دولة «الريتز»
تحوّلت حملة محمد بن سلمان ضد خصومه من أمراء ووزراء
ورجال أعمال وغيرهم الى معركة كسر عظم. في حقيقة الأمر،
أن الحسم فيها يتجاوز «جمع المال»، وأصبح مرتبطاً بالمصير
السياسي: يكون أو لا يكون.
هو لا ريب صنع في حملته أعداء جدداً، وعليه أن يواجه
تبعات ذلك. وهو دون أدنى شك لم يحسب حساب خواتيم الحملة،
وإن من كان يعتقد بأنه الأضعف حلقة، مثل الوليد بن طلال،
أصبح أقواها، فيما أصبح من يعتقده الأقوى مثل متعب بن
عبد الله، كان الأوهن عزماً، والأسرع في طلب التسوية المالية.
بل والأهم من ذلك كله، أن أهداف الحملة المالية والسياسية
لم تتحقق تماماً، بل يمكن القول بأن الحصاد الذي خرج به
ابن سلمان دون المستوى بكثير، وليس كما يشتهيه أو يأمله.
ما هو أكثر أهمية من كل ما سبق، أن «ريتز» بات يرمز
ليس الى حملة مكافحة الفساد، بل الى حقبتين متنافرتين
شكلاً وليس مضموناً. فمن استضافهم الفندق الفاخر ليسوا
سوى الفريق الذي كان يدير شؤون السياسة، والمال، والعسكر،
والاعلام، والأمن على مدى عقود.
هم ليسوا بكل تأكيد من عامة الناس، ولذلك ما جرى في
4 نوفمبر الماضي هو صراع السلطة مع ذاتها، أو بالأحرى
بين فريقين فيها: فريق يمثل الحرس القديم والدولة السعودية
في مسارها التاريخي الذي يعود الى منتصف القرن الثامن
عشر الميلادي، وفريق يحمل سمات الاستبداد والشمولية ذاتها،
ولكن يتطلع الى إعادة تشكيل السلطة على أسس سلطوية جديدة،
تنزع من القديم نفوذه، وتضع كل مصادر القوة بيد الفريق
الجديد.
في حقيقة الأمر، أن فريق الحكم الجديد وإن كان أصغر
سنّاً من الحرس القديم، إلا أنه أكثر استبداداً وفساداً
وشراسة.
استبشر الناس خيراً بأن من يقود حملة مكافة الفساد
ينتقم لهم من فريق استأثر بمصادر الثروة والسلطة في البلاد
ردحاً طويلاً من الزمن. وأكثر من ذلك، إنه يوقف حركة دولة
قامت على السخرة، واحتكار السلطة بكل أشكالها، ومصادرة
إرادة الناس.
ولكن كانت الصدمة الكبرى حين اكتشف الناس بأن من يقود
الحملة على الفساد أكثر فساداً، وأن الجنة التي وعدهم
بها تحوّلت الى جحيم. ظهر ذلك أول مرة في أخبار الفساد
المالي لولي عهد أبيه، التي اختصرها ثالوث: اليخت، واللوحة،
والقصر.
وأعقب ذلك الاعلان عن موازنة فلكية قوامها النفط وجيب
المواطن (عبر الرسوم، والضرائب الجديدة). وثالثة الأثافي
رفع أسعار الوقود التي تحولت الى «سخرية حزينة»، كما كشفت
عنها الطريقة التي عبّر فيها الناس، من خلال ركوب الدراجات
الهوائية، أو حتى الحمير المصحوبة بعربات.
في النتائج، ما جرى في «الريتز» كان يؤسس لدولة جديدة،
لاصلة لها بمكافحة الفساد، وإنما هي دولة بطابع آخر مخاتل.
كانت في السابق دولة فاسدة ولكن ريعية، ثم أصبحت فاسدة
ولكن ضريبية. بكلمات أخرى، فيما مضى كانت دولة رعاية ثم
أصبحت دولة جباية، وبدلاً من أن تعطي الناس لشراء صمتهم
عن مفاسدها، فهي اليوم تأخذ من الناس وتحرمهم من مجرد
التعبير عن قهرهم.
الدولة الجديدة التي يقودها محمد بن سلمان وزملاؤه
في الجامعة، خسرت منذ تشكّلها ـ أول ما خسرت ـ ثقة الناس
في الداخل، والحلفاء الاقليميين والمستثمرين الدوليين
في الخارج.
ومن مصائب هذه الدولة، أنها لم تخض رهاناً واحداً وخرجت
منه رابحة؛ من عدوان اليمن، الى التحالف العسكري الاسلامي،
وانقلاب تركيا، وأزمة قطر، وأزمة الحريري، وأخيراً أزمة
محمود عباس، والملك عبد الله الثاني، وعليكم الحساب.
من يريد معرفة مستوى الثقة في سياسات إبن سلمان، ولا
سيما حول «رؤية السعودية 2030»، فليتابع ما يجري في حركة
رؤوس الأموال الى الخارج. يقول مصرفي عربي على إطلاع بالواقع
المصرفي السعودي، أن هروب رؤوس الأموال من الداخل يسير
بوتيرة متسارعة ويفوق قدرة محمد بن سلمان وفريقه على ملاحقتها،
وأن قرار تجميد الحسابات البنكية لعشرات التجار والأمراء
الذين فلتوا من الاعتقال، في سياق حملة مكافحة الفساد،
لم يحل دون هروب مئات المليارات من الدولارات خارج المملكة.
الطريف في الأمر، أن إبن سلمان أراد إقناع المستثمرين
بمتانة الاقتصاد السعودي، وصرامة القوانين الضامنة والناظمة
لحركة الاموال عبر حملة مكافحة الفساد، ولكنه فوجىء بعناد
المستثمر الدولي الوليد بن طلال الذي رفض «التسوية المالية»،
وأصرّ على الذهاب الى القضاء بل وإلى أقصى حد في مواجهة
إبن عمه، فكان أن حوّله الى سجن الحائر، سيء الصيت.
فسدت طبخة إبن سلمان، بعد أن نجح الوليد بن طلال في
أن يدير المواجهة بطريقة صحيحة. وكأنه يذكّر بتجربة الحريري
الذي ما إن عرف بدعم فرنسي وأميركي لقضيته حتى استعاد
الثقة بنفسه، وأصرّ على عدم الذهاب الى أقصى حدود التنازل
كما تكشّف ذلك مقابلة بولا يعقوبيان.. فإن الوليد هو الآخر
الذي ربما وصلته أنباء التعاطف من مستثمرين دوليين مثل
بيل جيتس وشركه روبرت مردوخ وآخرين، قرر عدم التنازل لابن
سلمان عن «المملكة القابضة» التي أراد الأخير مناصفتها
مع الوليد.
مهما يكن، فإن إبن سلمان الذي يسعى بكل ما أوتي من
قوة الى تصفية الحرس القديم، وبناء دولة بمقاييس جديدة،
يكون فيها الحاكم المطلق ويمسك بكل مفاصل الدولة، والآمر
الناهي.. يواجه تحديات حقيقية وأن وجود والده الملك على
قيد الحياة، أو وجود ترمب في البيت الأبيض، كداعمين له،
لا يكفي لتغيير وجهة التاريخ، لأن ذلك يتطلب أدوات أخرى
ليست تحت سيطرته.
|