديث.
ان النظام السعودي، اسوة بجميع الانظمة الدكتاتورية،
او انظمة الاحتلال والغزو، يعتقد ان اليات الصراع يمكن
اختصارها بالمناضلين والقادة، ويتوجه من اجل حسم الصراعات
الى القتل او السجن او الابعاد ليتخلص من مناوئيه، مستعينا
بأدوات السلطة واجهزتها الامنية المتوحشة، ومؤسسات الدولة
التي تسخر جميعا لخدمة النظام، وتكريس هيمنة وتسلط الحاكم
بدل مواجهة حاجات المجتمع والشعب.
انه يلجأ الى هذه الاساليب القمعية التقليدية، حتى
لو جدد ادواتها واشكالها، لكي يهرب من المواجهة الحقيقية،
مع قضايا العدالة والحريات والمساواة والحقوق الطبيعية
للافراد والمجتمع.. فتكون النتيجة انه يضيف الى مثالبه
وجرائمه ومساوئه.. جرائم ومخازي جديدة، ويضيف الى طبيعته
الاستبدادية الدموية، صفة القاتل والمدمر وعدو الشعب.
النظام السعودي السلماني يعلم ان القتل لا يعني نهاية
القضية لمن يعمل في خدمة القضية الوطنية، وان تأجيل الحلول
يزيد الازمات تعقيدا.. فالمناضلون يموتون، وكذلك يموت
المستبدون، طال الزمان او قصر، والذي يبقى هو تراكم التجربة
النضالية التي اضافها هذا الجيل الى تاريخ المقاومة ومواجهة
المستبدين، وتضخم إرث الحرية والدعوة الى العدالة وحقوق
الانسان، من جهة، والقمع والايدي الموغلة بدماء الثوار
والاحرار من جهة ثانية.
وهذه النتيجة يمكن تلمسها اليوم بعد سنتين من اغتيال
الشيخ الشهيد نمر باقر النمر، الذي تحول الى ايقونة للحرية
والنضال من اجلها، وتعززت صورته باعتباره مجاهدا قال كلمة
الحق في وجه السلطان الجائر، وامتلك الشجاعة ليجأر بالمطالبة
بحقوق الناس، كما امتلك مواجهة مصير الابطال الشجعان امام
جبروت الطغيان، وليكشف فساد النظام الذي يسخر الالاف من
المأجورين، لتلميع صورته وتضليل الناس عن فساده وانتهاكاته.
فما الذي نراه اليوم؟ وكيف تحاكم الامة شخصية الشيخ
القائد الذي استشهد واقفا ولم ينحن؟
لقد اعتقل الشيخ النمر وسيقت له التهم الباطلة، ونظمت
له المحاكمات الفاسدة، لانه جاهر بإعلان فساد النظام ورموزه،
الذين يجب ان يزجوا في السجون وتجري محاكمتهم، واسقاط
الهيبة المعنوية التي يغلفون بها صورتهم الجشعة كلصوص
وسارقين لقوت الشعب، ومبذرين للمال العام، ومرتشين وراشين
ومستبدين بالسلطة بغير وجه حق.
حوكم الشيخ النمر واُدين وقتل، لأنه رفض التمييز المذهبي
المقيت الذي تمارسه السلطة الدينية الوهابية، شريكة العائلة
السعودية في السلطة والتملك والسيطرة على البلاد والعباد..
وطالب الشيخ الشهيد بحرية الاديان والتعبد والعقيدة، وبالحوار
والتسامح والمساواة بين المواطنين على اساس المواطنة..
ودعا الى احترام الاديان والعقائد، ووقف منهج التكفير
واللعن والاخراج من الملة، كما طالب باجراء عملية مراجعة
لمناهج التعليم، وازالة كل ما يمس عقائد المسلمين من مختلف
المذاهب او الديانات الاخرى، ووقف التحريض على الفتنة
والكراهية على منابر المساجد وخطب الجمعة، وفي وسائل الاعلام
المحكومة للمنهج الوهابي.
كما حوكم الشيخ الشهيد لانه دعا الى الانفتاح والحريات
العامة والخاصة، ونبذ التشدد في تقييد حركة المجتمع والافراد،
ضمن ضوابط الشريعة وفي اطار المجتمع الاسلامي.. والاخذ
بالاعتبار سنن التطور والتقدم ومعطيات الحضارة البشرية.
وكان الشيخ الشهيد يدعو الى رفض التعامل مع الشيعة،
ومع مختلف طوائف ومناطق ومجتمعات المملكة، بأساليب التهميش
والتمييز، داعيا الى المساواة في الحقوق والواجبات والتمثيل
الشعبي، وحق المجتمع في اختيار حكامه وسياساته وتدبير
شؤونه، بما في ذلك الاستفادة من ثروته الوطنية بعدالة
وتبصر.
لكل ذلك، تحوّل الشيخ الشهيد نمر باقر النمر الى عدو
للنظام، فجرى التضييق عليه واعتقاله وتشويه صورته، ومن
ثم اطلاق النار عليه وزجه في السجن، واجراء محاكمة مسرحية
له، خلت من كل شروط المحاكمة العادلة، ليصار الى اصدار
القضاة حكما اعدته وزارة الداخلية واجهزة الدولة الامنية،
ثم يقتل سرا، ويخفى جثمانه ولا يسلم الى اهله، لمنعهم
من القيام بواجب تكريمه ودفنه بحسب مقتضيات الشريعة الاسلامية
الواجبة.
ووجهت للشيخ الشهيد تهم لا يعتد بها، ولا تأخذها الجهات
القانونية والحقوقية الاسلامية والدولية على محمل الجد،
بناء على جوهر موقفه السياسي والاخلاقي، ووقوفه نصيرا
لحقوق الانسان، والمطالبة بالعدالة والانصاف ودولة القانون..
الا انه سيق الى محكمة مخصصة لجرائم الارهاب دون اي اعتبار
لحرية الرأي والتعبير وطبيعة المواقف التي اتخذها.
فالشيخ الشهيد لم يحمل السلاح، ولم يدع اليه، بل كانت
له مواقف حازمة ضد العنف واستخدام القوة، داعيا الى الحراك
السلمي، وسلاح الكلمة والموقف، والتمسك بالقيم والحقوق
المشروعة.. وهو في ذلك كان صاحب صوت عال لا يمكن اخفاؤه
ولا اتهامه بغيره. وهو وان كان ذا نبرة عالية، وموقف حاسم
وصريح، في اتهام الامراء والحكام، ورموز السلطة، بالفساد
والظلم واثارة الفتنة، وسلب حقوق الشعب والعبث بثروة البلاد..
الا انها كانت مواقف سياسية، ولم يكن صاحب دعوة الى العنف،
والمبادرة باستخدام السلاح لمواجهة الجلادين والقتلة.
وهذا ما تقره كل القوانين الدولية، وشرعة حقوق الانسان
ومواثيق الامم المتحدة، كما درجت على ممارسته كل شعوب
الارض في الدول المتقدمة وغيرها، ويعتبر من وسائل الاحتجاج
والمطالبة المشروعة بالحقوق.
فما الذي حصل خلال السنتين الماضيتين؟
لقد شن ولي العهد السعودي، ووارث ملك العائلة بالقوة
والسيف، هجوما معلنا على رجال الدين من المذهب الوهابي،
الذين كانوا اداة النظام لقمع الجمهور والترويج لواجب
الطاعة للعائلة المالكة، واتهمهم بالتشدد والتعصب، وبجر
البلاد الى التوتر واشاعة الكراهية، ومن ثم استيلاد التنظيمات
الارهابية التي عاثت فسادا في المنطقة ومن بينها السعودية.
وتعهد الامير محمد بن سلمان القضاء على هؤلاء المتطرفين
التكفيريين (الان وفورا)، وقال انه لن ينتظر ثلاثين عاما
اخرى ليضيعها من عمر البلاد واهلها، في اشارة الى الفترة
التي اطلق فيها النظام السعودي العنان لهذا التيار، ومكنه
من الهيمنة على شؤون الناس، وتحديد سلم القيم الاجتماعية
والدينية، وهو تمثل خصوصا في المجاهرة بتكفير الشيعة والصوفية
وكل من عارض النظام الملكي وطالب بإصلاحه.
وبالفعل، فقد نفذ الامير محمد بن سلمان، حملة متدرجة،
كانت ذروتها في سبتمبر الماضي حيث تم اعتقال عشرات المشائخ
والدعاة والناشطين مما يسمى تيار الصحوة، وهو التيار الوهابي
الحركي، الذي كان يشغل جانبا اساسيا من دينامية النظام
السعودي الاعلامية والسياسية، سواء في وسائل الاعلام او
في المساجد ومنابر الجمعة.
وكان محمد بن سلمان قد قسم التيار الديني الوهابي في
مقابلة صحافية الى ثلاث فئات، احداها هذه المجموعة التي
سماها متطرفة، متعهدا بأن يقنع الفئة الثانية من ضعاف
النفوس والباحثين عن المكسب والمغنم، في ظل الغطاء الذي
يمثله المفتي وهيئة كبار العلماء التي تميل مع النظام
كيفما مال.
وما يهمنا هنا هو التهم التي وجهها النظام السعودي
واعلامه الى هؤلاء الصحويين، محملا اياهم مسؤولية الواقع
السياسي الذي حكم به ال سعود في العقود الاربعة الماضية..
وهي التهم نفسها التي كان الشيخ الشهيد نمر باقر النمر،
قد عاينها ووصف بها هذه المجموعة من المهيمنين على المذهب
الرسمي وسياسة الدولة، وهي الوقائع التي انكرها وجاهر
برفضها.. ثم اتهم بسببها.
وبعد ذلك بأسابيع، اقدم النظام السلماني الجديد بقيادة
الامير محمد بن سلمان، على شن حملة جديدة من الاعتقالات،
شملت هذه المرة مئات الامراء ورجال الاعمال والوزراء والنافذين..
متهما اياهم بالفساد، وسرقة المال العام، والرشوة، وتكديس
الثروات على حساب المصلحة العامة، واعتماد المشاريع الوهمية،
وهدر المال العام والثرة الوطنية.
وهؤلاء الفاسدون، حسب تسمية النظام لهم، لم يكونوا
يعملون في الفراغ، ولا هم دولة داخل الدولة، بل كانوا
الوزراء المستشارين وادوات النظام في الحكم والادارة..
بل ان كل عمل قاموا به، وكل مال كسبوه او اختلسوه، انما
فعلوا ذلك بتصريح وتكليف من ملك او امير سعودي وتحت عينيه..
لذا فإن التهم الموجهة لهؤلاء، لا تعفي الاخرين من الامراء
والوزراء والنافذين من رجال المال والاعمال، الذين لم
يصلهم الدور، او الذين اصطفاهم النظام الجديد ليكونوا
ادواته وحماة عرشه، بانتظار ان يأتي من يتهمهم بذات التهم
ويصمهم بالفساد.
كل هذا يكشف حقيقة فساد النظام، وانعدام الرقابة الشعبية
والإدارية، وغياب العدالة والحكم الشرعي المزعوم.. وهذا
هو بعينه ما كان ينطلق منه الشيخ الشهيد النمر، في مطالبه
الاجتماعية والسياسية، ورفض الظلم الاجتماعي، الذي كان
يراه النظام حينها ورجاله، بأنه عصيان وتمرد وسحب للبيعة!!
وها هو ولي العهد السعودي نفسه، يتهم اسلافه بذات التهم،
بل بأكثر منها.
وفي خلال السنتين الماضيتين يتضح اكثر فأكثر بأن هذا
الكيان السعودي ليس دولة، بالمعنى المتعارف عليه للكلمة،
وان مكوناته وقبائله لم تتحول الى شعب رغم مرور نحو قرن
على تأسيس هذا الكيان بالسيف والارهاب التكفيري، وان مناطقه
المتنوعة لا تزال على تنوعها وتعددها واختلافاتها، وليس
هناك شعب سعودي موحد تجمعه القيم والمصالح والروح الوطنية
الواحدة.. وان الحديث عن الوحدة الوطنية في ظل الممارسات
الفعلية للنظام واجهزته، انما هي ضرب من العبث والمبالغة
في التضليل والخداع.
وخلال السنتين الماضيتين صار الحديث عن الانفتاح وحرية
المرأة وحقوقها، والانهيار الاقتصادي وضعف البنية التحتية
في التعليم والاستشفاء والخدمات، صار كل ذلك حديث الناس
والصحافة، ورجال الدولة ايضا.
فعلام اذن حوكم الشيخ النمر وأُعدم؟! واين هي الوحدة
الوطنية التي هددها النمر بدعوته الاصلاحية ومطالبته بحقوق
فئة محرومة من اهالي الشرقية، بل بالمساواة بالحقوق لكافة
السكان في هذا الكيان؟
ان كل ما كان يطالب به الشيخ الشهيد، اصبح حقائق يقر
بها النظام بطريقة غير مباشرة، ويستغل المظالم والانحرافات
والفساد للنيل من خصومه وتأمين تفرده بالسلطة، في نظام
ديكتاتوري فردي جديد، الا انه في كل الاحوال يؤكد صوابية
التوجهات والمنطلقات لحركة ونهضة الشيخ الشهيد.
وهذا ما يوجب وقفة اعتذار من قبل هذا النظام، واعادة
اعتبار للشيخ الشهيد نمر باقر النمر، واعتراف من المجتمع
بأنه كان سباقا الى طلب العدالة، وشجاعا في الوقوف بوجه
الباطل، يوم لم يجرؤ الاخرون على قول معشار ما قاله.
ومع أننا لا نتوقع بالتأكيد اعتذاراً او تراجعاً من
نظام يحاول تبديل ثوبه، لا جوهره.. واستبدال طغيان العائلة
باستبداد الفرد.. فإن الواجب الاخلاقي يفرض على المثقفين،
والقوى الحية وعلماء الدين، العودة الى اعادة تقييم الموقف،
والنظر في مظلومية الشيخ الشهيد، وعدالة القضية التي استشهد
من اجلها واقفا، متحديا جبروت السلطة، وأعواد المشانق.
بل أن الخطأ الفادح لمنهج اولئك المراهنين، والذين
راهنوا على نظام فاسد، واصلاح من الداخل، ونظروا للقبول
بالامر الواقع، فجملوا الفساد وغطوا الانحرافات... ان
كل هذا يؤكد عليهم ضرورة التراجع عن أخطائهم.
وهكذا فإن الذكرى الثانية لاستشهاد الشيخ الاصلاحي
العلامة نمر باقر النمر تؤكد القناعة بخطه الوطني الثوري
الاصلاحي، وبأنه مات على الحق ودفاعا عن الحق وفي سبيله.
|