الوهابية تتناسل.. سلالات التكفير
هل أنجب «داعش» وحشه المُطوَّر؟
العائدون من ميادين الموصل والرقّة
القسم الرابع
سعدالشريف
في التنافر الإيديولوجي يكمن مكر التاريخ، فما حقّقه
«داعش» بالتكفير» يخسرة بالأداة ذاتها، أي بالتكفير. رداء
المشروعية يتمزق على أيد حرّاسٍ لم يعودوا أمناء على الفضيلة
التي وهبتهم هالة قداسة في زمن تخبو القداسات بأشكالها.
تجربة «داعش» أوحت بأن «الخلافة»، في إعادة خاطفة ومباغتة
للنموذج المعياري، تبعث أحلاماً مغمورة في ذاكرة المحبطين
من الواقع البائس والطامحين لماض تليد..
أفول دولة داعش
أفلت مرحلة التمكين الداعشية. والعودة الى الوراء باتت
حتمية، وفرضت نفسها على دولة «الخلافة»، استراتيجياً وإيديولوجياً.
ومع تآكل الأرض من تحت أقدام جند الخلافة في العراق والشام،
بات في حكم المؤكد أن مرحلة التمكين قد أفلت، وأصبح من
المنطقي التخلي عن شعار «تتمدّد» ذات الصلة بالتقدّم الميداني،
وتالياً بمرحلة التمكين، والاكتفاء، في نهاية المطاف،
بمجرد إثبات الوجود «باقية».
مسار العودة الى مرحلة «النكاية» بات إلزامياً، بما
يفرض تراجعاً عن فكرة «الدولة/الخلافة» التي تتحقق في
مرحلة «التمكين»، وإن كانت الأدبيات الجهادية تبطن قناعة
راسخة بأن كل أرض مهما صغرت مساحتها وأمكن إقامة الحدود
وأحكام الشريعة عليها تكتسب سمات مرحلة «التمكين» وتكون
هي أرض «الدولة/الخلافة»، وإن بعدت المسافة بينها وبين
مركز «الخلافة».
على أية حال، فإن ديناميات تفكّك «الدولة» تفوق قدرتها
في الحفاظ على وحدتها وتماسك أطرافها. إن «الجغرافيا»
التي كانت مصدر تميّز «داعش» ووهبتها نعت «الدولة» تحوّلت
الى مقتلها. وبدت الخسارة الميدانية وخروج مناطق شاسعة
عن السيطرة الكاملة عاملاً راجحاً في بداية «أفول» الدولة،
ولكن الخسارة، بحسب أدبيات التنظيم، تضعها كنتيجة لـ «الخصام
الداخلي» الذي ذهب بريح «الخلافة».
وفيما يعمل قادة «داعش» على إبقاء الحد الأدنى من الوجود،
والرابطة العضوية (التنظيمية) بين عناصرها، وشبكة التواصل
الداخلية بين خلاياها، والأهم إبقاء حافزية الأيديولوجية
المشرعنة لوجودها، والمحصّنة لكيانها، والمحرّضة على قتال
خصومها، فإن ثمة واقعاً جديداً تعيشه «الدولة» وعليها
التعايش معه، والمتمثل في «الهجرة المضادة» لآلاف من عناصرها،
الأجانب على وجه الخصوص.
لاريب أن مشروع «الخلافة» سوف يبقى حلماً يراود عناصر
«الدولة»، ممن كانوا معها أو انقلبوا عليها، وقد تتحول
هي الى خط بداية لجماعة أخرى جديدة تستلهم تجاربها، وتراجع
مواطن إخفاقها، وتبني على مكاسبها. ولاريب أيضاً أن الجماعة
الجديدة سوف تعيد توظيف أدوات الجذب والتجنيد المعمول
بها في تجربة «داعش». إن العوامل التي ألهمت وألهبت مشاعر
الآلاف كي يجدوا في «القاعدة»، وتالياً «داعش» مأوى لتوقعاتهم
وأحلامهم، سوف تكون هي ذاتها بالنسبة لجماعات أخرى، مثل:
فشل مشروع الدولة في المشرق العربي، وفقدان الثقة في أنظمة
الحكم، وفشل سياسات إدماج المهاجرين في المجتمعات المحلية
في الغرب، وأزمة الهوية والانتماء، والحرمان الاقتصادي
والاجتماعي، العولمة المتوحشة.
إن التوترات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتعدّدة
في الشرق الأوسط وغيرها والمسؤولة عن إنجاب «داعش» وقبلها
«القاعدة» لا زالت قائمة، وسوف تكون حكماً مسؤولة عن إنجاب
منظّمات مماثلة، وسوف تهدد المفاهيم المؤسسة للحكومة،
والسيادة الوطنية، والهوية الوطنية في كثير من الدول العربية
والاسلامية.
إن حوافز العودة المضادة بالنسبة لكوادر ومقاتلي «الدولة»
الى الأوطان تبدو متعدّدة. على سبيل المثال، كان هناك
سببان رئيسيان وراء عودة المقاتلين الأردنيين: «خيبة الأمل
مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وخسارة معقلي الموصل
في العراق والرقة في سوريا”. وقد أشار محللون إلى عدد
من العوامل التي تساعد في انتشار التطرف، من الفقر إلى
تعزيز الفكر الراديكالي عبر وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها.
تقول آن سبيخارد في تقرير عن أسباب التطرف في الأردن
نشره المركز الدولي لدراسة التطرف العنيف: «فقد سئل الخبراء
عن دوافع التطرف العنيف في الأردن وذكروا الظلم والفساد”(1).
يجدر الالتفات الى أن تنظيم «الدولة» اعتنق سردية في
الاسلام خاصة لاستقطاب الأنصار وتجنيد العناصر، وكرّس
ذلك عبر الصوت والصورة، على الرغم من نقاط الضعف في النهج
الحرفي للنصوص الدينية المعتمدة. هي ذات السردية التي
أصيبت بصدوعات خطيرة مع بروز تيار الحازمي الذي أنتج سردية
مناقضة، وهدّد بذلك ليس سردية «الدولة» فحسب بل ومشروعيتها
الدينية، ووحدتها الداخلية، وبنيتها الأيديولوجية، وجيشها
العقائدي.
انفردت «الدولة» في سرديتها لسنوات، فكانت رسالة أقوى،
وأوضح، وأكثر اتساقاً من رسالة خصومها، ولكنها اليوم هي
تواجه رسالة أخرى منبعثة من داخلها، بل من صميم العقيدة
التي تعتنقها، ولكن وفق منهج تفسيري مختلف. يبقى أن جاذبية
البديل سوف تبقى على المحك، لأن «الدولة» لم تكن مجرد
إيديولوجية جاذبة، بل كانت صورة برّاقة، وقدرة تسويقية
فريدة، ومأوى لهوية، وأحلام، وتطلعات جحافل من الشباب
المحبطين في أرجاء متفرقة من العالم.
وفيما يحتار العالم لجهة إبطال مفعول «المغنطة» التي
يتمتّع بها تنظيم «الدولة» لآلاف الشباب، فإن البديل جاء
من «الدولة» نفسها، ولكن على غير ما يأمله خصومه في الغرب
والشرق.
ان عزوف الدول التي خرج منها عناصر «داعش» عن الاصلاح
السياسي والثقافي والاجتماعي، يبقي على فرص تجنيد تنظيمات
غير حكومية متطرّفة لأعداد كبيرة من الشباب في بلدان متفرقة
من العالم(2).
أسئلة أولية وتلقائية تفرض نفسها مع بداية غروب شمس
«الدولة»، وتبعثر كوادرها في الآفاق: إلى أين سوف تكون
وجهة العناصر التي غادرت قواعدها في «الدولة»، هل الى
الأوطان التي ينتمون اليها، أم الى ساحات بديلة يقاتلون
فيها، أم يدخلون مرحلة كمون احترازي مؤقت، والأهم هل ثمة
رغبة مؤكّدة لدى عناصر التنظيم لإعادة تنظيم الصفوف، والدخول
في تجربة جديدة، من أجل تعويض الخسارة التي تكبّدوها،
أو حتى البحث عن جماعة بسقف يعانق تطلعاتهم التي لم تعد
«الدولة» قادرة على تلبيتها.
علاوة على ذلك، هل اجترح «داعش» دروباً جديدة للتعويض
عن خسائره في معاقله الرئيسة، ومن ثم القيام بعملية إعادة
انتشار وإعادة تموضع في قارات أخرى تبدو مرشّحة للعمل
وتحقيق مكاسب عاجلة.
أسئلة بصلاحية زمنية غير مفتوحة الى أمد بعيد، ولكنها
الأسئلة التي تستدعي إجابات حاسمة. ومن وحي تجارب سابقة،
إن الذين عادوا الى أوطانهم هم بأعداد قليلة، وإما إنهم
سجنوا، أو تخلوا عن القتال، أو اختاروا «استراحة محارب»
ريثما تتهيأ ظروف مناسبة لاستئناف العمل «الجهادي» والانضواء
في تنظيم قتالي جديد.
بناء على تحقيقات مجموعة سوفان، أحصيت ما بين 27 ـ
31 ألف شخصاً سافروا الى العراق وسوريا للالتحاق بـ «الدولة»
ومجموعات عنفية متطرّفة أخرى، من 86 بلداً في العالم.
وفي سبتمبر 2015 قدّرت الاستخبارات الأميركية عدد المقاتلين
الأجانب في سوريا نحو 30 ألف مقاتل من أكثر من 100 بلد(3).
وفق تقديرات أخرى من مصادرة متعدّدة، كان هناك أكثر
من 40 ألف عنصر أجنبي التحقوا بصفوف تنظيم «الدولة»، ينتمون
لأكثر من 110 دولة في أرجاء العالم من قبل وبعد إعلان
الخلافة في يونيو 2014.
ومنذ عام 2011 وصولاً الى ذروة انتشاره عام 2016، انضم
نحو 15 ألف مقاتل أجنبي إلى تنظيم «الدولة»، وجاء أكثر
من نصفهم من تونس والمملكة السعودية والمغرب والأردن وتركيا
والنصف الآخر من قارات متعددة آسيوية وأوروبية وأفريقية
وأميركية. لقد مثّل هؤلاء البعد الكوني للماكينة الدعائية
لـ «الدولة»، وإن مغادرة هؤلاء صفوف التنظيم من شأنها
أن تفقده بريقاً إعلامياً كما شكّلوا حصناً للدولة في
مواجهة خصومها الخارجيين، الى جانب دور المشاغلة والمشاغبة
الضرورية لدرء الأخطار المباشرة التي تتربص بالتنظيم في
حواضنه وميادين قتاله. لا شك أن انفصال كتلة بشرية وازنة
عن جسد «الدولة» يفقدها زخماً تنظيمياً وشعبياً وإعلامياً،
وفي الوقت نفسه سوف يسهل على مهمة المواجهة معها.
إن احتمالية إعادة تأهيل تنظيم «القاعدة» لكي يكون
المأوى التقليدي أو البديل للمغادرين من صفوف «الدولة»
تبقى واردة، لسهولة الانتقال من المعلوم الى المعلوم.
يبقى أن «القاعدة» التي زادت من منسوب تطرّفها العقدي
في السنوات الأخيرة بهدف مجاراة «الدولة» أو المحافظة
على كوادرها الذين خسرتهم بفعل «تساهلها» في أمور العقيدة،
كما يقول خصومها، ولا سيما في مسألة «تكفير من كفّره الله
ورسوله»، بما يشمل أصنافاً شتى من البشر، من أهل الإسلام
أو من أتباع الديانات الأخرى، فإنها مطالبة بزيادة جرعة
«التكفير» كيما تقدر على احتواء المتمرّدين أو المنشقين
عن تنظيم «الدولة». ولكن في حال قرر قسم وازن من هؤلاء
العائدين البقاء على ولائهم لمشروع «الدولة»، فإن ذلك
يعني أن التنظيم سوف يحافظ على تفوّقه الكوني وتبقيه مستوطناً
في ميادين الجهاد العالمي لسنوات قادمة(4).
لناحية العائدين من «الدولة» الى البلدان الغربية،
فقد تراوح معدلهم ما بين 20 ـ 30 في المائة، ويشكل ذلك
تحديّاً للأمن والأجهزة المعنية بتطبيق القانون.
يذكر التقرير المعنون «ما وراء الخلافة: المقاتلون
الأجانب وتهديد العائدين» أن هناك 4317 مواطناً روسيا
يقاتلون لحساب داعش حتى الآن، وتحتل السعودية المرتبة
الثانية بـ 3224 مواطناً. وتحتل الأردن وتونس المرتبة
الثالثة والرابعة (3000 و2926 شخصاً على التوالي)، وفرنسا
في المرتبة الخامسة مع انضمام 1910 مواطناً إلى صفوف داعش.
ووفقاً للتقرير، وعلى الرغم من تزايد عدد مقاتلي «داعش»
من الأجانب، فإن تدفقهم توقّف عملياً بسبب فقدان «الدولة»
السيطرة على مساحات شاسعة من الأراضي في سوريا والعراق،
وبسبب التدابير التي تبنتها حكومات عديدة والهادفة على
وجه التحديد إلى منع مواطنيها من الانضمام إلى داعش.
بالنسبة للمقاتلين السعوديين في «القاعدة» و»داعش»
وبقية تنظيمات السلفية الجهادية، تنزع السلطات السعودية
الى التقليل من أعدادهم، لا سيما بعد الأمر الملكي الصادر
في 3 مارس 2014 القاضي بتجريم المقاتلين السعوديين المدنيين
والعسكريين والذي كان شرطاً أميركياً لزيارة الرئيس الأميركي
السابق باراك أوباما الى الرياض. بحسب المعلومات المعلنة
وشبه الرسمية، فإن مجمل موقوفي القاعدة والموجة السابقة
من الإرهاب في السعودية بلغوا تقريبا 11 ألف موقوفاً (المتبقي
منهم 2337 حتى تاريخ التقرير)، والمنضمين لداعش لم يتجاوزوا
2000 شخص(5)
في تقديري، إن المعطيات هذه موجّهة، ولا تعكس الحقيقة
كاملة، لتضاربها مع تقارير أخرى، وللميول الأصلية لدى
السلطات السعودية لناحية التقليل من مستوى مشاركة مواطنيها
في التنظيمات الإرهابية.
بناء على تقرير استخباري، بلغ عدد العائدين بحسب الدول:
400 شخص إلى روسيا و760 إلى السعودية و250 إلى الأردن
و800 إلى تونس و271 إلى فرنسا. ويشدّد الخبراء على أن
العائدين لا يسهمون عموماً في زيادة التهديد بالإرهاب
في جميع أنحاء العالم، في حين أن عدد الهجمات التي يقوم
بها الإرهابيون المحلّيون سواء «مستوحاة أو موجّهة من
داعش» لا يزال في ازدياد. ويذكر التقرير: «أن جميع العائدين،
مهما كان سبب العودة الى ديارهم، سيظل يشكلون قدراً من
المخاطرة».
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد ذكر في 23 فبراير
2017 أن نحو 9000 شخصاً من اتحاد الجمهوريات الاشتراكية
السوفياتية السابق كانوا يقاتلون لحساب داعش، وأن 4 آلاف
منهم من روسيا وحدها، وفق بيانات صادرة عن أجهزة الأمن
والاستخبارات الروسية(6).
وهذا يتفق الى حد كبير مع التقرير الأمريكي الذي يذكر
بأن 8717 شخصاً يقاتلون حالياً لحساب داعش من الجمهوريات
السوفياتية السابقة(7).
في يوليو 2017، أشارت شبكة التوعية بالتطرف (Radicalization
Awareness Network) إلى أن حوالي 30٪ من المقاتلين
القادمين من الاتحاد الأوروبي والبالغ عددهم نحو 5.000
شخصاً والذين يعتقد بأنهم ذهبوا إلى سوريا والعراق قد
عادوا إلى بلدانهم في أوروبا. وفي بعض الحالات، الدنمارك
والسويد والمملكة المتحدة كأمثلة، كان عدد العائدين يقترب
من النصف.
الرئيس بوتين ذكر في فبراير 2017 بأن 10٪ من
9000 مقاتل أجنبي من روسيا والجمهوريات السابقة من الاتحاد
السوفياتي قد عادوا. ولم تشهد بلدان أخرى، على سبيل المثال
في جنوب شرق آسيا، تدفق العائدين، بل على العكس فإن عدداً
من المقاتلين الأجانب اختاروا الذهاب إلى سوريا والعراق
بدلاً من العودة إلى ديارهم، سواء أكان ذلك بناء على نصيحة
من قادة «الدولة» أم قرارات نابعة من رغبتهم المستقلة.
والمؤكد أن هناك رغبة لدى قسم وازن من المقاتلين الذين
سافروا الى سوريا والتحقوا بتنظيم «الدولة» بالإنضمام
الى تشكيل عسكري جديد بدلاً من تدمير تشكيل قديم.
إن أولئك الشباب الذين بهرتهم تجربة «الدولة» ونقلتهم
من هامش الحياة الاجتماعية والثقافية في الغرب الى مركز
العالم، وتحوّلوا الى خبر رئيسي، بالمعنى الإعلامي والسياسي
والأمني والثقافي، لاريب أن العودة الى الهامش مجدداً
سوف يكون خيار استسلام بالنسبة لهم، وعليه، فإنهم سوف
يتحايلوا على هذا الخيار في الحد الأدنى، وفي أقصاه سوف
يشقوا طريقاً يمنع نكوصهم الى الهامش، ويبقي الألق الذي
حصلوا عليه حين كانوا كوادر في «الدولة»، أو مصادر تهديد
لأمن العالم.
ولذلك، نجد أن وتيرة عودة المقاتلين الأجانب الى أوطانهم
كانت بطيئة، بما في ذلك دول أوروبية مثل فرنسا وألمانيا،
مع أن الالتحاق بالتنظيم لم يكن هو القناة لوحيدة للعضوية،
فقد يكون الاشخاص في أوطانهم أعضاء في «الدولة» بمجرد
تنفيذ سياساتها، المتمثلة في القيام بهجمات إرهابية، بحسب
خطاب للمتحدّث السابق أبو محمد العدناني.
منذ إعلان الخلافة في يونيو 2014 وحتى فبراير 2017م
نفّذ تنظيم «الدولة» أو ألهم حوالي 143 هجوماً إرهابياً
في 29 بلداً، وأدى الى مقتل أكثر من 2000 شخص وإصابة عدد
كبير من الأشخاص. مذّاك، تراجعت وتيرة الهجمات في أوروبا،
فيما كان نفوذ أو تورّط المقاتلين الأجانب العائدين في
الهجمات تلك محدوداً.
إن العثور على كميات كبيرة من البيانات بعد سقوط مراكز
تنظيم «الدولة» مثل الموصل في يوليو 2017، وتلعفر في أغسطس
2017 والرقة في أكتوبر 2017، ساعد على الكشف عن هويات
العديد من المقاتلين الأجانب. وكما الحال بالنسبة لتنظيم
(القاعدة)، احتفظ تنظيم «الدولة» بسجلات دقيقة عن أعضائه،
وقراراته الإدارية، وانتشاره الجغرافي والتي تقترب من
نظام التوثيق المعتمد لدى نظام البعث في العراق.
وكان هناك جهد واسع النطاق على مستويات إقليمية ودولية
لناحية جمع أكبر قدر من المعلومات عن خارطة «التنظيم»
البشرية والعملياتيّة، ولا سيما تفاصيل وأصول المقاتلين.
وبحلول شهر سبتمبر 2017، جمعت الشرطة الدولية «الإنتربول»
أسماء حوالي تسعة عشر ألف (19000) شخصاً، جرى التأكّد
من انضمامهم لتنظيم «الدولة»، إلى جانب تفاصيل دقيقة عن
حياتهم.
إن ما يجب التأمّل فيه يتجاوز مجرد عودة المقاتلين،
لأن القضية تخترق المجالين العاطفي والعقلي، أي الوجدان
والتفكير، فالذين عادوا حملوا معهم خيباتهم وفشل تجربة
كانوا جزءاً منها أو ثارات بقيت تعتمل في قلوبهم لبعض
الوقت. وهناك من لا يزال ينظر الى تجربة «الخلافة» باعتبارها
بارقة أمل انطفأت ويتطلع الى توهجها مجدّداً في تجربة
أخرى أشدّ نضجاً، وربما أشدّ تطرّفاً. وفي تقويم التجربة
الإجمالية لتنظيم «الدولة» وفشلها، هناك من يحصرها في
«الخطأ البشري» أو «العناصر غير المنضبطة» داخل التنظيم،
أو يلقون باللائمة على من يصفونهم بـ «الغرباء» الذين
دخلوا على خط «الدولة» من خارج سياقها الجغرافي والاثني.
صحيح أن العودة المضادة لكثير من كوادر «الدولة» مرتبطة
عضوياً بالانكسارات العسكرية، الا أن الخلاف الداخلي على
قاعدة «إيديولوجية» لا يمكن إنكار محوريته في التشققات
التي أصابت بنية التنظيم. بكلمات أخرى، أن مشروعية «الدولة»
خضعت لاختبار رعاياها وتلك كانت محنتها الكبرى.
لا خلاف بين الأعضاء على أن التكفير رؤية وأيديولوجية
تعبئة، وتحريض على الكراهية واستخدام العنف وسيلة كانت
وسوف تبقى سمات جوهرية قارّة في نشأة «الدولة» وتوسّعها.
وعليه، فإن أولئك الباحثين عن مغامرات وجدوا في «الدولة»
مرتعاً خصباً لتحقيق تطلعاتهم واطلاق غرائزهم على جناح
السلفية الجهادية. ولذلك، فإن العائدين من ميادين القتال
تحت مظلّة «الدولة» قد يستأنفون القتال حين يتأهّل ميدان
آخر لما يعتقدونه جهاداً وأرض رباط، وقد يلتحقون بجماعات
مقاتلة أكثر شراسة تحمل الأهداف، والعقائد الإيمانية،
والخصائص القيادية ذاتها.
وكما تمكّنت «داعش» من زعزعة مفاهيم الحدود والسيادة
الوطنية الثابتة التي يقوم عليها النظام الدولي أكثر من
أي جماعة مسلّحة وانفصالية أخرى سابقة، فإن تيار الحازمي
الذي يتبنى عقيدة راديكالية أشدّ غلواً في «عدم العذر
بالجهل»، سوف يعتنق الاتجاه ذاته نحو زعزعة تلك المفاهيم
وسوف يترسّخ ويأخذ أشكالاً ربما أشد تطرفاً بما يجعل دولاً
ومجتمعات عديدة عرضة للاستهداف العنفي والدموي.. وسوف
يزداد طرح مسائل الهوية، وعدم الثقة بالمؤسسات الحكومية
والنظم السياسية، وحتى أنظمة المعنى والثقافة(8).
في النتائج، سوف يبقى خطر داعش أولوية لدى كثير من
دول العالم. وقد كشفت استطلاعات للرأي شملت نحو 42 ألف
شخصاً في 38 بلداً في العالم في الفترة ما بين 16 فبراير
ـ 8 مايو 2017 أن تنظيم (داعش) يمثّل التهديد الأكبر في
18 دولة في العالم، ويتركز في أوروبا، الشرق الأوسط، وآسيا،
والولايات المتحدة. وفي 13 دولة أخرى في أمريكا اللاتينية
وأفريقيا كان التغيّر المناخي هو التهديد الأكبر، ويأتي
(داعش) في المرتبة الثانية(9).
وكان متحدث التحالف الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة،
الكولونيل راين ديلون، قد أعلن في 5 ديسمبر 2017 رداً
على سؤال حول عدد مقاتلي التنظيم المتبقين في الميدان،
إن «مقاتلي داعش أقل من ثلاثة آلاف شخص..»(10). اللافت،
أن المتحدث عاد في 28 ديسمبر الماضي وأعلن بأن عدد المقاتلين
في «الدولة» لا يتجاوز الألف.
رئيس الاركان الروسية فاليري غيراسيموف قدّر في 27
ديسمبر الماضي عدد مقاتلي داعش في سوريا وحدها بـ 59 ألف
مقاتل، وأن القوات الروسية قضت على 60 ألف من أصل 70 ألف
إرهابي في سوريا.
بصرف النظر عن التجاذب الاميركي الروسي حول الارقام
الفعلية لعناصر «الدولة» بأغراضها المعلومة، فإنه صراع
على الماضي، وإن الطرفين باتا أمام تحديات من نوع آخر،
لا سيما بعد أن بدأت تستقبل روسيا وبعض بلدان الشرق الأوسط،
لا سيما مصر، ردود فعل عودة المقاتلين.
في المعطيات، يقول Brett McGurk ، المبعوث الرئاسي
الخاص للتحالف الدولي ضد «داعش»، أن عشرين في المائة من
مقاتلي التنظيم قد عادوا الى مواطنهم الأصلية، مع بعض
الاستثناءات مثل بريطانيا التي بلغت نسبة العائدين فيها
الى خمسين في المائة. على سبيل المثال، فإن عدد الأشخاص
العائدين إلى الدنمارك من سوريا والعراق انخفض منذ منتصف
2014. وبحسب تقييم وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية
أن الضغط العسكري على تنظيم «الدولة» يفرض خطراً متعاظماً
بأن أولئك الذين يذهبون للانخراط في النزاع سوف يقتلون،
أو يجرحون أو يؤسرون. وهذا يؤشر الى أن المزيد من الأفراد
سوف يغادرون ميدان القتال والعودة الى الدنمارك أو الى
بلدان أخرى.
بحسب تقييم الـ سي آي أيه، فإن الافراد الذين بقوا
مع الجماعات الاسلامية المسلّحة مثل تنظيم «الدولة» قد
يميلون الى التطرّف والوحشية، والعنف حين يعودون الى بلدانهم.
وأيضاً، فإن المقاتلين الأجانب العائدين قد يساهموا في
زيادة منسوب التطرف لدى مجموعات وأفراد في الدنمارك، بمن
فيهم السجناء الآخرين خلال مدة محكوميتهم.
وبحسب التقييم نفسه فإن العائدين قد يؤسّسوا روابط
مع مقاتلين أجانب آخرين في بلدان أخرى ويتحوّلوا الى جزء
من شبكات عابرة للأوطان وقادرين على المساهمة في التحضير
لهجمات إرهابية يتم تجهيزها في بلد والتنفيذ في بلد آخر
قد تكون أكثر صعوبة في الاكتشاف والمنع. وقد يدخل هؤلاء
في سبات الى أمد من الزمن بانتظار لحظة مناسبة أو الأوامر(11).
في فرنسا، يخضع 271 مقاتلاً عائداً من ساحات القتال
في العراق وسوريا للتحقيق العام، بحسب وزير الداخلية.
ويقدر عدد الفرنسيين الذين قاتلوا في صفوف «الدولة» في
العراق وسوريا 700 مقاتل. وتواجه البلدان الأوروبية عموماً
مشكلة تدفق «العائدين»(12).
ميدانياً، يتآكل مسرح عمليات «الدولة». وفي المنطق
العسكري، إن بقاء المقاتلين بمثابة انتحار جماعي، ولابد
من الانسحاب، أو بالأحرى الهرب الى مناطق آمنة. ليس هناك
من مركز تخطيط وقيادة وسيطرة يوجه التنظيم منه كوادره
ومقاتليه، وحتى الرقّة التي كان ينطلق منها الانتحاريون
أو الأوامر بتنفيذ الهجمات في مدن أوروبية فقدت مكانتها
بعد تحريرها ولم تعد قادرة على فعل ذلك. وبحسب تقدير الخبراء
العسكريين الاميركيين أن عدد الكوادر الفاعلة من مقاتلي
داعش انخفض الى 12 ألف مقاتل، محلي وأجنبي(13).
الاستراتيجية البديلة ـ خطة ب
لقد كان لدى «الدولة» في الأصل نيّة مبيّتة لناحية
توسيع خارطة انتشارها، لتفادي انحصارها في مساحة جغرافية
ضيقة، وتوفير بدائل مكانية تتيح لها هامش واسع من المناورة
وبالتالي العودة الى مرحلة «النكاية» التي تحيل مواطني
«الدولة» الى ما يسمى بالذئاب المنفلتة.
وقد ازدادت رغبة «الدولة» في فتح جبهات جديدة خارج
منطقة (سوراقيا)، بهدف تخفيف الضغط المتزايد عليها، وتعويض
الخسائر المتلاحقة التي تتعرض لها. كان التحصين يتطلب
مشاغلة بعيدة عن المركز، فزاد التنظيم من عملياته الإرهابية
في أرجاء متفرقة من أوروبا وجنوب شرق آسيا وصدرت الأوامر
لعناصر «الدولة» بشن الهجمات، وفي أغلبهم لم يتلقوا تدريباً
أو حتى تمويلاً من التنظيم، بل لم يهاجروا الى الأراضي
الخاضعة له، وإنما كانوا بمثابة الضباع السائبة المتعاطفة
مع «الدولة» من الذين يبحثون عن أعمال فانتازوية.
وبالتزامن مع تلك العمليات، كان قادة «الدولة» ينسّقون
حملات تدريب لتأهيل المقاتلين في جنوب شرق آسيا، والتي
تضمّ أكبر عدد من المسلمين في العالم. ومع انهيار معاقل
داعش في الموصل بالعراق والرقة بسوريا، سوف تصبح منطقة
جنوب شرق آسيا وجهة التنظيم في المرحلة المقبلة، ليس لأن
ثمة مجموعة كبيرة محتملة من العناصر المنضوية في «الدولة»
من هذه المنطقة، ولكن هناك شروط نموذجية لبيئة عمل التنظيم
من قبيل:
ـ الحدود الرخوة: ثمة مناطق حدودية متداخلة بين دول
مثل بنغلادش وماليزيا وإندونيسيا والفلبين سهلة الاختراق،
وذات ضوابط جمركية ضعيفة للغاية. وباستثناء سنغافورة،
الدولة الأكثر انضباطاً، فإن بقية الدول تعاني من ثغرات
أمنية نتيجة الطبوغرافيا المساعدة التي لطالما بحث عنها
قادة التنظيم للبدء بمرحلة «النكاية».
ـ الخزّان البشري: إن الرأسمال البشري الكبير لا سيما
من الشباب العاطلين عن العمل يشكل مادة التجنيد الرئيسية
للتنظيم، ولاسيما في بنغلادش وإندونيسيا وبرغم من معدلات
النمو الصاعدة لأكثر من عقد من الزمن.
لابد من الإشارة الى حجم الانفاق الهائل على المدارس
الدينية والنشاطات الخيرية طيلة العقد الماضي، والتي ساهمت
بدرجة كبيرة في تأهيل عناصر محلية على المستوى العقدي،
وأصبحت جاهزة للإنخراط في مشروع عمليات التنظيم.
في باكستان على سبيل المثال، تحدّثت كريس ميرفي، عضو
مجلس الشيوخ الأميركي عن تمويل السعودية 24 ألف مدرسة
دينية تؤجّج الكراهية والتحريض على الإرهاب الدولي. وقالت
ميرفي بأن المدارس الدينية تتضاعف في جميع أنحاء العالم،
وأوضحت أنه في عام 1956 كان هناك 244 مدرسة في باكستان،
ولكن هناك الآن 24 ألف مدرسة(14).
في الهند وبنغلاديش وباكستان، تنقسم المؤسسات بين تلك
الخاضعة تحت إشراف الدولة، والتي عادة ما تدّرس المناهج
الدراسية الرسمية مثل اللغة الإنجليزية والرياضيات، وتلك
التي تبقى خارج نطاق الحكومة، ومن المرجح أن تدار من قبل
إسلاميين متزمتين. ويتحدث المسؤولون ورجال الدين المعتدلين
باستمرار عن الحاجة إلى «استيعاب» آلاف المدارس غير الرسمية،
التي يموّل الكثير منها من الأموال السعودية إما مباشرة
أو من خلال تحويلات العمال المهاجرين في الخليج.
في بنغلادش. يقول سيد أحمد، وهو مدون ليبرالي وناشط
اجتماعي، إنه في قريته، دكا، قبل عشر سنوات، كانت هناك
مدرسة واحدة فقط. أما الآن فهناك 19 مدرسة. «الليبراليون
البنغلاديشيون يرثون ما يرونه اعتداء من قبل المتعصبين
الإسلاميين المتأثرين بالسعودية على ثقافة البنغال المتسامحة
من الفن والأدب والموسيقى(15).
في لقاءات خاصة مع قادة العالم، قال أوباما أنه لن
يكون هناك حل شامل للإرهاب على قاعدة ديينية (إسلامية
حصرياً) حتى يتوافق الإسلام مع الحداثة ويخضع لبعض الإصلاحات
التي غيّرت المسيحية. وعلى الرغم من أنه جادل، خلافيّاً،
أن الصراعات في الشرق الأوسط «تعود إلى آلاف السنين»،
كما يعتقد أن الغضب الإسلامي المكثّف في السنوات الأخيرة
شجّعته البلدان التي تعتبر أصدقاء الولايات المتحدة في
اجتماع مع مالكولم تورنبول، رئيس الوزراء الاسترالي، وصف
أوباما كيف شاهد إندونيسيا تتحرك تدريجياً من الإسلام
المعتدل والمتسامح إلى نموذج آخر ينزع نحو التزمت.
يرجع أوباما السبب في تنامي نزعة التطرّف الى أن السعوديين
والعرب الخليجيين الآخرين دفعوا المال، وأعداد كبيرة من
الأئمة والمعلّمين، إلى البلاد. في التسعينات، موّل السعوديون
بشكل كبير المدارس الوهابية، والبعثات التبليغية التي
تدرّس النسخة الأصولية للإسلام التي تفضّلها العائلة المالكة
في السعودية. اليوم، الإسلام في إندونيسيا بطابع عربي
(سعودي/ وهابي) أكثر بكثير مما كان عليه عندما عاش هناك(16).
وبصورة إجمالية، شكّلت آلاف المدارس الدينية في شبه
القارة الهندية، ولا سيما في باكستان وأندونيسيا وماليزيا
وبنغلادش، بيئة نموذجية لغرس الأفكار المتطرّفة في أجيال
متلاحقة، وفي الوقت نفسه لتجنيد العناصر المؤهّلين عقدياً
لترجمة تلك الأفكار في هيئة أعمال عنفية ضد من يصموهم
بالكفر.
الوهابية في أندونيسي
نتوقف هنا عند التجربة السلفية في أندونيسيا، والتي
تعود الى مطلع القرن العشرين، وتحديداً في العقد الثاني
منه، إذ لعب عدد من رجال الدين المتأثرين بالسلفية الوهابية
دوراً في نشر الأخيرة من بينهم:
- الشيخ أحمد دحلان، مؤسس (الجمعية المحمدية) سنة 1912،
إبان الاستعمار الهولندي. وقد تأثر دحلان بدعوة الشيخ
محمد بن عبد الوهاب والشيخ محمد رشيد رضا. بيد أن الوهابية
لم تنجح في اختراق الجمعية إيديولوجياً وتنظيمياً، فقد
ألقت موجة التحديث الإسلامي بظلالها على الجمعية، حيث
تسنّم موقع القيادة في الجمعية عدد من الاكاديميين من
خريجي الجامعات الحديثة في الغرب، ورسموا لها خطاً معتدلاً
ينسجم مع الواقع الاندونيسي المتسامح والمتعدد.
وقد صوّت أعضاء الجمعية في البرلمان الإندونيسي ضد
مشروع تقدّم به نواب إسلاميون للمطالبة بتطبيق الشريعة.
وتعد الجمعية الوهابية بدعة، وعملت مع جمعيات إسلامية
أخرى على التحذير من انتشارها في إندونيسيا والتأثير على
مسار الإسلام المعتدل هناك(17).
ـ الشيخ أحمد محمد سوركتي، من أصول سودانية، مؤسس (جمعية
الإصلاح والإرشاد)، وقد جاء الى إندونيسيا سنة 1911، وقد
عاش ما يقرب من خمس عشرة سنة في الحجاز بين المدينة ومكة
ودرس على علمائها من المذهب المالكي، وتمّ التعاقد معه
للعمل في مدارس جمعية خير بتافيا (جاكرتا)، بصحبة رفيقيه
محمد الطيب المغربي ومحمد عبد الحميد السوداني، وكانوا
بضيافة السادة العلويين، وفور وصولهم تم تعيّين سوركتي
مديراً لمدرسة باكوجان ومفتشاً للتعليم.
وقد خاضت جمعية الإرشاد صراعاً مع العلويين يعود في
الأصل الى إصرار فريق وازن في العلويين على إبقاء التراتبية
التقليدية السائدة، خشية خسارة النفوذ أو تقاسمه مع آخرين.
ولكن وجود فريق من الشباب الذين تأثروا بأفكار السوركتي
وفرض نفسه على الجمعية وبدأت تتمدد الى مناطق أخرى، وقد
استعان السوركتي بمشايخ آخرين من السودان من المتأثرين
بمدرسة الشيخ محمد عبده الأزهرية.
وكان السوركتي على وشك العودة الى مكة المكرمة على
إثر خلاف مع العلويين حول زواج العلوية من غير علوي والذي
أجازه، ما عدّوه نقيصة بحقهم، فقرّر مغادرة إندونيسيا،
ولكن وجوه الحضارمة القاطنين هناك استبقوه فقرّر إنشاء
جمعية الإصلاح والإرشاد، وتظافرت عوامل أخرى لتميل بالجمعية
نحو السلفية الوهابية بعد مشاركة نقيب العرب عمر بن منقوش،
وصالح عبيد عبدات، وسعيد بن سالم المشعبي، وقد أوضح عمر
بن سليمان ناجي في تعريفه للجمعية مبادءها العامة بقوله:
«الإرشاد حركة تحررية تقدمية ظهرت بين مغتربي العرب
بإندونيسيا، تهدف إلى تغيير الوضع الاجتماعي الفاسد والعقائدي،
ثم نشر العلم ومحاربة الأمية، وإطلاق الفكر من قيود التقليد
ومحاربة الامتيازات العنصرية، ثم البدع والخرافات التي
دخلت على الدين، ثم تمكين عقيد التوحيد ليكون الإنسان
عبدا لله وحده، ولتكوين مجتمع إسلامي اشتراكي تعاوني تسوده
العدالة والمساواة».
وكما يظهر، فإن الصراع بين الحضارمة والعلويين عكس
نفسه في توجّه الجمعية، واستراتيجية عملها، وقد كتب السوركتي
محدّدات الجمعية ومنها:
ـ توحيد الله توحيداً خالصاً بعيداً عن مظان الشرك
الظاهر والخفي في الاعتقاد والأفعال والأقوال.
ـ إحياء السنة الصحيحة وترك البدع وعدم المشايعة لها.
وقد افتتحت الجمعية فروعاً لها في الأقاليم الإندونيسية،
ثم لحقها بافتتاح مدارس بمراحل متفاوتة، وعلق الشيخ رشيد
رضا على نشاط الجمعية بقوله: «غرضها إنشاء المدارس ونشر
التعليم الديني والمدني الذي تقتضيه حالة العصر من الاستقلال،
وإحياء هدى الكتاب والسنة، ومقاومة الخرافات الفاشية من
طرق الابتداع في الدين». ثم قامت بإنشاء عدد من المراكز
الصحية. وساهم بعض قادة جمعية الإرشاد في تأسيس حزب شورى
مسلمي إندونيسيا (ماشومي) بزعامة محمد ناصر، وقام الرئيس
أحمد سوكرنو بحلّه عام 1959م.
وبسبب صراع قادة جمعية الإصلاح والإرشاد مع السادة
العلويين أو (جمعية خير) الناطقة باسمهم، أصبحت جمعية
الإرشاد مأخوذة بخلافها معهم وكرّست بعض نشاطها لمحاربة
معتقدات العلويين بما في ذلك محاربة التوسل، والشفاعة،
وزيارة القبور، وتطوّر الخلاف لاحقاً وازداد ضراوة عقب
إعادة السوركتي نشر فتواه بجواز زواج العلوية بغير العلوي.
وتدخل الشيخ رشيد رضا وشكيب أرسلان وعبد العزيز الرشيد
وغيرهم في الخلاف، وفي الانتصار للإرشاديين. ومن آثار
الخلاف بين الحضارمة الارشاديين والعلويين أن بدأت حركة
صحافية عربية فانتشر عدد من الصحف العربية والتي بلغت
نحو خمسين صحيفة، صدر معظمها في الفترة ما بين الحربين
الكونيتين (1914 ـ 1945)، واختفى أكثرها مثل «الاقبال»،
و»الرابطة»، و»الإرشاد» و»الدهناء»، و»حضرموت»، وغيرها.
وفي أجواء الخلاف وجدت الوهابية فرصة اختراق المجتمع
الاندونيسي، حيث اندمجت معتقدات الوهابية في البناء العقدي
لجمعية الإصلاح والإرشاد عبر الدعوة الى التوحيد الخالص،
ونبذ التوسل والشفاعة وما يعتقدونها بدعاً وخرافات.. ومن
الآثار وقوع انقسام حاد في المجتمع الاندونيسي، والنفور
من العرب. وكانت هناك محاولات لرأب الصدع، وإعادة تفعيل
الدور العربي في الحياة السياسية الاندونيسية، ولاسيما
داخل مجلس العموم.
كل محاولات الوساطة بين العلويين والارشاديين فشلت،
وحتى عندما ذهب السوركتي الى الحج سنة 1928، سعى إلى طلب
وساطة الملك عبد العزيز وأعضاء الرابطة الشرقية في القاهرة،
وقد فوضت الأخيرة إبراهيم بن عمر السقاف الى جانب السوركتي
لتسوية الخلاف ولكن ما لبث أن فشلت على خلفية مشادات صحفية
بين الخصماء، الذي أسهم في فساد مبادرة الرابطة الشرقية.
وفي يوليو 1933 بعث الملك عبد العزيز كتاباً الى الفريقين
بوساطة إبراهيم السقاف الذي دعا إلى هدنة لمدة عامين،
يتم خلالها التوصل إلى صلح نهائي بين الطرفين. ولكن قادة
الإرشاد رفضوا المبادرة، وانتقدوا السقاف لعدم جديته،
لغياب مبادرة واضحة الشروط ومتوازنة. وقيل أن السقاف سخر
من خطاب سكرتير جمعية الإصلاح والإرشاد، بدر بن سالم بن
تبيع، في هذا الشأن، ثم قرّر سحب نفسه من مبادرة الوساطة
بين الارشاديين والعلويين.
على أية حال، فإن موت الشيخ السوركتي أضعف الميول السلفية
لدى الجمعية، وأصبح التوجه الديني المعتدل سمة عامة لنشاطات
الجمعية.
- الشيخ محمد ناصر، مؤسس (حزب ماشومي) إثر استقلال
إندونيسيا عام 1945، وهدفه المعلن كان ضمان الحقوق السياسية
للمسلمين في ظل موجة التنصير المتنامية التي اجتاحت إندونيسيا،
فكان يرسل الدعاة الى المناطق لمواجهة التبشير المسيحي.
وفي عام 1959 أعاد رئيس أندونيسيا أحمد سوكرنو، وأول رئيس
بعد الاستقلال، تشكيل السلطة على أساس «الديمقراطية الموجّهة»،
وقرر حل الأحزاب السياسية سوى ثلاثة منها. وأسس الشيخ
محمد ناصر (المجلس الأعلى للدعوة الإسلامية)، ولا يزال
قائماً حتى الآن. وكان الشيخ محمد عضواً في المجلس التأسيسي
لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة.
ـ الشيخ أحمد حسن، مؤسس (جمعية الاتحاد الإسلامي) سنة
1920، بهدف محاربة ما يعتقده بدعاً وشركيات. وللجمعية
مئات المدارس والمعاهد في جاوة، ولها أتباع من التيارين
السلفي والإخواني.
وبصورة إجمالية، يعود نشاط السلفية الوهابية في إندونيسيا
الى مطلع ثمانينيات القرن الماضي، عبر:
ـ بعثات الدراسة الدينية في الجامعات السعودية، ولا
سيما الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وجامعة أم
القرى، وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. وكثير منهم
تتلمذ على كبار علماء الوهابية مثل المفتي السابق عبد
العزيز بن باز، ومحمد بن صالح العثيمين.
ـ معهد العلوم العربية والإسلامية في جاكرتا، التابع
لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الذي ضخ في المجتمع
الإندونيسي آلافاً من الخريجين الذين تتلمذوا على مراجع
السلفية الأصلية.
ـ المؤسسات والجمعيات الخيرية السعودية التي وجدت في
إندونيسيا أرضاً خصبة لنشر الوهابية، من خلال بناء المساجد،
والمدارس، والمعاهد الدينية، وتنظيم الدورات الدينية (الشرعية)،
ونشر الكتب، وتقديم المنح الدراسية لطلاب إندونيسيين للدراسة
في الجامعات الدينية السعودية.
ـ المبادرات الفردية من تجار ورجال أعمال سعوديين أو
أفراد عاديين يأتون الى إندونيسيا بغرض السياحة، أو التجارة،
فيقدمون تبرعات لبناء مساجد أو مدارس أو مراكز صحية، أو
دعم نشاطات دعوية وخيرية.
كانت قنوات الدعم السعودية مخصصة للمشاريع الدينية،
على الرغم من أنه بحلول عام 1978 كان هناك قلق بشأن تأثير
المملكة والذي أدى إلى اشتراط أن جميع المساعدات الخارجية
تأتي من خلال حكومة جاكرتا. وشمل الداعمون السعوديون:
الحكومة، والأفراد، والمؤسسات الدينية والجمعيات الخيرية.
وأحد الأمثلة الرئيسية على الفئة الأخيرة هو جمعية الحرمين،
التي أغلقت في عام 2004 على خلفية اتهامها بكونها قناة
للجماعات الإسلامية المسلّحة، على الرغم من أنها استمرت
في العمل لبعض الوقت بعد ذلك. وكانت الجمعية تقدّم أموالاً
بهدف تطوير المدارس الدينية، والمنح الدراسية للطلاب الذين
يسعون إلى دخول المؤسسات التعليمية في المملكة السعودية،
والكتب الدينية وغيرها من المواد المطبوعة، وبناء وتجديد
المساجد، والمساعدات المالية للأفراد والمنظمات متنوعة
مثل:
ـ الجمعية المحمدية: (تأسست سنة 1912)، بدأت نبتة طبيعية
للإسلام الاندونيسي المعتدل في تكوينه، وما لبثت أن خضعت
تحت تأثير الوهابية. ولدى الجمعية شبكة واسعة من المدارس
تبدأ من رياض الأطفال مروراً بالمدارس الإعدادية، والمتوسطة،
والثانوية، والمعاهد على أنواعها العلمية والتقنية، والجامعات،
ودور الأيتام، ومدارس تحفيظ القرآن وبنوك، ومستشفيات،
وشركات تجارية، ووكالات سياحية، وبلغ أعضاء ومؤيدي الجمعية
أكثر من 40 مليون.
ـ جمعية نهضة العلماء: وهي الأكبر شعبية وتأسست سنة
1926 بعضوية تصل الى 70 مليون عضواً من سكان إندونيسيا
وغيرها من الدول المحيطة، وهي ذات توجّهات إسلامية معتدلة،
وفي التصنيف المذهبي هي سنيّة أشعرية شافعية وتتبنى شعارات
التوسط، والتسامح، والتوازن.
وبرغم من أن المعونات السعودية لهذه الجمعيات لم تكن
مرتبطة بأهداف وهابية أو سلفية محدّدة، وخصّصت من وجهة
نظر هذه الجمعيات من أجل تعزيز الإسلام داخل البلد. ولكن
بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر، تبيّن طبيعة الدعم الذي
تقدّمه السعودية للكتابات السلفية التي وصفت الإسلام بالإرهاب،
ولم يوقف العنف ضد المسلمين الاندونيسيين الذي يرتكبه
السلفيون.
تبقى الإشارة الى أن الجمعيتين «المحمدية» و»نهضة العلماء»
متمسّكتان بخيار الدولة المدنية في أندونيسيا، ولديهما
تمثيل فيها كبير، وإن كانت محاولات التنظيمات السلفية
الجهادية لن تكف عن اختراق القواعد الشعبية لهاتين الحركتين،
عن طريق استغلال الفقر والبطالة والخدمات..
مهما يكن، لم يخل الإسلام الدونيسي من اختراقات على
مستوى التنظيمات الدينية المتطرّفة. ففي الفترة ما بين
1950 ـ 1966 تبنّت حركة «دار الإسلام» في آتشيه (بجزيرة
سومطرة) خيار العنف المسلّح بهدف إقامة دولة إسلامية.
نشير الى مشاركة نحو 3000 إندونيسي في القتال في أفغانستان
ضمن مشروع الجهاد الافغاني ضد الاحتلال السوفييتي في عام
1979 وما بعد. وكان يتلقى هؤلاء المقاتلون مكافآت شهرية
من الاستخبارات المركزية الأميركية عن طريق أسامة بن لادن.
المنظمات الأكثر شهرة التي تشكل قنوات رئيسية للتمويل
السعودي في أندونيسيا هي Dewan Dakwah Islamiyah Indonesia
أي (الجمعية الإندونيسية لنشر الإسلام) وLembaga Ilmu
Pengetahuan Islam dan Arab أي (معهد الدراسات الإسلامية
والعربية). وقد تأسس المعهد في عام 1967 من قبل محمد ناصر،
الزعيم السابق لحزب ماشومي. وقد تطوّر ليصبح منظمة محافظة
مع آراء قوية معادية للشيعة، والمسيحية، والمناهضة لجمعية
الأحمدية. وهذا يتناسب تماماً مع الأجندة السعودية التي
سعت إلى مواجهة الشيعة، خاصة بعد الثورة الإيرانية. في
ذلك الوقت، قدّمت إيران منح دراسية للمؤسسات الإيرانية،
ودعمت النشر الواسع للكتاب الشيعي، ولا سيما كتب المفكر
الايراني علي شريعتي، الذي أكد نجاحات التجربة الإسلامية
الإيرانية وثورة 1978. ولذلك ليس من المستغرب أن المساعدات
السعودية للجميعة الاندونيسية لنشر الإسلام زادت بشكل
كبير خلال الثمانينات.
وقد ضاعفت السعودية من جهود نشر الوهابية في إندونيسيا
منذ عام 1980، وربط الجمعيات الدينية السلفية بجامعة الامام
محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، التي كانت تبعث بالمحاضرين
والدعاة الى إندونيسيا، وهم في الغالب من السعوديين، وكانت
السعودية تحرص على جلب الطلاب الواعدين من المعاهد السلفية
الخاصة والجامعات الإندونيسية الأخرى إلى الجامعات السعودية.
ويلعب الخريجون العائدون من الجامعات الدينية السعودية
دوراً حيوياً في توسيع أفق التفسير الوهابي للإسلام في
إندونيسيا. ويميل الخريجون غالباً نحو المساجد في المناطق
الحضرية وفي المدن مع الجامعات، مثل يوجياكارتا وسيمارانج،
حيث صدى أفكارهم مع الأتباع الأصغر سناً.
وبرغم من أن هؤلاء العائدين لم يطوّروا خطاباً عنفياً
أو يكونوا من دعاة الإسلام المليشياوي، ولكن العقائد الايمانية
التي يتشربوها خلال سنوات الدراسة الجامعية في السعودية
تسهّل مهمة المقاتلين السلفيين الذين كانوا يتواصلون معهم
في مرحلة لاحقة، إذ تبدأ عملية التفاعل مع الجماعات الراديكالية
الأخرى أو الأفراد.
يضاف إلى ذلك، على الرغم من أن هناك اتهامات متكرّرة
بأن مدارس دينية معينة تدرّس الإسلام الراديكالي، وتحذّر
السلطات من زيادة منسوب التشدّد، إلا أن نسبة صغيرة من
حوالي 13 ألف مدرسة إسلامية داخلية في إندونيسيا تنشر
نسخة عنفية من الإسلام(18).
بطبيعة الحال، لا يمكن لقنوات الدعم السعودي أن تحقق
أغراضها دون تسهيلات من جانب الحكومة الاندونيسية. وإن
وجود شبكة واسعة من المدارس، والمساجد، والنشاطات الدعوية
في الارخبيل الأندونيسي ساعد التنظيمات السلفية الجهادية
في الدخول على الشبكة وتوظيفها، جزئياً على الأقل، لصالح
نشاطاتها الجهادية.
للوقوف على الثغرة الواسعة التي تسمح للأفكار المتشدّدة
والمتشدّدين بالنفوذ الى إندونيسيا عبر المدارس، لابد
من الإنطلاق من حقيقة أن المدارس العامة في أجزاء كثيرة
من الأرخبيل الإندونيسي مكلفة جداً، حيث أن المعلّمين
غالباً ما يطلبون من الأسر التبرع للحفاظ على المدارس
قيد التشغيل. على العكس من ذلك، فإن المدارس الدينية الممولة
من الخارج هي أقرب لأن تكون مجانيّة، وتلعب دوراً كبيراً
في المجتمع الاندونيسي. يقول سيدني جونز، الخبير في التطرف
في جنوب شرق آسيا ويرأس معهد أبحاث تحليل النزاعات في
جاكرتا، أن المدارس الدينية الممولة من الخارج لعبت دوراً
محورياً في عام 2000 في تطرّف الشباب في بوسو وحولها على
جزيرة سولاويسي. ولفت جونز إلى أن بوسو أصبحت مركزاً لشبكات
المتطرفين، والعديد من هذه الشبكات تتجمّع حول مجموعة
من المدارس المتطرفة.
“داعش” في شرق آسي
يأمل تنظيم “داعش” في الوصول الى جنوب شرق آسيا لتنفيذ
عمليات مسلّحة وإقامة شبكات تابعة له. لابد من الإشارة
الى أن الجماعة الإسلامية التابعة لتنظيم القاعدة وهي
جماعة مسلّحة تعمل في جنوب شرقي آسيا، تنفذ هجمات إرهابية
في إندونيسيا منذ مطلع الألفية الثالثة، من بينها تفجير
بالي عام 2002، وهجمات على فندق ماريوت في جاكرتا. وفيما
كان الاعتقاد السائد بأن الجماعة قد شارفت على الفناء
عقب اعتقال المئات من قادتها، الا أن الأجهزة الأمنية
الإندونيسية اكتشفت عودة صامتة للجماعة بعد هجوم يناير
2016، حيث كشف أعضاء في الجماعة بأنها استأنفت نشاطها
وجمعت أفراداً ومالاً وخبرة، عقب ارسال مجموعة من كوادرها
للقتال في سورية الى جانب تنظيم «داعش».
وقدّر عدد عناصر داعش الاندونيسيين بين 700ـ 1000 عنصراً.
ونبّهت تفجيرات جاكرتا، العاصمة، في 14 يناير 2016 الى
أن تنظيم «الدولة» بات لديه موطئ قدم في البلاد. قبل عام
من ذلك التفجير فشلت محاولة تفجير أحد المراكز التجارية
في حي قرب جاكرتا باستعمال قنبلة من مادة الكلور، وهي
المادة التي يستعملها تنظيم «الدولة». وبحسب تقديرات الشرطة
الاندونيسية أن العملية قام بها عائدون من سوريا. وفي
نوفمبر عام 2015 كشف مقطع فيديو على الانترنت عن جماعة
«مجاهدي تيمور الشرقية» الاندونيسية، وهي أقوى مجموعة
إرهابية في البلاد، وقد هدّدوا بالهجوم على القصر الرئاسي
ورفع علم تنظيم «الدولة» على سطحه.
على مستوى البنية العضوية للتنظيم، برزت جماعة «أنصار
الخلافة» في العام 2015، ويضم عدداً من الجماعات المنشقة
عن تنظيمات أخرى، يرأسها أمان عبد الرحمن. وقام الأخير
خلال فتره احتجازه في سجن في جاوة، بنشر أفكاره المتشدّدة
والمحرّضة على العنف ضد الكفار، من خلال خطب ومحاضرات
على السجناء، ويتم تهريبها الى الخارج ما دفع الشرطة الاندونيسية
الى نقله عام 2013 الى سجن آخر في نوساكامبانجان وسط جاوة،
وتمّ تشديد الرقابة على نشاطه، لكنه نجح في تأمين قناة
تواصل مع بعض أتباعه يبلغ عددهم نحو 200 ويستخدمون أشخاصاً
وهواتف محمولة من أجل التواصل.
وكان عبد الرحمن قد أعلن من سجنه وعن طريق شبكة الانترنت
مبايعة متزعم «داعش» أبو بكر البغدادي عام 2014. وارتبط
إسم جماعة «أنصار الخلافة» بسلسلة من الهجمات في إندونيسيا،
بينها هجوم على كنيسة في جزيرة بورنيو في نوفمبر 2016
أدّى إلى مقتل طفل، إضافة إلى مخطط لتنفيذ تفجير انتحاري
قرب العاصمة في فترة أعياد الميلاد، ولكن الأجهزة الأمنية
الاندونيسية تمكّنت من إحباطه.
ولتنظيم «داعش» نشاط إعلامي وتبليغي، وذكرت صحيفة (ديلي
ميل) البريطانية بأن «داعش» يقوم بتوزيع مجلة تحمل إسم
«المستقبل» باللغة المالوية في المساجد الاندونيسية الى
جانب «قسائم وجبة الدجاج المقلي»، ويجري التواصل مع السكان
المحليين عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ويذكّر هذا الإسلوب
بنظيره لدى «القاعدة التي تقوم بتوزيع مجلة (Inspire).
وتظهر تقارير أن «داعش» يقوم بتوزيع أعداد من المجلة
مرفقة بكتيبات صغيرة يتم توزيعها في مساجد مقاطعة جاوة.
وتحتوي المجلة على إجابات عن أسئلة وشائعات حول التنظيم
وعن سيرة زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي، وكذلك عن العقيدة
السلفية الوهابية التي يعتنقها التنظيم. كما تتضمن صفحات
المجلة صوراً عن العمليات الإرهابية التي نفّذها التنظيم،
وتظهر بشاعة القتل والدماء التي تغطي أجزاء كبيرة من الصور.
وبحسب جاكرتا غلوب، فقد اكتشفت حكومة جاوه المركزية فصيلاً
من «داعش» كان نشطاً في مالانغ بمقاطعة جاوة الشرقية في
اندونيسيا، وأنه كان يستخدم مسجداً قروياً في سيمبو كمقر
له، ويدعون أنفسهم «أنصار الخلافة»(19).
ويلفت جوزيف ليو، الخبير في التطرف في جنوب شرق آسيا
في مؤسسة بروكنغز، إلى أن معظم الجماعات المرتبطة بتنظيم
الدولة الإسلامية في جنوب شرق آسيا لا تملك حتى الآن القدرة
على شن هجمات واسعة النطاق، على غرار انفجار بالي عام
2002، التي شنّتها (الجماعة الإسلامية) المرتبطة بتنظيم
(القاعدة). الشبكات المرتبطة بتنظيم «الدولة» هي تقريباً
محلية، وأن المسلحين المتعاطفين معه هم غالباً من صغار
السن نسبياً، وهم مجرد عناصر متمرّدة من عديمي الخبرة.
ولكن بمرور الوقت سوف تكتسب هذه العناصر الخبرة، ويمكن
أن تصبح الهجمات أشد خطورة. ويعتقد ليو أيضا أن «جماعة
أبو سياف» و»داعش» تحاولان خلق ملاذ آمن في جنوب الفلبين،
حيث يمكن تجنّب الوقوع في قبضة الأجهزة الأمنية، وكذلك
تلقي التدريب على القتال. ومع ذلك، والأهم من ذلك، فإن
داعش في جنوب شرق آسيا لا يبدو أنه يعتمد على منابع دعم
عميقة.
وبرغم من أن أكثر من 1000 عنصراً من جنوب شرق آسيا
قد سافروا إلى الأراضي التي يسيطر عليها داعش في الشرق
الأوسط، فهم لا يشكلون سوى نسبة تافهة من إجمالي عدد السكان،
حيث هناك أكثر من 240 مليون مسلم في إندونيسيا، وحوالي
149 مليون في بنغلاديش. في المقابل، هناك ما بين ستة إلى
سبعة آلاف شخصاً سافروا من تونس إلى الأراضي التي يسيطر
عليها تنظيم داعش في سوريا والعراق، على الرغم من أن عدد
سكان تونس يقل عن 11 مليون نسمة. وقد سافر ما يقرب من
1600 شخص إلى الأراضي الخاضعة لسيطرة داعش من فرنسا التي
يبلغ عدد سكانها 66 مليون نسمة، وسافر أكثر من 600 شخص
إلى الأراضي التي يسيطر عليها داعش من مصر والتي يبلغ
عدد سكانها 90 مليون نسمة تقريباً. وبناء على استطلاعات
الرأي فإن هناك مستوى منخفضاً من الدعم للدولة الإسلامية
بين السكان في معظم جنوب شرق آسيا.
ففي إندونيسيا، على سبيل المثال، أظهر استطلاع للرأي
أجرته منظمة بيو للبحوث صدر في نوفمبر 2015 أن 4 في المائة
فقط من الإندونيسيين لديهم وجهة نظر إيجابية عن داعش.
وقد لعب القادة السياسيون في إندونيسيا دوراً محورياً
في منع تنظيم «داعش» من إلهام العديد من الأتباع في بلدهم،
الذي يضم أكبر عدد من السكان المسلمين في العالم.
في حقيقة الأمر، منذ نهاية عهد سوهارتو في أواخر التسعينيات،
أشرف السياسيون الإندونيسيون على عملية سياسية واقتصادية
ناجحة أدت الى تقليص سلطات جاكرتا وتمكين المحافظات والمدن
والبلدات، ومنحهم ذلك المزيد من الحقوق لانتخاب قادتهم،
واستخدام عائداتهم الضريبية، ومراقبة ميزانياتهم. وعليه،
فإن مبررات السخط القابلة للتوظيف من قبل جماعات راديكالية
ليست متوافرة بصورة شبه كاملة.
إن نجاح نظام اللامركزية في إندونيسيا، والمنسجم مع
الطبيعة الجغرافية للبلد الذي يتألف من أكثر من 18 ألف
جزيرة على مساحة أكثر من 300 ميلاً، وهي بالتأكيد بيئة
غير مناسبة للجماعات المتطرّفة، ولاشك أن توزيع السلطة
جعل من غير الممكن لهذه الجماعات توجيه اللوم الى حكومة
جاكرتا، إذ باتت إدارة البلاد قائمة على الشراكة مع بقية
المناطق، وإن الحكومات المحلية لها صلاحيات كاملة وهي
من يضع المعايير الاجتماعية والثقافية، بل ساهمت اللامركزية
في تعزيز الانسجام بين السياسيين والزعماء الدينيين على
المستوى القومي والمحلي.
كما نجحت اللامركزية في تأهيل جيل من القادة السياسيين
في المناطق المحلية ونجحوا في الوصول الى مراكز قيادية،
كما في مثال الرئيس الاندونيسي الحالي جوكو ويدودو، الذي
تولى منصب عمدة سوراكارتا، والمشهورة باسم (سولو) وهي
مدينة في جاوة الوسطى في الفترة ما بين 2005 ـ 2012، قبل
أن يصبح حاكما على العاصمة جاكرتا في الفترة ما بين 2012
ـ 2014، وفي أكتوبر من 2014 أصبح رئيس اندونيسيا، كأول
رئيس مدني في البلاد.
الرئيس ويدودو أدرك مبكراً خطورة الجماعات المتطرّفة
التي تحدق ببلاده، ولذلك طالب من أعضاء جمعية نهضة العلماء،
ذات الشعبية الواسعة في البلاد، المشاركة في مراقبة مشاريع
الحكومة، ومن أبرزها ما يتعلق بحركة المجموعات الراديكالية
غير المتسامحة. وخلال هذه الفترة، ضغطت الحكومة الإندونيسية
للحيلولة دون اختراق هذه المجموعات المجتمع الاندونيسي
وبما يؤدي إلى زعزعة أمن المجتمع، غير أنه من الناحية
العملية ما زال هناك كثيرٌ ممن استطاع التحايل على القانون.
وأرجع الرئيس ويدودو في افتتاح المؤتمر الوطني لجمعية
نهضة العلماء في 23 نوفمبر 2017 سبب اختراق المجموعات
إلى «أن القوانين والتنظيمات الرئيسة هي بديل للقوانين
الموجودة حالياً، فالحكم على الشيء يكون تحت مظلة القوانين
الواضحة». ولذلك، طلب ويدودو من رجال القانون أن يكونوا
حازمين غير متسامحين مع أي مجموعة أو حركة راديكالية غير
متسامحة موجودة في إندونيسيا أياً كان توجهها.
هذا مهم، لأن إندونيسيا من الدول التي تتميز بالاستقرار
والبعد عن النزاعات بكل أنواعها. ويلفت الرئيس الإندونيسي
الى أن «داعش» بات يشكّل قلقاً لدى السلطات الاندونيسية
الذي يدفع الى رفع مستوى الحيطة والحذر من إمكانية اختراق
التنظيم لبعض المناطق والطبقات الاجتماعية. في كل الأحوال،
فإن تنظيم «داعش» لن يغلق أبواب محاولات اختراق المجتمع
الاندونيسي وتشكيل خلايا مرتبطة به في بلد يضم ربع إجمالي
عدد سكان المسلمين في العالم(20).
وخلافاً لما حدث في بعض البلدان الأخرى في المنطقة،
مثل بنغلادش، فإن الحملة ضد إيديولوجية داعش في إندونيسيا
يضطلع بها رجال دين مشهورون. في بنغلادش معظم رجال الدين
الذين ينتقدون الجماعات الراديكالية هم أقل شهرة. في المقابل،
هناك من يرى بأن مدينة سولو، التي يتحدّر منها الرئيس
ويدودو، يحقق فيها التيار المتطرف تقدّماً، وقد تكون بيئة
مناسبة لعمل «داعش». ولا بد من إلفات النظر الى سلسلة
الهجمات التي تعرّضت لها أقليات دينية في إندونيسيا في
السنوات الخمس الماضية من قبل متطرّفين دينيين، بما في
ذلك العديد من الهجمات على المسلمين الاحمديين. وقد فشلت
حكومات إندونيسيا وحكومات المقاطعات في إدانة الهجمات،
أو شجعت فعلا سياسة التمييز ضد المسلمين الأحمديين.
في كل الأحوال، تبنّت المنظمات الدينية مثل الاتحاد
الوطني والقادة السياسيين في إندونيسيا خطوات حاسمة لمنع
الجماعات المتطرفة من اكتساب مزيد من الاتباع. وقد نجح
القادة السياسيون في توظيف منابرهم للهجوم على المتطرّفين
الذين يهدّدون الاندونيسيين وليس المصالح الغربية، وعليه
اتخذت إجراءات صارمة وقوية ضد الخلايا المسلحة.
من جهة ثانية، تعترف الحكومة الإندونيسية بأن البلد
بحاجة إلى إصلاح نظام السجون لإيجاد ظروف إنسانية أفضل،
حتى لا تصبح مصدراً أكبر لتجنيد المتطرفين. يبقى السؤال:
هل لدى الحكومة الموارد الكافية والإرادة السياسية الحازمة
للقيام بذلك؟. إن مجرد الإقرار بالمشكلة يعد خطوة أولى
ضرورية للمعالجة.
ظلت تايلند والفلبين دولتين مركزيتين للغاية، حيث تسيطر
بانكوك ومانيلا على جميع وسائل السلطة تقريباً. وقد أدى
غياب اللامركزية إلى شعور المناطق الأخرى بالتهميش والحرمان،
لاسيما في المناطق التي تعيش فيها أعداد كبيرة من الأقليات
الإثنية والدينية. إقترح الرئيس الفلبيني رودريغو دوتيرت
تغيير النظام السياسي في البلاد لجعله أكثر لامركزية،
ونجح بأصوات أولئك الذين يعيشون على هامش العملية التنموية،
ووعد باعتماد نظام اللامركزية وتخويل الحكومات المحلية
سلطات متكافئة وتمكينها من المشاركة في العملية التنموية
والإفادة بصورة متكافئة مع مانيلا، العاصمة، الا أن ذلك
يتطلب تعديلاً دستورياً، ولم يحدث ذلك حتى الآن، وهو ما
يوفّر مبررات لدى مناطق الجنوب التي تشعر بالحرمان من
أن تكون بيئة حاضنة للجماعات المتطرّفة التي تستغل سخط
السكان المحليين(21).
على الضد في بنغلادش، حيث يبدو أن الحكومة تجاهلت مسلسل
القتل البشع للمدوّنين والكتاب العلمانيين. (بدأت دكا
لاحقاً في اعتقال وملاحقة المشتبه بهم الذين يعتقد أنهم
متورطون في عمليات القتل).
وحيث اتسع التطرف لأكثر من عقد من الزمان، ازدادت نسبة
التطرف بين السكان منذ أن قيام الحكومة بتنفيذ سلسلة إعدامات
ضد العديد من القادة الإسلاميين البارزين في ديسمبر عام
2013 من أبرزهم الشيخ عبد القادر ملا، الأمين العام لحزب
الجماعة الإسلامية، وعلي أحسن محمد مجاهد، أمين عام الجماعة،
وصلاح الدين قادر تشودري، عضو قيادي في الجماعة، وعضو
برلماني سابق وكبير مستشاري زعيمة المعارضة خالدة ضياء،
ومحمد قمر الزمان، وهو الزعيم الثاني للجماعة الإسلامية،
ومطيع الرحمن نظامي، وزير الزراعة الأسبق، وأحد مؤسسي
حزب الجماعة الإسلامية، وتولى رئاستها لبعض الوقت، ومير
قاسم علي، عضو تنفيذي في اللجنة المركزية للحزب وأبرز
مموليها، وأزهر الإسلام، الأمين العام المساعد لحزب الجماعة
الإسلامية، وعبد السبحان، نائب رئيس حزب الجماعة الإسلامية.
وقد أدين هؤلاء جميعاً بتهم مثل ارتكاب الإبادة الجماعية،
والقتل والتعذيب والاغتصاب وتدمير الممتلكات خلال حرب
الاستقلال عن باكستان. وفي النتائج، أحدثت الاعدامات ردود
فعل شعبية غاضبة، وصنعت بيئة متطرفة بشكل متزايد، والتي
أصبحت فيها الحكومة ضالعة على نحو متزايد(22).
في مجال الجهود الجماعية لمواجهة خطر اختراق «داعش»
للمجال الجنوب الشرق الآسيوي، أبدت اندونيسيا استعداداً
مبدئياً للتعاون مع الفلبين وماليزيا للعمل سوّياً لضبط
بحر سولو، وهي منطقة متداخلة بين الدول الثلاث المعروفة
بالقرصنة والشبكات المسلحة. وفي مايو 2016، اتفقت جاكرتا
وكوالالمبور ومانيلا على إطلاق دوريات ثلاثية لبحر سولو،
وهي خطوة أولى رئيسية نحو التعاون لمكافحة القرصنة والاختطاف
وحركة الإرهابيين عبر بحر سولو(23).
في ماليزيا، مثال آخر، وعلى الرغم من أن الدعم السعودي
للمشاريع الدينية يعود الى فترة الستينيات، إلا أنه تعزّز
بعد الطفرة النفطية عام 1973. ولم يتدفق المال السعودي
بوتيرة منتظمة وعالية على جنوب شرق آسيا سوى في بداية
الثمانينات حين بدأت المدارس الدينية الوهابية تنتشر بصورة
ملحوظة.
دواعش على امتداد جنوب شرق آسي
في الفلبين وصل السلاح قبل المال الى هذا البلد، والى
جنوب البلاد حيث يعيش معظم مسلميه المعروفين باسم مورو،
وهم من أصول إندونيسية ومالاوية، موّزعين على سبعة آلاف
ومائة جزيرة، ويقطن غالبيتهم في جزيرة مندناو الأقرب فلبينياً
الى ماليزيا، وهي ثاني أكبر جزر الفلبين بعد لوزون. ويشغل
المسلمون البالغ عددهم بين 8 ـ 12 مليون نسمة (من أصل
92 مليون نسمة إجمالي سكان الفلبين) ما يزيد عن ثلث مساحة
الفلبين، أي نحو 117 ألف كيلومتراً مربعاً.
وتقاتل الجماعات المسلحة في جنوب الفلبين منذ عقود،
وأصبحت جماعة واحدة، يطلق عليها إسم جماعة أبو سياف، وهي
جماعة سلفيّة جهادية إنشقت عن جبهة التحرير الوطنية «جبهة
مورو» عام 1991، وأنشأها عبد الرزاق أبو بكر جنجلاني (قتل
في ديسمبر 1998)، وتدعو الى إقامة «دولة إسلامية» غربي
جزيرة مندناو، جنوبي الفلبين.
وقد درس أبو سياف العلم الشرعي في جامعة أم القرى في
مكة المكرمة وتخرج فيها، ثم التحق بمراكز التدريب التابعة
لجبهة مورو الوطنية في ليبيا، وتلقى هناك تدريبات عسكرية
وقيادية، عاد بعدها إلى منطقته جزيرة باسيلان في جنوب
جزيرة مندناو جنوب الفلبين، وحرّض على كراهية النصارى
بدعوى أن المسلمين في الفلبين يعانون من اضطهاد النصارى
في الشمال، وأن الحكومة المركزية حرّضتهم على قتل المسلمين
وسلب أراضيهم.
وفي ضوء خطاب الكراهية الدينية نجح أبو سياف في إنشاء
جماعة واتخذ لها مركزاً في الغابات لتأهيل عناصره عسكرياً
فجعل منها جماعة دعوية جهادية تقوم على تلقين العناصر
مبادئ العقيدة السلفية الوهابية، والجهاد ضد المسيحيين
المدعومين من الدولة، حسب زعمه.
بعد مقتل أبو سياف ضعفت الجماعة، وانقسمت الى مجموعتين:
مجموعة يقودها راودلان وهي الأكبر عدداً، والأخرى يقودها
قذافي جنجلاني، وهي الأقل عدداً سوى أنها تتميز بوجود
قائد بارز فيها هو «أبو السبايا»، ويتميز بشخصية قوية
وهو الرجل القوي وتطلق الجماعتان اسم «أبو سياف» على نفسها.
وكانت المجموعة قد خاضت مواجهات شرسة مع الجيش الفلبيني
والهجوم على كنائس، والقيام بعمليات خطف للأجانب، وفي
يونيو 2001 دخلت في مواجهة مسلحة مع الجيش الفلبيني على
خلفية اختطاف رهائن اميركيين بهدف الضغط على حكومة مانيلا
لسحب الجيش من جزيرة باسيلان التي كانوا يختبئون فيها.
الفلبين والولايات المتحدة تصنّف جماعة أبو سياف بكونها
أحد أذرع القاعدة وتحملها مسؤولية حريق سفينة قبالة مانيلا
في فبراير عام 2008 والذي أدى الى مقتل نحو مائة شخص.
وقد قتل من قادة الجماعة، جنجلاني رئيسها وأبو سبايا المتحدّث
باسمها وذلك في معركة بحرية في يونيو 2002، وقتل سراجي
سالي في ابريل 2004 وأبو سليمان في يناير 2007.
في أبريل 2016، قتل مسلحون من جنوب الفلبين مرتبطون
بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام 18 جندياً من
الجيش الفلبيني في معركة ضارية استمرت يوماً واحدا على
أرض وعرة، فيما تحدّث الناطق باسم الجيش عن قطع رؤوس عدد
من الجنود(24).
وبرغم من أن «القاعدة» كانت هي مصدر الالهام لجماعة
أبو سياف وفروعها من بعد موته، الا أن ذلك لم يمنع دخول
«داعش» على خط المنافسة، فقد أعلنت أربع مجموعات تابعة
لجماعة «أبو سياف» في فيديو مصوّر بثّته إحدى المواقع
التابعة لـ «داعش» في 20 يونيو 2016 مبايعتها للبغدادي.
وجاء في الفيديو تعيين إسنيلون هابيلون المعروف باسم أبوعبدالله
الفلبيني «أميراً» على ما أسمتها «ولاية الفلبين». وظهر
في الشريط ثلاثة أشخاص: إندونيسي، وماليزي، وفلبيني مقيمين
في مدينة الرقّة، معقل داعش في سوريا، وهم يؤكدون قبول
البغدادي بيعة هذه المجموعات. وفي إبريل من العام نفسه،
أعلنت مجموعتان من «جماعة أبو سياف مبايعتهما للبغدادي.
وقد تكشّفت حقائق جديدة عن المشاركة القتالية للتنظيم
في الفلبين. ففي مواجهات مايو 2017 شارك العشرات من المقرّبين
من «الدولة» ضد قوات الأمن في جنوب الفلبين، في مؤشر واضح
على أن منطقة جنوب الفلبين تحوّلت، وبسرعة قياسية، الى
مركز حيوي لنشاط إرهابي تقوده تنظيمات السلفية الجهادية.
وبحسب المخابرات الفلبينية فإن نحو 40 مقاتلاً جاؤوا
في الفترة الأخيرة من الخارج وبعضهم جاء من دول في الشرق
الأوسط كانوا ضمن ما بين 400 و500 مقاتل اجتاحوا مدينة
ماراوي في جزيرة منداناو. وأضاف المصدر «أن من بينهم إندونيسيين،
وماليزيين، وباكستانياً واحداً على الأقل، وسعودياً، وشيشانياً،
ويمنياً، وهندياً، ومغربياً، وشخصاً واحداً يحمل جواز
سفر تركي».
وأكد الخبير الأمني بكلية «إس. راجاراتنا» للدراسات
الدولية في سنغافورة، روحان جوناراتنا، أن «تنظيم داعش
يتقلّص في العراق وسوريا ويتناثر في مناطق من آسيا والشرق
الأوسط»، مشيراً إلى أنه من المناطق التي يتوسّع فيها
هي جنوب آسيا والفلبين التي تعتبر مركز الاستقطاب. وأعلن
تنظيم «داعش» والجماعات المرتبطة به مسؤوليته عن عدّة
هجمات في مختلف أرجاء جنوب شرق آسيا في العامين الماضيين،
لكن المعركة في مدينة ماراوي كانت أول مواجهة طويلة مع
قوات الأمن(25).
وبعد نجاح «داعش» في حصار مدينة مراوي جنوب الفلبين
في 22 مايو 2017، دعا الرئيس الفلبيني رودريغو دوتيرتي،
في 26 مايو تنظــيم «داعش» للحوار قائلاً: «إن الفرصة
لا تزال سانحة لإحلال السلام». وتأتي الدعوة بعد محاولات
فاشلة لفك الحصار بالزج بقوات مدعومة بالطائرات الهجومية،
حيث أبدى المتحصّنون من جماعة ماوتي التي أعلنت مبايعتها
لتنظيم «داعش» مقاومة شديدة.
وفي 30 مايو 2017 نشرت وكالة (رويترز) تقريراً عن المعارك
الدائرة في مدينة ماراوي الفلبينية وذكر بأن عشرات من
المقاتلين الأجانب الى جانب المتعاطفين مع تنظيم «الدولة»
قاتلوا ضد قوات الأمن في جنوب الفلبين، التي أصبحت مركز
استقطاب لتنظيم «الدولة» بعد طرد مقاتليها من العراق وسوريا.
وكان عناصر من جنوب شرق آسيا يقاتلون في صفوف «داعش» بسوريا
قد أصدروا العام 2016، توجيهات لمواطنيهم يحثونهم على
الانضمام لإخوانهم في جنوب الفلبين أو شن هجمات في الداخل
بدلاً من محاولة السفر إلى سوريا.
وبحسب الخبير الأمني جوناراتنا: «أن المقاتلين الإرهابيين
الأجانب يشكّلون مكوّناً كبيراً بشكل غير معتاد من مقاتلي
تنظيم الدولة الإسلامية ومن الوجود الجاري تشكيله للتنظيم
في جنوب شرق آسيا»(26).
وقد أعلنت وزارة الدفاع الأندونيسية في مؤتمر دولي
حول الأمن 4 يونيو 2017 أن لدى تنظيم «داعش» حوالي 1200
مقاتل في الفلبين بينهم أجانب، يقدّر عدد الاندونيسيين
منهم بنحو أربعين شخصاً. مساعد وزير الدفاع الفلبيني ريكاردو
ديفيس قلل من حجم المقاتلين، وقال أن العدد هو بين 250
و400. لكنه أوضح أن نحو أربعين أجنبياً يشاركون في القتال
في مدينة مراوي التي اجتاحها مناصرون لـ «داعش»، وذكرت
السلطات الفلبينية من قبل أن هؤلاء قدموا من ماليزيا وأندونيسيا
واليمن والسعودية والشيشان(27).
وفي 22 أكتوبر 2017، خاضت القوات الفلبينية مواجهات
شرسة مع مجموعات موالية لتنظيم داعش في مدينة ماراوي التي
حاصروها منذ 22 مايو من العام نفسه، ولم تنجح القوات الفلبينية
في فك الحصار عنها برغم من دعوات الاستسلام التي يطلقها
الجنود الفلبينيون عبر مكبرات الصوت، فيما كانت تتصاعد
المخاوف من أن يكون تنظيم «داعش» قد نجح في ابتكار تكتيكات
قتالية تؤدي الى استنزف القوات النظامية فيما يعزز التنظيم
وجوده في الغابات والجبال والمناطق النائية في جنوب الفلبين،
وإذ يتم تجنيد الشباب للقتال، ويجمع السلاح بكميات كبيرة.
وقد تمكّن الجيش الفلبيني من قتل أمير داعش في الفلبين
إسنيلون هابيلون، كما قتل عمر الخيام ماوتي زعيم جماعة
ماوتي.
إن نوعية القتال والنتائج التي يحققها تنظيم «الدولة»
تجعل منه لاعباً فاعلاً في الساحة الفلبينية. وأن وجود
مقاتلين أجانب الى جانب المقاتلين المحليين لا تعني فراغاً
قيادياً، كما تميل السلطات الأمنية والعسكرية الى هذا
النوع من التفسير المريح، ولكن يكشف أن اختراقاً أمنياً
قد حصل وأن ثمة توجّهاً لدى «داعش» لإيلاء أهمية خاصة
لمناطق بعينها مثل الفلبين(28).
المصادر
1-Mamoon Alabbasi, Jordan wary about jihadists wishing
to return home, The ArabWeekly, 23 April 2017;
http://www.thearabweekly.com/Levant/8268/Jordan-wary-about-jihadists-wishing-to-return-home
2-Richard Barrett, THE ISLAMIC STATE, , The Soufan
Group, November 2014;
http://soufangroup.com/wp-content/uploads/2014/10/TSG-The-Islamic-State-Nov14.pdf
3-Richard Barrett, FOREIGN FIGHTERS In Syria, THE
SOUFAN GROUP, JUNE 2014;
http://soufangroup.com/wp-content/uploads/2014/06/TSG-Foreign-Fighters-in-Syria.pdf
4-RICHARD BARRETT, The Islamic State, The Soufan
Group TSG, November 2014, p.16;
http://soufangroup.com/wp-content/uploads/2014/10/TSG-The-Islamic-State-Nov14.pdf
5 ـ فشل داعش في السعودية، موقع السكينة، 25 نوفمبر
2014، أنظر:
https://www.assakina.com/center/parties/58056.html
6-9,000 Militants from Ex Soviet Space Fight in Syrian
Civil War, Putin Reveals, intelligencerpost, February
24, 2017;
http://www.intelligencerpost.com/what-is-lorem-ipsum/
7-US THINK TANK: RUSSIA AND SAUDI ARABIA CITIZENS
ARE LARGEST PART OF ISIS FOREIGN FIGHTERS, Soufane,
26 October 2017;
https://maps.southfront.org/us-think-tank-russia-and-saudi-arabia-citizens-are-largest-part-of-isis-foreign-fighters/
8ـ للإستزادة أنظر:
Beyond the Caliphate: Foreign Fighters and the Threat
of Returnees, Richard Barret, The Soufan Centre, October
2017;
https://maps.southfront.org/us-think-tank-russia-and-saudi-arabia-citizens-are-largest-part-of-isis-foreign-fighters/
9-JACOB POUSHTER AND DOROTHY MANEVICH, Globally,
People Point to ISIS and Climate Change as Leading Security
Threats, Pewglobal, August 1st, 2017;
http://www.pewglobal.org/2017/08/01/globally-people-point-to-isis-and-climate-change-as-leading-security-threats/
10 - https://goo.gl/Fiv8SX
11-Assessment of the terror threat to Denmark, PET,
Center for Terroranalyse CTA, 7February 2017, p/7;
https://www.pet.dk/English/Center%20for%20Terror%20Analysis/~/media/VTD%202017/VTD2017ENpdf.ashx
12-Reuters Staff, France has seen 271 jihadi militants
return: minister, Reuters. AUG 5, 2017;
http://mobile.reuters.com/article/amp/idUSKBN1AL0SM
13-Robin Wright, Are We Nearing the Endgame with
ISIS?, New Yorker, July 27, 2017;
https://www.newyorker.com/news/news-desk/are-we-nearing-the-endgame-with-isis
14-ALIX CULBERTSON, US could cut Saudi Arabia funding
over support for Pakistan schools which fuel ISIS rise,
Express, February 1, 2016;
https://www.express.co.uk/news/world/640222/US-cut-Saudi-Arabia-funding-support-Pakistan-schools-Islamic-State-rise
15-Victor Malet, Madrassas: Behind Closed Doors,
Financial Times, October 30, 2015;
https://www.ft.com/content/d807f15a-7db0-11e5-98fb-5a6d4728f74e
16- Jefferey Goldberg, The Obama Care, The Atlantic,
April 2016;
https://www.theatlantic.com/magazine/archive/2016/04/the-obama-doctrine/471525/
17 ـ فرانتس ماغنيس سوسينو، تيار إسلامي إندونيسي معتدل
وعريض يقف للتطرف بالمرصاد، ترجمة خالد سلامة، موقع (قنطرة)،
عن: دويتشه فيله، 16 يوليو 2016، أنظر:
https://ar.qantara.de/node/24253
18-Fred R. von der Mehden, Saudi Religious Influence
in Indonesia, Middle East Institute, Dec 1, 2014;
http://www.mei.edu/content/map/saudi-religious-influence-indonesia
19- FREYA NOBLE ISIS magazine Al Mustaqbal being
handed out at Indonesian mosques along with ‘vouchers
for fried chicken’, Daily Mail, 10 August, 2014;
http://www.dailymail.co.uk/news/article-2721199/ISIS-magazine-Al-Mustaqbal-handed-Indonesian-mosques-vouchers-fried-chicken.html#ixzz50gLlSkEC
20 ـ الرئيس جوكوي يدعو جمعية نهضة العلماء للمشاركة
في مراقبة مشاريع الحكومة، إندونيسيا اليوم، 24 نوفمبر
2017، عن صحيفة (ريفيوبليكا)، أنظر:
https://goo.gl/mKAGvE
21-Jesse Angelo L. Altez, Decentralization and local
capacities, Inquirer. Net, August 5th, 2015;
http://opinion.inquirer.net/96251/decentralization-and-local-capacities
22 -ميرفت عوف، تعرف إلى أبرز القادة الإسلاميين الذين
أعدمتهم الحكومة في بنغلاديش، ساسه بوست، 22 نوفمبر 2015،
أنظر:
https://www.sasapost.com/execution-bangladesh/
23-Joshua Kurlantzick, Southeast Asia—The Islamic
State’s New Front?, Carnegie Council, October 4, 2016;
https://www.carnegiecouncil.org/publications/ethics_online/0122
24 - جماعة أبو سياف تقتل 18 جندياً فلبينياً، موقع
(العربية)، 10 إبريل 2016، أنظر:
https://goo.gl/22nEs5
25ـ داعش» جديد ينشأ في «الفلبين» بينهم سعوديون وباكستانيون
وشيشانيون ومغاربة، سبوتنيك، 16 مايو 2017، أنظر:
https://goo.gl/b51qaq
26ـ أجانب يحاربون في الفلبين مع تحولها إلى مركز جديد
للدولة الإسلامية، وكالة «رويترز»، 30 مايو 2017، أنظر:
https://ara.reuters.com/article/worldNews/idARAKBN18Q1A9
27 ـ جاكرتا تؤكد أن 1200 مسلح من «داعش» يقاتلون في
الفلبين، صحيفة الوسط البحرينية، 4 يونيو 2017، أنظر:
http://www.alwasatnews.com/news/1246980.html
28 ـ اشتباكات شرسة في الفلبين مع فلول متطرفين موالين
لداعش، (العربية)، 22 أكتوبر 2017م، أنظر:
https://goo.gl/unHmhH
|