النفط.. الحرب.. الإنتخابات
مملكة الخيبات!
محمد قستي
لا سبيل لاختبار حكمة صانعي القرار في أي دولة الا
من خلال القضايا الخلافية التي تتطلب مقاربات تنطوي على
قدر من الذكاء. وهي في الوقت نفسه، اختبارات لاستقلالية
القرار، كما السيادة الوطنية، والقدرة على تحقيق المكاسب
بأقل الخسائر أو بالأحرى بالحد الأدنى من الجهود.
ثمة قرارات سعودية يصعب تفسيرها في سياقها المحلي والإقليمي،
بل تتصادم في جوهرها مع ما هو محلي وإقليمي، ويجعلها متطابقة
حد التلاشي في مصالح الآخر، الأميركي حصرياً.
في أكتوبر 2014، قرّرت السعودية، وبناء على اتفاق سرّي
مع الولايات المتحدة إغراق الأسواق العالمية بكميات هائلة
من النفط، وتجاوزت حصتها المقرّرة في منظمة أوبك. وهي
حصة غير مسبوقة في تاريخ صناعة النفط، إذ تجاوزت كمية
الإنتاج السعودي من النفط 13 مليون برميل يومياً. بالحسابات
الاقتصادية والسوقيّة، كان القرار السعودي جريمة، لأنه
تسبب في انهيار كارثي للأسعار من حدود 100 دولار للبرميل
في أغسطس 2014 ليفقد خلال أكتوبر أكثر من 20 بالمئة، وتواصل
الانخفاض ليصل في 2016 الى ما دون 70 في المائة من سعره
في أكتوبر 2014، وهوى الى 27 دولار للبرميل.
في التعليقات الصادرة عن مراكز الأبحاث (وقد نشرنا
بعضاً منها في حينه)، ثمة إجماع على أن الهدف من وراء
الخطوة السعودية، هو توجيه ضربة للاقتصادين الروسي والإيراني،
وبارك المسؤولون الأميركيون من أوباما الى جون ماكين وغيرهما
قرار السعودية، ووصفوها بالمكافأة المجانية.
لماذا فعلت السعودية ذلك؟ ولماذا يكون دافع الانتقام
يعمي البصر عن المصالح الذاتية، حتى قيل بأن قرار الرياض
كان كمن يطلق النار على رجله، إذ لم يكن الهدف من وراء
قرار خطير كهذا سوى «الانتقام» بتخسير الخصوم، وإن انطوى
على خسائر فادحة على مستوى الذات.
في النتائج، دخل الاقتصاد السعودي في نفق العجز مجدداً،
وبمعدّلات قياسية هذه المرة. لم يكن النظام السعودي مرغماً
على نوبة الجنون تلك، وقد اكتشف متأخراً بأن ما اقترفه
لا مبرر له، ولكنها الخيبة السعودية.
محاولات عدّة قامت بها الأخيرة من أجل إقناع المنتجين
الكبار في أوبك وخارجها، ولا سيما روسيا كيا تخفّض الإنتاج
من أجل رفع الأسعار.. أعاق الأميركي بعضاً من تلك المحاولات،
بما فيها اجتماعات الدوحة التي ضمّت روسيا والسعودية وفنزويلا
وقطر، وفي آخرها أبلغ محمد بن سلمان وزير البترول السابق
علي النعيمي بالعودة الى الرياض، وفض الاجتماع دون التوصّل
الى اتفاق.
بل أفشلت واشنطن اجتماعاً آخر في أوبك، الى جانب زيادة
انتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة والذي تسبب في
إلحاق ضرر في نظام العرض والطلب وتالياً أسعار النفط.
بعد مرور ثلاث سنوات على انهيار الأسعار، تنبّهت السعودية
الى أن النفط لا يزال وسوف يبقى الى أجل غير معلوم، المصدر
الرئيسي للدخل، وبات عليها الدخول في صفقة مع الأعداء،
فعقد ابن سلمان في زيارته الى موسكو في 2017 اتفاقاً من
أجل ضبط معدلات العرض، بتخفيض الإنتاج، عطفاً على اتفاق
آخر بين الدول الأعضاء في أوبك في الاتجاه نفسه.
في منتصف 2016 أعلن ابن سلمان عن رؤية 2030، وهذه تتطلب
كمية أموال طائلة جداً، قوامها بيع حصة من شركة أرامكو.
انهيار أسعار النفط كان يعني أن قيمة الشركة لن تكون كما
هي عليه، لأن قيمتها من قيمة السلعة التي تنتجها. كان
على ابن سلمان مهمة إعادة الروح للسلعة، وتزخيم قوتها
السوقية، وهذا يتطلب إعادة الاعتبار لبرميل النفط.
بعد مرور قرابة الأربع سنوات على انهيار أسعار النفط،
يجد ابن سلمان نفسه في موقع المدافع الشرس عن ارتفاع الأسعار،
بل ويوظّف كل حدث سياسي أو اقتصادي أو عسكري من أجل دعم
خيار رفع الأسعار الى ما لا يقل عن 80 دولاراً للبرميل،
بما ينزع عن السعودية صفة القوة الناظمة: لسقفي الإنتاج
والأسعار. وكان ابن سلمان قد سعى في 2017 الى رفع الأسعار
بنسبة 50 في المائة، ويواصل العمل مع الروس من أجل تحديد
سقف إنتاج أوبك مع روسيا.
كان خفض الإنتاج في 2014 يستهدف الاقتصاد الإيراني
والروسي، وكان العمل على تشجيع الولايات المتحدة للإنسحاب
من الاتفاق النووي مع إيران يستهدف الاقتصاد الإيراني
أيضاً، ولكن هذه المرة يراد منه رفع أسعار البترول. في
الدلالات، إن مثل هذا الأجراء يكشف عن نزعة انتقامية متأصلة،
تنعكس في استغلال كل فرصة متاحة لتخسير الآخرين، ولا تعكس
سياسة بعيدة المدى واستراتيجية.
ما يلفت، أن ابن سلمان يعمل المستحيل لرفع الأسعار
ويحاول تمويل أعلى ميزانية في تاريخ المملكة السعودية
بواقع 260 مليار دولار، في وقت لا يزال يصر على مواصلة
الحرب على اليمن، ومعها عدة صفقات تسلّح بأثمان خيالية
مع الولايات المتحدة بدرجة أساسية وبريطانيا وفرنسا واسبانيا
بنسب متفاوتة.
لا يزال العجز في الموازنة متواصلاً برغم ارتفاع أسعار
النفط، ولا يزال الهدر أيضاً مستمراً، ومعه البطالة والفقر
والفساد.
كان الرد الأميركي واضحاً على الارتفاع المفاجئ لأسعار
النفط، وقد حذّر ترامب في تغريدة له في 20 إبريل الماضي
بأن أسعار النفط قد بلغت ارتفاعاً عالياً، وهذا ليس جيداً
ولن يكون مقبولاً حسب تعبيره.
المفارقة، أن السعودية هي من يسعى الى وصول سعر النفط
الى عتبة التسعين دولاراً، فيما يقول وزير النفط الإيراني
بيجن زنكنه في مارس الماضي بأن السعر المثالي للنفط هو
60 دولاراً للبرميل.
ما لا يجب إغفاله، أن تحرّكات السعودية في مجال رفع
الإنتاج والأسعار تؤكد اعتمادها شبه المطلق على النفط
في تسيير اقتصادها، وليس هناك من مؤشرات على إمكانية تخليها
عنه في المدى القريب أو المنظور.
رفع أسعار النفط لا يتم بدون تداعيات على الموطن العادي،
لاسيما بعد رفع الدعم عن المشتقات النفطية، حيث ارتفاع
أسعار البنزين بمعدل قياسي، وصل الى ما يزيد عن الضعف.
في النتائج، إن النفط التي أراد النظام السعودي معاقبة
الآخرين به تحوّل هو الآخر الى عقاب له، فبعد أن حطم سعره
سابقاً، هناك أسباب داخلية مرتبطة بخطة التحوّل الاقتصادي
والوضع المعيشي الصعب، علاوة على تهديد ترامب بأنه لن
يسمح لهم بالذهاب بعيداً بالأسعار وبات على النظام السعودي
أن يحصي خيباته.
في ملف الحرب على اليمن، والتي مضى على اندلاعها أكثر
من ثلاث سنوات، برغم من اجتماع جيوش الدنيا والقوى العظمى
في العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا إضافة
الى المرتزقة المأجورين من كولومبيين وسنغاليين وتشاديين
وأثيوبيين.. لا يزال ابن سلمان عاجزاً عن تحقيق خرق عسكري
وازن. أعطيت الرياض وأبو ظبي المهلة تلو الأخرى من إدارة
ترامب، وكان آخرها الحملة التي قادها طارق عفاش، إبن شقيق
الرئيس السابق علي عبد الله، على الساحل الغربي على قاعدة
أنها المحاولة الأخيرة التي سوف تحسم الحرب بناء على طلب
سعودي إماراتي من البنتاغون.
الوعد والوعيد لابن سلمان لم يسفر عن فارق ميداني يغيّر
مسار الحرب، بل على العكس تماماً باتت المناطق السعودية
عرضة للباليستي اليمني بصورة شبه يومية. يزداد حشد المرتزقة
على الجبهات وتزداد الخيبات، ولا نتيجة مرجوة من حرب عقيمة،
إذ بات ابن سلمان في مأزق، فلا هو قادر على حسم الحرب
ولا الاستمرار فيها الى ما لا نهاية.
في الانتخابات، اللبنانية والماليزية والعراقية، تبدو
الخيبة السعودية مكعّبة. فبعد الجهود الاستثنائية والأموال
المرصودة للحملات الانتخابية وشراء الأصوات، انتهت العملية
الانتخابية اللبنانية في 6 مايو الجاري الى خيبة بطعم
الفاجعة.
فالاختراق الذي كان السعودي ومعه الاماراتي يعمل على
تحقيقه جاء عكسياً، فبدلاً من انتزاع مقاعد من حصة حزب
الله تمكّن الأخير ومعه حلفاؤه في 8 آذار من اختراق المكوّنات
اللبنانية عموماً والفوز بأكثر من نصف المقاعد البرلمانية.
وكما ذكرت وسائل إعلام غربية، فإن الانتخابات كانت
بمثابة استفتاء على التأثيرات المتنافسة بين طهران والرياض.
وهي في نهاية المطاف اختبار لخطابين: المقاومة والخطاب
الطائفي. لقد أظهرت نتائج الانتخابات بأن الحسابات السعودية
في لبنان كانت خاسرة وفاشلة، وكل من تبنى الخطاب المذهبي،
وفي جوهره الوهابي، خسر إمّا كليّاً مثل أشرف ريفي وقائمته،
أو جزئياً مثل تيار المستقبل.
كان على زعيم تيار المستقبل سعد الحريري أن يقرأ الساحة
اللبنانية جيداً قبل أن يخوض الحملة وفق اعتبارات غير
لبنانية. وكان عليه أن يختبر مبكراً المزاج المتحوّل لدى
الشارع السني واللبناني عموماً، وكان عليه قبل كل شيء
أن يبني حساباته على أساس قانون النسبية الذي كفل لمروحة
واسعة من الأطراف بأن تجد مكاناً لها في الندوة البرلمانية
القادمة.
ما أخطأ فيه الحريري، أنه أراد إعادة انتاج التحالف
مع الرياض على وجه السرعة وباستخدام الخطاب المذهبي. ولو
أمعن النظر قليلاً في المناخ الإيجابي الذي تهيّأ له بعد
عودته من محنته في الرياض، والرأسمال الوطني الذي حصده،
وهو رأسمال شارك في ضخه السني والشيعي والمسيحي والدرزي،
وهو كافٍ لتثميره في العملية الانتخابية بشرط الحفاظ على
خطاب وطني.
على الضد، أراد الحريري، كما وزير الداخلية نهاد المشنوق،
دفع فاتورة البراءة للسعودية مبكّراً، على أمل الحصول
على الغطاء المالي والسياسي السعودي بعد ذلك. ولكن الحسابات
الخاطئة والخائبة فرضت على الحريري الذي كان يوجّه عتابه
لحلفائه السعوديين والخليجيين عموماً لكونهم لم يفهموا
المعادلة الداخلية في لبنان وتعقيداتها، أن يناقض قناعاته
وأن يسير وفق الأجندة السعودية.
أوهم الحريري نفسه وأنصاره بأنه قادر على أن يأتي بنتيجة
استثنائية وفارقة تقلب المعادلة، ولكن الحقيقة أن خسارته
كانت صادمة له أولاً كما ظهر على محيّاه، وخسارة لحلفائه،
وإن إعادة تسميته رئيساً للحكومة لن يزيده قوة بل سوف
يأتي ضعيفاً وعليه أن يذعن لوجود خصوم أقوياء، فحزب الله
الذي حافظ على حصته العضوية 13 مقعداً ـ وهي الحصة التي
فاز بها في انتخابات 2009، يأتي هذه المرة ومعه حلفاؤه
وشركاؤه بواقع 71 مقعداً من أصل 128، فيما لم تكن حصة
تيار المستقبل سوى 21 مقعداً مقابل 33 مقعداً في العام
2009.
سعودياً، كان التعبير عن الخيبة انتقامياً كما هي العادة،
وكما جاء في تغريدة للكاتب الموتور محمد آل الشيخ الذي
حرّض على طرد العمال اللبنانيين في المملكة السعودية والامارات
والبحرين في رد فعل على فوز حزب الله بنسبة 50 في المائة
من أصوات اللبنانيين.
لم تتعلم السعودية الدرس اللبناني بعد محنة استقالة
الحريري، وتكشّف «هبل» الدبلوماسية السعودية في التعاطي
مع الحلفاء قبل الخصوم. وجاء درس الانتخابات النيابية
مدوّياً، ومفاده أن ما فعلته السعودية في الحريري لم يكن
يطوى بسهولة، وإن اللبنانيين ليسوا عقاراً تنقل ملكيته
من هذا الطرف الى الآخر، كما أفشى ذلك في لحظة صفاء نهاد
المشنوق وعاد وانقلب على وعيه.
لم ينشط أي طرف عربي أو أجنبي في الساحة اللبنانية
خلال فترة الحملات الانتخابية كما فعلت السعودية والامارات،
فقد جاب وليد البخاري برفقة سعيد سلطان الشامسي المناطق
اللبنانية (باستثناء الجنوب) من أجل الترويج لحلفائهما
من تيار المستقبل وحزب القوات اللبنانية، فيما لم نر قط
مسؤولاً إيرانياً سفيراً كان أم خفيراً جال على أي من
المناطق أو ألقى كلمة أو تصريحاً حول الانتخابات..
لعل أهم حقيقة في الانتخابات اللبنانية تتمثل في أن
السعودية ليست «الدولة المرجعية» للسنّة في لبنان، فالذين
دخلوا من السنة في الندوة البرلمانية ليسوا من المحسوبين
على التيارات الدينية، ولا سيما السلفية المدعومة من السعودية،
وإنهم جميعاً غير مقرّبين من السعودية، بالمعنى الاستراتيجي
(كتلة نجيب ميقاتي، أسامة سعد، عبد الرحيم مراد، فؤاد
مخزومي، فيصل كرامي، جهاد الصمد.. الخ). بل على العكس،
فإن الأحباش (جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية)، المحاربين
من الوهابية، حقّقوا فوزاً لافتاً في بيروت وطرابلس.
لم تكد السعودية تتجرع غصة الهزيمة في الانتخابات اللبنانية
حتى أعقبتها هزيمة أخرى في الانتخابات الماليزية بفوز
مهاتير محمد على منافسه نجيب رزق المدعوم من السعودية،
والذي كان فاز في انتخابات 2013 بأموال سعودية قدّرت بنحو
681 مليون دولار، أودعت في حساب رزق على عدة مرات بين
مارس ـ إبريل 2013 وبرّر مسؤول سعودي هذه الهدية الثمينة
بأنها لمواجهة «الاخوان المسلمين». وفي النتائج، عاد الزعيم
الماليزي مهاتير محمد الى سدة السلطة مجدّداً ليطوي سنوات
كانت السعودية تعتقد بأنها وضعت يدها على هذا البلد.
في النتائج، فإن السعودية أكلت خيبة أخرى هي ثمرة لأخطائها
الفادحة التي اقترفتها منذ سنوات، وواصلت في الأخطاء،
وهي بلا شك أكلت مثلها في الانتخابات العراقية، وعلى ما
يبدو فإنها قد أدمنت الخيبات.. ومصيبتها أنها ترقص طرباً
لخيباتها..
|