على وقع التهديد السعودي بغزو قطر
الحرمان الشريفان.. قداسة فوق السيادة!
الدعوة الى إنشاء إدارة إسلامية مشتركة للمقدسات الاسلامية
تكررت في مراحل زمنية مختلفة، وكانت ترتبط أساساً،
بالقلق على سلامة المقدسات، وحريّة الوصول إليها للعبادة
من قبل كافة المسلمين، ومدى سوء وفساد وانحراف السلطات
السياسية المشرفة عليها، أو الحاكمة باسمها
ناصر عنقاوي
استنفرت السعودية ادواتها الاعلامية بشدة منذ مطلع
فبراير الجاري، للتصدي لما اسمته المؤامرة القطرية الجديدة،
بالدعوة الى تدويل الاماكن المقدسة في الحرمين الشريفين
وما يتصل بهما، وهي الاماكن الخاضعة للنفوذ السعودي.
حالة من الهلع والقلق سادت الاوساط السعودية من الدعوة
المنسوبة الى قطر.
فما هو مصدر القلق السعودي؟ ولماذا جاءت ردود الفعل
على هذه الدرجة من الانفعال والتوتر؟ وماذا يعني تدويل
الحرمين الشريفين وكيف يعتبر انتهاكا للسيادة السعودية..
الى حد ان اعتبرت المملكة السعودية الدعوة الى تدويل الاشراف
على الحرمين الشريفين بمثابة إعلان حرب عليها؟
الحملة السعودية لم تهدأ منذ عدة اسابيع، وراحت تنفخ
فيها وسائل الاعلام الى درجة مبالغ فيها، وشاركتها الامارات
والبحرين على الصعيدين الرسمي والاعلامي في هذه الحملة
المسعورة.. ما يطرح اسئلة كثيرة حول الاهداف السعودية
من الحملة المضادة، ومدى القلق الذي يصيب العائلة المالكة
من محاولة نزع هذا الغطاء القدسي الديني عن نظامها العائلي.
كتب المستشار في الديوان الملكي السعودي سعود القحطاني
(برتبة وزير) على حسابه في «تويتر» ان (خلايا عزمي ـ بشارة
ـ وإعلام الظل للسلطة القطرية الغاشمة تروج بشدة لما تسميه
بتدويل الحرمين!). وأعاد القحطاني نشر تصريح سابق لوزير
الخارجية السعودي عادل الجبير، يقول فيه إن أي طلب لـ
(تدويل الحرمين) تعتبره المملكة (عملا عدوانيا) و(إعلان
حرب).
كما كتب وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية أنور
قرقاش يقول: ان (خطة المُرتبك نحو تدويل الحرمين ستفشل
كما فشلت سابقا، تعودنا منه السقوط والسقطات، وعرفنا عنه
التآمر والأذى، وسيبقى معزولاً منبوذاً ولن تجلب هرولته
له الأمان).
ومن جانبه، رد وزير الخارجية البحريني الشيخ خالد بن
أحمد آل خليفة بتغريدة جاء فيها: (كلامكم عن تدويل الحرمين
الشريفين لا يفتح لكم بابا للنقاش، بل يكشف النوايا السيئة
والافلاس السياسي والسقوط الأخلاقي الذي تعيشونه يوماً
بعد يوم).
وقبل الدخول في تحليل الدوافع السعودية وراء هذا الانفعال
المفرط لا بد من الوقوف عند الدلالات القانونية والتاريخية
للمفاهيم المستخدمة في هذه الحرب الجديدة التي يفتح أبوابها
النظام السعودي.
التدويل والسيادة
السيادة هي احتكار السلطة القانونية المطلقة في اقليم
معين، وكذلك على كل ما يتضمنه الاقليم من بشر وثروات ومقدسات،
وهي الصلاحيّات التي تمنح الدولة حق السيطرة ضمن النظام
الإقليمي لها، كالحفاظ على الأمن وحماية الحقوق وغيرها.
وهذا المصطلح المهم في علم السياسة والقانون الدولي
شابه الكثير من الغموض، وتعرض كغيره من القوانين الاجتماعية
الى التطور، متأثرا بالعلاقات الدولية وموازين القوى،
والتداخل المتزايد بين الخصوصية والعولمة في السنوات الاخيرة.
فما كان حقا مطلقا في الفترات الماضية، لم يعد كذلك
بعد الحروب، وتغير مدلولات الامن القومي والمصالح الوطنية،
وأضحت السيادة مقيدة بشكل واسع بالقوانين الدولية، والمصالح
والصراعات بين القوى الكبرى والمهيمنة.
وما كان في السابق يستند الى الحق الالهي والوراثة..
اصبح اكثر خضوعا للارادات والمصالح، مع انتشار الديمقراطية،
وقوانين حقوق الانسان، والسلام والامن الدوليين.
وبالمثل، فقد تطور مفهوم (التدويل) خاصة بعد الحرب
العالمية الثانية، حيث ساد الاتجاه إلى المؤسسات الدولية،
كوسيلة لحل الأزمات، وتجنب الحروب والمواجهات العسكرية
بين الدول لحل المشاكل، والتقليل والتخفيف من النزاعات.
ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وقيام منظمة الأمم
المتحدة، أضحت المسألة الخاصة بالحماية الدولية لحقوق
الإنسان - بصرف النظر عن الانتماءات الوطنية أو العرقية
أو الدينية أو السياسية - تمثل أحد المبادئ الأساسية للتنظيم
الدولي المعاصر. وقد رأينا في السنوات الماضية وحتى اليوم،
كيف ان المجتمع الدولي اجاز لنفسه حق اعلان الحروب، واسقاط
الانظمة، والتدخل في الشؤون الداخلية للدول، تحت ذريعة
تدويل القضايا السياسية وحقوق الانسان وحماية الشعوب،
منتزعا قسما كبيرا من حقوق السيادة الوطنية.
|
|
تقرير الجزيرة الذي أزعج السلطات السعودية
|
وبصرف النظر عما اذا كان شعار (حقوق الانسان) قد استغل
بطريقة سيئة، واتخذه البعض كلام حق يراد به باطل، فإن
الفكرة الاساسية هي ان مسألة (التدويل) لم تعد قضية مرعبة
او متناقضة تماما مع السيادة الوطنية، والاستقلال، بل
باتت اشبه بعملية تنظيم للعلاقات بين الدول، واعلاء شأن
حقوق الانسان على القيم السياسية الاخرى. وقد رأينا كيف
ان التدخل في النزاعات الدولية، اصبح مقبولا في الثقافة
العصرية، بعد ان جرى تشريعه في مجلس الأمن، في حالات عديدة،
ولم يعد للوقوف عند السيادة الوطنية كبير اهمية.. مما
جعل المسألة نسبية، وليست حقا مطلقا.
ولا شك ان الدين هو اعلى مراتب حقوق الانسان، والاماكن
المقدسة تحظى بالاحترام والقداسة لدى الشعوب، اكثر من
المحاكم والسجون، وحق العبادة يفوق اهمية حرية التعبير،
وانشاء الجمعيات السياسية والحقوقية.
وقد اعترفت الأمم المتحدة بأهمية حرية الديانة أو المعتقد
في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمد عام 1948..
كما أقر العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية،
والذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1966،
بالحق في حرية الدين أو المعتقد، وذلك من بين ما اقره
به من حقوق وحريات. وتنص المادة 18 من العهد الدولي على
أن لكل إنسان الحق في حرية الفكر والوجدان والدين. ويشمل
ذلك حريته في إظهار دينه أو معتقده، بالتعبد وإقامة الشعائر
والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ
أو على حدة. ولا يجوز تعريض أحد لإكراه من شأنه أن يخل
بحريته في أن يدين بدين ما، أو بحريته في اعتناق أي دين
أو معتقد يختاره.
الإنتهاكات السعودية
وانطلاقا من هذه القيم والمواثيق الدولية، فإنه لم
تعد حقوق السيادة للدول مطلقة، لا على اقليمها، ولا على
شعوبها.. وبالنظر الى الممارسات السعودية اليومية والمزمنة،
فإنها تأتي في مقدمة الدول التي تنتهك الحقوق الدينية
للمواطنين والمقيمين فيها.
وفي آخر تقاريرها، أدانت الهيئة الأمريكية للحريات
الدينية الدولية (USCIRF) الممارسات السعودية، وسلطت الضوء
على الانتهاكات الجسيمة للحرية الدينية، ضد الاقليات الإسلامية،
واتباع الديانات الاخرى.
وبين التقرير أن السعودية تستخدم قوانينها المزعومة،
خاصة المتعلقة بمكافحة الإرهاب، من أجل استهداف الشيعة،
وهو ما يتمظهر باعتقالهم، والتضييق عليهم، وايصالهم الى
حبل المشنقة بمزاعم وافتراءات واتهامات سلطوية، فيما تستند
السلطات إلى محاكمات غير عادلة واعترافات تنتزع تحت التعذيب.
ولا يخلو شهر من تقرير تصدره هيومن رايتس ووتش، او
منظمة حقوقية عالمية اخرى، تتهم فيه السعودية بانتهاك
حقوق الانسان. وفي تقرير من 48 صفحة اصدرته في سبتمبر
الماضي قالت المنظمة: (إن بعض رجال الدين والمؤسسات السعودية،
يحرضون على الكراهية والتمييز ضد الأقليات الدينية، بما
في ذلك الأقلية الشيعية).
وقالت سارة ليا ويتسن، مديرة قسم الشرق الأوسط في هيومن
رايتس ووتش: (روجت السعودية بقوة للرواية الإصلاحية في
السنوات الأخيرة، ومع ذلك فهي تسمح لرجال الدين والكتب
المدرسية الحكومية بتشويه سمعة الأقليات الدينية مثل الشيعة.
يطيل خطاب الكراهية هذا من أمد التمييز المنهجي ضد الأقلية
الشيعية، وتستخدمه - في أسوأ الحالات - جماعات عنيفة تهاجمهم).
وفي الاماكن المقدسة، تقوم الشرطة السعودية بممارسات
قمعية وتمييزية، ضد معظم المذاهب والطوائف الاسلامية،
وتمنعها من القيام ببعض الشعائر والزيارات، بحجة انها
شركية، ولا تنسجم مع التفسير الوهابي لفكرة التوحيد.
وبالاجمال فإن ملف المملكة السعودية، حافل بالانتهاكات
والتشريعات التي تبرر التمييز ضد الاخر المختلف، فهي الدولة
الأكثر تنفيذاً لأحكام الإعدام، حسب منظمة العفو الدولية،
كما أنها تمارس نوعا من الإقصاء والتمييز ضد الأقليات
على أراضيها، ولا يوجد في السعودية سلطة مقيدة للملك،
وهي دولة لا تسمح بوجود أي أصوات إصلاحية وجهود حقوقية
فيها، لا تتناسب مع الرؤية السياسية للملك، وهي تقابل
هذه الأصوات المعارضة بالتضييق والسجن لفترات طويلة، والمنع
من السفر لفترات مماثلة.
لذا فإن هناك قلقا مستمرا لدى اعداد كبيرة من المسلمين
تجاه القيود التي تضعها السلطات السعودية على حرية العبادة،
وأداء الشعائر في الحرمين الشريفين.
الإدارة الإسلامية للمقدسات
إن الدعوة الى إدارة اسلامية مشتركة للمشاعر المقدسة
ليست جديدة، ولا تتعلق بدولة آل سعود المذهبية وطغيانها
السياسي، ولا بدعوات إيرانية، كما يحلو للكتاب السعوديين
القول، إمعانا منهم في تسييس الشعائر الدينية، وكل ما
يتعلق بالمقدسات وزجه في الحروب التي يخوضها آل سعود بالوكالة
عن جهات خارجية دولية.
فمما يذكره التاريخ، أنه في نهاية حكم الدولة العثمانية،
ساد شعور مماثل لما يشعر به المسلمون اليوم، وسرت مشاعر
القلق على المقدسات، خوفا من ان يصيبها ما يصيب الدول
الراعية لها، وهو ما يعتبر فسادا وإفسادا عظيما لا تتحمله
الأمة في دينها، اذا ما جاز تمريره في دولها.
فعندما تولى السلطان عبد الحميد السلطة في الاستانة،
حاول اصلاح الدولة التي اصابتها الشيخوخة، الا انه لم
يستطع بسبب هيمنة العلمانيين على مقاليد السلطة الفعلية،
وامساكهم بمفاتيح الدولة.
وقد فرض العلمانيون العثمانيون دستورا علمانيا، اخرج
الدين من المعادلة السياسية، وكان طبيعيا ان تتحرك النخب
الدينية، والمرجعيات التي كانت توالي السلطة العثمانية،
باعتبارها خلافة اسلامية، ورأت انها صارت غير مؤهلة في
نظر الكثيرين من المسلمين، للقيام بمسؤولياتها الدينية
ومنها خدمة الحرمين الشريفين .
وكان من هذه المرجعيات (حركة الخلافة) التي انتشرت
بين المسلمين في شبه القارة الهندية، والتي دعت الى إدارة
اسلامية مستقلة للحرمين الشريفين، بعد ان انهارت دولة
الخلافة الإسلامية، كما كانوا ينظرون الى الدولة العثمانية..
ولعل ما كتبه الشيخ عبدالرحمن الكواكبي، كان تعبيرا
عما يدور في اوساط النخبة من العلماء. ففي كتابه (أم القرى)،
يعبر أحد العلماء عن ضيقه بدولة الخلافة، بسبب عدم تمثيلها
للخلافة، أو أهليتها للقيام بواجباتها الإسلامية المنوطة
بها؛ وكان من جملة المقترحات التي تضمنتها مباحثات الكتاب:
إنشاء خلافة جديدة هاشمية، وليست تركية، في مكة، يتولى
الإشراف عليها عدد من الأعيان من مختلف بلاد الإسلام.
وذلك بحسب ما ينقل الشيخ الوهابي محمد بن إبراهيم السعيدي
في أحد مقالاته.
وهنا تبرز مسألتان مهمتان كانتا من الامور المسلم بها:
أولاهما، ايكال الأمر الى الهاشميين الذين ينتسبون
الى رسول الله، سواء كانوا من الجزيرة العربية او من غيرها
من بلاد المسلمين.
والثانية، انشاء ادارة خاصة للمراكز المقدسة والحرمين
الشريفين، تعمل باستقلال عن الخلافة الهاشمية، وتتشكل
من اعيان ومراجع من مختلف بلاد الاسلام.
أسباب الدعوة للإدارة المشتركة
ولا شك ان الدعوة الى انشاء ادارة اسلامية مشتركة للمقدسات
الاسلامية تكررت في مراحل زمنية مختلفة، وكانت ترتبط اساساً،
بالقلق على سلامة المقدسات وحرية الوصول اليها للعبادة
من قبل كافة المسلمين، ومدى سوء وفساد وانحراف السلطات
السياسية المشرفة عليها، او الحاكمة باسمها.
وفي العصور الحديثة أضيف عامل آخر الى هذه المخاوف،
وهو استغلال المقدسات لاهداف سياسية، او ادخالها كعنصر
من عناصر الصراع بين الدول والقوى الاسلامية المختلفة.
ولطالما وجهت الدعوات الى الحكام السعوديين الذين سيطروا
على الحجاز منذ عشرينات القرن الماضي، بإبعاد الحرمين
الشريفين عن النزاعات المذهبية والسياسية التي فجرها النظام
السعودي.
والدافع لهذا الدعوات كان قيام النظام السعودي بتبرير
سلطته التي اكتسبها بالقوة والسيف، بالغطاء الديني وخدمة
الحرمين الشريفين.. وقد تعززت هذه الدعوات مع ما اعتبره
الكثيرون فشلا سعوديا في ادارة هذه المراكز الدينية، والاشراف
على زيارتها والحج اليها، وذلك بعد ان اصبحت الحوادث والكوارث
التي تحدث ـ في مواسم الحج خاصة ـ تقليدا سنويا، يدمي
القلوب، ويثير المخاوف.
|
|
وزير خارجية قطر: السعودية تسيّس الحج وليس نحن
|
وقد تعالت الأصوات المنادية بفرض ادارة اسلامية مشتركة
للأماكن المقدسة، بعد حادث جسر الجمرات الذي مات بسببه
عشرات الحجاج وجرح المئات، كذلك بعد أن قامت السلطات السعودية
بمنع سبعة آلاف حاج عراقي عام 2006م مبررة ذلك مرة لأن
هذا العدد يفوق حصة العراق من حجاج بيت الله الحرام، ومرة
لأن تمثيل الحجاج في العراق جاء على أساس طائفي، أي أن
كل هؤلاء الحجاج من الشيعة، ورغم عدم شكوى سنة العراق،
إلا أن السلطات السعودية منعتهم، الأمر الذي حدا برئيس
الوزراء العراقي حينها أن ينادي بكسر هيمنة الإشراف السعودي
على الأماكن المقدسة .
ولم تكن الكارثة التي وقعت في موسم الحج قبل عامين
والتي راح ضحيتها اكثر من سبعة آلاف حاج، الا نموذجا حياً،
ما دفع وزير الشؤون الدينية التركي الى المطالبة بإدارة
إسلامية للأماكن المقدسة. ومن قبل ذلك في ١٩٩٠
قضى نحو ١٥٠٠ حاج في نفق المعيصم،
وقبلها في ١٩٨٧ قتل نحو ٥٠٠
حاج إيراني بالأسلحة النارية لتفريق مظاهرة البراءة من
أمريكا وإسرائيل، وغيرها من عشرات الكوارث.
وهذه الاحداث التي تندرج بمعظمها في اطار التقصير والفشل،
تضاف الى مجازر اخرى ارتكبت بداوفع عقدية وهابية، كما
حدث للحجاج اليمنيين.
يقول الدكتور محمود صبيح: (لقد جعل الوهابيون الديار
المقدسة رهينة في أيديهم، وراحوا يتحكمون بحركة الوفود
إليها، عن طريق فرض المكوس من جهة، وعن طريق استخدامها
لأغراضهم السياسية من جهة أخرى. ففي سنة 1959م منع الحجاج
السوريون من الوصول إلى مكة المكرمة، كما أرجعت كسوة الكعبة
المشرفة المرسلة من مصر، ومنع الحجاج المصريون ما لم يدفعوا
المكوس بالعملة الصعبة، كما منع الحجاج اليمنيون بعد انقلاب
السَّلال).
البعد عن التسييس
وردا على هذه المجازر والاحداث المأساوية، التي تزهق
فيها ارواح المسلمين في الديار المقدسة، وتتحول المناسبة
الدينية الأقدس عند المسلمين، الى مغامرة محفوفة بخطر
الموت او الاهانة والتعذيب.. اضافة الى ما تسببه المناوشات
والاشتباكات في الحرمين الشريفين، من اثار سيئة على صعيد
تعميق الخلاف بين المسلمين، او تفجير الفتنة المذهبية
الكبرى، التي يسعى اليها اعداء الاسلام، وهو ما يبتعد
بالمناسبة عن مقاصدها الحقيقة او جزء منها على الاقل..
اضافة الى ما تشيعه هذه الاحداث والخلافات من سمعة سيئة
للاسلام والمسلمين على الصعيد العالمي.. لكل هذه الاسباب
انطلقت الدعوات لتحييد الحرمين الشريفين من حمأة الصراع
والخلافات، والارتقاء بمكانتهما عن تخلف الانظمة وسوء
الادارة.
ورأى الكثيرون ان اسباب هذه المآسي، تكمن في غياب التنسيق
في صفوف الحجيج، وهو وصف مهذب للإهمال الجسيم والمتعمد،
وفي سوء الإدارة والتنظيم والفوضى، وانشغال السلطات المسؤولة
عن الحج بتسهيل مهمة الضيوف الكبار، وتركيزها على الجوانب
الدعائية للمذهب الوهابي، وملاحقة الحجاج ومنعهم ما يزعمون
انه عمل شركيات، وكذلك الاهتمام السعودي بالعلاقات العامة
على حساب سلامة الحجاج وأمنهم.
كما انه ليس سرا، ان العديد من المسلمين باتوا يدركون،
ان السلطات السعودية تستخدم مكانتها الدينية في صراعاتها
السياسية.. ليس فقط مع إيران، كما تحاول اجهزة الاعلام
السعودية القول، في اطار معركتها لشق الصف الاسلامي والاستفراد
بزعامة العالم السني.. بل ان استعراض المواقف السعودية
يشير الا ان سلطات هذا البلد، لجأت الى معزوفة سيادتها
على الاماكن المقدسة، لمعاقبة كل الشعوب الاسلامية التي
تختلف مع حكوماتها، والتي كان اخرها الشعب القطري، حيث
طرد المعتمرون، وأُلغيت حجوزاتهم في الفنادق في مكة والمدينة،
كما ان السلطات السعودية فرضت شروطا مذلة على الحجاج القطريين
للعام الماضي، ما ادى الى حرمانهم من اداء الفريضة.
ألا نلاحظ اليوم، ان الرياض منعت حجاج سوريا لسنوات
من أداء الفريضة؟ كما منعت سابقاً الليبيين لاختلاف موقف
آل سعود مع القذافي، ومنعت الحجاج اليمنيين خلال السنوات
الثلاثة الماضية ولاتزال، كما منعت سكان غزة ردحاً من
الزمن. وفوق هذا هددت دولاً افريقية تحت وطأة الإبتزاز
السياسي، بأنها إن لم تقف مع الرياض في حربها ضد اليمن
وضد قطر، فإنها ستحرم رعاياها من الحج.. وهذا أمر كشفت
تفاصيله صحيفة اللوموند الفرنسية العام الماضي.
ولهذا فإن الدعوات لتحرير المقدسات الاسلامية من هيمنة
آل سعود، لم تكن لدوافع مذهبية ولا تآمرية، كما يشيع الاعلام
السعودي، بل صدرت من جهات مختلفة من الهند ومصر واليمن
والعراق وتركيا ومن ايران وغيرها، في مراحل مختلفة من
تاريخ سيطرة آل سعود على ادارة الاماكن المقدسة.
وفي رصدنا للمناسبات التي تصاعدت فيها هذه الدعوات،
يتبين لنا انها ارتبطت بسببين جوهريين:
الاول: ضعف الدولة او السلطة التي تدير شؤون المقدسات،
وانشغالها بأمور اخرى لا تمت الى الجوهر العبادي من زيارة
الاماكن المقدسة.
والثاني: التغيرات السياسية التي تحدث في الدولة المشرفة،
واختلاف عقيدتها او توجهاتها السياسية.
فمن البديهي القول ان جوهر الدولة الحديثة يقوم على
اسس سياسية واقتصادية، وليس على اسس دينية صرفة او لغايات
دينية.. وبالتالي حتى مصطلح (دولة الخلافة) الذي تستخدمه
بعض الفرق الإسلامية، لا يحمل ذات المضمون الذي يمكن فهمه
من الخلافة الراشدة، او دولة الاسلام في المدينة المنورة.
واذا كان المضمون السياسي للدولة قائما في كل مراحل
التاريخ الاسلامي، الا انه اليوم بات اكثر وضوحا، بحيث
طغى على الجوانب الدينية بمعنى العبادة والدعوة الى الله
والقيام بالفرائض الدينية.
ومن هنا بات اكثر الحاحا الحديث عن فصل السيادة على
المقدسات وادارة شؤونها عن السلطات السياسية، التي تبقى
عرضة للتقلبات والاهواء والانظمة والصراعات السياسية.
لذا، لم تكن صدفة ان تظهر مثل هذه الدعوة لاقامة ادارة
خاصة للمقدسات الاسلامية في الحرمين الشريفين قبيل سقوط
الخلافة العثمانية في تركيا، وتحولها الى نظام علماني..
فكيف يستقيم ان تدير دولة علمانية شؤون المراكز الدينية
الجامعة لعموم المسلمين في العالم.
وربما كان الحال ينطبق على الدولة السعودية بنسختيها
الوهابية المتشددة، والسلمانية الراهنة، التي تبشر بالانفتاح
الثقافي، وتغليب الطابع المدني والعلماني على سلوكها وسياساتها.
التطبيع مع اسرائيل
|
|
حملة إعلامية سعودية مضادّة |
وإذا كان من حق الدول ان تختار سياساتها وعلاقاتها
بما يناسب مصالحها، ودرجة تطورها وحاجاتها الامنية والاقتصادية،
فإن ما ليس من حقها، وليس مقبولا، ان تكون المقدسات، وخصوصا
الحرمين الشريفين، رهينة لهذه السياسات والمصالح المتقلبة.
ولقد بات معروفا للجميع، ان الحملة التي يشنها النظام
السعودي على كل دعوة تمس هيمنته على الحرمين الشريفين،
لا تنطلق من حرص عليهما، بل تعود الى انه بنى شرعيته السياسية
على هذه الهيمنة، وهذا الاشراف على شؤون المقدسات الاسلامية
فيهما.
وفي الاسابيع الأخيرة، خطا النظام السعودي خطوات متقدمة
جدا في مسيرته للتطبيع مع الكيان الصهيوني، واخر مظاهر
هذا التطبيع تمثل بالرسالة التي ارسلها وزير العدل السابق،
الذي يتولى وظيفة رئيس رابطة العالم الاسلامي، الشيخ محمد
بن عبدالكريم العيسى، إلى مديرة المتحف التذكاري للهولوكوست
في الولايات المتحدة الأميركية، سارة بلومفيلد.
تلك الرسالة تضمنت مواقف غير متفق عليها في العالم
الاسلامي، ولا تعبر عن سياسات ومنهجيات معتمدة لدى الهيئات
الاسلامية.. الا انها مرتبطة بسياسات النظام السعودي،
ومصلحته في التودد لجهات اميركية او صهيونية، في اطار
توجهاته الداخلية والخارجية.
ولا تشعر المؤسسات الاسلامية انها معنية بالسير في
ركاب الثقافة الصهيونية التي تعلي من احداث معينة في التاريخ،
وتضخمها وترفعها الى درجة المقدس، لاهداف سياسية غير خافية،
بل لتبرير جرائم وانتهاكات، نحن المسلمون اول ضحاياها،
ومقدساتنا في فلسطين تنتهك ويجري تهويدها في ظل هذا الضجيج
المسعور حول الهولوكوست.
وبصرف النظر عن الموقف من هذه الحادثة التاريخية وصحتها
واهميتها، فإن هناك احداثا اخرى في التاريخ القديم والحديث،
هي اشد هولا واكثر فظاعة.. الا ان المرجعيات الدينية الاسلامية
وغير الإسلامية، لا تجد نفسها ملزمة بالتعليق عليها واتخاذ
موقف منها.
واضح اذن، ان تلك الرسالة ليست لسبب ديني، ولا تخدم
قضية دينية، بل هي تأتي في سياق سياسي محض، وهذا يعني
انها ليس من سياسات رابطة تعنى بنشر الدعوة والدفاع عن
العقيدة، بل هي سياسات نظام حكم ودولة ذات مصالح.. والسؤال
هنا لماذا اختار النظام السعودي رجل دين؟ ولماذا اختار
شيخا يرأس منظمة اسلامية تخص عموم المسلمين؟ وهو عنده
من المشايخ الكثيرين ممن يمكنهم ايصال الرسائل.
المسألة لا تحتاج الى كبير عناء لمعرفة ان النظام السعودي
تعمد ان يصدر هذا الخطاب على لسان شخصية ترمز الى الاسلام
بعمومه، وليس الى السعودية، وتستفيد من كون هذا النظام
قد ربط اسمه بالحرمين الشريفين.
وهذه اساءة كبيرة للعقيدة ولاخواننا الفلسطينيين، ومئات
الاف العرب الذي استشهدوا في سبيل الاقصى، اولى القبلتين
وثالث الحرمين الشريفين، ومن اجل فلسطين ارض الرباط في
مواجهة الصهيونية العالمية التي احتلت ارضا، وهجرت شعبا،
ودمرت كيان أمة.
والسؤال الاصعب والاكثر خطورة هو: ماذا لو قرر النظام
السعودي الاستفادة من عباءة الحرمين الشريفين والذهاب
بعيدا في ولائه للولايات المتحدة والصهيونية، ليضفي على
التطبيع والمصالحة والعلاقات الودية مع الكيان الاسرائيلي
الغاصب، طابع العلاقة مع دولة الحرمين الشريفين؟
لا شك ان الامر لا يقبله المسلمون في اي حال، كما انهم
يجب الا يقبلوا بالممارسات الاخرى لهذا النظام الذي يشن
حروبا ويقتل مسلمين ويدمر مدنا ودولا اسلامية، وهو يرفع
لواء الحرمين الشريفين!
فإذا كان النظام السعودي يدير سياساته دون مشورة مع
احد من المسلمين والعرب، وهذا ما يندرج تحت صفة الحق السيادي
للدولة، فلا يمكن القبول بأن يسخر الحرمين الشريفين للتغطية
على هذه الممارسات كافة.
خاتمة
المسألة في اطارها العام ليست دفاعا عن قطر، ولا عن
غيرها ممن دعوا صراحة او مداورة، الى رفع يد النظام السعودي
عن التحكم بالحرمين الشريفين، بل هي وقفة تأمل فيما هو
ابعد من ذلك.
ان الاعلام السعودي يعمد الى التضليل والتشويه في الحديث
عن تدويل الحرمين، للايحاء بأن هناك من المسلمين من يدعون
الى ادارة الحرمين باشراف دولي. والعكس هو الصحيح اذ ان
النظام السعودي يجعل المقدسات في خدمة مصالحه مع الدول
الأجنبية، ويخضع لسياساتها وشروطها بما يسيئ الى المقدسات
وحرمتها.
ان ما يدعو اليه البعض هو ادارة اسلامية مشتركة ومستقلة
للحرمين، تهتم بشؤون العبادة واداء المناسك، وتأمين وصول
جميع المسلمين الى هذه المشاعر المقدسة.
وليس للامر اي علاقة بالسيادة الوطنية التي يتنازل
عنها الحكام لاتفه الاسباب ولمصالح عابرة، بل هو لتحييد
هذه المقدسات عن التنازع والاستغلال والابتزاز السياسي.
|