في ٢٠٠٦، كتب
الإسلامي الدكتور محمد الأحمري، السعودي الذي تخلّى عن
جنسيته لصالح الجنسية القطرية.. كتب مقالاً في مجلة العصر،
بعنوان (خدعة التحليل العقدي)، رأينا إعادة نشرها هنا،
ليس فقط لأهمية المقالة، بل لمناسبتها أيضاً، حيث أمامنا
نموذج واضح للتحليل والكتابة العقدية، في كتاب سفر الحوالي
(المسلمون والحضارة الغربية)، حيث ابتلي بل غاص في التحليل
العقدي، ما جعل الكتاب قطعة من التحريض على كل أحد تقريبا.
ومن هنا تنبع أهمية قراءة هذه المقالة قبل مطالعة الكتاب
لاكتشاف مواقع الزلل وهي كثيرة يصعب حصرها.
خدعة التحليل العقدي
د. محمد الأحمري
المعرفة بالجغرافيا السياسية المتجددة والمصالح، ومنها
الثروة والقوة والدين [أو المذهب]، واللغة والتاريخ والجغرافيا
والجنس والأشخاص، من أدوات التحليل للموقف السياسي، وغياب
شيء من هذه الأسس، أو المبالغة في أحدها يضعف التحليل
السياسي ويحرفه إلى جزء من القضية، فيصبح التحليل رديئا
وخاطئا، ويورط أصحابه في الموقف الخطأ.
|
|
د. محمد الأحمري |
وحديثنا هنا هو عن أثر العقيدة في الوصول إلى أخطاء
تحليلية فادحة، وبمقدار ما يزيد الشحن العقدي للمحلل أو
المتلقي، فإنك تجد العقل ينزوي جانبا تاركا للعاطفة ـ
التي تعمل تحت غطاء العقيدة- أن تنهل من الأدلة المعاصرة
والتاريخية أدلة وشواهد تؤيد عقيدة وحزب المحلل وتوثق
رؤيته، وقد يسمي موقفه موقفا مؤصلا صحيحا شرعيا، ويزيد
من عبارات التوثيق التي لا تنفع شروى نقير في المعرفة
ولا الوعي، ثم تكون النتيجة التي يصل إليها خطأ فادحا.
فتجد المحلل العقدي ينهي الموقف بلوم العقائدي المخالف
ويحمله جرائم العالم، كالقول بأن المشكلات أو الهزيمة
سببها عبد الله بن سبأ قديما، أو الشيعة حديثا، أو المعتزلة
أو الشيوعية أو الوهابية أو الصوفية أو الرأسمالية أو
الصهيونية، ويغفل تماما أي بنية للمشكلة من الطرف الذي
هو فيه، والعقديون المضادون إن كانوا في مستوى عقله ردوا
عليه بالطريقة نفسها، وبهذا تضيع الحقيقة.
وقد يكون العامل العقدي في لحظة ما صحيحا، بل وحاسما،
وهناك أدلة عليه، ولكن القول باطراد العامل العقدي مؤثرا
وحيدا في أحداث التاريخ ينتهي بخطأ شنيع في النهاية. ويجب
الحذر من جعله مدار التحليل والتفكير في الموقف السياسي.
وهذا لب المراد في هذه اللحظة، فالمشايخ الذين يفسرون
الحرب في لبنان على أنها مشكلة شيعية، وانحراف وتوريط
نجد تفسيرهم عقديا جزئيا وخاطئا، وبهذا فهو يؤيد الذين
هم على الطرف الآخر الذين يرون سبب الإرهاب والقتل والدمار
في العراق هم السنة مثلا، أولئك الذين لم يتفهموا بزعمهم
الموقف الشيعي الذي يزعم أهله أنه حصيف!!
لماذا يعاني التفسير العقدي من القصور، والتعصب وقصر
النظر؟:
لأن المحلل العقدي يؤمن بأنه على الحق دائما، وأن النصوص
معه تؤيده وتحفزه وتحدد أطراف المعركة بدءا بالتوراة والإنجيل
ثم القرآن إلى نصوص ماركس. ويعاني من استسلام غير واع
للنصوص وللأفكار التي يسيء فهمها.
ثم يقع المحلل العقدي في مرض آخر في تحليله؛ هو اللجوء
إلى التاريخ، والتاريخ من سعته وكبره وإمكان التعديل والتحوير
والعبث به لا يرد يد لامس، ويمكن للجميع استخدامه. ولأن
المحلل العقدي قد مر من قبل بمراحل تثقيف، بعضها معرفة
وبعضها أوهام معرفة أو أوهام ثقافة، وبخاصة تلك الطريقة
والثقافة التي تسير من الفم إلى الأذن ومن السطر إلى اليد
ولا تمر بالعقل، بل لا يسمح بالتفكير النقدي فيها.
فذلك المحلل العقدي الذي أشبع عقله وعاطفته بمعلومات
بعضها صحيحة وفيها أخطاء وسوء تفسير؛ وثقت موقفه العقدي
الضيق والمعصوم دائما وبخاصة داخل دوائر الأتباع الضعفاء،
الذين حرموا من التفكير النقدي والعقلي، وامتلأوا بالتكبير
من أهمية قول المصدر المعصوم عندهم، والتأييد المطلق له.
فقد يسمي تحليله بأنه صادر عن عالم رباني!! وهذه غاية
الخداع للنفس والعقل، وولوج في طريق الظلام والجهل، لأن
هذا الشيخ إن كان لديه معرفة جيدة بعلم أو حفظ نصوصا،
فمن يؤهله للربانية فيما لا يعرف ولا يحسن تقديره.
المحلل العقدي المتزمت لطائفته سواء أكان شيوعيا أم
شيعيا أم سنيا، فإنه لا يرى العالم إلا من خلال عقيدته،
وهي تعطيه مرة جزءا تافها من المعرفة، ومرة تساعده كثيرا
على المعرفة في التحليل، ولكن تغيب عنه آفاق قضيته.
إننا نجد في التحليل الاقتصادي والعنصري الاستعماري
تفسيرا كثيرا للأحداث الدائرة اليوم، للصراع بين الأقوياء
والضعفاء، بين الشعوب المغلوبة المقهورة على أرضها وثروتها
وبين الغالبين تفسيرا واضح التعليل، أما التفسير العقدي
فيسقط عند رجلي قائله، وبخاصة لو نقله إلى الحدود المجاورة
لبلد التحليل، فلو نقلت صراع سنة وشيعة بضعة كيلومترات
من لبنان إلى فلسطين لسقط، ولو حملته إلى إيران أو العراق
أو أفغانستان، فلا شك أنه لا يساوي حبرا كتب به.
وقفت دول الخليج السنية مع الأمريكان في حرب ثمان سنوات
مستمرة، فهل كان السبب أن الأمريكان سنّة؟ أم أنهم كانوا
بعثيين؟ أم أنهم سنة ضد الشيعة؟ أم استعانة بالكفار على
أهل القبلة؟ أم إيقاف الثورة وهي عند قوم أشد من الكفر؟
والإشكال هنا كيف يزعم قوم أنهم يرون الشيعة من أهل القبلة
ثم يناصرون قتلتهم إن كانوا يهودا أم نصارى؟ (انظر مقالة
للشيخ فيصل مولوي في هذا الموضوع نشرت في مواقع إنترنت).
وعلى الطرف الآخر من الاتهام الشيعي للسنة، ماذا نقول
لمن يرى منهم أن المجتمع والثقافة السنية ثقافة خيانة
وولاء للنصارى، ضد المسلمين كما يقول الذين على الشاطئ
الآخر؟ وهل الشيعة ثقافتهم خيانية بسبب وقوفهم مع الأمريكان
ضد السنة؟ وعندما يحارب الشيعة الأمريكان أو الهنود أو
الصينيين أو الأتراك مستقبلا لتحرير بلادهم في العراق
أو إيران أو غيرها، فلماذا يفعلون ذلك؟ هل هذا بسبب العقيدة
الشيعية؟ أم أن التصنيفات والعقائد المسبقة تقضي أحيانا
على عقل المحلل المنزوي في زاوية العقيدة؟
إن العقائد جزء من التحليل ولم تكن ولن تكون مدار كل
تحليل سياسي أو معرفة لموقف. ولو استعرضنا الموقف في صورته
الدولية لكان أكثر وضوحا؛ فيما حدث لدول المعسكر الشيوعي
وتنافرها.
والتحليل العقدي، والتفريق بين الناس بناء عليه، كان
ولم يزل أداة مهمة من أدوات المستعمرين، وكم شيخ يقول
وهو لا يدري أبعاد قوله، ويحلب في قدح المحتل الصهيوني
أو غيره، وهو يرى أنه ينصر طائفة أو عقيدة أو مذهبا أو
يدعي أنه ينير الطريق للأمة، بينما هو يرتكس بأتباعه في
الظلمات، ويستعيد معارك الفرق والتاريخ ويغيب عن الشهود
ومصالح الحاضر، وكان أولى به أن يعرف بعض أصول التحليل
لما يتحدث عنه، وأن يرشده من يستطيع بالخروج من قوقعة
كتب مناهج العقيدة ويخرج ليرى العالم كما هو.
التفسير العقدي ومن يقوم به كلما رأى حادثة ما، أو
جرت له قصة ما، فإن مؤداها أصبح واضحا وحاسما، والقاعدة
عنده «هم خطأ ونحن مصيبون، هم ضالون ونحن مهتدون، فنحن
منتصرون وهم مهزومون»؛ حسنة هذا التحليل أنه مصدر ثقة
وقوة للعامة، وللجنود في الميدان، فليست ثقافة الجندي
أن يصرف وقته في التحليل والتأكد من صحة المعلومة، بل
تنفيذ المطلوب.
المحلل العقدي ضيق الأفق، قريب المدى، محدود الأبعاد
في التفسير، ويأنس لرؤيته وموقفه أولئك المحدودون الذين
لا يتحملون تعدد مجالات الرؤية، وصحيح أن التفسير الأحادي
المغلق، الذي لا يدع مجالا للتفكير ولا تعدد الأفهام،
يصلح للقادة الغوغائيين، وقادة الجنود في الميدان، ولكنه
لا يصلح لمستوى أعلى من الناس، ولا يصلح أن يسيطر على
دولة لأنها ستصبح بهذا التفسير فاشلة، يسيرها رأي عقدي
ضعيف ضيق، ومحدود الاطلاع وسيء التقدير للمصالح.
لأن هذا التفسير يفقد الأسس المعرفية والعملية السياسية،
مع أنه ناجح في إثارة الغوغاء. فالآخرون المخالفون عنده
دائما على الخطأ دائما وهم عملاء وصائرون إلى الفشل دائما.
العقائدي في تحليله وثوقي جدا بما يقول، ولا يميل إلى
فتح احتمالات أخرى تعود بالشك فضلا عن نقض وثوقيته. ولهذا
فإنه كلما قلّت معلومات العقديّ زادت ثقته بصحة معلوماته،
وهذا يضعف الفهم، فيكتفي المحلل بالعاطفة بديلا عن العقل،
في الإقناع والتهييج أو يستدعي التاريخ للشفاعة.
من أبرز النماذج المهمة عالميا لمعرفة خطل التحليل
العقدي وخداعه لأهله، ما حدث من ثقة علماء الإسلام في
تركيا من أن الإسلام حق، والله ناصره، والتقنية التي عند
الغربيين لن تنتصر لأنهم كفار ولن يجعل الله للكافرين
على المسلمين سبيلا. ومن الأمثلة التحليل النازي الذي
زعم أن الجنس الجرماني لا يغلب، ولن يطاوله جنس في العالم.
والتحليل الشيوعي في روسيا، كانت عقدته ثقته العقدية،
فقد اكتشف جورج كينان نقطة الضعف هذه في العقلية السياسية
الشيوعية ورصدها بدقة واستمرار للمعرفة والمراجعة، ثم
حدد مرض الحزب الشيوعي بأنه: «الثقة العقدية»، فالعلمية
التاريخية والحتمية التاريخية، التي تنصر الطائفة المنصورة
-وقد ورد ذكرها في الكتاب المقدس لدى النصارى (انظر كتاب
طارق متري، مدينة على جبل)- سوف تنتصر دائما. وهي التي
تحدد اتجاه العالم ومصيره وإنه سيكون دائما في خدمتها،
حالا ومآلا. فكان الشيوعيون يرون أن مستقبل العالم وتوجهه
سوف يكون نحو الشيوعية؛ وذاك كان خداعا للنفس، وقصورا
في التحليل، فعند الشيوعيين أنه لو حصل حريق في غابة أو
شغب في شارع رأسمالي فإن هذا يعني أنه سيؤول الأمر إلى
انتصار الشيوعية.
وبعد مراقبة ذكية للعقلية العقدية الشيوعية، عرف خصومهم
أن هذه العقيدة هي مفتاح التغلب عليهم، والسيطرة على أفكارهم
من خلال تركهم يتمادون في هذه التفسيرات، وقد قامت مراكز
بحث وتوجيه للمعرفة والسياسة تهتم بصحة هذا التحليل لنفسية
العقديين، وإمكان الاستفادة من ضعفها، ثم تنفيذ خطة تنتهي
بالفشل الكبير للموقف الذي لا يناقش ولا يصحح نفسه، وقد
كان! فأكد للشيوعيين أن يغرقوا في تحليلهم هذا ويحاصرهم
ثقافيا في قبو الماركسية العلمية، ويمنع منهم حركة الانفتاح
الفكري والجغرافي والاقتصادي والتوسع حتى تموت الشيوعية
في قبوها، مغرورة بصحة ومعصومية أفكارها بلا نصير وقد
كان.
التحليل العقدي يعطي وثوقية عالية بالتحليل الحزبي
أو الطائفي، ويتهم المخالفين بكل نقيصة وأهم ذلك خطل الآخرين
وانحرافهم، وفشلهم وإعطاء النفس كل مقومات العصمة والشرعية،
ويجعل النصوص تعنو لرأي المحلل العقدي، وكل ذلك اعتساف
وابتسار عبثي المبدأ ومضلل عن الغاية.
ومن أوهام المحلل العقدي وتشويهه للقضايا، أنه يرى
رأيه الصادر عن قناعة طائفية، أو عاطفية، أو معرفة منقوصة
ثم يقول للأتباع والمقلدين قوله، وفيما هو في طريق ذلك
يبدأ باستدعاء النصوص، ويجمع له الجامعون أدلته على صدق
عاطفته، فيصب على قوله من نصوص الكتاب والسنة والتاريخ
ما يوحي بربانية التحليل وعصمة الرأي، وتلك من وسائل تغييب
المعرفة، وعزل العقل، والعبث بالنصوص. وقد كانوا في أواخر
حياة الشيوعية يسخرون من المحللين الشيوعيين، فقد كان
أحدهم يقول رأيه السقيم، ثم يصبح التفسير والقناعة به
وتكراره مقياس ولاء، وطاعة وتبعية وتوافق وتجانس مطلوب،
ويطالب العقديون بل ويشددون على الوحدة الفكرية ولو في
الغباء والخرافة، وأنى لهم أن يكتشفوا عيبهم فهم الطائفة
المعصومة.
ومن ملاح التفكير الشيوعي وتفسيره العقدي أنه كان يلزم
أفراده بصحة النتائج التي يصل إليها تحليلهم، وهذا قضاء
على العقل والمعرفة ينتج فشلا ذريعا في المستقبل، فإن
اتخاذ حكومة ما أو حزب موقفا لا يعني أن تلقي عليه ظلال
الصحة فضلا عن العصمة، بل قد ينفذ كما ينفذ الجندي القرار،
ولكن يجب أن يبقى له حرية التفكير والتعبير عن رأيه المخالف.
فقد وسع سعد ابن عبادة ألا يبايع ولا يوافق على خلافة
أبي بكر، وبقيت له مكانته واحترامه، ولأنه لم يقد عسكرا
للانتقام لفكرته، ولكن الشيوعيين كانوا يقتلون على الهواجس
والأوهام. بعد أن يمطروا المخالف بالنقائص والتهم. وويل
للحق الموجود خارج الحزب وللأسف كثيرا ما يكون كذلك، لأن
الولاء الحزبي يحمي غالبا الرعاع.
زد على ذلك، أن المفسر العقدي غالبا يلاحظ توجه الحكومة
أو الأتباع، ويتخلى عن المعرفة والعقل في سبيل إرضاء الغوغاء،
ويبدأ يسترضي ويجامل الغوغائية حتى تصبح الغوغائية والعواطف
الشعبية هي المسيطرة على تفسيره، وتلك علة أكبر، تنتهي
بالفشل وتنهي بالبعد عن الحق والبعد عن الأمانة، ويتسلم
العقدي حكوميا بوقا قديما ينفخ فلا يستجيب أحد، ثم يهدم
الناس جدار برلين، ويخرجون من دوائر الرعب والزيف المعاد.
التحليل العقدي تحليل بالرغبة وليس بالمعرفة، فهو يحب
أن يصل إلى كذا، ولا يقوم على المعلومة ولا على الظروف،
أما المصلحة فهي رغبة في النهاية عنده. والتعصب للذات
والتهجم على الآخرين ونزع إنسانيتهم أو أهدافهم العليا
هي وقود التحليل العقدي وهي وسيلة إقناع به، والمسافات
بين المعلومات والفهم والتوجيه التنفيذي محطة واحدة عند
التفسير العقدي، ولكن من يريد الفهم يحتاج إلى أسالب المعرفة
الثلاثة في تناول القضايا، المعلومات الكلية، ثم التحليل
والسلب، ثم القيمة العملية.
وقد يقوم أشخاص مختلفون بإنجاز كل مرحلة منفصلة عن
الأخرى، مع أهمية المشاركة في النهاية. قليل من المعلومات
تفيد الذكي وكثير منها لا تنفع الغبي، وعاطفة طيبة قد
تقضي على العقل.
|